تفسير سفر أعمال الرسل ١ للقمص تادرس يعقوب

الباب الأول

الإعداد لقيام الكنيسة

ص 1- ص 2

الأصحاح الأول
الإعداد لميلاد الكنيسة

الآن وقد قُدم الثمن بالكامل قام السيد المسيح من بين الأموات، مؤكدًا قبول الآب لذبيحة الصليب، فصار من حق البشرية أن تتمتع بالدخول إلى السماويات خلال برّ المسيح القائم من الأموات. وقد جاء هذا الأصحاح يوضح التهيئة العملية لميلاد كنيسة المسيح في يوم الخمسين ككنيسة يقودها الروح القدس بنفسه.

١. جذب التلاميذ نحو الملكوت ١-٣.

٢. الوعد بالقائد الإلهي ٤-٨.

٣. ارتفاع الرأس إلى السماء ٩-١٤.

٤. تكملة عدد التلاميذ ١٥-٢٦.

١. جذب التلاميذ نحو الملكوت

بعد أن وجّه الإنجيلي لوقا السفر إلى ثاوفيلس أوضح عمل السيد المسيح مع تلاميذه خلال فترة الأربعين يومًا من يوم قيامته حتى صعوده، حيث سحب قلوبهم إلى ملكوت الله، وألهبها للبلوغ إليه. قيامته غيَّرت نظرتهم إليه، فلم يعد يعيش في وسطهم نهارًا وليلاً، يمارس الحياة البشرية اليومية، لكنه صار يلتقي بهم في ظهورات، حيث صار موضعه الطبيعي بعد القيامة هو السماء. مع كل ظهورٍ كانوا يشتاقون إلى الحياة الجديدة المُقامة ليمارسوا عربون السماويات حتى يحل يوم لقائهم معه على السحاب وينالوا شركة المجد الأبدي.

“الكلام الأول أنشأته يا ثاوفيلس،

عن جميع ما ابتدأ يسوع يفعله ويعلم به” [1].

تخدم مقدمة إنجيل لوقا (لو ١: ١-٤) السفرين معًا بكونهما أشبه بكتابٍ واحدٍ في مجلدين، أما مقدمة أعمال الرسل (١: ١-٢) فتربط السفرين معًا.

لقد قدم في الكلام (المقال) الأول عرضًا لأقوال السيد المسيح وأعماله. إنه لم يكن ممكنًا لسفرٍ ما أن يسجل تفاصيل كل أحاديث السيد ومعجزاته وأعماله الخلاصية (يو ٢١: ٢٥)، لكنه سجل جوهر الأحاديث والأعمال.

v لم يقل: “جميع” فقط، وإنما “عن جميع“، وكأنه يقول “ملخصًا عن” أو “في الإجمال” عن كل ما هو رئيسي وهام جدًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على قول الإنجيلي: “ابتدأ يسوع أن يفعله ويعلم به” [1] مقدمًا العمل عن الكلام، بهذا قدم نفسه مثالاً للمعلم الحقيقي.

v تأملوا كيف ثبَّت المسيح كلماته بأعماله.

هكذا يقول: “تعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29).

علَّم البشر أن يكونوا فقراء، وقد أوضح ذلك بأعماله، فإن “ابن الإنسان ليس له أين يسند رأسه” (مت 8: 20).

مرة أخرى أوصى البشر أن يحبوا أعداءهم، وقد علَّم ذات الدرس على الصليب حين طلب من أجل صالبيه.

لقد قال: “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فأترك له الرداء أيضًا” (مت 5: 40). الآن لم يعطِ فقط الثياب بل قدم دمه. بهذه الطريقة أمر الآخرين أن يعلِّموا.

لذلك يقول بولس أيضًا: “كونوا متمثلين بي” (في 3: 17).

فليس شيء أكثر تفاهة من أن يظهر معلم ما فلسفته بالكلمات؛ فإن هذا ليس من عمل المعلم بل المرائي.

لذلك علَّم الرسل بسلوكهم أولاً وبعد ذلك بكلماتهم، بل بالأحرى لم يكونوا في حاجة إلى كلمات عندما نطقت كلماتهم بصوتٍ عالٍ. فليس من الخطأ أن تتحدث عن آلام المسيح كعملٍ، فإنه بآلامه، تمم عملاً عظيمًا وعجيبًا، بل دمَّر الموت، وقدَّم لنا أمورًا كثيرة فعلها من أجلنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v يصير التعليم مخجلاً عندما يبكت الضمير الإنسان (الذي يُعلِم ولا يعمل بما يُعلِمه). باطلاً يكرز لسانه عن الفقر ويعلم عن العطاء إن كان منشغلاً بالغنى وعوض ارتدائه ثوبه البالي يرتدى الثياب الحريرية في بيته كي يدفع عنها العث.

القديس جيروم

v يلزمنا المثابرة بجهاد في القراءة، الأمر الذي أراكم تصنعونه، مع السعي بكل اشتياق لنوال المعرفة العملية الاختبارية أولاً، أي المعرفة الأخلاقية. لأنه بغيرها لا يمكن اقتناء النقاوة النظرية التي نتكلم عنها، وبهذا لا ينطقون بكلمات غيرهم معلمين بها، إنما بالسمو في العمل والتنفيذ. فبعدما يبذلون جهودًا وأتعابًا كثيرة يستطيعون أن ينالوا المعرفة الروحية كمكافأة لهم من أجلها. وإذ يقتنون المعرفة، لا من مجرد التأمل في الشريعة، بل كثمرة لتعبهم، يتغنون مع المرتل قائلين: “من وصاياك تفهمت” (مز 104:119). وإذ يقهرون كل شهواتهم يقولون بكل ثقة: “لك يا ربِّ أرنم. أتعقل في طريقٍ كاملٍ” (مز 1:101، 2). فمن يجاهد في طريقٍ كاملٍ بقلبٍ نقيٍ يترنم بالمزمور ويتعقل (يتفهم) الكلمات التي يسبح بها.

الأب نسطور

“إلى اليوم الذي ارتفع فيه،

بعدما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم” [2].

في حديثه الوداعي وعدهم بكل وضوح بعطية روحه القدوس المعزي، الذي يقدم لهم كل الحق، ويفتح أذهانهم لمعرفة الكتب المقدسة، ويجتذب العالم إلى معرفته، حيث يبكت على خطية وعلى برٍّ وعلى دينونة، كما نفخ في وجوه تلاميذه وأعطاهم نفخة الروح لكي كل ما يحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء، وما يربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السماء. أما بعد قيامته فقد “أوصاهم بالروح القدس“. ربما ركز أغلب أحاديثه عن الروح القدس، لذلك كانت قلوبهم تلتهب حبًا نحو السماويات. ولعلهم كانوا يتساءلون علانية أو خفية: من يستطيع أن يسلك في شركة مع القائم من الأموات؟ جاءت إجابة السيد المسيح لهم: بالروح القدس!

لم يسجل لنا لوقا البشير أحاديث السيد معهم عن الروح القدس، بل ترك الأحداث الواردة في السفر تكشف عما وعد به السيد، وما تمتعوا به بحلول الروح القدس عليهم، وسكناه في داخل الكنيسة الحديثة الولادة.

v “بعدما أوصى بالروح القدس”: ربما يقصد أنه تحدث معهم بكلماتٍ روحيةٍ، وليس بأمرٍ بشري، أو لعل المعنى هنا أنه قدم لهم الوصايا بالروح. ألا ترون كيف يتحدث بأسلوبٍ متواضعٍ عن المسيح، إذ ينقل ما قاله المسيح عن نفسه؟ “إن كنت بروح الله أخرج الشياطين” (مت 12: 28)، لأنه بالحق عمل الروح القدس في ذلك الهيكل.

حسنًا بماذا أوصاهم؛ يقول: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به ” (مت 28: 19-20).

يا له من مديح عظيم للرسل أن توكل إليهم هذه المهمة، أقصد خلاص العالم! كلمات مملوءة بالروح!…

واضح أنه علَّم التلاميذ بعد القيامة، ولكن لم يروِ لنا أحد عما علمه في هذه الفترة بالتفصيل… علي أي الأحوال لقد عرفنا هذه الأمور خلال الرسل، فإنهم أخبرونا بما سمعوه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“الذين أراهم أيضًا نفسه حيًا ببراهين كثيرة،

بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يومًا،

ويتكلم عن الأمور المختصة بملكوت الله” [3].

يقدم لنا لوقا البشير خدمة السيد المسيح لتلاميذه بظهوره لهم دفعات كثيرة خلال الأربعين يومًا، مؤكدًا لهم أنه حي ببراهين كثيرة، ومحدثًا إياهم عن ملكوت الله. خدمته في هذه الفترة مختلفة تمامًا عن خدمته خلال الثلاث سنوات السابقة. لم يعد يقدم أشفية وإقامة موتى، ولا عظات للجماهير، ولا حوار معه، إنما أعلن بكل وسيلة عن حقيقة شخصه أنه غالب العالم الشرير والموت والشيطان، من يقتنيه يقتني الغلبة والنصرة، ويتمتع بالحياة الجديدة المُقامة، بكونها عبورًا إلى عربون السماء، وتمتعًا بالمجد السماوي الداخلي.

التعبير اليوناني للكلمتين “ببراهين كثيرة tekmhrion” يعنى “علامات مُلزمة”، أو “علامات لا تُقاوم” أو “معصومة من الخطأ “infallible proofs. فإن كانت القيامة هو عصب الإيمان والخلاص، بدونها يُفقد الصليب دوره، لهذا قدم السيد المسيح براهين كثيرة لتأكيدها، أما هذه البراهين أو العلامات التي لا تُقاوم فهي:

  1. كانت ظهوراته لأشخاصٍ مختلفين وفي أوقات متباينة (1 كو 15) خلال فترة دامت أربعين يومًا، هي إعلانات لا يمكن أن تحمل أي نوعٍ من الخداع، بل كانت تجتذب من يلتقون به. ربط السيد ظهوراته بآلامه وصلبه، إذ كشفت عن مجد الصليب بتأكيد قيامته، فصار التلاميذ يعتزون بالقول: “بعدما تألم“، فما كان يمكنهم التمتع بمجد هذه الظهورات الإلهية وإدراك حقيقة شخص السيد المسيح ورسالته لو لم يجتز الألم. هي طريق مجده، أي طريق تحقيق رسالته كمخلصٍ لنا، به ومعه نجتاز الألم لنعبر إلى الأمجاد. “إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه” (رو 8: 17). “باحثين أي وقت أو ما الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم (الأنبياء)، إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها” (1 بط 1: 11). هكذا صار الألم طريق المجد الحقيقي، إذ يقول الرسول: “كما اشتركتم في آلام المسيح، افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضا مبتهجين” (1 بط 4: 13). هنا ندرك سرّ اعتزاز الكنيسة بالتعبير “آلامك المحيية“، وتكراره يوميًا في صلوات السواعي وفي الليتورجيات الكنسية كسرّ خلاصنا ومجدنا الأبدي.
  2. عدم توقعهم لقيامته (يو 20: 25؛ لو 24: 19-24) أكد أن ظهوراته لم تكن عن أوهامٍ أو خيالاتٍ أو تصوراتٍ كانت مسبقة في أذهانهم.

v قضى أربعين يومًا بعد القيامة بدخل ويخرج، يأكل ويشرب، دون أن يجوع أو يعطش، وإنما كشهادة لتأكيد حقيقة جسده الذي لم يعد في عوز، إنما يأكل ويشرب وهو حامل سلطان… لم يعد بعد معهم في شركة الضعف البشري.

القديس أغسطينوس

  1. ظهر لهم كصديقٍ ورفيقٍ لهم، ولكن على مستوى جديدٍ وفائقٍ. لقد أكل وشرب معهم، ولكن ليس كحياةٍ يوميةٍ عاديةٍ، كما كان قبل قيامته.
  2. لقاؤه مع تلاميذه في الجليل كما عيَّن لهم. لقد رأوا ذاك الذي عاشوا معه قرابة ثلاث سنوات عن قربٍ شديدٍ، يعرفونه حق المعرفة.
  3. خضوع جسده للمس، ليصرخ كلٍ منهم في أعماقه مع توما الرسول قائلاً: “ربي وإلهي”.
  4. لم تكن ظهورات مجردة، بل قدم لهم أحاديثه عن ملكوت الله الذي بدأوا يدركونه بمفهومٍ جديدٍ بعد تمتعهم بالقائم من الأموات والحوار معهم.

ملكوت الله: ما قدمه السيد المسيح لتلاميذه خلال هذه الفترة كرصيدٍ حيٍ لكرازتهم هو الكشف عن سرّ صليبه والتمتع بقوة قيامته. يقدم ذاته لهم بكونه المصلوب القائم من الأموات. بهذا صار ملكوت الله منظورًا ومسموعًا وملموسًا بالمسيح القائم من الأموات. وبهذا يترنم التلاميذ: “الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة” (1 يو 1:1). فالشهادة العملية لقيامته من الأموات هي الجانب العملي لخبرة ملكوت الله فينا. أو بمعنى آخر ملكوت الله في جوهره هو اتحاد مع المسيح المصلوب القائم من الأموات والصاعد إلى السماوات.

قبل قيامته لم يكن التلاميذ قادرين على إدراك أسرار السيد المسيح، لذا قال لهم: “إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن” (يو 16: 12). أما وقد صارت القيامة واقعًا يمكنهم أن يتلمسوه، لم يعد يقول لهم: “أحتى الآن لا تفهمون… كيف لا تفهمون؟” (مت 16: 9، 11)، إنما “فتح ذهنهم ليفهموا الكتب” (لو 24: 45).

v لم يكن دائمًا معهم في هذه الفترة كما كان قبل القيامة. إذ لم يقل الكاتب: “أربعون يومًا” وإنما “خلال الأربعين يومًا“. كان يأتي ويختفي ليقودهم إلى مفاهيم علوية، ولم يسمح لهم أن يتطلعوا إليه بنفس الطريقة السابقة، بل يقدم لهم مقاييس تؤكد أمرين: الإيمان بحقيقة قيامته، وإدراكه بأنه أعظم من أن يكون إنسانُا. في نفس الوقت، هذان الأمران متعارضان، فلكي نؤمن بقيامته إنما يتحقق ذلك بكون شخصيته بشرية، والأمر الثاني علي خلاف ذلك. ومع هذا فإن النتيجتين لهما فاعليتهما، كل منهما في الوقت المناسب لها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

يرى القديس أغسطينوس أن حياتنا على الأرض يمثلها الرقم 40، حيث نلتزم بتنفيذ الوصايا العشرة فنبلغ كمال التطويبات، وأن نمارسها في كل أركان المسكونة أو جهاتها الأربع (الشرق والغرب والشمال والجنوب) أي أينما وجدنا (10 × 4 =40)

v يشير هذا الرقم (40) إلى الحياة التي تعملون فيها في هذا العالم.

القديس أغسطينوس

ربما يتساءل البعض: لماذا لم يظهر السيد علانية لكل البشرية كما صُلب علانية، وإنما ظهر للتلاميذ والرسل ولمجموعاتٍ معينة؟

  1. كان لابد من إعلان حبه للبشرية كلها بصلبِه علانية، فهو حمل الله الذي يرفع خطية العالم. أما القيامة فهي هبة تُعطي للمشتاقين إليها، وإلى المخلصين في التعرف على شخص المسيح القائم من الأموات.
  2. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أنه لو ظهر علانية للجميع لظن الكل أنه مجرد ظهور لشخصه، وليس قيامة من الأموات. فالتلاميذ أنفسهم مع سماعهم عدة مرات عن قيامته قبل صلبه، وظهوره لهم، ولمسه، بل واشتراكه مع بعضهم في الأكل… مع كل هذا كانوا في حالة اضطرابٍ شديدٍ وارتباكٍ، إذ لم يكن من السهل قبول قيامة ميت! لهذا أراد السيد بكل الطرق تأكيد قيامته لهم بكل وسيلة حتى يكونوا شهودًا لها في كرازتهم في العالم أجمع.

حتى بعد قيامته وظهوراته المستمرة لهم كانوا في ارتباكٍ شديدٍ، مع الشعور بثقل المسئولية، بل واستحالة تحقيق رسالتهم الموكلة إليهم. لهذا حدثهم عن “الأمور المختصة بملكوت الله“، ليس كالأحاديث السابقة قبل قيامته، إنما أحاديث عملية بالكشف عن شخصه لهم، ليدركوا أن ملكوت الله هو التعرف عليه والتمتع بحبه والشركة معه. فالملكوت هو لقاء حي عملي معه. كما كشف لهم عن إرسالية الروح القدس الذي يسكن فيهم ويهبهم القوة للشهادة له، فيتحقق ملكوت الله في قلوب الكثيرين في العالم كله!

v إذ صار التلاميذ في كربٍ واضطرابٍ بسبب الأحداث الجارية، وكانوا في طريقهم لمواجهة مصاعب عظيمة، لهذا ردهم إلى السلام بأحاديثه عن المستقبل.

v لم يتحدث معهم أحاديث طويلة بعد القيامة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

٢. الوعد بالقائد الإلهي

“وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم،

بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني” [4].

يرى البعض أنه عوض كلمة sunalizomeno “مُجتمع” جاءت في كثير من المخطوطات الكلمة اليونانية sunaulizomeno، لذلك كثيرًا ما تُترجم: “يأكل ملحًا معهم” كما جاءت في الترجمة السريانية الهرقلية، أو “يأكل خبزًا معهم” كما في السريانية البشيتا؛ وجاءت في القديس يوحنا الذهبي الفم: “وبينما هو على المائدة معهم“. ولهذا يعتز التلاميذ بأنهم أكلوا وشربوا معه بعد قيامته كتأكيدٍ لحقيقة القيامة (أع 10: 40-41؛ لو 24: 42).

كما نال إبراهيم الوعد الإلهي من الله أثناء الوليمة معه وحوله الملاكان (تك 18: 1-8)، هكذا نال أبناء إبراهيم هنا الوعد بالروح القدس الذي يقيم من الحجارة أبناء لإبراهيم من كل الأمم وهو يأكل معهم.

موعد الآب“: سبق فوعد به الآب بالأنبياء في العهد القديم (إش 32: 15؛ 44: 3؛ يوئيل 2: 28-32). كما وعد به السيد المسيح أن الآب سيرسله أو سيرسله هو من عند الآب خمس مرات في يوحنا 14-16.

لماذا لم يحل الروح القدس علي التلاميذ أثناء وجود السيد المسيح على الأرض، أو بعد صعوده مباشرة؟

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن التلاميذ التزموا بالبقاء في أورشليم إلى أن يحل الروح القدس عليهم للأسباب التالية:

أولاً: إنهم أشبه بجيش الله الذي لن يقدر أن يدخل المعركة الروحية ما لم يحملوا السلاح، فيتهيأوا للمعركة. أو هم أشبه بالفُرس التي لا يمكنها أن تخرج للحرب ما لم يمتطيها الفرسان أو سائقو المركبات.

ثانيًا: كان يلزم أن يقبل الكثيرون في أورشليم الإيمان، فلا يخرج التلاميذ إلى الغرباء للشهادة للمصلوب القائم من الأموات كمن هم في استعراض، وإنما إذ يؤمن بعض ممن صلبوا السيد يصير إيمانهم شهادة قوية لقيامة السيد في ذات المدينة التي تم فيها صلبه ودفنه. بهذا يبكم التلاميذ أفواه المعترضين من الغرباء. فبإيمان بعض من الذين صلبوه يؤكد الرسل حقيقة صلبه وقيامته أيضًا.

v ربما يقول الرسل: كيف يمكننا أن نعيش وسط الأشرار سافكي الدماء، هؤلاء الذين هم كثيري العدد بينما نحن قلة قليلة مُزدرى بنا؟ لاحظوا كيف يزيل هذا الخوف والكرب بالكلمات: “بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني” [4]. ربما تقولون: متى سمعوا هذا؟ عندما قال: “خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو 16: 7)، مرة أخرى يقول: “وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم معزيًا آخر، ليمكث معكم” (يو 14: 16).

القديس يوحنا الذهبي الفم

ثالثًا: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم إن التلاميذ كانوا محتاجين إلي فترة إعداد لقبوله. فإن كان دانيال خرّ وسقط على وجهه عندما رأى ملاكًا (دا 8: 17) كم يكون بالأكثر حال التلاميذ حين يتقبلون نعمة عظيمة كهذه؟

رابعًا: في وجود السيد المسيح لم يشعر التلاميذ بالحاجة إلى معزٍٍ آخر، ولم يلتهب قلبهم شوقًا لقبول الروح القدس، أما بمفارقته لهم جسديًا شعروا بالحاجة إلى معزٍٍ آخر، وترقبوا حلول الروح القدس بشوقٍ عظيمٍ.

v كان لائقًا أنه يلزمهم أولاً أن يكون لهم شوق عظيم لهذا الحدث، وعندئذ ينالون النعمة. لهذا السبب رحل المسيح نفسه، وبعد ذلك حلّ الروح. فلو أن المسيح كان حاضرًا لما تقبلوا الروح بغيرةٍ هكذا. حتى بالنسبة لنا، فإن الرغبة نحو الله تزداد حين نكون في عوزٍ.

القديس يوحنا الذهبي الفم

خامسًا: لما كان عمل الروح القدس هو تهيئة العروس لتحمل أيقونة عريسها، لذا حلّ الروح على التلاميذ بعد صعوده إلى السماوات لكي يحملوا سماته السماوية، ويشتاقوا للاتحاد معه لا ليلبثوا معه هنا على الأرض بل في السماء.

v يليق بطبيعتنا أن تُرى في السماء، وأن تصير المصالحة كاملة؛ عندئذ يأتي الروح ويصير الفرح غير مشوبٍ. فلو أن الروح قد جاء فعلاً وبعد ذلك رحل المسيح وبقي الروح، لكانت التعزية ليست عظيمة هكذا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لأن يوحنا عمد بالماء،

وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس،

ليس بعد هذه الأيام بكثير” [5].

لقد سبق فأعلن ذلك القديس يوحنا المعمدان (مت 3: 11)، وقد تحقق في يوم الخمسين وأثناء كرازة الرسل (أع 11: 15-17؛19: 1-6). كانت معمودية القديس يوحنا المعمدان للتوبة، كإعدادٍ لاقتراب ملكوت السماوات (مت 4: 17).

v الآن يقول بوضوح: “إن يوحنا عمد بالماء، وأما أنتم فستتعمدون بالروح القدس“. الآن لا يستخدم الشهادة (شهادة يوحنا المعمدان له)، إنما يرجع إلى شخص يوحنا، مذكرًا تلاميذه بما قاله، ومظهرًا لهم أنهم الآن قد صاروا أعظم من يوحنا، إذ هم يعمدون أيضا بالروح. مرة أخرى لم يقل: “أنا أعمدكم بالروح القدس” بل قال: “ستتعمدون“، معلمًا إيانا التواضع. هذا واضح بما فيه الكفاية من شهادة يوحنا أن المسيح نفسه هو الذي يعمد: “هو سيعمدكم بالروح القدس ونار” (لو 3: 16).

v لماذا يقول المسيح: “ستتعمدون” مع أنه بالحقيقة لم يكن يوجد ماء في العلية؟ لأن الجزء الأساسي في العماد هو الروح، الذي خلاله يقوم الماء بعمله. بنفس الطريقة يُقال عن ربنا أنه مُسح مع أنه لم يٌمسح قط بزيت، وإنما لأنه قبل الروح. هذا بجانب أنهم بالحقيقة قبلوا عمادًا بالماء (وعمادًا بالروح) وذلك في لحظات مختلقه. ففي البداية عمدهم يوحنا…

v يعيننا جرن المعمودية فلا يُسمح بمثقال ذرة لأدنى عقوبة أن تحل بنا. تأملوا فإن أي إنسان تحل به خطايا خطيرة بارتكاب القتل أو الزنا أو أية جريمة أخرى، هذه مسحتها المعمودية. إذ لا توجد خطية أو شر يقف أمام هذه النعمة، لأن النعمة إلهية. “لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة” (رو 11: 29). أما تلك التي تُرتكب بعد العماد فينال الإنسان عنها عقوبةً عظيمةً، كما لو كانت الخطايا السابقة قد قامت من جديد، بل وأشر منها. فإن الجريمة لا تكون مجرد معادلة لما كانت قبلاً بل مضاعفة وثلاثة أضعاف. أنظروا لتأكيد أن العقوبة عن هذه الخطايا هي أعظم، اسمعوا ما يقوله القديس بولس: “من خالف ناموس موسى، فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود، يموت بدون رأفة، فكم عقابًا أشر تظنون أنه يحسب مستحقًا من داس ابن الله وحسب دم العهد الذي قدس به دنسًا وازدرى بروح النعمة؟!” (عب 10: 28-29).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v صعد يسوع إلى السماوات وتمم الوعد، إذ قال لهم: “وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر” (يو 14: 16). لهذا كانوا جالسين متطلعين إلى مجيء الروح القدس، وإذ حل يوم البنطقسي أيضًا في مدينة أورشليم هذه… نزل الروح القدس من السماء، الذي هو حارس الكنيسة ومقدسها، ومدبر الأرواح، ضابط العواصف الثائرة، الذي يرد الضالين إلى الحق ويحكم المقاتلين ويكلل المنتصرين.

نزل لكي يلبس الرسل القوة ويعمدهم، إذ يقول “ستتعمدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بقليلٍ” [5].

لم تكن هذه النعمة جزئية، بل هي قوته في كمالها، لأنه كما أن الذي يغطس في المياه ويعتمد تغمره المياه من كل جانب، هكذا هم اعتمدوا بالروح القدس بالكمال…

ولماذا تتعجب؟! خذ مثالاً واقعيًا وإن كان فقيرًا وعامًا، لكنه نافع للبسطاء. إن كانت النار تعبر من خلال قطعة حديد فتجعلها كلها نارًا، هكذا من كان باردًا صار محترقًا، ومن كان أسودًا صار لامعًا، فإن كانت النار التي هي جسم هكذا تخترق الحديد وتعمل فيه بغير عائق وهو جسم أيضًا، فلماذا تتعجب من الروح القدس أن يخترق أعماق النفس الداخلية؟

القديس كيرلس الأورشليمي

“أما هم المجتمعون فسألوه قائلين:

يا رب هل في هذا الوقت ترُد الملك إلى إسرائيل؟” [6]

تعتبر هذه الآية امتدادًا للآية ٣، فقد كان من الصعب جدًا على التلاميذ أن يتخلصوا مما ثبت في أذهانهم عن ملكوت الله خلال الفكر اليهودي الحرفي، حيث كان الشعب يطلب المسيا كملكٍ أرضي (يو ٦: ١٥)، وكانوا يتطلعون إلى شعب الله كمملكة سياسية لها سلطانها الزمني. خلال الأربعين يومًا من قيامة السيد إلى صعوده كان يسحب قلوب التلاميذ من المفاهيم الأرضية البشرية إلى الفكر الإلهي السماوي.

لقد تحطم كل أملٍ لليهود في إقامة يسوع ملكًا، فهل أعادت قيامته الرجاء فيهم ليحتل ذات المركز بذات الفكر؟

سؤال التلاميذ للسيد يكشف عن مدى خطورة الأفكار الخاطئة التي تبعث بجذورها في أعماق الفكر، فمع كل هذا الزمن الذي عاش فيه التلاميذ أثناء خدمة السيد، ومع قيامته وأحاديثه معهم عن الملكوت السماوي خلال الأربعين يومًا، لازالت أفكارهم القديمة المتجذرة تقود أعماقهم. إنهم في حاجة إلى الروح القدس، روح المسيح، أن يحتل أعماقهم ويجدد أفكارهم ويخلصهم من الأفكار القديمة الخاطئة.

سؤالهم يكشف عن حيرتهم، فقد التصق العصر المسياني في ذهنهم بظهور مملكة إسرائيل المجيدة، والنصرة على الأمم والشعوب. وإذ لم يكن بعد قد حلّ عليهم الروح القدس لم يكن ممكنًا لهم التعرف على “مملكة المسيح” كما هي.

هل سيحتل يسوع كرسي موسى عوض رؤساء الكهنة والفريسيين؟

هل يجلس يسوع القائم من الأموات على العرش ليهب إسرائيل النصرة على الأمم؟

هل حان الوقت لطرد الرومان واستقلال إسرائيل؟

هذا وقد جاء التعبير “ترد apokaqistanein” ليعني “يعيد الأمر إلى وضعه” أو “تجديد”.

“فقال لهم:

ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” [7].

هنا الحديث الأخير للتلاميذ مع السيد المسيح قبل صعوده. لم تكن قلوبهم قد ارتفعت بعد مع المسيح إلى السماء ليطلبوا مملكة سماوية. بينما كان السيد المسيح يقدم لهم الوعد بالروح القدس ليصعد بهم كما بجناحي حمامة إلي السماء، كانت قلوبهم لاتزال ملتصقة بالزمن والمجد الأرضي. كانوا يحملون في صدورهم حنينًا قويًا نحو ملكوت إسرائيل.

إذ كان السيد في طريقه للصعود، كانت آخر وصية لهم ألا ينشغلوا بالأزمنة والأوقات، حتى تنفتح قلوبهم على الأبدية، وتسمو أفكارهم فوق حدود الزمن.

أراد السيد المسيح ألا يعرف أحد الأزمنة والأوقات حتى لا يسقطوا في الكبرياء بسبب هذه المعرفة، بل يريد لهم التواضع. وكما يقول القديس أغسطينوس: [أنتم تريدون أن أعلن لكم عن الملكوت الآن… إنكم تحبون العلو، ستنالونه ولكن اتبعوني خلال التواضع.]

ماذا يعني بالأزمنة والأوقات؟ يقصد بالأزمنة البحث في تحديد أزمنة إقامة المملكة المسيانية. فعوض طلب الملكوت والتمتع بإمكانياته، ينشغل الإنسان بالحسابات الزمنية، وهذا أمر يشغل كثير من المؤمنين عبر القرون.

وأما الأوقات فتعني البحث في الأحداث القادمة، ماذا سيحدث حتى مجيء السيد المسيح الأخير.

في عصرنا الحالي مع الشعور بقرب النهاية ينشغل كثير من الدارسين بالأزمنة والأوقات، على سبيل المثال يتساءل الكثيرون:

v متي ينتهي العالم؟

v ما هو موقف إسرائيل الحالي؟ هل يقبلون الإيمان بالمسيح؟ هل ينالون ملكًا على مستوى العالم كله؟

v بماذا تٌفسر أحداث 11 سبتمبر 2001 على ضوء سفر الرؤيا والأسفار النبوية في العهد القديم؟

v هل نتوقع حربًا عالمية مدمرة؟

v من يشترك في الحرب؟

v وما هي التحالفات؟

تحول كثيرون في دراستهم للكتاب المقدس بعهديه إلي أبحاث في الأزمنة والأوقات، التي حذرنا منها السيد المسيح في آخر كلمات مع تلاميذه قبل صعوده.

خلال الأربعين يومًا من قيامته إلى صعوده أدركوا أمورًا سامية لم يكونوا بعد قد أدركوها، مثل الآتي:

v إنه ابن الله المساوي للآب في الكرامة (يو 5: 17-20).

v ستكون قيامة من الأموات (مت 17: 9).

v أن الذي يصعد يجلس عن يمين الآب (لو 22: 69).

v أنه مسجود له بواسطة الملائكة، وأنه سيأتي ثانية (مر 16: 19).

v ما سيحدث في يوم الدينونة (مت 16: 27)، وأنهم يجلسون يدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر (لو 21: 27).

v يُطرد اليهود ليدخل الأمم (مت 19: 28).

بدأت تتجلى أمامهم كل هذه الأقوال التي أعلنها السيد قبل صلبه، وتتضح خلال ظهوراته العجيبة، لكن لم يكونوا بعد قد تخلصوا من الأفكار اليهودية المادية تمامًا، لأنهم لم يكونوا قد نالوا بعد الروح القدس الذي يحملهم إلى السماويات، ويختبروا الحياة الجديدة المقامة.

يميز القديس جيروم بين ما يلزمنا أن نعرفه وما لا نطلب أن نعرفه، كمثال يصلي المرتل قائلاً: “يا رب عرفني نهايتي” (مز 39: 4) كأمرٍ ضروريٍ للغاية، حيث نعرف ما أعده الله لنا. أما ما هو أصل النفس البشرية وبدايتها فليس لنا أن ننشغل به، هل هي تولد من الوالدين كالجسد أم غير مولودة منهما؟ هذا لا يشغل ذهننا. والمثل الرائع في هذا التمييز الرسول بولس، فإنه عرف ما رآه وسمعه وتمتع به عندما ارتفع إلى السماء الثالثة، أما كونه قد ذهب بجسده أم خارج جسده، فهو ليس موضوع بحثه ولا سؤاله من الرب.

v كانوا شغوفين هكذا نحو معرفة هذا اليوم. لكن يبدو لي بالحقيقة أنه لم يكن لديهم فهم واضح نحو طبيعة ذلك الملكوت، لأن الروح لم يكن بعد قد علمهم… لقد كانوا لا يزالوا متأثرين بالأمور المحسوسة، لم يصيروا بعد أفضل من الذين كانوا قبلهم. لقد صار لهم بعد ذلك مفاهيم سامية عن المسيح، فقد ارتفعت أذهانهم، وها هو يحدثهم بأسلوب علوي. إذ لم يعد يقول لهم: “وأما ذلك اليوم ولا ابن الإنسان يعرفه” (راجع مر 13: 32)، إنما يقول لهم: “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” [7]. إنكم تطلبون ما هو فوق قدرتكم. يود أن يقول لهم: وإن كنتم قد تعلمتم الآن أمورًا أعظم من هذه، وها أنتم ترون أن هذا هو الحال بكل دقةٍ، أنظروا كم من الأمور قد أعلنتها.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v “وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بهما أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الآب”. (مر 13 : 32). لا يجهل الابن شيئًا يعرفه الآب… الآب والابن يقطنان في وحدة الطبيعة، أما جهل الابن (للساعة) فينتمي للخطة الإلهية للصمت، إذ فيه تختبئ كل كنوز الحكمة والمعرفة. هذا ما شهد به الرب نفسه عندما أجاب سؤالهم بخصوص الأزمنة. “ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” (أع 1: 7). المعرفة مرفوضة بالنسبة لهم، ليس هذا فحسب، بل والرغبة في معرفة (الأزمنة) ممنوعة، فإنه ليس لهم أن يعرفوا الأزمنة.

القديس هيلاري أسقف بواتييه

v يقول الرسول: “إن يوم الرب كلصٍ في الليل هكذا يجيء” (1 تس 5: 2). لهذا اسهروا بالليل حتى لا تُفاجئوا باللص. لأن نوم الموت – أردتم أو لم تريدوا – قادم.

القديس أغسطينوس

v ستزول الأشياء المنظورة وتأتي الأمور المقبلة التي هي أفضل. أما عن الزمن فليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” (أع 7:1).

لا تتجاسروا في إعلان زمان حدوث هذه الأمور، وفي نفس الوقت لا تخافوا وتتهاونوا، إذ قيل: “اسهروا إذًا، لأنكم في ساعة لا تتوقعونها يأتي ابن الإنسان” (راجع مت 42:24، 44). ولكن إن كان لزامًا أن نعرف علامات المنتهى، إذ ننتظر المسيح فلا نموت مخدوعين ونضل بواسطة الضد للمسيح الكذاب، فإن التلاميذ مدفوعين بإرادة إلهية وحسب ترتيب العناية الربانية قالوا للمعلم الحقيقي: “قل لنا متى يكون هذا؟ وما هي علامة مجيئك وانقضاء الدهر”؟ (مت 3:24). إننا نتطلع إليك وأنت آتٍ ثانية، لكن “الشيطان يغيّر نفسه إلى ملاك نور” فإعطنا حرصًا حتى لا نعبد آخر غيرك.

فتح السيد فمه الإلهي المبارك قائلاً: “انظروا لا يضلكم أحد”. هذه العبارة تنذركم جميعًا أن تحذروا وتهتموا لما يُقال، لأنه لم يتحقق بعد بل يتنبأ عن أمور مقبلة حادثة بالتأكيد.

إنه ليس لنا أن نتنبأ لأننا غير مستحقين لهذا، إنما نضع أمامكم الأمور المكتوبة، ونوضح لكم العلامات، لاحظوا أنتم ما قد تحقق منها فعلاً، وما لم يتحقق بعد وكونوا في أمان.

القديس كيرلس الأورشليمي

“لكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم،

وتكونون لي شهودًا

في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض” [8].

بقوله: “لكنكم” يصحح السيد المسيح وضع التلاميذ، فعوض الرغبة المتقدة لمعرفة الأزمنة والأوقات التي هي من سلطان الآب، يوجههم إلى تحقيق رسالتهم. فقد دُعوا لنوال قوة الشهادة على مستوى العالم كله، بفاعلية الروح القدس الذي يحل عليهم.

بينما كانوا لا يزالوا يتطلعون إلى مملكة المسيح بفكرٍ ماديٍ، فكانوا يتعجلون اليوم الذي فيه يُتوج ملكًا على إسرائيل ليسودوا العالم، إذا به يتحدث عن تتويجه ملكًا علي قلوب البشرية في العالم كله. هذا لن يتحقق إلا بتدبير الآب، الذي في سلطانه أن يجتذب القلوب إلى ابنه المصلوب بعمل روحه القدوس. هم سألوا عن اليوم، أما هو فحوّل فكرهم إلى السلطان الذي ينالونه من الآب للكرازة. هم سألوا عن إسرائيل، أما هو فحدثهم عن إسرائيل الجديد الذي يضم أورشليم وكل اليهودية والسامرة وأقصى الأرض. هذا ما قد سبق فتنبأ عنه داود النبي (مز 2: 8) وأيضًا حزقيال النبي (حز 21: 27).

ما سأله التلاميذ بخصوص معرفة اليوم لا ينفعهم شيئًا، لذلك حول أنظارهم إلى ما هو لبنيانهم. يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم هذا الموقف بطفلٍ يصرخ طالبًا منا شيئًا غير نافعٍ له، فنخفي الشيء عنه، ونظهر له أيادينا فارغة كأنه ليس معنا، ثم نقدم له ما هو لنفعه. هكذا إذ سأل التلاميذ عن ذلك اليوم قال لهم إنه “في سلطان الآب” معرفة الأزمنة والأوقات، وكأنه بدا كمن كان فارغ اليدين، وكأن ليس في سلطانه تقديم هذه المعرفة لهم، ثم عاد فقدم لهم ما هو أهم بالنسبة لهم وهو نوال القوة والسلطة للعمل الجاد لإقامة هذا الملكوت.

يقول القديس الذهبي الفم إنه المعلم الذي يقدم لتلاميذه لا ما يختارونه بل ما هو مناسب لهم، وما يجب أن يتعلموه ويتعرفوا عليه.

Didaskalou touto esti mh a bouletai o maqhthv، alla sumferei maqein didaskein.

قوة“: ينالون قوة إلهية لا تقف عند صنع الآيات والمعجزات باسم يسوع المصلوب، وإنما قوة سحب النفس بكل طاقاتها للإيمان بالسيد المسيح والتمتع بخبرة الحياة الجديدة المقامة من الأموات. الروح القدس وحده يقدر أن يخترق القلب والفكر ويعمل داخل النفس معلنًا الحرب على الخطية (أع 2: 37)، ومشرقًا ببهاء الثالوث القدوس فيها لتقبل عمل الله بفرحٍ.

v لكي لا يتجمدوا بالخوف التهبوا بنيران الحب (الروح القدس).

القديس أغسطينوس

وتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية والسامرة، وإلي أقصى الأرض” [8]. جاء سفر الأعمال يعلن تحقيق هذا الوعد الإلهي، ففي الإصحاحات السبعة الأولى كانت الشهادة محصورة في أورشليم. ومع بدء الأصحاح الثامن بدأت الشهادة في اليهودية والسامرة. ومع الأصحاح الحادي عشر (11: 19) انطلقت الخدمة خارج هذه الحدود حتى بلغت عاصمة الدولة الرومانية التي كانت تسود العالم في ذلك الحين. هنا يشير السيد المسيح إلى كل فئات البشر في ذلك الحين:

  1. اليهود الذين يتمسكون بالناموس الموسوي والعبادة في الهيكل بكل طقوسها في حرفية جامدة.
  2. الدخلاء الذين تهودوا، لكنهم في أعماقهم لا يعتزون بالختان حسب الجسد ولا حرفية الناموس، ولا يشغلهم الهيكل في ضخامة مبناه.
  3. السامريون الذين كانا يخلطون بين عبادة الله الحيّ والعبادة الوثنية.
  4. الأمم بعبادتهم للأوثان وممارسة طقوس متنوعة حسب عادات كل أمةٍ.

بدأت الشهادة بأورشليم، لأنه كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن العالم يقبل الإيمان حين يرى بعضًا ممن صلبوا السيد قد آمنوا بقيامته، فيكون ذلك برهانًا أكيدًا على قيامة السيد، صادرًا عن أعدائه المقاومين وقد صاروا مؤمنين به. هذا وقد جاء في إشعياء النبي: “من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب” (إش 2: 3). وقد آمن في أورشليم نحو ثلاثة آلاف نفس في عظة واحدة (أع 2).

v لقد أحب هذه المدينة (أورشليم) وشفق عليها، فقد أمر أن تبدأ الكرازة بأورشليم… لا عجب فإنه يزيل الكراهية من جذورها… عسى أن يحبوها، إذ يقطنها قاتلو المسيح.

القديس أغسطينوس

إذ كان على وشك أن يتركهم جسديًا قدم لهم ما يفرح قلوبهم ويسندهم في تحقيق رسالتهم ويعزيهم وسط آلامهم.

v كانوا بالحقيقة لا يزالوا ضعفاء، لكنه رفع نفوسهم وأخفى ما هو خطر عليهم حتى يبث فيهم الثقة. وإذ اقترب وقت رحيله جدًا لم يقل لهم شيئًا مؤلمًا في هذا الحديث.

v أرسل المسيح رسله كما تبعث الشمس أشعتها، وكما تصدر الزهرة رائحتها العذبة، وكما تُخرج النار شرارًا. هكذا تُعرف قوة المسيح خلال فضائلهم، كما أن الشمس تتلألأ في أشعتها، وتعلن الزهرة رائحتها، وتظهر النار بشرارها. من لا يمدح المعلم عندما يشاهد التلاميذ متعلمين حسنًا؟

القديس يوحنا الذهبي الفم

v جاء إليكم الإنجيل كما جاء إلي كل العالم، وأثمر. قال ابن الله بفمه: “تكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلي أقصي الأرض”.

القديس أغسطينوس

عند ميلاد كلمة الله المتجسد قدم جبرائيل الملاك هذا الوعد الإلهي: “الروح القدس يحل عليكِ، وقوة العلي تظللكِ، فلذلك أيضا القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله” (لو 1: 35). أنجبت القديسة مريم ابن الله المتجسد، وتمتعت بالأمومة الفريدة له، مع دوام بتوليتها. الآن يقدم الكلمة الإلهي المتجسد، يسوع المسيح، وعدًا بميلاد عروسه الأم البتول بقوة الروح القدس الذي يحل على البشر: “ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم، وتكونون لي شهودا” [8]

المولود الأول هو ابن الله المتجسد القدوس، مولود بالروح القدس بقوة من الأعالي، والمولود الثاني عروسه الكنيسة المقدسة تولد من الروح القدس بقوة من الأعالي.

تحقق الميلاد الأول من العذراء مريم بعد تقديسها، والثاني من الرسل والتلاميذ بعد تقديسهم.

في الميلاد الأول صار السماوي ابن البشر ليحل في وسطنا، وفي الثاني يصير الأرضيون حاملين سمة السماوي، وفي أحضانه الإلهية يتمتعون بالسماويات.

صار المولود الأول من أجلنا جنينًا فطفلاً، وكان ينمو ويتقوى بالروح (لو 2: 4)، والمولود الثاني عروسه التي لها سلام تُبنى وتسير في خوف الرب بتعزية الروح القدس تتكاثر على الدوام (أع 9: 31).

المولود الأول جعل من كثيرين مسبحين لله، مثل القديسة مريم واليصابات وسمعان الشيخ؛ والمولود الثاني حول البشرية إلى جماعة مسبحين (أع 2: 47).

٣. ارتفاع الرأس إلى السماء

“ولما قال هذا ارتفع وهم ينظرون،

وأخذته سحابة عن أعينهم” [9].

يؤكد لوقا الإنجيلي: “ولما قال هذا… وهم ينظرون“، ففي قيامته لم يره أحد، لكن الطبيعة شهدت له، والقبر الفارغ، مع شهادة الجند أنه سُرق وهم نيام الأمر الذي لا يقبله عقل بل أكد قيامته، وظهورات السيد لكثيرين وفي أوقات متباينة وهو يتحدث معهم ويحاورهم، حتى لا يظنوا أن ما رأوه كان حلمًا جميلاً، أو وهمًا. ما كان يمكنهم أن يصدقوا حقيقة صعوده ويؤمنوا بها لو لم يروها بأعينهم.

كان لابد أن يروا صعوده ويتحدثوا مع الملاكين ليدركوا أن ملكوت المسيح ليس ملكوتًا أرضيًا زائلاً، بل ملكوت سماوي أبدي. ولكي يدركوا أن رسالته على الأرض قد كملت (يو ١٧: ٤؛ ١٩: ٣٠)، وكان لائقًا به أن يعود إلى مجده الذي له مع الآب (يو ١٧: ٤-٥؛ في ٢: ٦، ٩-١٠).

أتم السيد رسالته على الأرض، فصعد لكي يرسل الروح القدس ليقود كنيسته في العالم كله.

صعد إلى الآب لكي يهيئ لنا مجدنا خلال شفاعته الكفارية لدى الآب لغفران خطايانا وتبريرنا فيه، كرئيس الكهنة الأعظم (عب ٩: ٧-٨، ١١-١٢، ٢٥). ولكي يعلن انفتاح أبواب السماء لأول مرة لحامل الطبيعة البشرية، فصار لنا حق الصعود معه.

قدم لنا الإنجيلي لوقا هذا المشهد الحقيقي المثير والبديع لصعود السيد المسيح إلى السماء، وقد أخذته سحابة عن أعين تلاميذه. يقول المرتل: “الجاعل السحاب مركبته، الماشي على أجنحة الريح” (مز 104: 3). ويقول دانيال النبي: “كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى القديم الأيام، فقربوه قدامه…” (دا 7: 13). يشير السحاب إلى السمو الفائق والجلال الإلهي (تث ٤: ١١؛ ٢صم ٢٢: ١٢؛ مز ٩٧: ٢)، كما يشير إلى الشكيناه Shekinah كمجدٍ يمثل الحضرة الإلهية (خر ٣٣: ٧-١١؛ ٤٠: ٣٤؛ مر ٩: ٧).

ارتفع” إذ صار جسد الرب ممجدًا بقيامته من الأموات، لا سلطان للجاذبية الأرضية على الجسد القائم من الأموات، وأصبح طبيعيًا أن يرتفع، بل ويرفع معه كل من يلتصق به، أو يصير عضوًا فيه. “وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع”. (يو 12: 32)

بعد قيامته تسربل جسده بالمجد والتحف بالنور، ومن أجلنا أخفي ذلك عن الأعين حتى يتلامس معه تلاميذه ومن معهم ويتأكدون من قيامته. لقد قدم نعمة خاصة لتلاميذه لكي يروه صاعدًا، هذا الذي لما ظهر لشاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق ارتعد وتحير، “بغتة أبرق حوله نور من السماء، فسقط على الأرض”. (أع 9: 3-4)

لقد أخفى مجده عن أعين الذين التقوا معه حتى إذ أخذته سحابة عن أعينهم، رفع الحجاب عن مجده، ولم يعُد بعد يمكن للأعين البشرية أن تراه. إنما نراه بعد أن يهبنا قيامة أجسادنا لتصير على مثال جسده الممجد. “حينئذ ينظرون ابن الإنسان آتيًا في سحابٍ بقوةٍ كثيرةٍ ومجدٍ” (مر 13: 26).

v لقد نلنا هذا بسبب “الجسد” الذي قدمه الرب، لقد قدم للآب بكر طبيعتنا. وبسبب كرامة المُقدم وكمال قابل التقدمة، وجد الآب “العطية” مقبولة، فاستلمها بيده وضمها لنفسه وقال (للرب المتجسد): “اجلس عن يميني” (مز 10:68).

ألم يرتفع (الناسوت المتحد باللاهوت) إلى فوق السماوات؟!

أليست هذه كرامة بلا قياس؟!

لقد ارتفعت (طبيعتنا في شخص الإله المتجسد) فوق السماوات، وسمت فوق الملائكة. لقد عبرت فوق رؤساء الملائكة والشاروبيم، وحلقت فوق السيرافيم، عالية أكثر من كل القوات السمائية، واستراحت في العرش الإلهي الحقيقي وحده…

إن سلوك جنسنا كان هكذا شريرًا في الماضي، حتى كان الأمر في خطر من أن يُباد كل الجنس البشرى عن وجه الأرض. والآن نحن الذين قبلاً حُسبنا غير متأهلين للبقاء في الأرض رُفعنا إلى السماوات.

نحن الذين كان قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السماوات، وندخل السماوات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي.

هذه الطبيعة التي لنا، التي كان الشاروبيم يحرس أبواب الفردوس منها، هوذا اليوم ترتفع فوق الشاروبيم!

كيف يمكننا أن نعبر على حدث عظيم (عيد الصعود) هكذا عبورًا سريعًا؟!

لأنه نحن الذين أسأنا إلى مثل هذه المراحم العظيمة، حتى صرنا غير مستحقين للأرض ذاتها، وسقطنا من كل سلطان وكرامة، بأي استحقاق نرتفع إلى كرامة علوية كهذه؟!

كيف انتهى الصراع؟!

لماذا زال غضب اللّه؟…

فإن هذا هو بحق عجيب: إن السلام قد حلّ، لا بعمل قام به الذين أثاروا غضب اللّه… بل الذي غضب علينا بحق هو نفسه يدعونا إلى السلام. إذ يقول الرسول: “إذًا نسعى كسفراء عن المسيح كأن اللّه يعظ بنا” (2 كو 20:5). وماذا يعنى هذا؟ بالرغم من أننا أسأنا إليه، فإنه هو الذي يسعى إلينا ويدعونا إلى السلام. إنه حقا هكذا، فإذ هو اللّه، وهو الإله المحب الذي يدعونا إليه.

v هذه أيضا علامة أنه صعد إلى السماء، إذ لم تحمله نار كما في حالة إيليا، ولا مركبات نارية، بل “أخذته سحابة“، بكونها رمزًا للسماء، كما يقول النبي: “جعل السحاب مركبته” (مز 104: 3)، فقد قيل هذا عن الآب نفسه. لذلك يقول: “على السحاب” بطريقة رمزية حيث يود أن يتحدث عن القوة الإلهية، فإنه لا توجد قوة أخرى تُرى على السحاب. اسمع أيضًا ما يقوله نبي آخر: “يجلس الرب على سحابة خفيفة ” (إش 19: 1)… أيضًا على الجبل حلّ السحاب بسبب الله، حيث دخل موسى في الظلمة، ولم يكن السحاب بسبب موسى.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v “الجاعل السحاب طريقه، الماشي على أجنحة الرياح” (مز 104: 3). بهذا يشير إلى عنايته الإلهية التي تبلغ كل موضع. فإنه يجعل وضعه على الرياح والسحاب.

يقول إنه يقوم بشخصه بضبط كل الأمور ويقودها، وفي الوقت اللائق يهب النفع الصادر عنها. إنه في نفس الوقت يعلم أن الطبيعة الإلهية حاضرة في كل موضع، ويفحص كل الأشياء، حيث أن الرياح هي أسرع كل الأمور المادية، تعبر في ومضة من الغرب إلى الشرق، ومن الشرق إلى الغرب. لا يجد صورة دقيقة للسرعة بين الأمور المادية أكثر من الرياح، لذلك قال إن الله تحمله أجنحة الرياح، مشيرًا بهذا إلى حضوره في كل موضع.

أيضًا نجد إله الجميع يظهر لبني إسرائيل في سحاب، ويجعل ظهوره الشخصي في خيمة الاجتماع عن طريق سحابة (خر 13: 21؛ 40: 34). عندما دشن سليمان البيت بالطبع غطت سحابة البيت (2 أي 5: 13: 14).

والمسيح الرب على الجبل مع الثلاثة رسل أعطى ومضة من سحابة مشرقة حوله (مت 17: 5)، وفي صعوده حملته سحابة منيرة عن أنظارهم.

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v صعد إلى السماوات ولم يعد بعد هنا (بالجسد). حقًا إنه جالس هناك عن يمين الآب، وهو أيضًا هنا دون أن ينسحب قط عن حضرة مجده.

القديس أغسطينوس

v عندما أراد إظهار أنه توجد قيامة للجسد حقيقية، وأنه ليس مستحيلاً أن يصعد الجسد إلى السماء، “ارتفع إلى السماء وهم يشخصون”، إذ كان هو في الجسد.

القديس يوستين

“وفيما كانوا يشخصون إلى السماء وهو منطلق،

إذا رجلان قد وقفا بهم بلباسٍ أبيض” [10].

إذ كانت الملائكة تشتهي خدمته والشهادة له، ظهر ملاكان للحاضرين يشهدان لصعوده، ربما كانا ذات الملاكين اللذين كانا في القبر يشهدان لقيامته.

رأوا ملاكين في شبه بشر بلباسٍ أبيض، كأنهما ملتحفان بالنور علامة الطهارة والفرح والمجد. غالبًا ما تظهر الملائكة بلباسٍ أبيضٍ (يو ٢٠: ١٢؛ مت ٢٨: ٣؛ مر ١٦: ٥)، ويظهر المفديون في السماء سائرين مع المخلص بثيابٍ بيضٍ؛ كما قيل: “من يغلب فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا” (رؤ ٣: ٥، ٧: ٩، ١٣-١٤).

v على أي الأحوال، ما رأته أعينهم لم يكن مُشبعًا تمامًا. فبالنسبة للقيامة رأوا نهايتها ولم يروا بدايتها (إذ لم يروه أثناء قيامته). أما في الصعود فرأوا البداية ولم يروا النهاية.

فبالنسبة للأولى لم يكن من الضروري أن يروا البداية، لأن الرب نفسه الذي يتحدث بهذه الأمور حاضر، والقبر يعلن بكل وضوح أنه ليس فيه السيد. وأما في الأخيرة فكانوا محتاجين أن يتعرفوا على التكملة بكلمة الغير (بواسطة الملاكين). فلم تكن أعينهم قادرة أن تريهم إياه، أي في العلا، ولا أن تخبرهم بأنه بالحقيقة صعد إلى السماء… لذلك جاءت ملائكة تخبرهم به. لاحظوا كيف حدث كل شيء بتدبيرٍ، وأن ما حدث لم يكن بالروح وحده، وإنما كان لأعينهم دورها في ذلك.

v كان المنظر الخارجي مبهجًا (بلباسٍ أبيض)، كانا ملاكين في شكل رجلين.

v الفارق بين الملائكة والبشر عظيم، مع هذا فإنه يجلبهم ليقتربوا إلينا أسفل… إنهم يعملون من أجلنا، ومن أجلنا يجرون هنا وهناك، ويترقبون مجيئنا (إليهم). هذه هي خدمتهم، إنهم يُرسلون في كل طريق لحسابنا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v عندما تقدم المنتصر بجسده القائم من الموت، قالت قوات معنية: “من ذا الآتي بثيابٍ حمر من بُصرة؟” أما الذين كانوا في صحبته، فقد صاحوا بالقائمين على أبواب السماء: “انفتحي يا أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد”.

العلامة أوريجينوس

v اليوم (عيد الصعود) استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن طويل!

اليوم رأى رؤساء الملائكة أولئك الذين يشتاقون إلى رؤيتهم منذ زمنٍ بعيدٍ!

اليوم رأوا طبيعتنا (إذ اتحد بها الابن الكلمة) في العرش الإلهي، تتلألأ في جمالٍ أبديٍ ومجدٍ سرمديٍ!

هذا ما اشتهاه الملائكة زمانًا!

هذا ما كان ينتظره رؤساء الملائكة!

ومع أن الطبيعة البشرية قد سمت فوقهم في الكرامة، لكنهم فرحوا من أجل الخير الذي حلّ بنا، لأنه عندما حلّ بنا العقاب حزنوا.

وبالرغم من أن الشاروبيم وقفوا حارسين الفردوس (عند طردنا)، إلا أنهم اغتموا من أجل شقائنا، وذلك مثلهم كمثل عبد يقبض بيد رفيقه في حضرة سيده، ويلقي به في السجن ويبقى حارسًا إياه، لكنه مملوء حزنًا من أجل الضيقة التي حلت بزميله… هكذا فعل الشاروبيم إذ قاموا باستبعاد البشر عن الفردوس، لكنهم كانوا حزانى من أجل هذا…

ولكي تعرفوا أنهم حزنوا على ذلك، أوضح لكم هذا بما يحدث بين البشر. لأنه إن كنتم ترون أناسًا لهم حنو على العبيد رفقائهم، فإنكم لا تشكون أن هذا كان بالنسبة للشاروبيم. لأن هذه القوات السمائية أكثر حنانًا من البشر.

منْ منَ البشر لا يتألم إذ يرى الغير يُعاقبون، حتى ولو كان العقاب بعدلٍ ومن أجل خطايا كثيرة؟!

هذا الحنو هو أمر مستحق للمديح، فإنه بالرغم من معرفة الشاروبيم عن جرائم الناس، وإدراكهم أنهم عصوا عصيانًا خطيرًا، لكنهم يحزنون من أجلهم حزنًا قلبيًا. وذلك مثل موسى أيضًا عندما أعلن هذا بعدما ارتكب شعبه عبادة الأوثان، إذ قال: “والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فإمحني من كتابك الذي كتبت” (خر 32:32).

ماذا تقصد يا موسى؟! أنت ترى كفرهم، ومع ذلك هل تحزن بسبب معاقبتهم؟! يقول: نعم لأجل هذا أحزن إذ هم يُعاقبون، ولو أنهم ارتكبوا ما يستحق العقاب…

وهكذا فإن موسى، وحزقيال (8:9)، وإرميا (24:10)، هؤلاء حزنوا من أجل الخطاة، أفلا تشفق القوات السمائية من أجل ضيقاتنا؟!…

فإنهم يرون شؤوننا كأنها شئونهم، لهذا كم تكون فرحتهم، إذ يروننا قد تصالحنا مع اللّه! فما كانوا يفرحون هكذا لو لم يكونوا قد حزنوا من أجلنا. أما فرحهم فواضح من كلمات المسيح نفسه: “أقول لكم هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب” (لو 7:15). فإن كانت الملائكة تفرح متى رأت إنسانًا خاطئًا يرجع إلى اللّه تائبًا، فكيف لا يمتلئون فرحًا عظيمًا عندما يرون الطبيعة البشرية كلها، في بكرها، تصعد اليوم إلى السماء؟!

اسمعوا أيضًا في موضع آخر عن فرح الطغمات السمائية بسبب رجوعنا إلى الصداقة مع اللّه. فإنه عندما وُلد ربنا حسب الجسد، ناظرين إلى أنه منذ تلك اللحظة قد حلت الصداقة مع الجنس البشرى عوض العداوة، وإلا ما كان قد نزل بينهم، فإذ رأوا ذلك ترنمت جوقة سمائية قائلة: “المجد للّه في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة” (لو 14:2)…

أتريدون أن تعرفوا عظم غبطتهم وفرحهم عندما رأوا المسيح صاعدًا إلى السماء؟! أنصتوا إلى كلماته التي يخبرنا بها عنهم كيف كانوا يصعدون وينزلون على الدوام، وهذا أسلوب من ينتظر أن يرى أمرًا جديدًا عجيبًا.

وأين يظهر أنهم كانوا يصعدون وينزلون؟

أنصتوا إلى كلمات الرب: “من الآن ترون السماء مفتوحة، وملائكة اللّه يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو 51:1).

هذه هي علامة القلوب المتحننة المملوءة حبًا، إذ لم ينتظروا الوقت المعين، إنما سبقوا الساعة المحددة بالبهجة.

وهكذا بقوا صاعدين ونازلين برغبة مملوءة شوقًا وحبًا، منتظرين تلك الرؤية الجديدة العجيبة من جهة (الإله المتأنس) الذي يظهر في السماوات.

بسبب هذه كانت الملائكة تظهر في كل حين: عندما وُلد، وعندما قام، وعندما صعد إلى السماوات. إذ يقول الكتاب المقدس: “إذا رجلان قد وقفا بهما بلباس أبيض”. لبسهما هذا يعلن عن فرحتهما.

وقد قالا للتلاميذ: “أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؛ إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء” (أع 10:1، 11).

ركز انتباهك معي! لماذا قالا هكذا للتلاميذ؟! ألم يرَ التلاميذ ما هو حادث أمامهم؟ ألم يقل الإنجيلي: “هذا ارتفع وهم ينظرون”. لماذا وقف الملاكان بهما وأخبراهما عن صعوده إلى السماء؟! كان ذلك لسببين:

السبب الأول: لأن التلاميذ بدأوا يحزنون، لأن المسيح سيتركهم… “ليس أحد منكم يسألني أين تمضي، لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم” (يو 5:16- 6)…

لأجل هذا وقف الملاك بمن حزنوا عند الصعود، مذكرًا إياهم بأنه سيأتي أيضًا مرة أخرى “إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء، سيأتي كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء“. كأنه يقول لهم: “أنتم تحزنون لأنه صعد. لكن لا تحزنوا بعد، فإنه سيعود”. وقد قال لهم ذلك حتى لا يفعلوا ما فعله أليشع، ممزقًا ثيابه عندما رأى سيده يصعد إلى السماء (2مل12:2)، لأنه لم يقف به أحد يقول له بأن إيليا سيعود مرة أخرى. فلكي لا يفعلوا هذا، وقف بهما الملاكان وعزياهم، ونزعا عنهم الحزن الذي ملأ قلوبهم. هذا هو سبب ظهور الملاكين.

وأما السبب الثاني فهو ليس بأقل من الأول، إذ أضافا قائلين: “يسوع هذا الذي ارتفع عنكم” لماذا؟ لقد ارتفع إلى السماء. والمسافة بينهم وبين السماء شاسعة، تعجز قدرة أبصارهم عن أن ترى جسدًا يرتفع إليها… لهذا فإن الملاكين وقفا بهم وأوضحا لهم حقيقة الصعود إلى السماء، حتى لا يظنوا أنه أُخذ إلى فوق حيث يوجد إيليا، بل بالحق صعد إلى السماوات. ولهذا السبب قيل لهم: “هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء“. لم يضف هذا القول بغير سبب. لكن إيليا أُخذ إلى فوق كما إلى السماء، لأنه خادم. أما يسوع فقد صعد إلى السماء (حيث العرش الإلهي) إذ هو الرب.

واحد صعد في مركبة، والآخر في سحابة.

عندما دُعى العبد أُرسلت إليه مركبة، أما الابن فإذ له العرش الإلهي، وليس أي عرش بل عرش أبيه، وقد جاء في إشعياء… “هوذا الرب راكب على سحابة” (إش1:19)…

إذ صعد إيليا سقط عنه رداءه لأليشع (2 مل 13:2)، وإذ صعد يسوع أرسل النعم لتلاميذه، لهم جميعًا، وليس لنبيٍ واحد، بل إلى أمثال أليشع كثيرين بل ومن هم أكثر من أليشع مجدًا.

لنقم أيها الإخوة المحبوبون، ولنرفع أعين نفوسنا تجاه ذاك الذي سيعود، إذ يقول لنا بولس: “لأن الرب نفسه بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكة، وبوق اللّه ينزل من السماء… ثم نحن الأحياء الباقين سنُخطف جميعًا معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء” (1 تس 16:4). ولكن ليس الكل (يتمتع بهذا) بل بعضنا يصعد إلى السماوات وآخرون يبقون…

اسمعوا ماذا يقول المسيح؟ “اثنتان تطحنان على الرحى. تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى” (مت 41:24)…

فهل نحن أيضًا نصعد؟!…

وعندما أقول “نحن” أحسب نفسي لست (مستحقًا) أن أكون بين الذين يصعدون. لأنني لست هكذا بلا إحساس أو فهم حتى أتجاهل خطاياي. وإذ أخشى أن أتلف فرح هذا العيد المقدس، لهذا فإنني أبكي بدموع مرة عندما استرجع في ذهني هذه الكلمات وأتذكر خطاياي.

وإذ لا أريد أن أنزع فرح هذا العيد، فإنني أنهي عظتي تاركًا فرح هذا العيد يشع في أذهانكم دون أن يُحتجب، فلا يبتهج الغنى كثيرًا بغناه، ولا يتضايق الفقير بسبب فقره، بل يصنع كل إنسان عمله أيا كان حسبما يمليه عليه ضميره.

لأن الإنسان السعيد ليس هو الغنى، ولا الفقير إنسان بائس، بل بالأحرى مطوّب، ومثلث التطويبات، ذاك الذي يكون مستحقًا أن يصعد على السحاب ولو كان أفقر الجميع.

وهو بالحق بائس ومثلث البؤس، ذاك الذي يحسب مع المفقودين ولو كان أغنى من جميع الناس…

القديس يوحنا الذهبي الفم

“وقالا أيها الرجال الجليليون،

ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء؟

إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء،

سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء” [11].

كان موطن التلاميذ هو الجليل، فلا نعجب إن دعاهم الملاكان جليليين.

ليس من منظر لحدثٍ في تاريخ البشرية يمكن أن يبهر الإنسان مثل صعود السيد المسيح على السحاب، يقابله تمامًا مجيئه على السحاب لكي يحمل معه كنيسته في موكب سماوي فائق، ويدخل بها إلى الأمجاد الأبدية.

لماذا كانوا واقفين ينظرون إلى السماء؟

  1. كانت أعين الجميع شاخصة تتطلع إلى سيدهم الصاعد إلى السماء، ربما يترقبون في أعماقهم ماذا يحدث بعد ذلك. وقفوا في حيرة: ما هو دوره؟ وما هو دورهم هم بعد صعوده؟
  2. يرى البعض أنهم إذ كانوا يتحدثون مع السيد المسيح عن رد المُلك لإسرائيل ظنوا أنه قد حان الوقت لكي يملك ويخلص الشعب من الاستعمار، الآن إذ صعد أمامهم أصيبوا بحالة إحباط، بأنه لن يُرد الملك لإسرائيل.
  3. إذ سبق فأعلن لهم أنه يصعد إلى السماء ويعود، ربما ظنوا أنه بصعوده يعود فورًا، فكانوا يشخصون إليه مترقبين سرعة رجوعه.
  4. كان منظر صعوده بديعًا للغاية، وبدأت مظاهر المجد تنكشف، لهذا كان الحاضرون يشخصون إلى السماء وهو منطلق، وكأنهم يودون ألا يفارق هذا المنظر أعينهم. وذلك كما حدث في التجلي حيث طلب القديس بطرس: “جيد يا رب أن نكون هنا”.

ظهرا بثيابٍ بيضٍ ليحولا أنظار الحاضرين إلى الاستعداد لمجيء المسيح الأخير. تحدثا معهم كأن مجيئه يتم في خلال يومٍ أو أيامٍ، فإنه لا يشغل الملائكة الزمن بل اللقاء مع ربهم. لقد أرادوا أن يلتهب قلب الكنيسة شوقًا نحو مجيء عريسها، كأنه قادم في لحظاتٍ. وكما يقول الرسول: “إنها الساعة الأخيرة”. ها قد عبر حوالي ألفين من السنين، ونحن بكل شوقٍ نترقب مجيئه كمن في اللحظات الأخيرة!

v صعد الله بصراخٍ، الرب بصوت بوقٍ” (مز 47: 5). لأن الرب الذي تمم كل هذا يقول أنه صار أولاً إنسانًا، وطرح الطاغية إبليس المنتقم، عندئذ صعد إلى السماء مع الطغمات السماوية وطقوس الملائكة التي تتقدمه. الذين على الأرض يُقال لهم: “إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقا إلى السماء” [11]. أما الذين في العلا فيقولون: “ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم، ولترتفع الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد” (مز 24: 7).

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v صعوده إلى السماء من الأرض، ومرة أخرى نزوله من السماء إلى الأرض، يعلنان عن طاقات دائرة جسمه.

v عندما صعد إلى السماء ثانية كان محمولاً نحو الشرق، وهكذا سجد له رسله. وهكذا سيأتي بنفس الطريق الذي رأوه فيه صاعدًا إلى السماء، كما قال الرب نفسه: “لأنه كما أن البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يكون أيضًا مجيء ابن الإنسان” (مت 24: 27). هكذا إذ نتوقع مجيئه نعبده متجهين نحو الشرق. هذا التقليد الذي للرسل غير مكتوب، فإن أمورًا كثيرة تسلمناها بالتقليد غير المكتوب.

الأب يوحنا الدمشقي

بينما كان الحاضرون يتطلعون في دهشة إذا بملاكين يسحبان قلوبهم إلي مثل هذا المنظر حين يأتي السيد المسيح على السحاب كما علي المركبة الإلهية ليحمل فيها عروسه المقدسة، تنطلق معه إلي البيت السماوي، بيت الزوجية، لتعيش في الأحضان الإلهية.

v بعد ذلك اندهشوا أمام الحقيقة إذا رأوه صاعدًا، وفرحوا أنه صعد إلى السماء، لأن تقدم الرأس هو رجاء الأعضاء. علاوة علي هذا، فقد سمعوا الرسالة الملائكية: “أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلي السماء؟ إن يسوع… سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء“. ما معنى “سيأتي هكذا (بنفس الكيفية)؟ سيأتي في ذات الشكل، فيتم الكتاب: “وينظر إليه الذين طعنوه” (يو 19: 37، زك 12: 10). سيأتى إلى البشر، سيأتي في شكلٍ بشريٍ، بل كإله متأنس. سيأتي بكونه الله الحقيقي والإنسان الحقيقي ليجعل من البشر أشبه بالله. لقد صعد كديانٍ إلى السماء. ليتنا نتبرر فلا نخشى الدينونة القادمة.

v بأية كيفية رأوه ذاهبا؟ رأوه صاعدًا بالجسد الذي لمسوه، وبالجراحات التي تأكدوا منها بلمسها. صعد بهذا الجسد الذي به دخل إليهم وخرج لمدة أربعين يومًا، معلنًا لهم أنه جسد حقيقي وليس مزيفًا: ليس جسدًا خيالاً أو ظلاً أو روحًا، بل قال لهم بنفسه دون أن يخدعهم: “جسوني وانظروا، فإن الروح ليس له جسد ولا عظام كما ترونني” (لو 24: 39). الآن صار هذا الجسد مستحقًا السكنى في السماء، لا يخضع للموت ولا يشيخ خلال مرور الزمن. ليس كما نما إلى هذا السن من الطفولة يميل من الرجولة إلى الشيخوخة. إنما يبقى كما هو، صعد ليأتي إلى الذين يريد منهم أن يكرزوا بكلمته قبل مجيئه. هكذا سيأتي في شكلٍ بشريٍ. هذه الصورة سيراها الأشرار كما قيل: “سيبصرونه الذين طعنوه” (زك 12: 13). سوف لا يرون الله المخفي في الجسد، لكن بعد الدينونة يراه الذين هم على يمينه.

v يرونه في شكل إنسان الذي فيه حوكم وسيحاكم، ليتحقق القول النبوي: “ينظرون إلى الذين طعنوه” (زك 12: 10؛ يو 19: 37). ولكن حين يذهب الأبرار إلى الحياة الأبدية نراه كما هو، لا نرى إدانة الأحياء والأموات، وإنما مكافأة الأحياء فقط.

القديس أغسطينوس

v إذ اقترب وقت نزوله، فكيف نصعد نحن؟ نصعد في كرامة. فعندما يسير ملك (بمركبته) في مدينة، يخرج الذين في كرامة ليستقبلوه، وأما الذين تحت الدينونة فينتظرون القاضي في الداخل. وعند مجيء أب حنون يصعد في مركبة أولاده الذين هم حقيقيون وأيضًا الذين يتأهلون لأن يكونوا أولاده لكي يروه ويقبلوه؛ أما الذين يقاوموه فيبقون في الداخل. إننا نُحمل بمركبة أبينا، فقد استقبله (الآب) وهو صاعد في السحاب، ونحن أيضًا نُؤخذ في السحاب. ألا ترون عظمة الكرامة؟ فكما نزل هو، ننطلق نحن لنلتقي به، وما هو أكثر تطويبًا من كل شيء، أننا سنكون معه.

القديس يوحنا ذهبي الفم

يرى البابا أثناسيوس الرسولي أن في هذا لتأكيد بأننا نعبد الرب المتجسد الصاعد هكذا، والذي سيأتي هكذا، إذ تعثر البعض في المسيح بسبب جسده.

“حينئذ رجعوا إلى أورشليم من الجبل الذي يدعى جبل الزيتون،

الذي هو بالقرب من أورشليم على سفر سبت” [12].

ألهب المنظر قلوبهم، فعادوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ (لو 24: 52)، وكانت المسافة بين الجبل وأورشليم هي “سفر سبت“، أي حوالي كيلومتر واحد، تُدعى بالعبرية “تخوم السبت”. يرى البعض أن سفر سبت وإن كان لم يحدده الناموس، لكن حسب التقليد اليهودي كانت هذه المسافة تعادل ٢٠٠٠ خطوة، لأنه لم يكن يُسمح لأحد أن يقيم حول الخيمة بأكثر من ٢٠٠٠ خطوة حتى يمكنه الذهاب إلى الخيمة للعبادة في يوم السبت. صار هذا تقليدًا خاصًا بمحلة إسرائيل. كما لم يكن يُسمح للاويين أن يسكنوا في مدن أبعد من ٢٠٠٠ خطوة من الهيكل لذات الغرض.

صعود السيد وهبهم فرحًا داخليًا، إذ بدأوا يدركون أن مملكة المسيح هي السماء، وحيث يملك هو يملكون معه. هذا الفرح الداخلي وهبهم قوة تتحدى كل الظروف، وكما قيل: “لأن فرح الرب هو قوتكم” (نح 8: 10). صار كل ما يشغلهم أن يشهدوا له أمام العالم لكي يصير الكل “منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب” (2 بط 3: 12).

لم يسأل التلاميذ الملاكين عن موعد مجيئه ثانية، فقد اُمتصت أفكارهم في ذاك الصاعد إلى السماء، وأدركوا ما سبق فقاله المرتل عنه: “السحاب والظلام تحت قدميه” (مز 18: 9؛ 92: 2). أدركوا أنه رب السماء. كما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كملكٍ أظهر لهم المركبة الملوكية، هذه قد أُرسلت إليه.]

“ولما دخلوا صعدوا إلى العلية التي كانوا يقيمون فيها،

بطرس ويعقوب ويوحنا

وأندراوس وفيلبس وتوما

وبرثولماوس ومتى ويعقوب بن حلفى

وسمعان الغيور ويهوذا أخو يعقوب” [13].

وردت قائمة التلاميذ الإثني عشر في متى ١٠: ٢ الخ؛ مر ٣: ١٦ الخ؛ لو ٦: ١٤ الخ).

سمعان القانوي أو الغيور: يقصد بالقانوي أنه كان من قانا، أما الغيور فلأنه يتبع جماعة الغيورين، وهي فئة كانت تنادي بالتحرر من الاستعمار الروماني للتمتع بالحرية باستخدام القوة. استمدوا فكرهم من فينحاس الغيور علي بيت الرب (عد 25: 10-13). ويقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي أنهم ذوو صلة بثوداس الثائر (أع 5: 37) الذي رتب ثورة ضد الرومان سنة 6 ميلادية. ومع فشل الثورة بقي إتباعه يحملون روحه الثائرة، وقد أثاروا فيما بعد ثورة عام 66 انتهت بدخول تيطس أورشليم عام 70م وحرق الهيكل وتدميره تمامًا.

كانوا يجتمعون معًا في العلية التي في بيت مريم أم القديس مرقس الرسول. ويبدو أن البيت كان متسعًا جدًا وأيضًا العلية، إذ قيل: “كانوا يقيمون فيها“. ربما كانت النسوة يُقِمْنَ في الدور الأسفل، بينما كان التلاميذ يقيمون في العلية. وعندما حلّ الروح القدس كريح عصفت بالبيت كله وملأته.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن التلاميذ لم يظهروا أية علامة للحزن عند صعود السيد المسيح كما حدث مع أليشع حين أُخذ سيده إلى السماء، إذ مزق ثوبه (2 مل 2: 12). بل يقول الإنجيلي لوقا: “فسجدوا له، ورجعوا إلى أورشليم بفرحٍ عظيمٍ، وكانوا كل حين في الهيكل يسبحون ويباركون الله” (لو 24: 52-53). ولعل سرّ فرحهم قول الملاك: “سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء” [11]. صعوده ورجاؤهم في المجيء الأخير له حول حياتهم إلى تسبيحٍ دائمٍ في هيكل الله.

“هؤلاء كلهم كانوا يواظبون بنفسٍ واحدة على الصلاة والطلبة،

مع النساء ومريم أم يسوع ومع اخوته” [14].

جاءت كلمة “يواظبون” في اليونانية لا تعنى مجرد الانتظام، وإنما تعني الغيرة المتقدة والإصرار على الانتظام بأمانة وإخلاص.

الصلاة والطلبة“: غالبًا ما عنى بالصلاة هنا الصلوات الطقسية الخاصة بالسواعي، وما تضمنته من طلباتها الثماني عشرة، أو البركات “براكوت”.

يكشف سفر الأعمال عن طبيعة الكنيسة أنها جماعة مقدسة دائمة الصلاة والطلبة بنفسٍ واحدةٍ.

v هذا هو السلاح القوي في التجارب، وقد تدربوا (التلاميذ) عليه: الصلاة بنفس واحدة! حسنًا!

القديس يوحنا الذهبي الفم

كانت الكنيسة تضم “النساء” دون تخصيص، اللواتي تبعنه من الجليل (لو 8: 1-3)، واللواتي كن معه عند الصليب وعند القبر (مت 27: 55-56). ويقول الإنجيلي: “وأُخر كثيرات صعدن معه إلى أورشليم”. (مر 15: 41)

اخوته” كما يقول القديس جيروم إنهم أبناء خالته (مر 15: 40).

٤. تكملة عدد التلاميذ

“وفي تلك الأيام قام بطرس في وسط التلاميذ،

وكان عدَّة أسماء معًا، نحو مائة وعشرين فقال:” [15].

جاء تعبير “قام” في الكتاب المقدس ليشير ليس بالضرورة أنه وقف، وإنما اهتم بالقيام بعملٍ معينٍ.

لماذا قام القديس بطرس بهذا الدور مع أنه لم يكن أسقفًا على أورشليم؟

يرى البعض أنه قام بهذا الدور لأنه كان أكبرهم سنًا. ويرى آخرون لأنه كان بطبعه غيورًا، هذا ولم يكن يشغل أذهان التلاميذ من يكون متقدمًا فيهم.

تم اختيار التلميذ الثاني عشر عوض يهوذا في حضور وشركة الصعب كله (نحو مائة وعشرين).

v يجب أن يُختار الكاهن في حضرة وأمام أعين الكل، وأن يبرهن على أنه مستحق ومؤهل بحكم عام وبشهادة جماعية، كما جاء في سفر العدد حيث قال الرب نفسه لموسى: “خذ هرون والعازار ابنه واصعد بهما إلى الجبل… أمام أعين كل الجماعة” (راجع عد 20: 25-26). يأمر الله باختيار الكاهن في حضرة الجماعة كلها، بمعني أنه يعلم ويظهر أن سيامة الكهنة يجب ألا تتم إلا بمعرفة الشعب القريب.

الشهيد كبريانوس

أما ذكر العدد “نحو مائة وعشرين” فذلك لأنه بحسب التقليد اليهودي هو أصغر رقم لابد أن يتوفر لأية جماعة يهودية لتأخذ صفتها كجماعة لها حق تدبير ذاتها بذاتها. هذا لا يعني أنه لم يكن غيرهم مؤمنين بالسيد المسيح، وإنما هؤلاء فقط كانوا مجتمعين في العلية.

وقد دُعوا “تلاميذ” لأنهم كانوا يحسبون أنفسهم تلاميذ في مدرسة السيد المسيح.

وقف القديس بطرس الرسول يتحدث مع الجموع عن اختيار الله لتلميذٍ يحل محل يهوذا.

تساءل القديس يوحنا الذهبي الفم: [لماذا لم يسألوا المسيح (قبل صعوده) ليقدم لهم شخصًا يحل محل يهوذا؟ ما قد حدث كان حسنًا، لأنهم كانوا مشغولين في أمورٍ أخرى. ثانيًا فإن حضور المسيح معهم هو أعظم برهان أنهم يستطيعون أن ينالوا هذا، كما اختار التلاميذ حين كان في وسطهم (أثناء خدمته على الأرض)، فإنه لا يزال يعمل أيضًا وهو غائب عنهم (بالجسد). هذا ليس بالأمر الهين في تقديم تعزية لهم.]

v تطلعوا إلى وداعة يعقوب، فمع استلامه أسقفية أورشليم لم ينطق هنا بشيء. أيضًا لاحظوا وداعة الرسل الآخرين العظيمة، كيف أنهم خولوا له الكرسي، ولم يحاور الواحد الآخر، فقد كانت الكنيسة كما في السماء، لا تمارس شيئًا من أعمال العالم هذه، ولم تكن متألقة بالأسوار، ولا بالأعداد، بل بغيرتهم التي شكلت اجتماعهم، قيل أنهم كانوا نحو مائة وعشرين. السبعون شخصًا الذين اختارهم المسيح نفسه وآخرون من التلاميذ المتقدي الذهن جدًا مثل يوسف ومتياس [14]. وبينهم نساء كثيرات كما قيل عن اللواتي تبعنه (مر 15: 41).

القديس يوحنا الذهبي الفم

في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذا الحدث يقارن بين ما حدث في ذلك الزمان وما يحدث في أيامه، ففي عصر الرسل لم تكن هناك مناقشة بين المختارين للعمل الرسولي أو الأسقفي، لأن الأسقفية هي قبول أحمال الآخرين وليست تمتعًا بكرامة وراحة.

v دعوني أقول: لماذا هذا الأمر صار موضوع منافسة؟

لأننا أتينا إلى الأسقفية ليس كعملٍ تدبيري واهتمام بالإخوة، وإنما كمركز للكرامة والراحة.

ألا تعلمون أن الأسقف يلزم أن ينتمي إلى الكل، لكي يحمل أثقال الجميع، فإن كان الآخرون غضبى يُغفر لهم، أما إن غضب هو فلن يُغفر له. فإن أخطأ الآخرون لهم أعذارهم، أما هو فليس له عذر.

ليتكم لا تشتاقوا إلى الكرامة، ولا تجروا وراءها. فإن الأمر هكذا: وهو أن الأسقف معرض لألسنة الجميع، ونقد الكل له، سواء كانوا حكماء أو أغبياء. كثيرون يسيئون إليه كل يوم، بل وكل ليلةِ.

كثيرون يكرهونه وكثيرون يحسدونه. لا تتحدثوا معي عن (الأساقفة) الذين يطلبون نفعًا من الكل، الذين يرغبون في النوم، والذين يطلبون هذه الوظيفة للراحة. ليس لنا ما نتكلم به عن هؤلاء، إنما نتحدث عمن يسهرون على نفوسكم، ويحسبون سلام ونفع من هم تحت قيادتهم قبل سلامهم ونفعهم.

v لست أظن أن كثيرين من بين الأساقفة يخلصون، بل كثير جدًا منهم يهلكون، والسبب في هذا أن هذا العمل يتطلب ذهنًا عظيمًا… إن هلاك نفس واحدة (من رعاياه) تحمل عنها عقوبة لا يمكن للغةٍ أن تعبر عنها. فإن كان خلاص تلك النفس ذات قيمة عظيمة بهذا المقدار أن صار ابن الله إنسانًا واحتمل الكثير، تأملوا أية مرارة تكون عقوبة من يفقد هذه النفس. لا تقل إنها خطأ الكاهن أو الشماس. فإن الجريمة تقع لزامًا على رأس من سامهما.

v إن أخطأت كشخصٍ فإن عقوبتك ليست عظيمة هكذا كما إن أخطأت كأسقف، فإنك تهلك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“أيها الرجال الإخوة كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب،

الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود عن يهوذا،

الذي صار دليلاً للذين قبضوا على يسوع” [16].

قوله “أيها الرجال الإخوة” تعبير يُستخدم في الحديث إلى أشخاصٍ يحملون نوعًا من الجدية والوقار والاحترام، سواء كانوا رجالاً أو نساءً.

v يقول بطرس: “أيها الرجال الإخوة“. فإن كان الرب قد دعاهم إخوة كم بالأكثر بطرس. إذ كان الكل حاضرين يقول: “أيها الرجال“. انظروا كرامة الكنيسة، حالها الملائكي. لا يوجد تمييز بين “ذكر وأنثى”. أود أن تكون الكنائس حاليًا هكذا. ليس من يشغل ذهنه أمر أرضي، ليس من بينهم من يفكر بقلقٍ من جهة الأمور العادية.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الإشارة إلى النبوات الخاصة بخيانة يهوذا الإسخريوطي وقطعه وموته (مز 41: 9) تشير إلى أن هذه الأحداث تمت بسماحٍ إلهي، وأنها أحداث لها خطورتها. كما تكشف عن انشغال الكنيسة منذ بدء انطلاقها بجميع نبوات العهد القديم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هنا يقدم لنا القديس بطرس طريق التعزيات الإلهية، أن ما حدث لم يكن جزافًا، بل سبق فأعلنت عنه النبوات. هكذا فإن التمتع بنبوات العهد القديم تعطي تعزية للنفس أن الإيمان الذي نعيشه حقيقة لا جدال فيها، لأن كل ما حدث إنما سبق فأعلن عنه الله بالأنبياء قبل مجيء السيد المسيح بمئات وأحيانا آلاف السنوات. يمكن للدارس أنه يتعرف بالروح على كل أحداث الخلاص من العهد القديم الذي كان ولا يزال في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح. هذا بالنسبة لخطة الله الخلاصية للعالم كله، والتي من خلالها ندرك اهتمام الله بكل إنسانٍ فينا شخصيًا، ففي ذهن الله خطته نحوه لخلاصه ومجده!

v “كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب الذي سبق الروح القدس فقاله“. إنه يعزيهم دائمًا بالنبوات، هكذا يفعل المسيح في كل المناسبات. هكذا يُظهر لهم بنفس الطريقة أن ما حدث ليس بالأمر الغريب، بل ما سبق فأخبر عنه.

القديس يوحنا الذهبي الفم

هذا هو سرّ تعزيتنا على مستوى العالم والكنيسة والشخص نفسه! هذا وما يعزينا أن الروح القدس نفسه هو قائد الكنيسة منذ بدء انطلاقها. لهذا لم يقل القديس بطرس: “قاله داود” بل “الذي سبق الروح القدس فقاله بفم داود“، فهو القائد الحقيقي عبر الأجيال حتى يحمل كنيسة الله سواء في العهد القديم أو الجديد إلى المجد الأبدي. يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارة بقوله: [ألا ترون أنه ليس بلا هدف قلت من البداية أن هذا العمل (السفر) هو سفر “قيادة الروح القدس”.]

كثيرًا ما يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ما سجلته الأناجيل وسفر الأعمال عن يهوذا، فإن الإنجيليين وهنا أيضًا الرسول بطرس يتحدثون عنه مشيرين إلى الأحداث التي تمت والنبوات عنه دون تعليق باستخفاف من جانبهم. يقدم القديس بطرس الحقيقة مجردة، فلم يصفه كخائنٍ لسيده ولا كبائسٍ.

حديث الرسول هنا يؤكد أن ما كتبه داود النبي في المزامير كان بوحي الروح القدس.

v حيث يكون الكلمة يوجد أيضًا الروح… الروح غير منفصل عن الابن… عندما صار الكلمة إلى النبي، كان النبي يتكلم في الروح بالأمور التي أعطيت له من الكلمة، وهكذا كتب في سفر الأعمال عندما قال بطرس: “أيها الإخوة، كان ينبغي أن يتم هذا المكتوب، الذي سبق الروح القدس فقاله” [16]. وفي زكريا عندما صار الكلمة إليه قيل: “لكن اقبل كلامي وفرائضي التي أوصي بها الأنبياء بروحي” (زك 1: 6). وعندما كان يوبخ الشعب قال: “جعلوا قلبهم عنيدًا لئلا يسمعوا الشريعة والكلام الذي أرسله الرب ضابط الكل بروحه على يد الأنبياء الأولين” (زك 7: 12). وعندما تكلم المسيح في بولس- كما قال عن نفسه: ” أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم في” (2كو 13: 3). فلم يكن أحد يمنحه القوى لكي يتكلم سوي الروح الذي عنده، لأنه هكذا يكتب: ” حسب مؤازرة روح يسوع المسيح لي” (في 1: 19).

وأيضًا عندما تكلم فيه المسيح، قال: “غير أن الروح القدس يشهد في كل مدينة أن وثقًا وشدائد تنتظرني” (أع 20: 23). لأن الروح ليس خارج الكلمة، بل إذ هو الكلمة فهو في الله بالكلمة، وهكذا توهب المواهب الروحية في الثالوث.

v فعل الثالوث هو واحد، فالرسول لا يعني أن ما يُعطي (2كو 13: 13) يعطي من كل واحد متنوعًا ومجزئًا، ولكن ما يُعطي إنما يُعطي في الثالوث والكل من إله واحد… لذلك حينما يكون الكلمة في الأنبياء فإنهم يتنبأون بالروح القدس. وحينما يقول الكتاب: “صارت كلمة الرب” (إر 1: 2؛ مي 1: 1)، فهذا يوضح أنه يتنبأ بالروح القدس.

البابا أثناسيوس الرسولي

“إذ كان معدودًا بيننا،

وصار له نصيب في هذه الخدمة” [17].

إختار ربنا يسوع المسيح يهوذا كرسولٍ (لو ٦: ١٣-١٦)، وحُسب واحدًا من الرسل، لكنه لم يكن مؤمنًا صادقًا في إيمانه. فقبل ممارسته لخيانة سيده دعاه الرب “شيطانًا” (يو ٦: ٧٠).

كان السيد المسيح يعرفه تمام المعرفة، فلماذا اختاره رسولاً وسلمه أمانة الصندوق وهو يعلم أنه سارق ولص؟

يرى البعض أن السيد المسيح اختار يهوذا مع علمه بما سيفعله، لأنه كان في ذلك الحين مستعدًا للإيمان بالسيد والتبعية له، أي فيه شيء من الصلاح. لم يحاسبه الرب على ما سيكون عليه، بل ما هو عليه في لحظات اختياره. هذا ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح اختاره ولم يدنه حتى لحظات الخيانة العملية ليعطي للكنيسة درسًا ألا تنشغل كثيرًا بالمحاكمات، بل بالعمل الإيجابي للكرازة والخدمة وإعلان الحب، لتعطي الفرصة حتى للخونة أن يرجعوا إلى الله بالتوبة إن أرادوا.

لقد سمح الله بوجود يهوذا بين التلاميذ، ولم يكشف عن شخصه كخائنٍ ولصٍ علانية حتى النهاية لكي ندرك أنه ليس فقط وسط المخدومين بل والخدام أنفسهم من هم ليسوا قمحًا بل زوان، وليس لنا أن نقتلع الزوان مادام مختفيًا وسط الحنطة حتى يحين الوقت اللائق باقتلاعه.

يسمح الله حتى للأشرار أن يعملوا، وهو إذ يقدس حرية الإنسان لن يلزمهم بالتوبة، فإن تابوا كان ذلك لبنيانهم ومجدهم، وإن أصروا على الشر يحول حتى شرهم لبنيان الكثيرين.

سمح أيضًا بوجود يهوذا بين التلاميذ لكي يعطي درسًا للأجيال كلها عن خطورة الطمع ومحبة المال حتى بين خدام الكلمة، فإنه ليس من خطية ارتكبها إنسان في التاريخ مثل يهوذا محب المال. وهي خطية قديمة سيطرت ولا تزال تسيطر على الكثيرين. حذرنا منها الله عندما دخل بشعبه إلى كنعان حيث أخفى عاخان الفضة والرداء ولسان الذهب، كاسرًا وصية الرب من أجل محبته للمال فهلك (يش ٧: ٢١)، وها هو يهوذا يخون سيده، وسيمون في سفر الأعمال يطلب أن يقتني مواهب الروح بالمال.

الكلمة اليونانية التي تُرجمت “معدودًا” معناها حصاة أو حجر صغير، إذ كان الحصي يُستخدم في العَّدْ.

يدعو اختيار الشخص للخدمة “تصيبًا“، لأنه لا فضل للإنسان في اختياره خادمًا، بل هي نعمة الله التي تختار وتعمل فيمن تختارهم إن سلكوا بالأمانة في دعوتهم.

v يدعو (العمل الكرازي) في كل موضع “نصيبًا“، مظهرًا أن كل شيء هو من نعمة الله واختياره، مذكرًا إياهم بالعصور القديمة حيث اختار اللاويين في القديم نصيبًا له.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم،

وإذ سقط على وجهه انشق من الوسط،

فانسكبت أحشاؤه كلها” [18].

روى لنا الإنجيلي متى (27: 3-10) كيف رد يهوذا الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ، شاعرًا بندامة أنه سلم دمًا بريئًا، لكن في غير رجاء في الرب غافر الخطايا. أما هم فرفضوا استلامها، لأنهم حسبوا المال ملكًا له، ولعلهم رفضوا المال لأنه ثمن دمٍ بريء. وإذ طرحها في الهيكل اشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء. واعتبر القديس بطرس كأن يهوذا نفسه قام بشراء هذا الحقل. جاء في النسخة اليونانية لوستكوت وهورت عبارة: “واقتنى حقلاً من أجرة الظلم” بين قوسين، بكونها ليست حديثًا للقديس بطرس، بل هي تعليق للقديس لوقا كاتب سفر الأعمال.

ستر عليه السيد المسيح كل هذه السنوات، أما هو إذ لم يستر على نفسه بالرجوع إلى الله انفضح في العالم كما ينفضح في يوم الرب العظيم. انسكبت أحشاؤه الجسدية، وانفضحت أحشاء نفسه التي فسدت بالخيانة للرب نفسه.

اختلفت آراء الكثير من الدارسين في موت يهوذا:

  1. الرأي السائد هو أن يهوذا قام بالانتحار شنقًا، لكن الحبل لم يحتمله بعد، فمن ثقل الجسد انقطع وسقط يهوذا على وجهه، وغالبًا على صخرة، فانشقت بطنه وانسكبت أحشاؤه!
  2. شنق نفسه في مزبلة، وبقي جثمانه حتى تعفن وانتفخت بطنه ثم انشقت أو جاءت الكلاب ونهشت بطنه المنتفخة لتأكل جثمانه.
  3. إذ ملأه اليأس والرعب ألقي بنفسه من سطح بيته فسقط أرضًا وانشقت بطنه.
  4. يرى لايتفوت Lightfoot أنه إذ دخله الشيطان طار به في الهواء وطوّح به، فسقط على الأرض وتمزقت بطنه.
  5. يرى Wakefield أنه من شدة الحزن مات مغلوبًا على أمره.

يفسر البعض موت يهوذا شنقًا وانسكاب أحشائه رمزيًا، بأن ذلك يشير إلى سقوطه من رتبته العلوية كرسول للسيد المسيح إلى أعماق الهاوية كخائنٍ للرب، ففقد مركزه وكرامته وصار في عارٍ وخزيٍ أمام الجميع كمن انسكبت أحشاؤه ليصير موضع ازدراء الكل.

“وصار ذلك معلومًا عند جميع سكان أورشليم،

حتى دُعي ذلك الحقل في لغتهم حقل دما،

أي حقل دم” [19].

يرى البعض أن يهوذا أراد أن يحمل صورة التقوى والحب حتى في أثناء مداولته للخيانة، فادعى أمام القيادات اليهودية أنه سيأخذ الفضة لا لنفسه بل لخدمة الغرباء، بشراء حقلٍٍ لدفن الغرباء. وإذ سلم الفضة للهيكل قاموا بتحقيق رغبته، وحسبوا كأنه هو الذي اشترى الحقل، لأنه من ماله.

لعل قادة اليهود نشروا خبر تسليم يهوذا للمال وشراء الحقل بين الشعب ليعلنوا أن يهوذا لم يطلب المال في تسليم سيده لأجل الطمع، وإنما لأجل الخدمة، وأنهم حققوا رغبته حتى بعد انتحاره.

دُعي الحقل “حقل دم” باللغة الكلدانية-السريانية Syro-Chaladic، وقد دُعي هكذا لأنه أُشتري بثمن حياة الرب أو سفك دمه بالصليب. وقد بقي هذا الاسم معروفًا يشهد عن جريمة الخيانة التي ارتكبها يهوذا إلى أجيالٍ كثيرةٍ.

“لأنه مكتوب في سفر المزامير:

لتصر داره خرابًا،

ولا يكن فيها ساكن،

وليأخذ وظيفته آخر” [20].

ما ورد هنا جاء في المزمور 69: 25، 28؛ 109: 8. لم يذكره القديس بطرس كإدانة ليهوذا، ولا تشهيرًا به، وإنما يتحدث من باب الشعور بالمسئولية كقول السيد المسيح له: “وأنت متى رجعت ثبت إخوتك” (لو 22: 32)، فشعر بالتزام تكملة عدد التلاميذ الإثني عشر مقابل عدد أسباط العهد القديم (لو 22: 29-30) “وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الإثني عشر”.

جاءت النبوة عن يهوذا في مز 69: 25، 28 بصيغة الجمع، لأنها لا تشير إلى يهوذا وحده، وإنما إلى كل الذين سلكوا معه ذات الطريق، وهم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب. وكأن ذلك ينطبق عليهم حيث حققت هذه الجماعة الخيانة ونُزع عنهم العمل الكهنوتي والخدمة، وتوقف عملهم كمسئولين عن تدبير الهيكل أو بيت الرب الجديد.

صار هذا الحقل هو داره الذي أُشتري بماله الذي اقتناه بالخيانة لسيده، هذا الدار صار مقبرة تضم الغرباء من اليهود الذين يموتون في أورشليم. باسمه اشتروا هذا الدار المملوء خرابًا، والذي في ذهن القديس يوحنا الذهبي الفم مقدمة لما سيحل بأورشليم كلها، إذ صارت حقل دم، حيث دُمرت وصارت مقبرة لكثيرين من اليهود حين دخلها تيطس الروماني سنة 70م.

جاءت كلمة “وظيفته” في اليونانية thn episkophn “أسقفيته episkopeen“، وهي تعني “الإشراف”.

“فينبغي أن الرجال الذين اجتمعوا معنا

كل الزمان الذي فيه دخل إلينا الرب يسوع وخرج” [21].

“منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنا،

يصير واحد منهم شاهدًا معنا بقيامته” [22].

ما هي مؤهلات المختار للخدمة؟

  1. أن يكون قد عاصر السيد المسيح وشاهد معموديته، ولازمه واستمع إليه واستنار بتعليمه.
  2. تعبير “دخل وخرج” يشير إلى المرافقة للشخص في كل أعمال الحياة. أن يكون قد رافق السيد المسيح حتى لحظات صلبه، واجتمع مع التلاميذ ورافقهم، فلا يكون اختياره مجرد تحقيق لعدد 12، بل قد تأهل عمليًا لهذا العمل الرسولي.
  3. بقوله: “شاهدًا معنا بقيامته” يركز القديس بطرس على تمتعه بخبرة القيامة مع المسيح التي بالحق غيرت مفاهيم المؤمنين وإمكانياتهم. وكما يقول القديس بطرس: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات”. (1 بط 1: 3)

v لم يقل أن يكون شاهدًا للأعمال الأخرى بل للقيامة وحدها… لأن الأمور الأخرى كانت واضحة ومعروفة، أما القيامة فتمت في سرية، وأعلنت لهؤلاء فقط. إنهم لم يقولوا: قد أخبرتنا الملائكة، بل نحن نرى (نشهد). فقد كانوا في ذلك الوقت في حاجة ماسة أن يكونوا رجالاً يمكن تصديقهم لأنهم شاهدوا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فأقاموا اثنين:

يوسف الذي يدعى برسابا الملقب يوستس، ومتياس” [23].

غالبًا ما اتسم الاثنان بالتعقل والحكمة والتقوى، وربما كانا أكبر من غيرهما سنًا، وكان يصعب التمييز بينهما، لهذا التجأوا إلى الله ليختار من بينهما، وذلك بالالتجاء إلى القرعة بعد الصلاة.

هنا نلاحظ كيف أعطي الرب لكنيسته حرية اختيار الخدام على أساس الالتزام بالسمات اللائقة بهم.

يوسف الذي يُدعى بارسابا“، أو باشابا، أي المولود يوم السبت أو ابن السبت أو ابن الشايب. يرى البعض أن بارسابا مشتقة من كلمتين سريانيتين: “بار” معناها ابن، وساباسSabas ومعناها قسّم أو راحة أو هدوء أو سبي.

يظن البعض أنه ذات الشخص الوارد في أع ٤: ١٦ باسم برناباس، لكنه ليس من دليلٍ على ذلك. أما لايتفوت Lightfoot فيظن أنه ابن اليفوس Alpheus وأخ يعقوب الصغير، وأنه اُختير بحكم قرابته للسيد المسيح.

دُعي “يوستس“، وهو اسم لاتيني معناه “بار”، وربما دُعي هكذا بسبب استقامته.

يخبرنا يوسابيوس القيصري عن فيلبس الذي من صيدا أن بابياس يروي عن بنات فيلبس العذارى النبيات (أع 21: 9) أن يوستس شرب سم ثعبان باسم ربنا يسوع ولم يُصب بسوء، متحديًا بعض جاحدي الإيمان، معتمدًا على قول السيد: “وإن شربوا سمًا مميتًا لا يضرهم” (مر 16: 18).

متياس” تعني “عطية الله”. لا يُعرف شيء عن عائلته أو شخصيته سوى أنه شارك الرسل أتعابهم واحتمال الاضطهادات، ونال بركة الكرازة بالإنجيل. بحسب يوسابيوس القيصري هو أحد السبعين الذين اختارهم السيد المسيح. قام بالتبشير في أثيوبيا.

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذكر متياس بعد يوسف الذي يُدعى بارسابا، قائلاً: [ليس بدون سبب ذُكر متياس في الآخر، فقد أراد أن يظهر أنه غالبًا من هو مكرم من الناس يكون الأقل عند الله.]

“صلوا قائلين:

أيها الرب العارف قلوب الجميع،

عيِّن أنت من هذين الاثنين، أيا اخترته” [24].

ألقوا القرعة ليس بلا تمييز، إنما بعد اختيار حتى لم يعد ممكنًا تمييز أحدهما عن الآخر، فالتجأوا بروح الصلاة إلى الله الفاحص القلوب ليختار من يراه صالحًا للعمل. فحص القلوب خاص بالله وحده. “أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى” (إر ١٧: ١٠؛ راجع مز ١٣٩: ١، ٢٣؛ أي ٢٨: ٩)، وقد وُصف ربنا يسوع المسيح بذات هذه السمة الإلهية الخاصة به وحده: “فستعرف جميع الكنائس إني أنا هو الفاحص الكلى والقلوب” (رؤ ٢: ٢٣).

يرى البعض أن هذا التصرف، وقد كان مًستخدمًا في العهد القديم، توقف بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين، حيث يتدخل في حياة الكنيسة لمعرفة مشورة الله، كما جاء في فرز برنابا وشاول للخدمة بين الأمم (أع 13: 2-3).

أيها الرب“: بعد الصلب اعتاد التلاميذ أن يوجهوا الحديث إلى السيد المسيح بكونه: “الرب” أو “الإله” دون تمييز بين اللقبين (أع ١: ٦؛ ٧: ٥٩؛ يو ٢٠: ٢٨).

“ليأخذ قرعة هذه الخدمة،

والرسالة التي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه” [25].

تخلى يهوذا عن خدمته منحدرًا إلى الهلاك، واحتل متياس موضعه ليتمتع بخدمة المجد.

جاءت كلمة “قرعة” Klhron Ton في النسخ القبطية والفولجاتا وBezae “موضع”، أو يحتل مركزه الرسولي.

ليذهب إلى مكانه“: إذ اشترى يهوذا “حقل دم”، أو اشتراه رؤساء الكهنة والفريسيون باسمه، ترك يهوذا مركزه الرسولي لكي يذهب إلى الموضع الذي اشتراه بمال الخيانة والغدر. ويرى البعض أن كلمة “مكانه” هنا تشير إلى مركزه السابق؛ فحين اُختير رسولاً ترك مكانه بين أسرته ليكون عضوًا في الأسرة الإلهية، أما وقد مارس الخيانة بإرادته عاد إلى أسرته ومعارفه وأصدقائه القدامى. ويرى فريق ثالث أن تعبير “ليذهب إلى مكانه” تعبير شائع يشير إلى الموت حيث يذهب الشخص إلى موضعه الأخير، سواء في الفردوس مع المسيح أو في الجحيم مع إبليس إلى يوم الرب العظيم.

لذلك جاء في التفسير اليهودي القديم للعبارة “وانطلق (بلعام) ورجع إلى مكانه” (عد ٢٤: ٢٥) أنه رجع إلى جهنم مصيره.

وجاء في الترجوم Targum أو إعادة الصياغة الكلدانية للعبارة الواردة في جا ٦: ٦: “وإن صارت أيام إنسان ٢٠٠٠ عامًا دون أن يدرس الناموس ويمارس العدل، ففي يوم موته تنزل نفسه إلى الهاوية، الموضع الذي يذهب إليه كل الخطاة“. وجاء في رسالة القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية إلى أهل ماغنسيا Magnesians: [لما كان لكل شيء نهاية فإن الأمرين: الموت والحياة يستلقيان معًا، ويذهب كل واحدٍ إلى موضعه.]

هكذا ذهب يهوذا إلى الموضع اللائق به كطمَّاع وخائن، إذ ليس له موضع في كنيسة المسيح هنا وفي الفردوس حيث السيد المسيح.

بالقول “مكانه” يكشف الكتاب المقدس عن عجز الأشرار عن الشكوى فإنهم يذهبون إلى الموضع الذي اختاروه واللائق بشخصياتهم، إذ لا يستطيعون أن يعبروا إلى السماء، حيث ليس لهم موضع فيها.

v “ذهب إلى مكانه” [25]… إذ اختار هذا الشرّير أن يكون خاطئًا، فعل ما أراد، ونال ما لم يرد. في هذا فعل ما أراده، كُشفت خطيته، فاحتمل بهذا ما لم يرده، تدبير اللََّه الممدوح!

القديس أغسطينوس

“ثم ألقوا قرعتهم،

فوقعت القرعة على متياس،

فحُسب مع الأحد عشر رسولاً” [26].

لم يكن موت يهوذا هو علة الشعور بالحاجة لملء وظيفته الرسولية، فقد استشهد يعقوب الرسول بسيف هيرودس، ولم يجتمع التلاميذ لانتخاب رسول عوضًا عنه، لكن سقوط يهوذا عن الرسولية وخيانته أنشأ الحاجة إلى ذلك.

لا نعرف بالتدقيق كيف تمت القرعة yhfov، لكن عادة ما كانوا يأتوا بقطعتين من الخشب أو المعدن أو الرق ويُكتب اسم كل شخص على احداهما ثم يضعونها في جرة، وتُقدم صلوات وتقدمات، ثم يضع شخص ما يده ليسحب إحدى القطعتين ليكون ذلك من قبل الله.

هذا وإن تكملة رقم ١٢ للرسل لم يكن من باب تكملة عدد، وإنما لأن رقم ١٢ في العهدين القديم والجديد يشير إلى ملكوت الله على الأرض، حيث يملك الثالوث القدوس (٣) على جهات المسكونة الأربع (٤)، فالمحصلة هي رقم ١٢.

v بقي العدد مقدسًا، يحوي العدد 12، لأنه كان ينبغي أن يعلنوا عن الثالوث في كل العالم، أي خلال أربعة أركان العالم. هذا هو السبب: ثلاثة في أربع مرات. قطع يهوذا نفسه، لكن لم يفقد الرقم قدسيته. لقد ترك معلمه، وعين الرب من يحل محله.

القديس أغسطينوس

ويرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح كنورٍ للعالم يًرمز إليه بالنهار، والتلاميذ كأبناء النهار يًرمز إليهم بالاثني عشر ساعة للنهار. فالمسيح، اليوم أو النور، حال وسط الاثني عشر ساعة. لقد صار يهوذا ظلامًا فأُستبعد من الاثنى عشر ساعة ليحل محله متياس.

يقول القديس يوحنا الذهبي الفم انه إذ عين الله متياس لم ينزعج يوسف برسابا، ولا تضايق. فإن لكل عضو موهبته وعمله، فعدم اختياره لم يفقده دوره في العمل. يكشف القديس يوحنا الذهبي الفم عن مرارة نفسه لمفهوم الأسقفية في عهده حيث توجد منافسة، إذ يراها البعض سلطة وكرامة فيجرون إليها، عوض إدراكه أن الأسقفية هي قبوله أثقال الآخرين واحتمال نقد الكل، الحكماء والأغنياء، وأن يهتم بكل أحدٍ نهارًا وليلاً وأنه موضع كراهية الكثيرين وحسدهم.

يتساءل البعض: كيف سقط يهوذا في خيانة سيده وقد أدرك قوته الإلهية وسلطانه، وكان بين يديه الصندوق يسرق منه دون رقيب يحاسبه؟

يقدم الدارسون تعليلات كثيرة منها:

  1. كان يهوذا كسائر التلاميذ والرسل حتى بعد قيامة السيد بل وحتى لحظات صعوده يتوقعون قيام مملكة زمنية، وإذ تحقق يهوذا بأن يسوع يرفض تمامًا أن يصير ملكًا حتى إن أجمع رأي الجماهير على ذلك، لذلك ضاعت كل أمنيات يهوذا هباءً.
  2. كإنسانٍ محبٍ للمال لم يكن من الصعب على رؤساء الكهنة والفريسيين أن يستميلوه بالفضة لخيانة سيده.
  3. لعله إذ كان يدرك سلطان سيده ظن أنه يأخذ الرشوة وينتفع بها بينما لن يستطيع أحد أن يقبض عليه أو يؤذيه، ولن يغلبه الموت. حقًا إنه يرشد عليه، لكن حتمًا سيتخلص السيد من أيديهم.

الإعداد الدائم لقيام الكنيسة ونموّها

بعد استعراضنا لما ورد في هذا الاصحاح يمكننا أن نوجز أن السيّد المسيح قد أعدّ تلاميذ ورسله ومن هم حوله لميلاد الكنيسة، ليصيروا هم كنيسته المقدّسة. هذا الإعداد ليس حدثًا تاريخيًا عبر مع الزمن، لكنّه إعداد وخبرة يوميّة يليق بالكنيسة أن تعيشها لكي تبقى أمًا ولودًا، تنمو على الدوام حتى تصير أيقونة مسيحها، وتضم كل يوم الذين يخلصون حتى مجيء الرب الأخير. هذا الإعداد كما رأينا هو الآتي:

  1. نحمل مسيحنا الذي يعمل ويعلّم [1]، فنشاركه هذه السمة، مترجمين إيماننا إلى عمل محبّة وشهادة عمليّة صادقة عن عذوبة الخلاص.
  2. نراه مع تلاميذه ونتلامس معه كل يوم خلال حياتنا الزمنيّة (الأربعين يومًا)، فنعلن عن يقين أنّه حيّ فينا، ببراهين عمليّة صادقة [3].
  3. نتجاوب مع روحه القدّوس، عطيّته العظمى، بل واهب العطايا، نلناه في مياه المعموديّة ومسحة الميرون [5]، لكي يقودنا كل أيام غربتنا في حياتنا اليوميّة وشهادتنا لمسيحنا أمام الكثيرين.
  4. ألا ننشغل بالمعرفة الباطلة، كالبحث عن الأزمنة والأوقات، بل نطلب القوة والسلطان الموهوب لنا لنحيا بروح القوّة لا الفشل والضعف [7-8].
  5. لا يفارقنا منظر صعود مسيحنا الفريد، الذي يبهج قلوبنا ويرفعها إلى حضن الاب السماوي، مترقّبين بشوقٍ عظيم مجيئه الأخير على السحاب، ليحملنا بكل كياننا إلى المجد الأبدي [9-11].
  6. ممارسة الحياة الكنسية كما في العليّة مع التلاميذ وكل الشعب، لا نكف عن الصلاة بنفسٍ واحدةٍ [13-14].
  7. الطلب المستمر من اللََّه أن يرسل خدّامًا شهودًا لقيامته، كما اختار متياس لينضم إلى الأحد عشر رسولاً [24-26].

 

 

من وحي أعمال الرسل ١

هل من بداية جديدة؟

v قدم لنا رسولك لوقا قصة بداية انطلاق كنيستك.

ومع كل صباح نرى في هذا السفر بدء انطلاق كنيستك.

مع أنها قديمة لكنها تبقى دومًا جديدة.

تصرخ كل يوم: لنبدأ بدأً حسنًا!

v حديثك عن أمور الملكوت ممتع ولذيذ،

لأنه هو إعلان عن شخصك، يا كلي الحب.

أنت هو الملكوت بعينه، وبدونك ليس من ملكوت.

v تعدني ألاَّ أبرح أورشليم حتى ألبس قوة من الأعالي.

حققت وعدك، ووهبتني روحك النور والناري.

روحك يجعلني مصباحًا لا ينطفئ، ونارًا آكلة!

لن تستريح نفسي حتى أرى كل بشرٍ في أحضانك.

v لأخرج معك إلى جبل الزيتون.

يا له من منظر عجيب أن أراك ترتفع إلى السماء!

ليس للجاذبية الأرضية أثر على جسدك القائم من الأموات.

هوذا السماء بكل قواتها تترقب بفرح صعودك.

لتحمل قلبي معك،

فبه أرى عرشك،

وأدرك أسرار مجدك.

قلبي مستعد يا الله، قلبي مستعد.

أرفعه معك، فيرتفع كل كياني أيضًا ليكون معك!

v ها أنت في السماء مشغول بخلاص العالم كله،

ورسلك على الأرض مهتمون بالشهادة لك!

أنت مشغول بنا، ونحن مشغولون بك يا مخلص الجميع.

v طوبى لرسولك بطرس، وطوبى لكل الرسل الذين هو بينهم.

بقلبه الملتهب غيرة يطلب من يحمل نصيب يهوذا.

سأل لا بروح الرئاسة ولا السلطة،

بل بروح الحب وشهوة الخدمة والكرازة.

طوبى لإخوته، لأنه لم يتسلل إليهم فكر حسد،

ولكن بروح التواضع سلك الكل معًا!

ليس من يشتهي كرامة، ولا من يطلب مجدًا زمنيًا!

فالكل أعضاء في جسدٍ واحدٍ لك، يا أيها الرأس السماوي!

v إني في حيرة: هل أطوِّب متياس الذي اخترته رسولاً،

أم أطوِّب يوسف برسابا الذي تهلل باختيار زميله؟

طوباهما معًا، لأنهما شاهدان بالحق لقيامة الرب!

طوباك يا متياس من أجل جهادك كرسول.

وطوباك يا يوسف من أجل جهادك في الوزنات التي أعطاها لك الله.

v والآن استمع يا رب إلى طلبتي.

لنبدأ بدأً حسنًا مع كل صباحٍ جديد:

نصغي دومًا إلى أحاديثك السرية في القلب،

نثق في وعدك بعمل روحك الناري فينا،

تثبت نظراتنا دومًا على صعودك المفرح،

نبحث مع رسلك عن خدام ملتهبين بالروح،

وأخيرًا لن نستريح حتى نرى العالم قد صار سماءً!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

زر الذهاب إلى الأعلى