تفسير سفر أعمال الرسل ١١ للقمص تادرس يعقوب

الاصحاح الحادي عشر

خصومة بسبب خدمة الأمم!

ما كان يمكن أن يختم الإنجيلي لوقا لقاء القديس بطرس ومن معه بكرنيليوس عند نهاية الأصحاح السابق. كان لزامًا أن يصور لنا موقف القادة والشعب في أورشليم من قبول هذه المجموعة في الإيمان دون إشارة إلي اختتانهم والتزامهم بحفظ الشرائع الموسويّة. خاصة وأن القديس بطرس قد بقى في قيصرية مع تلك الجماعة أيامًا كثيرة. لقد نما إلي علمهم أنه كان يأكل معهم وهم غلف.

انفتح الباب على مصراعيه أمام الأمم ليتمتّعوا بالإيمان وينالوا البركات السماويّة على نفس المستوى مع إخوتهم اليهود المتنصّرين. لم يقف عدو الخير صامتًا بل أثار الرسل والإخوة الذين من أهل الختان ضد القدّيس بطرس، لأنّه أكل مع رجالٍ ذوي غلفة. اتّهموه بأنّه تهاون في حفظ الشريعة وتدنس!

  1. خصومة مع الرسول بطرس 1-3.
  2. القدّيس بطرس يشرح الموقّف 4-17.
  3. الخصومة تتحوّل إلى تسبيح مفرح 18.
  4. الكنيسة في أنطاكيّة 19-21.
  5. القدّيس برنابا في إنطاكيّة 22-24.
  6. القدّيس برنابا يطلب شاول 25-26.
  7. إنطاكيّة تسند أورشليم 27-30.
  8. خصومة مع الرسول بولس

ذهاب القديس بطرس إلى قيصرية ودخوله بيت كرنيليوس وما تبع ذلك من أحداث أثار دهشة بعض المسيحيين الذين كانوا من أصل يهودي، كما أثار اليهود غير المؤمنين. لقد سمعوا بالخبر قبل وصول بطرس الرسول إلى أورشليم، وذلك لقرب المسافة بين قيصرية وأورشليم.

“فسمع الرسل والإخوة الذين كانوا في اليهودية،

أن الأمم أيضًا قبلوا كلمة اللَّه”. [1]

يبدو أن الرسول مكث مدة طويلة في قيصرية يتمتع بعمل الروح القدس في حياة الأمم، وإذ سمع المسيحيون في أورشليم الذين كانوا من أهل الختان، دخلوا في نزاعٍ فكريٍ مع القديس بطرس.

كان لهذا الحدث ضجة عظمى في اليهودية، سواء داخل الكنيسة أو بين اليهود غير المؤمنين. إذ حسبوا تصرفات القديس بطرس تتعارض مع كل أفكار اليهود ومبادئهم، فلا عجب أن سبب هذا مخاصمتهم له.

“ولما صعد بطرس إلى أورشليم،

خاصمه الذين من أهل الختان”. [2]

دخلوا معه في نزاع بكونه قد ارتكب جريمة عظمى.

لا يمكن تجاهل الصراع الخفي بين أورشليم وقيصريّة، إذ كانت أورشليم في نظر اليهود العاصمة، مدينة اللَّه العظمى، تضم أقدس موضوع في العالم، هيكل سليمان. بينما اختار الرومان قيصريّة لتكون العاصمة، وهي مدينة لها ثقافة يونانيَّة، سكّانها الرئيسيّون وثنيّون ويونانيّون وسريان. فكان اليهود في أورشليم يحملون نوعًا من الضيق إن لم تكن الكراهيّة نحو قيصريّة والوالي الروماني المقيم فيها.

ما قد حدث مع القديس بطرس يجب أن يتوقعه كل من تمتد يده للعمل في الخدمة، فإنه يتعرض للمقاومة، لا من الذين هم خارج الكنيسة فحسب، بل والذين من داخلها، ليس فقط من القيادات التي على نفس المستوى أو في مركز الرئاسة، بل وحتى من الشعب. يجد مقاومة، لا على أخطاءٍ ارتكبها فحسب، وإنما حتى على الأعمال الصالحة، ولو كانت قد تمت بناء على أمرٍ إلهيٍ.

“قائلين: أنك دخلت إلى رجال ذوي غُلْفة،

وأكلت معهم”. [3]

مع ظهور الرؤيا للقديس بطرس، وظهور ملاك لكرنيليوس، وحلول الروح القدس على الأمم، وتكلمهم بالألسنة وعظائم الله قبل عمادهم، انزعجت نفوس الذين كانوا من أهل الختان، وحسبوا القديس بطرس متهاونًا في الناموس. ولعل دخول بعض كهنة اليهود والفريسيين إلى الإيمان المسيحي كان مشروطًا من جانبهم أن تبقى غيرتهم على الهيكل وحفظهم للختان والناموس حرفيًا باقية. هؤلاء لن يقبلوا دخول الأمم للإيمان ما لم يختتنوا ويتعلموا الناموس والطقوس والعادات اليهودية.

v انظروا بماذا يحتجون فإنهم لا يقولون: لماذا بشرتهم؟ بل لماذا أكلت معهم؟ لم يتوقف بطرس عن إدراكه لهذا الاعتراض الذي يحمل فتورًا في المشاعر، فإنه بالحقيقة هو عدم مبالاة من جانبهم. لقد وقف صامدًا أمامهم على هذا الأساس: إن كان الروح نفسه قد أُعطي لهم، فمن يقدر أن يمنع نوالهم العماد؟ هذا لم يحدث بخصوص السامريين، بل على العكس، فإنه لم يوجد اعتراض على ذلك لا قبل العماد ولا بعده ولا امتعضوا لهذا، فإنهم ما أن سمعوا عن قبول السامريين الإيمان حتى أرسلوا رسولين لهذا الهدف (أع 8: 14). حقًا حتى في هذه الحالة الحاضرة أدركوا أنها نعمة إلهية، أما ما قالوه فهو: لماذا أكلت معهم؟… وقد سمحت خطة الله بهذا الاتهام بهذه الصورة حتى يتعلموا، فإنه بدون هذا ما كان قد أعلن بطرس عن الرؤيا. لكن لاحظوا، إنه أعلنها وهو متحرر من كل تشامخٍ أو مجدٍ باطلٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. القدّيس بطرس يشرح الموقّف

“فابتدأ بطرس يشرح لهم بالتتابع قائلاً”. [4]

لا نرى هنا في حوار القديس بطرس الرسول الرقيق من يتكلم من مركز الرئاسة العليا والسلطة، ولا كمن يأمر وينهي، بل بالحب يشرح ويحاور. واضح من موقف الشعب نفسه أنه لم يكن في حسبانه رئاسة عليا للقديس بطرس وأن له الكلمة الأخيرة القاطعة، إنما قاوموا القديس وخاصموه، وإذ شرح لهم الأمر بروح الحب والتواضع قبلوا التصرف ومجدوا الله.

بالتتابع“، أي بدأ يروي لهم الأحداث بالترتيب.

يصر القديس لوقا على سرد ما قاله القديس بطرس مكررًا قصة قبول الأمم بتفاصيلها. هذه هي المرة الثالثة التي يعرض فيها ذات القصة. المرة الأولى لما حدثت وقائعها، والثانية يرويها كرنيليوس، والثالثة يرويها بطرس الرسول أمام كنيسة أورشليم. وبنفس الطريقة عرض القديس لوقا قصة دخول شاول الطرسوسي إلى الإيمان ثلاث مرات.

يحمل هذا التكرار التأكيد بكل قوة على انفتاح الكنيسة على الأمم دون التزامهم بالتهود، واختيار الله شاول الطرسوسي لخدمة الأمم. فإن التخلص من عبودية الحرف للناموس كان أمرًا ليس بالسهل قبوله، وقد سبب انقسامات خطيرة، ليس فقط في أورشليم، بل وفي كثير من المدن مثل غلاطية وروما، فلم يكن ممكنًا لليهودي أن يقبل الأممي شريكًا له في الإيمان على قدم المساواة دون أن يختتن ويتمسك بحفظ الناموس.

“أنا كنت في مدينة يافا أصلّي،

فرأيت في غيبة رؤيا،

إناء نازلاً مثل ملاءة عظيمة مدلاّة بأربعة أطراف من السماء،

فأتى إليّ. [5]

بدأ الرسول يروي لهم كل ما جرى، ليس دفاعًا عن نفسه، إنما ليفتح قلوبهم بالحب والفكر الروحي لقبول الأمم وللكرازة بينهم.

روى قصة رؤيته كما سبق فوردت في الإصحاح السابق (أع 10: 9). بقوله “فأتي إليَّ” يوضح حاجته إلى التعرف على خطة الله نحو الأمم، فجاءت الرؤيا إليه شخصيًا، لأنه كان من الصعب عليه أن يدرك هذه الخطة الإلهية ويقبلها، كما هم عليه. فما يعانون هم منه الآن كان هو يعاني منه، واحتاج إلى تفسيرٍ إلهيٍ لكي يقبل خطة الله، ويقدمها لهم كما لغيرهم. هنا يخفف الرسول من حدة مخاصمتهم له، لأنه هو نفسه كان حاله كحالهم، وفكره كفكرهم، لولا تدخل الله نفسه ليشرح له سرّ حبه للأمم كما لليهود.

“فتفرست فيه متأملاً،

فرأيت دواب الأرض والوحوش والزحّافات وطيور السماء”. [6]

اهتم الرسول بأن يروي لهم اختباره مع الله، والرؤيا التي تمتع بها أكثر من حديثه عن رؤيا كرنيليوس حتى لا يثيرهم، فإنهم حتمًا يثقون في صدق الرسول، لكنهم كيف يتأكدون من صدق كرنيليوس، اللهم إلاَّ إذا جاءت الرؤيتان متطابقتان تكملان الواحدة الأخرى.

“وسمعت صوتًا قائلاً لي:

قم يا بطرس،

اذبح وكل”. [7]

“فقلت: كلا يا رب،

لأنه لم يدخل فمي قط دنس أو نجس”. [8]

في تفسيره لرسالة القدّيس بولس الرسول إلى أهل أفسس يلمح القديس يوحنا الذهبي الفمإلى هذه العبارة ليؤكّد أن بعض الأمور كانت مخفيّة حتى عن الرسل، وكانوا في حاجة إلى إعلانات إلهيّة للتعرّف عليها لنفع المخدومين.

v ألا تلاحظوا إنه يقول إني قمت بما هو من جانبي: “فقلت كلا يا رب، لأنه لم يدخل فمي قط دنس أو نجس“. هنا يشير إلى قولهم: “دخلت وأكلت معهم“. لم يقل هذا لكرنيليوس إذ لم تكن توجد حاجة إلى الإشارة إلى ذلك… لاحظوا كيف يبرر نفسه، ويسمح لنفسه أن يستخدم سلطانه كمعلمٍ. فبقدر ما كان لطيفًا للغاية ووضَّح موقفه، جعلهم بالأكثر يقبلون التعليم بسهولة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فأجابني صوت ثانية من السماء:

ما طهره اللَّه لا تنجسه أنت”. [9]

بقبول الأمم لا يوجد كسر للناموس، لأنه إن كان الناموس قد منع أكل ما هو نجس، فإن العهد الجديد لم يطالبنا بغير ذلك، لكن الوضع قد تغير، لأن الله طهّر ما كان دنسًا أو نجسًا. فما كنا نظنهم دنسين الآن خلال عمل السيد المسيح الخلاصي صاروا طاهرين، فلا يليق بنا بعد دعوة الأمم دنسين. إذن، ليس من حقهم لوم الرسول بطرس، لأن الله طهر الأمم.

“وكان هذا على ثلاث مرات،

ثم انتشل الجميع إلى السماء أيضًا”. [10]

تكرر الأمر ثلاث مرات لتأكيد أن ما يراه وما يسمعه ليس وهمًا ولا تخيلاً، بل هو أمر إلهي. لذلك لم تنتهِ الرؤيا بزوالها، بل برفع الملاءة إلى السماء من حيث نزلت، للتأكد أن الأمر بالحق هو سماوي.

“وإذا ثلاثة رجال قد وقفوا للوقت عند البيت الذي كنت فيه،

مُرسلين إليّ من قيصرية”. [11]

لقد أكد له الرب أن ما رآه ليس من قبيل المصادفة، بل هو بتدبيرٍ إلهيٍ في اللحظات اللائقة والمناسبة. لذلك ما أن انتهت الرؤيا حتى كان المرسلون من كرنيليوس عند الباب يسألون عنه.

“فقال لي الروح أن أذهب معهم غير مرتاب في شيء،

وذهب معي أيضًا هؤلاء الاخوة الستّة،

فدخلنا بيت الرجل”. [12]

مع كل هذه التأكيدات السماوية تحدث الروح القدس نفسه مع القديس بطرس ليطمئنه، وينزع عنه كل ارتياب في الأمر. وكأن الرسول يؤكد لهم أنهم إن كانوا في ارتياب في أمر تصرفه هذا، فهو نفسه كان مرتابًا مثلهم ولم يكن محتاجًا إلى تفسير من إنسانٍ بل من الروح القدس نفسه الذي أمره بالذهاب معهم دون ارتياب. فمع كون الدعوة قد جاءت إليه خلال أممين للذهاب إلى بيت أممي، لكنه لم يذهب بدون دعوة الروح؛ ولم يذهب وحده بل وأخذ معه ستة أخوة هم شهود للأحداث الفائقة. لقد كان معهم السابع من أهل الختان حتى يتأكد الجميع فيما بعد أن كل المرتبطين بالأحداث من أهل الختان التزموا بقبول الأمم برأي جماعي، لأن العمل كان صادرًا من الله نفسه.

v ألا تلاحظوا أن الروح هو الذي يسن القوانين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لم يشر القدّيس بطرس إلى اسم الرجل “كرنيليوس” ولا إلى مركزه كقائد مئة، ولا تحدّث عن تقواه أو صلواته وصدقاته، لئلاّ يظنّوا أنّه تأثّر بهذه الأمور، إنّما ما يشغله أنّه ذهب بناء على دعوة إلهيّة بغض النظر عن الظروف المحيطة.

“فأخبرنا كيف رأى الملاك في بيته قائمًا، وقائلاً له:

أرسل إلى يافا رجالاً،

واستدعِ سمعان الملقّب بطرس”. [13]

إذ بلغ بيت كرنيليوس وحده هو أيضًا سبق فتمتع برؤيا سماوية، فقد أرسل له الرب ملاكًا لكي يستدعيه من يافا. لم يرَ الملاك في الهيكل، ولا في بيت رجل يهودي، وإنما في بيته. وكأنه يقول: قد تبادلنا خبرتنا المشتركة في الرؤيا السماوية، فرأينا تطابقًا عجيبًا. ما أخفاه الله عني كشفه للأممي، وما أخفاه الله عنه كشفه لي، فجاءت الرؤيتان له ولي أشبه برؤيا واحدة متكاملة، غايتها إعلان حب الله الفائق لكل البشرية.

“وهو يكلمك كلامًا به تخلص أنت وكل بيتك”. [14]

ركز القديس بطرس على أمرٍ واحدٍ، وهو أن كل ما حدث كان بقيادة الروح القدس، وأن هذه خطة الله، لهذا لم يشر إلى كلمات الملاك لكرنيليوس عن قبول الله لصلواته وصدقاته، ولا عن تقوى الرجل ومخافته للرب، حتى لا يثير مشاعرهم كيف يقبل الله عبادة رجلٍ أمميٍ، وكيف تُنسب له التقوى ومخافة الرب.

كما طمأن الروح القدس بطرس للانطلاق للعمل، هكذا طمأن كرنيليوس أن ما سيسمعه من القديس بطرس هو دعوة صادقة إلهية للتمتع بالخلاص، يناله هو وأهل بيته.

ربنا يسوع المسيح الذي قال للعشار: “اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت” (لو19: 9)، هو بعينه أرسل ملاكًا يؤكد لكرنيليوس أنه يحدث خلاصًا لبيته خلال الإيمان بإنجيل المسيح. الذي قدم خلاصًا للعشار، هو بعينه يقدم الخلاص للأمم.

“فلما ابتدأت أتكلم،

حلّ الروح القدس عليهم كما علينا أيضًا في البداءة”. [15]

السيد المسيح الذي دخل بيت العشار ليحل الخلاص فيه، أرسل الآن روحه القدوس ليحل خلاص المسيح في بيت قائد المئة الأممي. لقد حسم الرب نفسه الخلاف، فقد حلّ الروح القدس على الأممين كما حل على أهل الختان في يوم الخمسين؛ فما ناله اليهود في البداءة، صار حقًا للأمم أيضًا. لم ينتظر الروح حتى يُنهي القديس بطرس حديثه معهم حتى لا يظن أحد أن الروح القدس هو هبة من الرسول، إنما هو عطية مجانية مقدمة من الله نفسه.

“فتذكرت كلام الرب،

كيف قال أن يوحنا عمَّد بماء،

وأمّا أنتم فستعمدون بالروح القدس”. [16]

هذه هي المرة الثالثة لهذه العطية الفائقة، عطية الروح القدس نفسه واهب العطايا:

v عطية الروح القدس لأهل الختان في يوم البنطقستي (أع 2).

v عطيته للمؤمنين السامريين (أع 8: 17).

v عطيته لباكورة الأمم هنا (أع11: 15). ولعل العطية التي نالها المؤمنون السامريون هيأت ذهن القديس بطرس جزئيًا لقبول الأمم ذات العطية.

هنا تذكر القديس بطرس وعد السيد المسيح لهم قبل صعوده: يوحنا عمد بالماء، وأنتم ستعمدون بالروح القدس (أع 1: 5).

“فإن كان اللَّه قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضًا بالسوية،

مؤمنين بالرب يسوع المسيح،

فمن أنا؟

أقادر أن أمنع اللَّه؟” [17]

أما ختام الأمر فهو أن القرار خطير: إما قبول عمل الله وحبه للبشرية، أو رفضه ومقاومة إرادته وخطته. وكأنه يقول هم: يلزمكم ألا تتطلعوا إلى تصرفي هذا لا كتقييم للموقف، وإنما أخذ قرار خطير يخص خطة الله نفسها، لكم أن تقبلوها أو ترفضوها، أما من جهتي فماذا، هل أقاوم الله وأضاد إرادته الإلهية؟ أي سلطان في يدي لأقبل الأمم في الإيمان أو أرفضهم؟ إن كان الله يفتح أبواب كنيسته أمام الأمم، فهل أستطيع أنا أن أغلقها أمام وجوههم؟

  1. الخصومة تتحوّل إلى تسبيحٍ مفرحٍ

“فلما سمعوا ذلك سكتوا،

وكانوا يمجدون اللَّه قائلين:

إذًا أعطى اللَّه الأمم أيضًا التوبة للحياة”. [18]

جاء خطاب الرسول بطرس يؤكد عضوية الأمم الكاملة في كنيسة المسيح، وإن الختان وحفظ الشريعة الموسويّة حرفيًا ليسا ضروريّين للخلاص. وأنه ليس من تميز بين طعام وطعام، ولا بين شعب وشعب. مع هذا قدّم الحاضرون تسبحة شكر، ممجدين الله على غنى حبه لكل البشريّة، مع أن هذا الخطاب تحمل تدميرًا للنظرة اليهوديّة الحرفيّة.

جاءت إجابة القديس بطرس شافية للمؤمنين من أهل الختان، ولكن إلى حين، فقد بقي التساؤل عن وضع الأمم القابلين للإيمان في الكنيسة يثور ليسبب مشكلة خطيرة.

لم يقل أنه قد طلب عمادهم، لكن كانت كل الأمور تسير بأوامر إلهية فائقة، ولم يكن الرسل إلا أداة طيّعة للروح القدس القائد لهذا العمل.

لم يقل الرسول: “أعطاهم الله الموهبة كما لكم” بل كما لنا، وكأنه يقول إني واحد منكم، وإني مندهش لخطة الله الذي لم يميز بينهم وبيننا، لذا فإني معكم أتقبل هذا الحب الإلهي لكل البشرية بفرحٍ.

  1. الكنيسة في أنطاكيّة

“أمَّا الذين تشتّتوا من جراء الضيق الذي حصل بسبب استفانوس،

فاجتازوا إلى فينيقية وقبرس وإنطاكية،

وهم لا يكلمون أحدًا بالكلمة إلا اليهود فقط”. [19]

يبدأ هذا القسم بالحديث عن مرحلة جديدة خاصة بامتداد الكنيسة من المجتمع اليهودي في أورشليم إلى المجتمع الخارجي خاصة إنطاكية. روى القديس لوقا سابقًا دخول السامريين إلى الكنيسة، ثم تحول أسرة أممية في قيصرية. الآن يروي لنا عن بدء ظهور المسيحية في إنطاكية، المدينة الرئيسية في سوريا تصير الكنيسة الأم للكرازة بين الأمم في آسيا وأوربا.

اهتم القديس لوقا بنجاح الخدمة في إنطاكية لأنها سرعان ما تصير مركز خدمة القديس بولس رسول الأمم، يبدأ رحلاته بها، ويرجع إليها ليبدأ رحلات جديدة.

أول الكارزين فيها بالإنجيل هم الذين تشتتوا بسبب الضيق بعد استشهاد القديس استفانوس، هذا الضيق الذي قام منذ حوالي خمس أو ست سنوات كما يقدر البعض. هكذا حول الله غضب الإنسان وعنفه بركة لكثيرين ومجدًا له في بلاد كثيرة. لقد نفذ المؤمنون وصية السيد المسيح أنهم متى اضطهدوهم يهربون من مدينة إلى أخرى، لكنهم وهم هاربون حملوا معهم الشركة الحية مع الله والشهادة لإنجيل المسيح أينما حلوا. لم يسيطر عليه الخوف من الضيق أو حتى الموت، بل شهوة الحب نحو البشرية لخدمتهم في المسيح يسوع. إذ نجحت الخدمة في اليهودية والسامرة والجليل خرجوا إلى ما وراء حدود كنعان ليكرزوا في فينيقية وجزيرة قبرص وسوريا. لكنهم كانوا يخدمون خلال مجامع اليهود فقط لاخوتهم اليهود، ويتركون الأمم، إما أن يتهودوا ثم يصيروا فيما بعد مسيحيين أو يبقوا كما هم.

“ولكن كان منهم قوم وهم رجال قبرسيّون وقيروانيّون،

الذين لمّا دخلوا إنطاكية

كانوا يخاطبون اليونانيين،

مبشّرين بالرب يسوع”. [20]

سبق فتحدث الإنجيلي لوقا عما سببه حوار استفانوس قبل استشهاده من ضيق شديد، فتشتت المؤمنون وصاروا يكرزون (أع ٨: ٤). هنا إذ يتحدث عن تأسيس كنيسة أنطاكية يبدأ بالحديث عن دور الذين تشتتوا، إذ انطلقوا نحو البحر وساروا شمالاً مارين بمدن الساحل الكبرى مثل بيروتBerytue وأرادوس ولاودكية Leodicea وهي غير لاودكية آسيا الصغرى، حتى بلغوا أنطاكية في سوريا، ثم أبحروا غربًا حتى بلغوا قبرص.

كانت أنطاكية بلد سورية يونانية تحمل الثقافة السريانية ومعها الهيلينية، تقع على نهر الأورنتس، تعتبر المدينة الرومانية الثالثة بعد روما في الغرب والإسكندرية في الشرق. بدأت بذار المسيحية تُغرس فيها بسبب يوم الخمسين.

أخذ بعض المؤمنين الذين جاءوا من جزيرة قبرص ومن قيروان (ليبيا) إلى إنطاكية اتجاها آخر في الكرازة، هؤلاء كرزوا لليونانيين في إنطاكية. فمع وجود جماعة ضخمة لليهود في إنطاكية، إلا أن إنطاكية كانت أولاً أممية ولها ثقافة يونانية.

كان من أهم القبروسيين القديس برنابا الذي باع حقلاً كان يملكه وأعطى ثمنه للرسل (أع ٤: ٣٦-٣٧).

ومن بين القيروانيين سمعان القيرواني الذي حمل صليب ربنا يسوع، وابناه اللذان انتشرت بواسطتهم المسيحية في أنطاكية: اسكندر وروفس (مر ٥: ٢١؛ رو ١٦: ٣١).

هؤلاء كانوا يهودًا يتكلمون اليونانية لذلك دُعوا باليونانيين تجاوزًا.

يرى البعض أن كلمة “اليونانيين” هنا لا تعني اليهود الذين لهم ثقافة يونانية، بل اليونانيين من الأمم. وكأنه في إنطاكية ظهر فريقين فريق قادم من أورشليم واليهودية يكرزون في المجامع لليهود وللدخلاء من الأمم، وفريق قادم من قبرص وقيروان يكرزون بين اليونانيين الأمميين.

“وكانت يد الرب معهم،

فآمن عدد كثير،

ورجعوا إلى الرب”. [21]

رافقتهم القوة الإلهية في كرازتهم، “وكانت يد الرب معهم“، وكما يفسر البعض أن هذا التعبير يشير إلى عمل آيات وعجائب تسند كرازتهم (مر 16: 20)، إذ كان الرب يعمل معهم وبهم. غير أن ما هو أعظم أن روح الله القدوس كان يعمل في قلوب السامعين فيتقبلوا كلمة الإنجيل ويتجاوبوا معها. كان روح الله ينقش الكلمة في قلوبهم، ويفتح بصيرتهم الداخلية لإدراك أسرارها.

كانت الكنيسة في أنطاكية تقف في الوسط بين كنيسة أورشليم التي ركزت بالأكثر على العبرانيين، وكنيسة الأمم التي كرز بها الرسول بولس وقد ركزت على الأمم، أما كنيسة أنطاكية فركزت على اليونانيين الأتقياء خائفي الرب، وهم يهود يتكلمون اليونانية. كان لها طابعها التقوي التقليدي، لذلك بذلت محاولات كثيرة لتهويد المسيحيين. ودخلت في صراع شديد مع القديسين بولس وبرنابا اللذين كانا يكرزان بين الأمم. حتى أدى الأمر إلى عقد مجمع في أورشليم لحسم الخلاف.

يعتبر القديس بطرس هو أول أسقف لأنطاكية، وكان منحازًا لليهود المسيحيين ظاهريًا، لكنه بقلبه كان يميل إلى المسيحيين الأممين مما ألزم القديس بولس إلى مقاومته في هذا الأمر.

  1. القدّيس برنابا في إنطاكيّة

“فسمع الخبر عنهم في آذان الكنيسة التي في أورشليم،

فأرسلوا برنابا لكي يجتاز إلى إنطاكية”. [22]

أرسلت الكنيسة الأم في أورشليم برنابا لكي يثبت الكنيسة الناشئة هناك، كما سبق فأرسلت بطرس ويوحنا لتثبيت العمل الجديد في السامرة (أع 8: 14-17)

اختيار برنابا دون أي رسول آخر يكشف عن حكمة الرسل، فإنه قبرصي يوناني، كان صالحًا وممتلئًا من الروح القدس والإيمان وسبق له الخدمة بين الأمم، لن يدخل في منازعات الختان والناموس، لذلك فهو أقدر على الخدمة هناك بين اليونانيين. ولعل كنيسة أورشليم وقد أدركت نمو الخدمة بين الأمم خشت أن تفقد صلتها بكنيسة الأمم.

“الذي لمّا أتى ورأى نعمة اللَّه،

فرح ووعظ الجميع أن يثبتوا في الرب بعزم القلب”. [23]

أرسلت برنابا لتشجيع الكارزين والمؤمنين، ولكي تكشف عن فرحتها بعمل الله وسطهم. تتهلل الكنيسة بنجاحٍ عمل الرب خاصة في الأماكن التي لم تكن تتوقعها، فإنه ليس ما يفرح قلب الكنيسة مثل رؤيتها للنفوس وقد تركت الخطية والتصقت بالرب.

يثبتوا في الرب“، فإذ ينضم الإنسان إلى الكنيسة تلاحقه التجارب، ويصب عدو الخير الضيقات عليه، لكي ينتزعه من الإيمان، يأسره في عدم الإيمان. لهذا فإن عمل الكنيسة هو تثبيت المؤمن في الرب، لتكون له معه شركة لا تقدر قوات الظلمة أن تفسدها.

بعزم القلب“: أي يكون للمؤمن الذهن الثابت والقلب الملتهب. فلا ينحرف عن خطة الله من نحوه (رو 8: 8؛ أف 1: 11؛3: 11؛2 تي 1: 9؛3: 10). يشير عزم القلب إلى وضوح الهدف والثبات فيه دون انحراف أو تردد، فيبقى الإنسان مخلصًا في إيمانه.

“لأنه كان رجلاً صالحًا،

وممتلئًا من الروح القدس والإيمان،

فانضم إلى الرب جمع غفير”. [24]

إذ رأى عمل النعمة الإلهية في حياة الناس تهللت نفسه جدًا، والتهب قلبه فصار يعظهم ويثبتهم في الرب بشدة وقوة.

كلمة “برنابا” معناها “ابن الوعظ”، كان قلبه الممتليء بالفرح والحامل روح القوة يشدده لمسانده الكثيرين بكلمات النعمة.

v إن وُجد أي شيء يُدعى صالحًا في الكتاب المقدّس مثل ملاك (طو 5: 21) أو إنسان (مز 37: 23؛ 112: 5)، أو عبد (سيراخ 7: 21)، أو كنز (طو 4: 9؛ لو6: 45)؛ أو قلب صالح (يهوديت 8: 28)، أو شجرة صالحة (2 مل 3: 19؛ مت 7: 17-19)، هذه كلّها تُدعى هكذا باستخدام غير دقيق للكلمة، لأن الصلاح الذي فيهم عرضي وليس جوهريًا.

العلامة أوريجينوس

  1. القدّيس برنابا يطلب شاول

“ثم خرج برنابا إلى طرسوس ليطلب شاول،

ولمّا وجده جاء به إلى إنطاكية”. [25]

استخدمه الرب للعمل لتثبيت الذين في الداخل، ولجذب الذين في الخارج. كان يعمل لبنيان المؤمنين ولجذب غير المؤمنين. أما سرّ نجاحه فهو:

  1. كان رجلاً صالحًا، فالله القدوس يُسر بأن يعمل خلال القديسين الذين تجاوبوا مع روحه القدوس بروح الحب والوداعة والتواضع والعذوبة.
  2. كان ممتلئًا من الروح القدس. لم يكن فقط محبًا ومتواضعًا، لكنه كان خاضعًا لقيادة روح الله الذي يملأ إنسانه الداخلي ويهبه ثماره.
  3. كان ممتلئًا من الإيمان المستقيم: له ملء الثقة في الحق الإلهي ووعود الله الصادقة. فلا يعتمد على قدراته ومواهبه، ولا على بره الذاتي وقداسته، بل على قوة الله ووعوده.

v جاء إلى المصارع القوي، القائد (اللائق بقيادة جيوش)، المقاتل في معركة منفردة، الأسد؛ تنقصني الكلمات التي أريدها: كلب الصيد، قاتل الأسود، الشبيه بالثور في القوة، سراج البهاء، الفم القادر على الحديث مع العالم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

لعل نجاح القديس برنابا في خدمته بين الأمم ألهب قلبه للبحث عن شاول الذي دُعي لخدمة الأمم، حتى يعملا معًا. فالخادم الناجح يبحث دومًا عمن يعمل معه، طالبًا لا مجد ذاته، بل بنيان ملكوت الله على الأرض.

“فحدث أنهما اجتمعا في الكنيسة سنة كاملة،

وعلّما جمعًا غفيرًا،

ودُعي التلاميذ مسيحيين في إنطاكية أولاً”. [26]

إذ وجده أخذه معه إلي إنطاكية، فقضيا معًا سنة كاملة، وهي تعتبر مدة طويلة بالنسبة لخدمة القديس برنابا أو القديس بولس، فقد شعرا بأهمية العمل هناك لتكون مركز إشعاع روحي قوي لخدمة الأمم في آسيا وأوروبا.

فرح برنابا، إذ عبر أبواب كيليكية التي تفصل بين الأقليم شمالاً وسوريا جنوبًا، حيث التقى بشاول الطرسوسي ليرجع به إلى أنطاكية، وكانا يعملان معًا في أنطاكية لمدة سنة كاملة. ارتبط الاثنان بصداقة حميمة في الرب، فالاثنان يحملان ذات الفكر من جهة غيرتهما وشوقهما للكرازة بين الأمم، وعدم الاستعباد لحرف الناموس القاتل. عمل معًا حيث التهبت الخدمة هناك، وشعر الرسولان ضرورة بدء اشعال العالم كله بنار الروح القدس ونور المسيح.

مع اهتمام القديس بولس بإنشاء كنائس جديدة في مناطق كثيرة، وكثيرًا ما كان هذا يكلفه خدمة يوم أو يومين أو أسابيع قليلة، كان يهتم أيضًا بإنشاء مراكز عمل يقضي فيها بعض سنوات. فقد قضى في أفسس ثلاث سنوات (أع 20: 31)، وسنة ونصف في كورنثوس (أع 18: 11).

رأى القديس لوقا أن يسجل حدثًا هامًا وهو دعوة المؤمنين لأول مرة “مسيحيين” في إنطاكية، لأنهم اتباع السيد المسيح. من الذي دعاهم هكذا؟ هل دعاهم أعداؤهم هكذا لتمييزهم كجماعة تُنسب ليسوع المسيح في نوعٍ من الاستخفاف، أم دعا التلاميذ أنفسهم هكذا كاعتزاز بشخص ربنا يسوع، ولكي يحمل اللقب مفهومًا لاهوتيًا وهو أن الإيمان المسيحي هو شركة مع السيد المسيح؟ غالبًا ما أراد اليونانيون المتنصرون أن يحملوا اسم المسيح كنوع من الاستقلال حيث كان كثيرون يتطلعون إلى التلاميذ كجماعة يهودية وليست دينًا مستقلاً. لقد أراد الأنطاكيون في صراعهم مع الذين هم من أهل الختان أن يتخلصوا من العادات اليهودية. في كل الأحوال لقد حمل اللقب تمييزًا خاصًا بهم، أنهم أتباع السيد المسيح، لهم سماتهم الخاصة ومشاعرهم وتعاليمهم ورجاؤهم الخاص، حتى وإن اختلفوا فيما بينهم من جهة الجنسية أو اللغة أو الثقافة.

كلمة “دعوا” في الأصل اليوناني معناها ليس مجرد لقب أو اسم، وإنما الالتزام بقيام بعملٍ لائقٍ، فمن يخدم القضاء يدعى قاضيًا. ومن يتبع المسيح ويتمتع بالشركة معه يُدعى مسيحيًا.

كثيرًا ما تُدعى جماعات معيّنة على اسم المعلم الذي يقودهم، فالأفلاطونيّون مدينون لأفلاطون بتعاليمه، وأيضًا الآبيقوريّون لآبيقور الخ. أمّا بالنسبة للسيّد المسيح، فالمسيحيّون يدينون له، ليس فقط بتعاليمه، وإنّما بحلوله فيهم، حيث يثبتون فيه وهو فيهم. يتمتّع المسيحيّون بالشركة مع مسيحهم، بالاتّحاد معه كرأسٍ للجسد الواحد.

حقًا، لقد دعوا قبلاً تلاميذ بكونهم يتتلمذون على يديه ويسلكون حسب منهجه، كما دُعوا قدّيسين لأنّهم يعتزّون ببرّه وقداسته حيث يسلكون كأيقونة له. ودُعوا أيضًا مؤمنين، لإيمانهم به، ويُدعون كنيسته لأنّهم شعبه الحال في وسطهم. وكان المقاومون لهم يدعونهم الناصريّيننسبة إلى يسوع الناصري للاستهانة به وبهم، وأيضًا الجليليّين لأن التلاميذ كانوا من الجليل غير متعلّمين. ودُعوا أيضًا أصحاب الطريق، وربّما دعوهم مسيحيّين. على أي الأحوال إنّنا نعتزّ بهذا اللقب، فهو في أعيننا لقب مجيد نفخر به، وهبة أنعم بها علينا إلهنا. وقد ورد في العهد الجديد ثلاث مرّات: هنا وفي أع26: 28؛ 1بط4: 16.

إدراكنا أن اسم يسوع المسيح يحمل قوّته ويمثّل حضوره الإلهي يجعلنا بالأكثر نعتزّ بهذا اللقب.

v إنك تدعوني مسيحيًا، كما لو كان هذا الاسم لعنة لمن يحمله، أما من جهتي فإنني أجاهر بأني مسيحي، وأحمل هذا الاسم المحبوب لدى الله، راجيًا أن يكون في ذلك خدمة الله.

v أما عن سخريتك بي بدعوتي مسيحيًا، فأنت لا تعرف ما تقول: أولاً لأن ما يُمسح فهو حلو وخادم وبعيد عن ما هو مزدري به… أية سفينة يمكن أن تستخدم وتتأهل للإبحار ما لم تُدهن (بالقار) أولاً؟ وأية قلعة أو منزل يكون جميلاً أو نافعًا ما لم يُدهن؟… ونحن نُدعي مسيحيين لأننا نُمسح بدهن الله.

القديس ثيؤفيلس الأنطاكي

  1. إنطاكيّة تسند أورشليم

“وفي تلك الأيام انحدر أنبياء من أورشليم إلى إنطاكية”. [27]

بينما كان القديسان برنابا وبولس في إنطاكية جاء أنبياء من أورشليم. غالبًا ما يقصد بالأنبياء المعلمين الذين يكرزون بالأمور السماوية المستقبلية، وليس بالضرورة يتنبأون عن أحداث زمنية مقبلة، إنما بالأكثر قادرون على تفسير الأسرار السماوية. كان الروح القدس يكشف لهم أحيانًا عن أحداث مقبلة تمس كيان الكنيسة والكرازة، لا لاستعراض معرفتهم، وإنما لأجل بنيان النفوس، ولمعالجة بعض المتاعب كما سنرى هنا عن تنبوء أغابوس عن المجاعة التي تسود المسكونة. هؤلاء غالبًا ما سمعوا عن نجاح الخدمة في إنطاكية فشعروا بالالتزام للعمل في مساندة القديسين برنابا وبولس.

هنا يبدأ القديس لوقا موضوع اتصال كنيسة أنطاكية بكنيسة أورشليم على أثر المجاعة.

انحدر أنبياء من أورشليم“: تحدث سفر الأعمال عن وجود أنبياء في كنيسة العهد الجديد (أع ١٣: ١؛ ١٥: ٣٢؛ ٢١: ١٠) بينما كانت النبوة منقطعة عن إسرائيل بعد العودة من السبي البابلي. جاء في سفر المكابيين الأول: “فوضعوا الحجارة (الخاصة بمذبح المحرقة المهدم) في وضعٍ لائقٍ به إلى أن يأتي نبي ويجيب عنها” (١ مك ١: ٤٦)، فحل بإسرائيل ضيق عظيم لم يحدث مثله منذ لم يظهر فيهم نبي” (١ مك ٩: ٢٧). “وأن كهنتهم قد حسن لديهم أن يكون سمعان رئيسًا وكاهنًا أعظم مدى الدهر إلى أن يقوم نبي أمين” (١ مك ١٤: ٤١). ظهرت النبوة في العهد الجديد تتمثل أولاً في الشهادة للسيد المسيح بالروح القدس الساكن فيهم، وأن يعلنوا عن الحق الإلهي، ويخبروا بأمور مستقبلية لبناء ملكوت الله.

يعلق أمبروسياستر على قول الرسول بولس: “فوضع اللَّه أُناسًا في الكنيسة أولاً رسلاً، ثانيًا أنبياء، ثالثًا معلّمين…” (1كو12: 28)، قائلاً: [وضع بولس الرسول الرسل على رأس الكنيسة… يوجد نوعان من الأنبياء، أولئك الذين يتنبّأون عن المستقبل، والذين يفسّرون الأسفار المقدّسة. الرسل أيضًا هم أنبياء، لأن الرتبة العُليا تضم فيها كل ما هو تحتها. حتى الأشرار مثل قيافا نطق بنبوّات خلال قوّة (سلطان) الرتبة، وليس لفضيلةٍ ما فيه (يو11: 49-51).]

“وقام واحد منهم اسمه أغابوس،

وأشار بالروح أن جوعًا عظيمًا

كان عتيدًا أن يصير على جميع المسكونة،

الذي صار أيضًا في أيام كلوديوس قيصر”. [28]

أشار كثير من المؤرخين الرومانيين إلى هذه المجاعة التي حلت في السنة الثانية لمُلك كلوديوس قيصر، واستمرت حتى السنة الرابعة ما لم يكن إلى أكثر من هذا.

لقد بعث الله للعالم خبز الحياة، بل جاء كلمة الله نفسه متجسدًا كي يشبع النفوس، وإذ رفضوه حلت المجاعة، إذ صارت الأرض قحطًا. في القديم، تنبأ يوسف عن المجاعة وكانت الحاجة ملحة لإنشاء مخازن قمح لأجل إشباع الكثيرين أثناء السبع سنوات التي للجفاف. أما الآن فإذ يعلن أغابوس عن المجاعة، فالحاجة مُلحة، لا إلى بناء مخازن، بل إلهاب القلوب بالحب والحنو على الآخرين، هذا الذي يهب شبعًا لمن يعطي ولمن يأخذ، يفرح الأغنياء مع المحتاجين من أجل كنوز الحب العملي، فتتبارك الأرض (مز 41: 1-2).

ذكر أغابوس أيضًا في أع 21: 10-11 إذ تنبأ لبولس الرسول عما سيحل به من الأمم.

جميع المسكونة“، غالبًا ما تشير إلى العالم المسكون، أي الجزء من الأرض الذي يسكنه بشر ويستخدمونه، أحيانا يُستخدم بمعنى كل منطقة اليهودية أو جميع منطقة دولة ما.

كلوديوس قيصر: بدأ حكمه عام 41م، ملك لمدة 13 عامًا، وأخيرًا مات مسمومًا بواسطة إحدى زوجاته أغربينا لكي يستلم ابنها نيرون العرش. كانت أيام حكمه مليئة بالقلاقل والمحن التي رافقتها أيام قحط وجوع، ربما بسبب اضطهاده التي أخّلت بالنظام والأمن مع فساد الحكم وانهيار اقتصاديات البلاد. أثناء حكمه حدث على الأقل أربع مجاعات أشار إليها الكتَّاب لقدامى إحداها كانت مجاعة قاسية للغاية حلت في اليهودية ؛ غالبًا هذه هي ما يشير إليها الكتاب المقدس هنا.

  1. المجاعة الأولى في روما، حدثت في السنة الأولى أو الثانية من ملك كلوديوس، سببها صعوبة استيراد المئونة من الخارج.
  2. المجاعة الثانية حدثت على وجه الخصوص بطريقة عنيفة في اليونان، يقول يوسابيوس إنها حدثت في السنة التاسعة من حكم كلوديوس.
  3. المجاعة الثالثة في الفترة الأخيرة من حكمه عام 51م، حدثت في روما، أشار إليها سوتينوس وتاكيتوس الذي اعتبرها تأديبًا إلهيًا.
  4. المجاعة الرابعة: حدثت على وجه الخصوص في اليهودية. قال يوسابيوس إنها كانت عنيفة، وهي في أيام كلوديوس، وقد مات كثيرون بسبب قلة الطعام. أرسلت الملكة هيلينا بعض خدمها إلى الإسكندرية ليشتروا قمحًا، وآخرين إلى قبرص لشحن تين مجفف.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن رجال أنطاكية لم ينتظروا حتى تحل المجاعة، بل تحركوا قبل أن تحدث، أرسل كل واحدٍ حسبما تيسر.

كثيرًا ما يتحدث الآباء عن الجمع للفقراء أنه نافع للفريقين للذي يعطي، إذ العطاء غذاء للنفس، يهبها النمو والنضوج الروحي، ونافع للمحتاجين حيث ينالوا احتياجاتهم المادية.

v هذا الجمع له نفع مزدوج، فإنه يعين القديسين المذكورين بعالية (1 كو 16: 1)، ويعين الشعب الفقير الذي في الكنيسة

أمبروسياستر

يئن القديس يوحنا الذهبي الفم لأن الكنيسة في عصره لم تفعل ما فعله رجال أنطاكية، فمع وجود مجاعة أكثر خطرًا إلا أنه ليس من يبالي بها. ما هي هذه المجاعة؟ يقول: [توجد مجاعة لها جانبان، كما يوجد فيض له جانبان. إنها مجاعة قاسية، مجاعة ليس في الاستماع لكلمة الرب، بل مجاعة للانتعاش بالصدقة. فقد انتفع كل من الفقراء في اليهودية والمتيسرين في إنطاكية الذين قدموا مالاً. نعم، لقد انتفع هؤلاء أكثر من أولئك، أما الآن، فإننا نحن فقراء، في جوعٍ. الفقراء في عوزٍ إلى الضروريات، ونحن في (مجاعةٍ حيث) نمارس الحياة المترفة التي تنقصها رحمة الله. وهذا (العطاء) هو طعام ضروري ليس أكثر من أي شيء آخر. إنه طعام به تُزال تخمة الشرور… ليس شيء أكثر جمالاً ولا أكثر صحة من النفس التي تنتعش بهذا الطعام. فإنها ترتفع فوق كل مرضٍ وكل وباءٍ وكل سوء هضمٍ وكل فسادٍ. ليس من يقدر أن يغلبها. هكذا كما أنه إذا كان جسد شخص ما مصنوعًا من الماس فإنه لا يستطيع الحديد أو أي شيء آخر أن يحمل قوة لأذيته، هكذا النفس التي تندمج تمامًا مع الصدقة ليس شيء قط يقدر أن يقهرها.]

v أي شيء أكثر عريًا من ذاك الغني الذي كان يلتحف بالأرجوان؟ ومن كان أكثر فقرًا من لعازر؟ ومع هذا فمن الذي كان ينطق بكلمات الشحاذين؟ من منهما كان في فيض؟ قولوا لي: إن زين أحد بيته بفيض من الستائر الفاخرة، بينما هو في الداخل يجلس عريانًا، فما المنفعة؟ هذا هو حال هؤلاء النسوة (اللواتي يلبسن الثياب الفاخرة ويتجاهلن الفقراء). حقًا إن الجسد هو بيت النفس، يزينونه بالثياب الفاخرة، وأما سيدة البيت فجالسة في الداخل عارية. أقرضني عيني النفس، وأنا أريك عري النفس. فما هو ثوب النفس؟ حتمًا الفضيلة. وما العري؟ الرذيلة… لنرتدي مجد المسيح، ولنلتحف بذاك الجمال، فنُمدح هنا، وننال البركات الأبدية بنعمة ورحمة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والسلطان والكرامة مع الآب والابن إلى أبد الأبد وإلى انقضاء الدهر.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يبدو أن لوقا البشير كان في أنطاكية في ذلك الحين، إذ جاء في النسخة المسماة بيزا Beza Text “نطق بنبوته هذه ونحن مجتمعون”. جاء في التقليد الكنسي أن لوقا البشير كان مواطنًا أنطاكيًا. جاء في مقدمة تفسير إنجيل لوقا (سنة ١٧٠) في الوثيقة المضادة للهرطوقي مارقيون: “إن لوقا كان مواطنًا أنطاكيًا من سوريا”، ويشير كل من يوسابيوس القيصري والقديس چيروم إلى هذه الحقيقة.

“فحتم التلاميذ حسبما تيسر لكل منهم،

أن يرسل كل واحد شيئًا،

خدمة إلى الإخوة الساكنين في اليهودية”. [29]

أخذ الكل النبوة كأمرٍ صادرٍ من الله، وفي جدية جمعوا من الكل، حسب إمكانيات كل واحدٍ منهم. لم يذكر أن الأغنياء هم الذين ساهموا في العطاء للمحتاجين، إنما ساهم كل واحدٍ قدر إمكانياته، ليمارس الكل حياة الشركة القائمة على الحب والوحدة.

“ففعلوا ذلك،

مرسلين إلى المشايخ بيد برنابا وشاول”. [30]

يرى كثير من الدارسين إن هذه الرحلة التي قام بها الرسولان لخدمة فقراء اليهودية هي التي أشير إليها في غل 2: 1.

جاءت كلمة “الشيوخ؟ في اليونانية تعني كهنة كبار في السن. هذه هي المرة الأولى التي يشار فيها إلى الكهنة في سفر الأعمال.

واضح أن برنابا وشاول بعثا بهذه الارسالية بيد رؤساء الشعب (الأراخنة من الشعب) قبل بدء المجاعة، أما الرسولان فاحتفظا بخدمة الكلمة (أع ٦: ٢).

لقد عانت الكنيسة من متاعبٍ ماديةٍ حتى في غير وقت المجاعة، وقد اهتمت الكنائس في الأمم بفقراء أورشليم، فكانت تسند الكنيسة الأمم ماديًا (غل ٢: ١٠)، وهذا ما اعتنى به الرسول بولس (١كو ١٦: ١)، وقد أشار القديس بولس إلى ذلك في خطابه أمام فيلكس الوالي: “وبعد سنين كثيرة جئت أصنع صدقات لأمتي وقرابين…” (أع ٢٤: ١٧).

من وحي أعمال الرسل 11

لأفرح بعطيّتك لكلك نفس!

v هب لي بروحك القدّوس أن أشاركك حبّك لكل البشر.

مشتهيًا بالحق أن يتمتّع العالم كلّه بشركة مجدك.

v انزع عنّي الفكر الضيّق،

حتى لا يقتلني الحرف الجامد.

بل أبقى متهلّلاً مع كل الكنيسة بامتداد ملكوتك.

v روحك القدوس عجيب في عطاياه.

يعمل في حياة الكثيرين بلا انقطاع.

أعطيت الرسول بطرس حكمة، فكسب ناقديه.

رفعهم بالحكمة والنعمة فوق الحرف.

وكشف لهم عن عملك العجيب وسط الأمم.

حوّل نقدهم وخصومتهم إلى تسبحة مجد لك.

لم يسعَ أن يبرّر نفسه،

لكنّه سعى أن يمجّدك في حبّك للكل!

عِوض مرارة الخصومة، صار لهم روح الفرح والتهليل!

لم يتحدّث معهم من مركز صاحب سلطان،

ولا حاور معهم كمتّهمٍ،

لكنّه بالحب الصادق والتواضع أعلن لهم أسرار حبّك.

v أعطيت الرسول برنابا غيرة متّقدة.

لم يطلب ما لنفسه، بل ما هو لك.

سعى بجدّيّة، فاجتذب شاول ليعمل معه.

خدما معًا سنة كاملة في أنطاكية.

بحبّهما المشترك لك وللنفوس صارت أنطاكية مدينة اللَّه العظيمة.

تحوّلت إلى مركز يشع بنورك على أممٍ كثيرة.

v في تهليل نسب المؤمنون أنفسهم لك.

حسبوا أنفسهم غير أهلٍ أن يُدعوا مسيحيّين.

وفي سخريّة دعاهم المقاومون بذات الاسم كمن هم في عارٍ.

تهلّل المؤمنون كمن هم في مجدٍ لا يُعبّر عنه.

وفي جهالة عاش المقاومون يفسدون حياتهم.

v أنطاكية الأممية فتحت قلبها لأورشليم.

قدّمت مع مالها حبّها للفقراء القدّيسين.

قدّمت مالاً للغير، وتسلّمت شبعًا من واهب العطاء.

وهي تعطي أخذت من خالق السماء,

وهي تحب ذاقت الحب الإلهي الفائق.

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

زر الذهاب إلى الأعلى