تفسير سفر أعمال الرسل ١٩ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح التاسع عشر

اضطراب خطير في أفسس

في الأصحاح السابق رأينا القديس بولس يبدأ رحلته التبشيرية الثالثة. وقد سجلها الإنجيلي لوقا باختصارٍ شديدٍ، غير أنه يسجل لنا في هذا الأصحاح عمل الله مع الرسول بولس، كان يصنع على يديه قوات غير المعتادة [11]. وكأنه كان يسنده ويشجعه لاحتمال ما يحل به بسبب ثورة الأفسسين عليه هو ومن معه. لم يحتمل عدو الخير أن يرى أبناءه الذين أغتصبهم لنفسه يلقون كتب السحر في النار، لكي يرجعوا بالتوبة إلى الآب السماوي. أنها معركة خطيرة بين السيد المسيح وقوات الظلمة.

  1. بولس في أفسس 1.
  2. عمادهم باسم الرب يسوع 2-5.
  3. حلول الروح القدس عليهم 6.
  4. خدمته في المجمع 7-8.
  5. خدمته في مدرسة تيرانس 9-10.
  6. قوات غير المعتادة 11-12.
  7. أبناء سكاوا المعزمين 13-18.
  8. حرق كتب السحر 19-20.
  9. اضطراب في أفسس 21-41.
  10. بولس في أفسس

“فحدث فيما كان أبلوس في كورنثوس،

أن بولس بعدما اجتاز في النواحي العالية،

جاء إلى أفسس، فإذ وجد تلاميذ”. [1]

أفسس: كانت عاصمة آسيا الصغرى بناها أندروكليس الأثيني، كانت في مظهرها مدينة يونانية، لكن طبيعة أهلها وعبادتهم شرقية إلى حد ما. كانت ملتقى الشعوب والحضارات. وهي مدينة ذات طبيعة غنية في أرضها وأنهارها ومينائها، امتازت بالخصوبة والتجارة وملتقى طرق جميع أنحاء العالم.

كانت أفسس مكتظة بالأبنية الفخمة، تفاخر بها أثينا. أعظم الأبنية هيكل أرطاميسArtemis ، والمعروف بدياناDiana . وهو أحد عجائب الدنيا السبع، ولكن ما أن أُكمل بناؤه حتى قام المتعصبون بحرقه، وذلك يوم ولد الاسكندر الأكبر. لكن أُعيد بناؤه بأفخر مما كان عليه. وعند زيارة الاسكندر الأكبر له طلب أن يُنقش اسمه عليه، فرفض الأفسسيون في تشامخ. وبقى هكذا حتى أيام القديس بوليكربس. لكن اقتحمه الغوطيون الذين نزحوا من وراء الدانوب، وهدموه حتى الأساس، وانمحت معالمه، فلا يُعرف موقعه تمامًا. استخدمت أعمدته المرصعة بالأحجار الكريمة في بناء كنيسة آجيا صوفيا بالقسطنطينية (حاليًا اسطنبول)، وبعض الكاتدرائيات في إيطاليا.

كان طول هذا الهيكل 425 قدمًا وعرضه 220 قدمًا، وارتفاع العامود 60 قدمًا، وعدد الأعمدة 127 عامودًا، كل عامود أهدي إليها من أحد الملوك. وكان تمثالها في داخل الهيكل بدائيًا يمثل آلهة الصيد، به بروزات عديدة بشكل الثدي، تعبيرًا عن الخصوبة. سماه القديس جيروم “عديد الأثداء multimammeam، كان المتعبدون له يعتقدون أنه هبط من السماء.

تبارى صناع الفضة في عمل تماثيل مصغرة وهياكل مصغرة من الفضة يشتريها العباد والسياح، وكان ذلك مصدر رزق ليس بقليل (أع 19: 24-25). وقد عُثر على نقود في ذلك الموضع نُقش عليها من جانب هيكل أرطاميس، ومن الجانب الآخر نيرون. فإن كان الرسول بولس قد قتل بكرازته أرطاميس فقد أقام عدو الخير نيرون ليقتل قاتل أرطاميس.

حين دخل بولس الرسول إلى أفسس كان أبلوس في كورنثوس (أع 19: 1)، هذا الذى كان قبلاً في أفسس قبل دخول بولس الرسول إليها (أع 18: 24-28)، وقد دخل القديس بولس أفسس حوالي عام 54 أو 55م ومكث هناك، إما ثلاث سنوات حسب القول: “ثلاث سنين ليلاً ونهارًا لم أفتر عن أن انذر بدموع كل واحد” (أع20: 31)، أو سنتين كما جاء في أع 19: 10.

كما قيض الله لبولس في كورنثوس يسطس المبارك ليفتح له بيته، هكذا دفع صاحب مدرسة، غالبًا لتعليم الأدب والفلسفة، ليقبل بولس ومن معه كأنه ملاك من الله، وهو رجل يوناني يدعى تيرانس، كان قد عمده الرسول (ع 19: 9).

أما عن ثمار الخدمة هناك فيقول القديس لوقا: “حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين” (أع 19: 10).

جاء أبلوس يسقي ما قد غرسه بولس، وكان القديس بولس يفرح حين يأتي آخر ليسقى غرسه، واثقا أن الله هو الذي ينمي.

اجتاز الرسول بولس النواحي العالية، وهي المناطق العالية المستوي في آسيا الصغرى، مشيرًا هنا على وجه الخصوص إلى ولايتي فريجية وغلاطية (أع 18: 23)، تُدعى هكذا بينما أفسس كانت في مستوي أقل من البحر ودعيت المدينة المنخفضة. جاء متممًا وعده لهم (أع 18: 21).

  1. عمادهم باسم الرب يسوع

“قال لهم: هل قبلتم الروح القدس لمّا آمنتم؟

قالوا له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس”. [2]

التقي هناك بتلاميذ لهم معرفة غير كاملة عن السيد المسيح، مثلهم مثل أبولس، فقد قبلوا تعليم القديس يوحنا المعمدان أن المسيا يظهر قريبًا، لكنهم لم يعرفوا أنه قد ظهر فعلاً، ولا سمعوا عن حلول الروح القدس. وكان عدد هؤلاء المؤمنين اثنى عشر [7]. هؤلاء لم يكونوا بعد قد تعرفوا على أكيلا وبريسكلا اللذين كان قد تركهما الرسول بولس في أفسس، والآن وجدهما هناك.

يرى البعض أن هؤلاء الاثنى عشر كانوا قد آمنوا بأن المسيا قد جاء لكنهم لم يتعرفوا على حلول الروح القدس ولا حتى سمعوا عنه. كانت قلوبهم مستعدة لقبول الروح القدس والتمتع بالميلاد الثاني وتجديد الطبيعة البشرية لكنهم لم يجدوا من يكرز لهم بذلك. كانوا في حاجة إلى قبول ختم الروح القدس الذي وهب للكنيسة كي ينير لهم الحق، ويثبتوا في تعليم المسيح، ويهبهم ثمر الروح الذي هو الشركة في الطبيعة الإلهية، فيتمتعوا بالحب والفرح والسلام والتعفف والصلاح. يسيروا بالروح وتحت قيادته.

يقول د. لاتيفوت أنه بحسب تقليد أمتهم يعتقدون أنه بعد موت عزرا وحجي وزكريا وملاخي فارق الروح القدس إسرائيل وصعد، وأنهم لم يسمعوا قط أنه عاد. يبدو أنهم كانوا يتوقعون عودته، لكنهم لم يسمعوا أنه جاء، وأنه موجود في وسط المؤمنين.

v لم يكن في سلطان يوحنا (المعمدان) أن يهب الروح، كما أظهر أولئك الذين اعتمدوا بواسطته إذ قالوا: “ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v المعمودية الأولى هي معمودية الطوفان (في أيام نوح) التي تقطع الخطية. والثانية هي بالبحر الأحمر والسحابة (ا كو 10: 2)، لأن السحابة رمز للروح، بينما البحر رمز الماء. والمعمودية الثالثة هي الخاصة بالناموس (خاصة اللاوي)، إذ تغسل كل شخص غير طاهر بالماء، كما يغسل ثيابه، فيدخل المحلة. المعمودية الرابعة ليوحنا، وهي معمودية للتهيئة، تقود المعمدين إلى الندامة، حتى يؤمنوا بالمسيح.

الأب يوحنا الدمشقي

“فقال لهم: فبماذا اعتمدتم؟

فقالوا: بمعمودية يوحنا”. [3]

طالبهم الرسول بولس بالمعمودية، إذ كانوا لا يعرفون شيئًا عن الروح القدس، فإن من يعتمد يتعلم أولاً على الروح القدس. معموديتهم هي معمودية يوحنا دون معرفة بالروح القدس، لذا لم ينالوا الروح، ولا تمتعوا بالميلاد الجديد.

لا يعني أن الذي عمدهم يوحنا المعمدان، لكنهم اعتمدوا بواسطة أحد تلاميذه، وربما عمدهم باسم يوحنا المعمدان، إذ وجد فريق كانوا يكرمونه بطريقة مُبالغ فيها، وكما رأينا في دراستنا لإنجيل يوحنا أن بعضهم ظنوه أعظم من يسوع المسيح، وأنهم كانوا يغيرون بسبب انتشار اسم يسوع الذي عمده يوحنا، وقد اشتكوا ليوحنا من ذلك (يو 3: 26).

“فقال بولس: أن يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة،

قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده،

أي بالمسيح يسوع”. [4]

أوضح لهم القديس بولس معنى معمودية يوحنا بكونها تهيئ للإيمان بالسيد المسيح، وألا يقف الشخص عندها، بل يتقدم لينال ما هو أكمل. لم يسئ القديس بولس لمعمودية يوحنا، إذ هي معمودية للتوبة، حتى يعترف الناس بحاجتهم إلى مخلص يغفر لهم خطاياهم، لهذا وجب عليهم قبول من هدفت إليه معمودية يوحنا. فالقديس يوحنا رجل عظيم، لكنه هو النذير، صديق العريس، أما العريس السماوي الذي له العروس فهو يسوع المسيح.

v عامل الذين طلبوا معمودية التوبة، كما لو كانوا طالبي العماد، يتهيّأون لنوال معمودية المغفرة والتقديس التي جاءت لاحقة لها في خدمة المسيح. عندما كرز يوحنّا بمعمودية غفران الخطايا (مر1: 4). كان الإعلان هو عن نوال غفران مقبل. فإن كان الأمر هكذا، فإن دعوة يوحنا للتوبة تقود إلى الطريق، وأما نوال المغفرة فجاء لاحقًا. هذا ما يعنيه “يعد الطريق” (لو1: 67). لكن من يعد الطريق هو نفسه ليس كاملاً، بل بالأحرى يهيئ لآخر كامل.

العلامة ترتليان

“فلما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع”. [5]

إذ عرفوا الحق كاملاً لم يجادلوا مع الرسول، بل قبلوا المعمودية في الحال باسم يسوع الناصري.

v الذين ينالون معمودية يوحنا وحدها وليس لهم معرفة الروح القدس يُعمدون ثانية، لئلا يظن أحد أن ذاك الماء الذي لم يُقدس يستطيع أن يهب خلاصًا ليهودي أو أممي.

القديس جيروم

  1. حلول الروح القدس عليهم

“ولمّا وضع بولس يديه عليهم،

حلّ الروح القدس عليهم،

فطفقوا يتكلّمون بلغات ويتنبّأون”. [6]

بعد العماد وضع الرسول يديه، غالبًا على شكل صليب، عليهم لينالوا سرّ التثبيت، بحلول الروح القدس عليهم، وقد نالوا بعض مواهب الروح مثل التكلم بألسنة والتنبوء. لعل الله سمح هنا بنوالهم هذه المواهب للتأكد من التمييز بين معمودية يوحنا ومعمودية باسم يسوع المسيح. إنها ليست تكرارا ليوم البنطقستي، إنما هو امتداد ليوم البنطقستي، الذي له فاعليته إلى مدى الدهور.

v لقد وضع (اللَّه) عقيدة لا يمكن لهم في ذلك الحين إنكارها، وهي أن يسكن الروح القدس في المؤمنين. أُعلنت هذه العطيّة بواسطة اللَّه لكي يجمع آثار الإيمان، حيث كانت في البداية عندما تمّت بين الرسل وبقيّة التلاميذ… فقد حلّ عليهم الروح القدس وأعطاهم القدرة على التكلّم بألسنة، مع موهبة التفسير، حتى لا يجسر احد أن ينكر حلول الروح القدس فيهم.

أمبروسياستر

  1. خدمته في المجمع

“وكان جميع الرجال نحو اثني عشر”. [7]

“ثم دخل المجمع،

وكان يجاهر مدة ثلاثة أشهر،

محاجًا، ومقنعًا في ما يختص بملكوت اللَّه”. [8]

كعادته بدأ بالخدمة في المجمع اليهودي، مقدمًا لهم الإنجيل، لعله يجمع خراف بيت إسرائيل الضالة، المشتتة على الجبال. وهو في هذا كان يقتدي بالسيد المسيح. كان يشترك معهم في العبادة داخل المجمع كواحدٍ منهم، فينزع عنهم روح الإجحاف، ويستميلهم نحوه لعله يكسب أحدهم. كان يشاركهم عبادتهم في أيام السبوت، حتى تتكون كنيسة العهد الجديد في المدينة وينقل المؤمنين للعبادة في يوم الرب.

بقي لمدة ثلاثة شهور في حوار معهم دون يأس ولا ملل. كان حديثه معهم طوال الثلاثة أشهر يركز على “ملكوت الله” الذي يؤسسه في قلوب البشر، ليهبهم الحياة المطّوبة، ويجعل من أعماقهم أيقونة السماء. كان يصحح مفاهيمهم عن مملكة المسيا الذي كانوا ينتظرونه، إنها ليست مملكة زمنية أرضية، بل مملكة من السماء روحية.

كان يحاججهم، أي يدخل معهم في حوار، ويقدم لها براهين من الكتاب المقدس، ويجيب على اعتراضاتهم، ويقدم لهم أسئلة ويتقبل إجاباتهم. لم يطالبهم بالإيمان دون تفكيرٍ بل “مقنعًا” إياهم بدلائل عقلية وفهم.

بماذا كان الرسول يقنعهم؟ بملكوت الله الذي يقيمه الرب داخل قلوبهم. هو تمتع بسكنى الرب فيهم، فإن الملكوت في جوهره هو تمتع بشخص السيد المسيح.

v بماذا يقول الكتاب المقدس؟ الكلمة قريبة منك، في فمك، وفي قلبك (تث 30: 14). هذا أشار إليه المخلص بلطفِ، فلا يطلبوا أمورًا خارجًا عنهم. أو قل: “لا يقولون ههنا، أو هوذا هناك”. إذ يقول لهم: “ها ملكوت الله داخلكم” (لو21:17).

v ملكوت الله حسب كلمة ربنا ومخلصنا لا يأتي بمراقبة، “ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك”، إنما “ملكوت الله داخلكم”… فمن الواضح أن من يصلي لكي يأتي ملكوت الله، إنما يصلي بحقٍ أن يتأسس الملكوت ويكمل في داخله، ويحمل ثمرًا.

العلامة أوريجينوس

  1. خدمته في مدرسة تيرانس

“ولمّا كان قوم يتقسّون ولا يقنعون،

شاتمين الطريق أمام الجمهور،

اعتزل عنهم وأفرز التلاميذ،

محاجًا كل يوم في مدرسة إنسان اسمه تيرانس”. [9]

إذ قسى البعض قلوبهم وقاوموا كلمة الحق لمدة ثلاثة شهور بالرغم من الجهود التي بذلها معهم ترك المجمع اليهودي، وسحب معه الذين أمنوا، ليتتلمذوا على يديه يوميًا في مدرسة تيرانس. لعله اضطر إلى ذلك ليس يأسًا، وإنما خشية تأثر تلاميذه الذين قبلوا الإيمان من المقاومين، فأراد أن يحّوط حولهم، ويثبتهم في الإيمان، لكي ينمو في المعرفة الروحية، ولا يتعثروا بسبب شتائم غير المؤمنين وهجومهم المستمر.

محاجًا“: الترجمة الدقيقة “محاورًا” إياهم، أي التعليم خلال الحوار.

يرى البعض أن مدرسة تيرانس هي معهد لاهوتي يهودي، إذ كان لليهود مدارس لاهوتية بجوار المجامع، خاصة في المدن الكبرى، وكانوا يدعونها “بيت مراش” أي بيت المدرسة أو بيت البحث والسؤال، أو بيت الإلقاء والاستماع. كان اليهود يذهبون إليها يوم السبت مع العبادة في المجمع. لا نعرف شيئًا عن تيرانس، لكن يبدو أنه كان يهوديًا لا يحمل عداوة نحو الإيمان المسيحي، سمح للرسول بولس أن يستخدم أحد حجرات المدرسة للتعليم، إذ لم يكن بعد توجد كنيسة، فكان المسيحيون يجتمعون في أي موضع لائق يمكن أن يمارسوا فيه العبادة والتعليم. يعتقد البعض إنها مدرسة فلسفية للأمم تنتمى لتيرانس، وهو شخص كان له مركز كبير وربما كان حاكم المدينة.

انسحابه من المجمع ليس فقط حفظ تلاميذه من العثرة، وإنما أعطاه فرصة للقاء مع التلاميذ ليس يومًا واحدًا في الأسبوع، أي يوم “السبت”، وإنما كان يلتقي معهم يوميًا. هذا وقد انفتح الباب للإيمان أمام الكثيرين، ففي المجمع اليهودي لم يكن ممكنًا أن يحضر سوى اليهود والدخلاء، أما في المدرسة، فكان يمكن لليهود كما للأمم أن يدخلوا أبواب الحكمة الإنجيلية المفتوحة لكل البشرية.

“وكان ذلك مدة سنتين،

حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا،

من يهود ويونانيين”. [10]

استمر الرسول بولس يكرز ويحاور لمدة عامين في هذه المدرسة، فسمع كثيرون من بلاد كثيرة في آسيا عنها، وجاء يهود ويونانيون من كل آسيا يسمعون للرسول. في هذه الفترة تأسست كنائس في كولوسي ولاودكية وهيرابوليس (كو2: 1؛ 4: 13)، وربما بعض الكنائس الأخرى التي في آسيا الصغرى والواردة في سفر الرؤيا (رؤ2: 3).

إذ كان كثيرون يحضرون إلى أفسس بكونها عاصمة آسيا، لممارسة العبادة أو للتجارة أو للتعليم أو للقضاء، كانوا يسمعون عن الرسول بولس فيستمعون إليه. وهكذا الشعب الجالس في الظلمة رأى نور شمس البرّ، ربنا يسوع مشرقًا عليهم.

  1. قوات غير المعتادة

“وكان اللَّه يصنع على يديّ بولس قوات غير المعتادة”. [11]

ثبت الله كرازة الرسول بولس وتعليمه بصنع الآيات والعجائب.

لم نسمع عن آيات صنعها الرسول بولس منذ إخراج الروح الشرير من العرافة في فيلبي. فلم يذكر أنه صنع آيات في تسالونيكي وبيريه وأثينا، فهل صنع آيات لم يسجلها لوقا البشير؟ غالبًا حيثما كانت كلمة الإنجيل تنجح، لم تكن توجد حاجة لعمل الآيات. أما حينما توجد مقاومة شديدة، فإن الله يسند العمل بالآيات. ففي أفسس وُجدت مقاومة شديدة وشتائم من اليهود والأمم، لهذا “كان الله يصنع على يدي بولس قوات غير المعتادة”. هذا وإننا لا نتجاهل أن القديس بولس لم ينشغل بتسجيل كل الآيات والقوات. ففي كورنثوس كما يقول الرسول وجدت آيات على رسولية تمت بينهم بأعمال عجيبة وقوات (2 كو 12: 12)، ومع هذا لم يسجل لنا لوقا البشير آية واحدة مما صنعها الرسول هناك.

لقد اقتضت ظروف أفسس أن يصنع الله على يديه قوات غير المعتادة، أي لم يفعلها رسول آخر.

“حتى كان يؤتى عن جسده بمناديل أو مآزر إلى المرضى،

فتزول عنهم الأمراض،

وتخرج الأرواح الشريرة منهم”. [12]

إذ كان عدو الخير يعمل بكل قوةٍ خلال عظمة أرطاميس، سند الرب كنيسته فأعطى الرسول أن يصنع قوات غير معتادة (أع 19: 11-12)؛ وكان اسم يسوع يتعظم (أع 19: 17)، وجاء كثيرون بكتب السحر يحرقونها أمام الجميع، قُدرت أثمانها بخمسين ألفًا من الفضة. هكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدة (أع 19: 19-20).

هكذا قدرما سيطرت قوات الظلمة على أفسس عمل الرب بقوة ليجتذب السحرة أنفسهم للإيمان.

لم يكن بولس الرسول هو الذي يصنع القوات غير المعتادة، إنما كان هو الأداة المقدسة التي يستخدمها الله. إذ يقول: “من هو بولس؟ ومن هو أبولس؟”

لقد قدس الله ليس فقط جسده بل وحتى المناديل والمآزر التي على جسمه الضعيف، فتوضع على المرضى ومن بهم أرواح شريرة. وهكذا حقق الله وعده لتلاميذه أنهم يفعلون أعمالاً أعظم مما فعلها (لكن باسمه). وأكد أنه أعطاهم سلطانًا على الأرواح النجسة وأن يشفوا كل الأمراض (مت 10: 1).

v صار الكلمة جسدًا لكي يغير جسدنا إلى روح… ولكي يقدس الجسد كله معه، إذ فيه تقدست البكور.

القديس غريغوريوس النيسي

  1. أبناء سكاوا المعزمين

“فشرع قوم من اليهود الطوّافين المعزمين،

أن يسموا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع،

قائلين: نقسم عليك بيسوع الذي يكرز به بولس”. [13]

يقتبس هنا لوقا البشير مثلاً عن مدى تأثير خدمة القديس بولس في أفسس. فإن بعض العزامين الذين يدعون انهم يخرجون الشياطين فيطوفون أفسس للمكسب المادي، ظنوا أنهم يمارسون هذا العمل بقوة اسم يسوع الذي يكرز به بولس، هؤلاء اليهود شاهدوا القوات غير المعتادة التي وهبت للرسول، فعوض أن يؤمنوا أرادوا استخدام قوة الاسم في عمل السحر.

الكلمة اليونانية المترجمة طوّافين تشير إلى شخص يطوف وهو عاطل سيئ، ليس له موضع يقيم فيه. هؤلاء كانوا كثيرون في العالم، عملهم أن يطوفوا لعمل السحر والادعاء أنهم يخرجون الأرواح الشريرة، بأن يقسموا عليه باسم الله لكي يخرجوا.

“وكان سبعة بنين لسكاوا رجل يهودي رئيس كهنة الذين فعلوا هذا”. [14]

v تطلعوا إلى خسة الناس! لقد استمروا كيهود بينما حاولوا الانتفاع من هذا الاسم. كل ما فعلوه من أجل المجد والنفع المادي.

القديس يوحنا الذهبي الفم

كلمة سكاوا يونانية، ولا يُعرف رئيس كهنة بهذا الاسم. وإن كان رئيس كهنة، فلماذا يعيش في أفسس؟ لذا يرى البعض أنه أقام نفسه أو أقامه بعض اليهود رئيس كهنة. ويرى آخرون انه ربما ينتسب لعائلة هرون الكهنوتية، ولعله كان عضوًا في مجمع السنهدرين، وقد ترك أورشليم ليعيش في أفسس، أو كان يجول مع أبنائه من بلد إلى آخر كخدام لإبليس، يدعون القدرة على إخراج الشياطين وممارسة السحر.

هذه الخرافة كما يقول يوسيفوس المؤرخ انتشرت بين اليهود بعد أن وضع سليمان بعض التعاويذ لشفاء الأمراض وإخراج الشياطين، ولعل السيد المسيح قد أشار إلى هؤلاء في مت 12: 27.

حقًا إنه لأمر محزن أن السبط الذي قدسه الله لخدمته وبيت هرون الذي خصصه ككهنة له، قد انحرف ليصير منهم خدام لإبليس يمارسون السحر والرقي باسم الله نفسه، ليس تكريمًا لله، ولا إيمانًا بقدرته، وإنما لممارسة السحر الشيطاني. لهذا يصرخ الرسول: “هل من شركة بين المسيح وبليعال؟”

لا نعجب إن كان إبليس وجنوده أحيانًا يُظهرون نوعًا من الغيرة على اسم الله، لكن في كل الحالات ما يودونه هو تدمير خلاص البشر، لهذا لم يقبل السيد المسيح ولا رسله شهادتهم حتى وإن بدت صحيحة.

إن كنا نقاوم إبليس بروح الحق، بالإيمان الحي خلال ميثاقنا مع الله فحتمًا نحطمه؛ أما إن حسبنا أننا بمجرد ترديد اسم الله وخلال الشكل نقاومه، فإنه يقوى علينا ويصيب نفوسنا بجراحات خطيرة ويفضح عرينا الداخلي من نعمة الله.

يمكن سر غلبتنا على إبليس لا في النطق باسم يسوع دون الحياة معه بنعمته. لذا يقول الأب ثيؤدورت أسقف كورش [بعد أن أعلن بولس عن العدو أشار إلى المخلص (رو 6: 20). الذين ينالون نعمة الله لن يُغلبوا قط].

v ليت الله ينصركم، ليس من الخارج على عدوكم، وإنما من الداخل على أنفسكم.

v لا ترهب العدو الذي يأتي من الخارج، فإنك إن غلبت نفسك ستصير غالبًا للعالم.

القديس أغسطينوس

v دُعي الشيطان قويًا ليس لأنه بالطبيعة هو هكذا، إنما بالإشارة إلى سلطانه الذي صار له بسبب ضعفنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فأجاب الروح الشرير، وقال:

أمّا يسوع فأنا أعرفه، وبولس أنا اعلمه،

وأمّا أنتم فمن أنتم؟” [15]

لقد أدركت الأرواح الشريرة أنهم يفعلون هذا ليس عن إيمان بقوة يسوع المسيح للخلاص والتمتع بالملكوت، وإنما بإساءة استخدام هذا الاسم، لهذا وإن اقسموا باسم يسوع لا يحملون قوته. فيقول الروح الشرير: “وأما أنتم فمن أنتم؟” يعنى: أين هي قوتكم؟ فإنكم لا تنتمون ليسوع، ولا تدركون إمكانية بولس الكارز باسم يسوع، فليس من حقكم أن تفعلوا آيات باسمه”

v واضح أن الأرواح النجسة لا تقدر أن تجد لها طريقًا في أجساد من اغتصبتهم بأي وسيلة ما لم تملك أولاً علي عقولهم وأفكارهم فتسلب منهم مخافة الله وتذكره والتأمل فيه، وبهذا تتجاسر فتتقدم إليهم كمن هم بلا حصانة إلهية، وتقيدهم بسهولة وتجد لها موضعًا فيهم، كما لو كان لها حق الملكية عليهم.

الأب سيرينوس

“فوثب عليهم الإنسان الذي كان فيه الروح الشرير،

وغلبهم وقويَ عليهم،

حتى هربوا من ذلك البيت عراة ومجروحين”. [16]

v تظهر قوة الشياطين عظيمة حينما تكون ضد غير المؤمنين، لأنه لماذا لم يقل: “من هو يسوع؟” كان خائفًا لئلا هو نفسه أيضًا يسقط تحت العقوبة، لكن سمح له أن ينتقم من الذين سخروا به، لقد قال: “أما يسوع فأنا أعرفه“. لقد كان خائفًا من بولس. لأنه لماذا هؤلاء البؤساء لم يقولوا له: نحن نؤمن؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وصار هذا معلومًا عند جميع اليهود واليونانيين الساكنين في أفسس،

فوقع خوف على جميعهم،

وكان اسم الرب يسوع يتعظم”. [17]

لم يكن يهدف عدو الخير نحو تمجيد الله، لكنه وجد الفرصة متاحة لإيذاء السبعة بنين، أما الله الصالح فحوّل حتى هذا الحدث لبنيان الكنيسة، إذ وقع خوف الرب على جميع اليهود والأمم الساكنين في أورشليم، وتعظم اسم الرب يسوع أمام كثيرين.

v تولد مخافة الرب الحقيقيّة من الإيمان الحقيقي،

فمن يؤمن حقيقة، حقًا يخاف ذاك الذي يؤمن به…

يولد الإيمان من البساطة الطبيعيّة،

كما يحفظ ويثبت أيضًا بتلك البساطة…

تحافظ البساطة على الإيمان،

وتحافظ مخافة الرب على وصايا اللَّه.

v “لنتحدّث عن مخافة الرب بفكر يخاف الرب”.

فانه لا يريد أن يقترب إلى هذا الموضوع ليستعرض أفكارا فلسفية، أو ليدخل في حوار عقلاني جاف، وإنما تحت قيادة مخافة الرب يدخل كما إلى المقادس عن العلاقة بين الله والإنسان كحياة عاشها الآباء وتسلّمها جيله. وكأنه يقول: “أتريد أن تتعرف على مخافة الرب؟ أطلب من الرب مخافة الرب هذه لتدخل بفكرك المقدس إلى أعماق نفسك، وتكتشف عمل اللَّه العجيب في وفيك!”

إنه لا يريد “مخافة” الجدل والكلام، وإنما مخافة خبرة الروح الحية!

الفكر البشري هو هبة يقدّمها الله للإنسان، تحتاج أن تدخل في دائرة مخافة الرب، تقوده كطفل صغير في رعاية أبيه أو أمه، يسير معها ليتعرّف على أسرار الحياة ويتدرّب وينمو وينضج!

مار فيلوكسينوس أسقف منبج

“وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مقرين،

ومخبرين بأفعالهم. [18]

لعل بعض الذين آمنوا واعتمدوا أخفوا بعض خطاياهم، ولم يقدموا توبة جادة. هذا الحدث أرعبهم، فإنه لا يكفي التمسك باسم الرب يسوع، بل يلزم التجاوب مع عمل روحه القدوس، والسلوك حسب العهد الجديد الذي التزموا به. هؤلاء جاءوا في مخافة لرب يعترفون بكل ما في أعماقهم! هكذا تحول الحدث إلى توبة الكثيرين واعترافهم لدى الرسل والتلاميذ، كما جذب بعضًا من غير المؤمنين إلى الإيمان الحي.

“وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر،

يجمعون الكتب،

ويحرقونها أمام الجميع،

وحسبوا أثمانها، فوجدوها خمسين ألفًا من الفضة”. [19]

  1. حرق كتب السحر

أدرك كثير من السحرة وهواة الأعمال السحرية ضعف قوة إبليس وكل جنوده أمام اسم الرب يسوع، إن صدر عن قلب له شركة معه ونفس مقدسة له. في جدية جاء كثيرون بكتب السحر التي كانوا يستعملونها وكانوا يحرقونها علانية، دون أية اعتبار لبهاظة أثمانها.

كما كانوا يمارسون السحر علانية، حرقوا كتب السحر علانية أمام الجميع، معلنين توبتهم ومعترفين بخطأهم. قدموا كل رصيدهم، كتب السحر الثمينة، ليعلنوا عدم الرجوع إلى السحر، ما كانوا يظنونه مصدر رزقهم بل وغناهم لم يعد ذات قيمة بل صار أشبه بوباءٍ يريدون الخلاص منه. ولعل حرق الكتب علانية كان تعبيرًا عن روح الفرح بالنصرة على عدو الخير والبهجة بخلاص السيد المسيح.

“هكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدة”. [20]

بينما كانت أعمال إبليس التي تجلت بالأكثر في أعمال السحر تتحطم، كانت كلمة الرب تنمو وتتشدد، حيث يدرك المؤمنون أعماق جديدة للكلمة وينجذب غير المؤمنين للتمتع بالكلمة.

  1. اضطراب في أفسس

“ولمّا كملت هذه الأمور،

وضع بولس في نفسه أنه بعدما يجتاز في مكدونية وآخائية،

يذهب إلى أورشليم قائلاً:

أني بعدما أصير هناك ينبغي أن أرى رومية أيضًا”. [21]

كانت شهوة قلب بولس كرسول للأمم أن يشهد لمسيحه في روما بكونها عاصمة العالم الأممي في ذلك الحين. لقد وضع الله ذلك في قلبه؛ وضع خطة لزيارة كنائس مكدونية وأخائية، خاصة فيلبي وكورنثوس المدينتين الرئيسيتين لهاتين الولايتين [21]. أراد زيارة الكنائس التي غرسها ليطمئن على عمل الله في حياة هذه الكنائس. كما وضع في خطته أن يذهب إلى أورشليم لكي يبهج قلوب الإخوة بعمل الله وسط الأمم، ويقدم هبات الكنائس التي جمعها لفقراء أورشليم، ومن هناك يذهب إلى روما وهو في طريقه إلى أسبانيا (رو 15: 24، 28).

“فأرسل إلى مكدونية اثنين من الذين كانوا يخدمونه،

تيموثاوس وأرسطوس،

ولبث هو زمانًا في آسيا”. [22]

تيموثاوس: كان الشخص المناسب لإرساله إلى مكدونية، إذ سبق أن كان هناك مع الرسول بولس، عندما قام بتأسيسها (أع 16: 3؛ 17: 14).

أرسطوس أمين خزانة الملك أو المدينة (رو 16: 23)، لذلك فهو الشخص المناسب إرساله مع تيموثاوس بغرض الجمع لفقراء أورشليم.

لبث زمانًا في آسيا“، في أفسس، حتى يتهيأ الجمع للفقراء، وبقي مع القديس لوقا.

“وحدث في ذلك الوقت شغب ليس بقليل بسبب هذا الطريق”. [23]

قرار بولس الرسول بترك أفسس نفذ بأكثر سرعة، حيث حدث شغب ليس بقليل بسبب الإيمان المسيحي والتعاليم المسيحية التي كان يكرز بها الرسول بولس. فقد كانت أفسس مركز عبادة الآلهة العظيمة أرطاميس (وتدعى باللاتينية ديانا). يحسبونها الإلهة الأم لآسيا الصغرى، تعرف سبلة Cybele، وكان البعض يعتبر هيكل أرطاميس أحد عجائب الدنيا السبع.

“لأن إنسانًا اسمه ديمتريوس صائغ صانع هياكل فضة لأرطاميس،

كان يكسب الصناع مكسبًا ليس بقليل”. [24]

كانت هذه الهياكل الصغيرة على شكل الهيكل، وتوضع فيها الآلهة ديانا. تُصنع من الخشب أو المعادن النفيسة ويضعها المتعبّدون في رقابهم كتعويذة لحمايتهم. كان الهيكل به باب واحد من الجنب يُغلق لحفظ الآلهة في الداخل.

كان صناعة هياكل صغيرة من الفضة أو تماثيل للإلهة أرطاميس تجارة مربحة للغاية. وإذ نجحت خدمة الرسول بولس انهارت هذه التجارة، لذلك عقد شخص يدعى ديمتريوس اجتماعًا لصانعي التماثيل الفضية، وأوضح لهم الخطر الذي يحدق بهم. لقد عرف الوثنيون بحمل تماثيل صغيرة، تمثل آلهتهم أينما ذهبوا، كما اشتهر الرومانيون بوضع تماثيل الآلهة في بيوتهم. أشير إلى هذه العادة في أيام لابان (تك 31: 19) حيث سرقت راحيل ابنته تماثيله. وجاء في سفر القضاة عن ميخا الذي كان له بيت آلهة (قض 17: 5). وذكر مثل هذا في 1 صم 19: 13 ؛ هو 3: 4. هذه التماثيل كانت غالبًا ما توضع في صندوق صغير من الخشب أو الحديد أو الفضة.

أرطاميس: أحد أشهر اثني عشر إلهًا تدعى في السماء لونا Luna أو ميو Meui وتعني القمر، وعلى الأرض أرطاميس أو ديانا، وفي جهنمHecate . أحيانا كانت تُمثل بهلال يوضع على يدها، وترتدى ثياب صيد، وأحيانا تصور بثلاثة وجوه، معها أدوات تعذيب. ينظر إليها بأنها إلهة الصيد. تُعبد خلال أسماء متنوعة مثل بروسيربين Proserpine وتريافا Triavia الخ. تصور بعديد من الثدي إشارة إلى أنها مصدر البركات، توزعها لكل واحد حسب حالته. كانت تعبد في مصر وأثينا وكيليكية وفي وسط أمم كثيرة، لكن مركزها الرئيسي هو أفسس.

“فجمعهم والفعلة في مثل ذلك العمل، وقال:

أيها الرجال،

أنتم تعلمون أن سعتنا إنما هي من هذه الصناعة”. [25]

لم يلجأ ديمتريوس إلى الحكام أو القضاة، بل إلى أصحاب المصالح المادية والعمال الذين كل ما يشغلهم في هذه العبادة مكسبهم المادي. إنه الطريق السهل للكسب وأحيانا للغنى أن يسيء الإنسان استغلال الدين، فيصير مصدر غنى وسعة.

“وأنتم تنظرون وتسمعون أنه ليس من أفسس فقط،

بل من جميع آسيا تقريبًا،

استمال وأزاغ بولس هذا جمعًا كثيرًا قائلاً:

أن التي تصنع بالأيادي ليست آلهة”. [26]

قيل أنه كان يوجد 33 مركزًا لعبادة الإلهة أرطاميس. يقولون: أنتم تنظرون في أفسس وتسمعون عن بلاد كثيرة في آسيا الصغرى كيف اجتذب جمعًا كثيرًا لرفض العبادة الوثنية. هذه شهادة من الوثنيين أنفسهم عن نجاح خدمته، ليس فقط في أسيا، وإنما في بلاد كثيرة في آسيا الصغرى.

“فليس نصيبنا هذا وحده في خطر من أن يحصل في إهانة،

بل أيضًا هيكل أرطاميس الآلهة العظيمة أن يُحسب لا شيء،

وأن سوف تهدم عظمتها،

هي التي يعبدها جميع آسيا والمسكونة”. [27]

يكشف ديمتريوس عن مدى الخطورة التي تحل بهم، حيث أن انتشار الإيمان حتمًا يسبب غلق متاجر هؤلاء الصناع، وتبطل صياغة هياكل أرطاميس الفضية. لا يقف الأمر عند فقدان مصدر رزقهم، وإنما تحصل له إهانة بكونهم يعبدون آلهة باطلة. ولكي يثيرهم دينيًا يعلن لهم أن ما هو أخطر أنه يهين الإلهة التي تتعبد لها جميع آسيا والمسكونة.

كأن كرازة الرسول بولس تسبب لهم ثلاثة خسائر خطيرة:

أولاً: حرمانهم من المكسب المادي، فيصبهم الفقر والعوز.

ثانيًا: فقدانهم كرامتهم بكونهم يعملون لحساب آلهة باطلة، وهذا أخطر من الخسارة المادية.

ثالثًا: تشويه صورة الإلهة العظيمة أرطاميس التي تتعبد لها المسكونة، وهذا ما لا يحتمله أحد!

“فلما سمعوا امتلأوا غضبًا،

وطفقوا يصرخون قائلين:

عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين”. [28]

إذ سمع الصناع أن مهنتهم وإلهتهم في خطر امتلئوا غضبًا ضد الإنجيل والكارزين به. وإذ لم يجدوا علة حقيقية لقتل الرسول بولس ليشتكوا بها عليه هو ورفقائه، أثاروا ضجيجًا وصخبًا شعبيًا.

“فامتلأت المدينة كلها اضطرابًا،

واندفعوا بنفس واحدة إلى المشهد،

خاطفين معهم غايوس وأرسترخس المكدونيين،

رفيقي بولس في السفر”. [29]

خطفت الجماهير غايس وارسترخس، الأول من دربة (أع 20: 4)، والثاني أشير إليه في أع 20: 4؛ كو 4: 10. الجريمة الموجهة إليهما أنهما في صحبة الرسول بولس ومرافقان له في سفره. ولعل الجماهير أرادت تقديمهما للوحوش المفترسة في المشهد “المسرح”. كان المسرح اليوناني هو مكان التجمعات الشعبية، وأيضًا للانتخابات والمحاكمات، وفيه أيضًا يُقدم المجرمون للوحوش المفترسة.

“ولمّا كان بولس يريد أن يدخل بين الشعب،

لم يدعه التلاميذ”. [30]

إذ رأى الرسول بولس هذه الصخب الشعبي هرب، لكنه إذ وجدهم قد اختطفوا رفيقيه أراد تسليم نفسه للجمهور، لينقذ حياتهما من خلال محبته لهما، لكن التلاميذ أمسكوه ولم يسمحوا له بهذا. وكأنهم قالوا له ما قاله خدام داود للملك بأنه هو أفضل من ربوة منهم (2 صم 18: 3).

لعل بولس الرسول أراد بدخوله وسط الجماهير أن يتحدث معهم مدافعًا عن نفسه وعن صديقيه، أو ليشهد لهم بطريق أو آخر عن الإنجيل.

“وأُناس من وجوه آسيا كانوا أصدقاءه،

أرسلوا يطلبون إليه أن لا يسلّم نفسه إلى المشهد”. [31]

لقد سمع بعض الأشخاص من القادة (وجوه) في آسيا وكانوا أصدقاء له فأرسلوا إليه ألا يسلم نفسه، إذ أدركوا خطورة الموقف. “وجوه أسياAsiarchae هم قادة مسئولون عن حفظ الخدمات الدينية المناسبة، يُختارون للإشراف على المقدسات والألعاب العامة التي تُقام تكريمًا للآلهة وللإمبراطور الروماني في الأعياد الشعبية. كان دورهم شبه ديني، كان بعض السلطان يدعونهم كهنة، ويحسبون عملهم كهنوتيًّا. في كل عام كان يُختار عشرة من المواطنين ذوي الشخصيّات السامية للمدن الكُبرى لهذا المركز. هؤلاء يُختارون سنويًا، ويلزم موافقة روما عليهم، ويُمكن إعادة تعيين الشخص. وكانوا يعقدون مجلسًا في المدينة الرئيسية للولايات مثل أفسس وسميرنا وساردس الخ. لتدبير هذه الأمور والتشاور معًا. كانوا بالضرورة أغنياء جدًا لأن هذه الألعاب تكلفتها باهظة، وكان الوجهاء ملتزمين بالانفاق عليها. عند ممارستهم للعمل يرتدون ثيابًا أرجوانيّة، ويحملون أكاليل . أما إن كان العشرة يشرفون معًا على الألعاب أو يقوم أحدهم بالعمل ويساعده الآخرون، فهو أمر غير مؤكّد.

في هذه اللحظات التي كانت الجماهير ثائرة كان المجلس منعقدًا، وكانوا قد سمعوا الرسول بولس وأحبوه وصاروا له أصدقاء. لكن ليس بالضرورة أن يكونوا قد صاروا بعد مسيحيين، إنما كانوا يكنون الحب والتقدير لشخصية الرسول بولس، وكانوا يودون الدفاع عنه. وكان يلزم امتصاص غضب الجماهير حتى يمكن السيطرة على الموقف دون أن يهلك الرسول ورفقاؤه.

يرى البعض أن شخصًا واحدًا كان هو الرئيس الذي يهتم بعبادة الإمبراطور في الاحتفالات الشعبية، لكن البقية كانوا رؤساء سابقين، ربما كان الرئيس في ذلك الحين مجتمعًا معهم للتشاور في بعض الأمور والانتفاع بخبرتهم السابقة.

لعل تلاميذ الرسول وهؤلاء الوجوه رأوا أن تسليم بولس نفسه للجماهير يلهب الموقف بالأكثر، فستعامله الجماهير بعنفٍ شديدٍ وقد تقتله، وليس بذات المعاملة التي يعاملون بها رفيقيه. فالأفضل أن ينتظر حتى يتهيأ الجو للقاء مع الجماهير بعد إقامة محفل للقضاء.

“وكان البعض يصرخون بشيء،

والبعض بشيء آخر،

لأن المحفل كان مضطربًا،

وأكثرهم لا يدرون لأي شيء كانوا قد اجتمعوا”. [32]

كان البعض يصرخ مطالبًا بقتل اليهود بوجه عام، وآخرون بقتل بولس ومن معه، والغالبية العظمى لا تعرف لماذا اجتمعت، ولماذا هذه الثورة.

“فاجتذبوا إسكندر من الجمع،

وكان اليهود يدفعونه،

فأشار إسكندر بيده يريد أن يحتج للشعب”. [33]

إذ شعر اليهود أنهم في خطر، لأن كثير من المجتمعين لا يميزون بين بولس وبين اليهود، لهذا دفعوا الكسندر للحديث معهم لتهدئتهم. يرى جروتس Grotius أنه الكسندر الحداد الذي صنع شرورًا لبولس الرسول (2 تي 4: 14)، وإن كان بعض الدارسين يرفضون ذلك. لقد وقف بين الجماهير، فعرفت أنه يهودي. وقف لا ليدافع عن نفسه، وإنما عن اليهود ككل.

“فلما عرفوا أنه يهودي صار صوت واحد من الجميع،

صارخين نحو مدة ساعتين:

عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين”. [34]

إذ عرفت الجماهير أنه يهودي ثارت بالأكثر وهي تصرخ لمدة ساعتين، لأنهم كانوا يتطلعون إلى المسيحيين أنهم شيعة يهودية. لقد أرادوا أن يبكموا اسكندر فلا يتكلم.

“ثم سكن الكاتب الجمع، وقال:

أيها الرجال الأفسسيون،

من هو الإنسان الذي لا يعلم أن مدينة الأفسسيين متعبدة لأرطاميس الإلهة العظيمة،

والتمثال الذي هبط من زفس”. [35]

ظهر كاتب المدينة أو سكرتير مجلس المدينة، كان يقوم بنساخة الكتب، ويلزم أن يكون ضليعًا في القانون وذا ثقافة عالية (2 صم 8: 17؛ عز 7: 6،11-12؛ مت 5: 20؛ 12: 38؛ 13: 52؛ 15: 1؛ 23: 34؛ 1 كو 1: 20).

تحدث معهم باللغة التي تهدئهم من ثورتهم، مؤكدًا لهم أن هذه الإلهة العظيمة النازلة من السماء لا يمكن أن يدمرها قلة قليلة جدًا من اليهود. لقد وبخهم على مخاوفهم غير اللائقة بعظمة أرطاميس.

“فإذ كانت هذه الأشياء لا تُقاوم،

ينبغي أن تكونوا هادئين،

ولا تفعلوا شيئًا اقتحامًا”. [36]

يؤكد لهم أنه إن كان لا يستطيع أحد أن يطفئ غيرة الأفسسين على عبادتهم لأرطاميس، وإخلاصهم لها، وبالتالي فليس من خطر على هذه العبادة بسبب قلة شريرة من اليهود، فلا مجال لهذا الهياج. وكأنه يقول لهم هذا الهياج يهين العبادة فتظهرون كأنها ضعيفة ومعرضة للخطر بلا سبب.

“لأنكم أتيتم بهذين الرجلين،

وهما ليسا سارقي هياكل،

ولا مجدّفين على آلهتكم”. [37]

يقول أن هذين الرجلين ليسا منجسين للهيكل، ولا سارقين لهيكل ديانا أو غيرها. لقد كرزا ضد العبادة للتماثيل، لكنهما لم يلزما أحد باستخدام العنف ضد الهياكل ولا حاولا تعطيل العبادة. ما فعلاه إنما بالحوار السلمي.

“فإن كان ديمتريوس والصنّاع الذين معه لهم دعوى على أحد،

فإنه تُقام أيام للقضاء،

ويوجد ولاة فليُرافعوا بعضهم بعضًا”. [38]

إن كان ديمتريوس والصناع قد أصابهم أذى، فأبواب القضاء مفتوحة، ويمكن تحديد أيام للمحاكمة في هدوء وبحكمة، والولاة أو القضاة الرومانيون مستعدون أن يسمعوا كل الأطراف.

“وإن كنتم تطلبون شيئًا من جهة أمور أخرى،

فإنه يُقضى في محفل شرعي”. [39]

يؤكد لهم الكاتب أنه إن كانت هناك أية شكاوي أخرى، فالقضاء مستعد للاستماع بمحفلٍ شرعيٍ وليس بالهياج والثورة، حتى يمكن تحقيق العدالة وتنفيذ القانون.

“لأننا في خطر أن نحاكم من أجل فتنة هذا اليوم،

وليس علّة يمكننا من أجلها أن نقدم حسابًا عن هذا التجمع”. [40]

يوضح الكاتب أن هذا الهياج يسيء إلى سمعة المدينة لدى روما، لأنه بلا ترتيب ولا نظام، ويتجاهل الإجراءات القانونية السليمة. يلزمهم أن يتذكروا أن من يشترك في هياج هكذا يحسب جريمة يعاقب عليها القانون الروماني بالإعدام.

“ولمّا قال هذا صرف المحفل”. [41]

إذ خشي الكثيرون لئلا يُقبض عليهم، ويُحاكموا بجريمة التظاهر والشغب، انسحبوا، فانصرف المحفل كله.

من وحي أع 19

هزيمة الشيطان في أفسس

v وهبت رسولك بولس روح الرجاء المفرح.

لم يهتز للمضايقات التي لم تفارقه.

دخل إلى أفسس، وكأنه دخل إلى عرين آخر للأسد.

كان يعلم أن التجارب تلاحقه،

ويدرك أن نعمتك تهب تعزيات لا حصر لها.

v جذب الكثيرين لقبول المعمودية باسمك،

ووضع يديه عليهم، فحل روحك القدوس عليهم.

نالوا ختم الروح، فصاروا في ملكيتك.

نالوا الختم الملوكي، فصاروا ملوكًا!

حملوا سمتك، فلن يقدر العدو أن يقترب إليهم.

v طُرد بولس الرسول من المجمع.

فتمتع ببركة الطرد خارج المحلة معك.

وكأنه صار يرافقك في طريق الجلجثة، ليصلب معك هناك!

v طُرد من المجمع، الذي لا تجد فيه موضعًا تسند راسك.

انطلق للخدمة بين الأمم،

تسنده نعمتك بعجائبٍ فائقة.

انهارت قوى إبليس وتحطم!

v ظن أبناء سكاوى اسمك سحرًا،

وباسمك حسبوا أنهم يخرجون أرواحًا شريرًا.

كيف يخرجون الشيطان من آخرين،

وهو يقيم في بني سكاوا أنفسهم؟

كيف يستخدمون اسمك الذي ينادي به رسولك،

دون أن يتمتعوا بنعمتك؟

v انكشف عدو الخير تمامًا،

وتعرى ليدرك السحرة ضعفه.

أتوا بكتب السحر وحرقوها،

لكي تعمل نيران الروح القدس فيهم.

وطأوا قوات الظلمة تحت أقدامهم،

فقد أشرق نور برّك عليهم.

v أثار العدو أتباعه.

وظن ديمتريوس الصائغ أنه قادر على الخلاص من سفرائك.

أعمت محبة الفضة عينيه.

فادعى أنه يدافع عن إلهته أرطاميس!

لكن ذراعك الرفيعة تسند على الدوام خدامك.

لك المجد أيها الرب السماوي!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

زر الذهاب إلى الأعلى