تفسير سفر أعمال الرسل ٢٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع والعشرون

إلى روما

يستعرض الإنجيلي لوقا رحلة السجين بولس، لا ليكشف عن مدى المخاطر التي تعرض لها فحسب, وإنما بالحري يكشف عن شخصية الرسول بولس الأسير القائد. فقد حمل مع الأسرى تحت حراسة مشددة من الجنود وقائد المئة. لكن الرسول لم يشعر إنه سجين في مذلةٍ, بل سفير المسيح يشهد له أمام جميع الذين في السفينة.

كانت فرصة السفر بما فيها من مخاطر رهيبة مجالاً طيبًا للبشارة بإنجيل المسيح. شعر الجميع ببركة وجود الرسول في وسطهم, وتلامسوا مع عمل الله في حياتهم من خلاله. وأخيرًا فقد صبغ عليهم لمسات الفرح والشكر لله.

مع أن القائد والعسكر والمسجونين والمسافرين وأيضًا طاقم النوتية يكاد يكون الكل وثنيًا, لكن الرسول بولس في محبته للبشرية يطلب باسمهم أمام الله, وإذ يسلم الأمر في يديه يحسب أن الكل قد سلموا الأمر. هذا هو الحب الخالص الحقيقي!

  1. من قيصرية إلى ميرا 1-5.
  2. من ميرا إلى المواني الحسنة 6-8.
  3. من المواني الحسنة إلى مليطه 9-44.
  4. من قيصرية إلى ميرا

لا نعرف إلى أي مدى بقي الرسول بولس يحاور أغريباس، وقد أراد الأخير أن يطلقه دون أي شرط، لولا أن بولس رفع دعواه إلى قيصر، فكان لزامًا كروماني الجنسية أن يرحل إلى روما لمحاكمته هناك. وقد روى لنا القديس لوقا هذه الرحلة في شيء من التفصيل، مظهرًا أهميتها لتحقيق غايته، وهي رفض اليهود للإنجيل وفتح باب الإيمان للأمم في عاصمة الإمبراطورية.

“فلما استقر الرأي أن نسافر في البحر إلى إيطاليا،

سلّموا بولس وأسرى آخرين إلى قائد مائة من كتيبة أوغسطس،

اسمه يوليوس”. [1]

آخر مرة يقول الإنجيلي لوقا “نحن” في أع 21: 18 عندما كان في صحبة الرسول بولس عند وصوله إلى أورشليم. هذا يفترض أن لوقا البشير كان في منطقة قيصرية خلال سجن الرسول لمدة عامين. الآن لوقا يصاحبه في رحلته مع أرسترخس التسالونيكي الذي جاء من تسالونيكي إلى أورشليم مع الرسول بولس (أع 19: 29؛ 20: 4).

بدأت الرحلة هنا من قيصرية من ميناء جنوب طرسوس.

“فصعدنا إلى سفينة أدراميتينية،

وأقلعنا مزمعين أن نسافر مارين بالمواضع التي في آسيا،

وكان معنا أرسترخس رجل مكدوني من تسالونيكي”. [2]

أقلعت السفينة مارة بالساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، تعبر بالمواني البحرية والمدن الساحلية.

لم يخجل صديقاه لوقا وأرسترخس من قيود بولس، بل حسبا ذلك فخرًا لهما أن يرافقاه بإرادتهما في هذه الرحلة، ويشاركاه مخاطر البحر، معرضين حياتهما للخطر من أجل محبتهما له ولخدمته للكرازة.

“وفي اليوم الآخر أقبلنا إلى صيدا،

فعامل يوليوس بولس بالرفق،

وأذن أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل على عناية منهم”. [3]

أول ميناء بلغوا إليه صيدا Sidon من فينيقية، وهو على بعد حوالي 67 ميلاً شمال قيصرية، ويمكن بسهولة الوصول إليه خلال 24 ساعة بحرًا. وهو آخر مدينة على ساحل فينيقية.

قدر ما سمح الله بوجود مقاومين للرسول بولس بعث إليه من يجد نعمة في أعينهم مثل فيلكس الوالي (أع 24: 23) وقائد المائة يوليوس، الذي غالبًا ما عرف قضيته وسمع احتجاجه أمام أغريباس واقتنع ببراءته. كان للرسول أصدقاء في كثير من المدن التي عبر عليها في رحلاته، خاصة عند ذهابه إلى أورشليم أو خروجه منها. اعتني به أصدقاؤه، غالبًا ما قدموا له هو ومن معه مئونة لرحلتهم الطويلة الشاقة والمملوءة بالمخاطر.

مع أن بولس كان في عهدة قائد المائة كأسير، لكن القائد تعامل معه كصديقٍ بار وصاحب معرفة صادقة، وكإنسان مهتم بخلاص النفوس. يقدم لنا هذا القائد صورة حية لمن لا يستغل السلطة بل يسلك بروح التقوى.

” ثم أقلعنا من هناك،

وسافرنا في البحر من تحت قبرس،

لأن الرياح كانت مضادة”. [4]

في فصل الخريف تهب رياح غربية شمالية على البحر الأبيض، خاصة في الجانب الشرقي. هبت عليهم فاضطروا أن ينحرفوا تحت قبرص نوعًا ما ليتقوا الرياح المضادة، ثم داروا حول الجزيرة من شرق في قوس كبير مقابل شواطئ كيليكية ثم بمفيلية وبمحاذاة الشاطئ، فأصبح اتجاههم غربيًا تمامًا حيث استخدموا نفس الرياح لتسوق المركب عوض أن تعوقه.

لو أن الريح كانت مواتية لأبحروا مباشرة وتركوا قبرص على اليمين، لكن لأن الريح كانت غير مواتية، انحرفوا برحلتهم تحت ضغط الريح، فصاروا في اتجاه آخر بحيث صارت جزيرة قبرص على شمالهم. التزم البحارة ألا يعبروا في البحر مباشرة، إنما تحت ضغط الرياح الغربية سلكوا تحت كيليكية وبمفيلية حتى بلغوا إلي ميرا ليكية وهي ميناء هام لاستقبال السفن الكبيرة خاصة الحاملة الغلال من الإسكندرية إلى روما. هناك استبدلوا السفينة وأبحروا في سفينة غلال مبحرة إلى إيطاليا.

كان لا بد لهم أن يسايروا العاصفة قليلاً حتى لا تنشطر السفينة، فاتجهوا مع الريح جنوبًا نحو جزيرة كلودي، وهي تبعد عن كريت 20 ميلاً من ناحية الجنوب الغربي، وذلك لكي يختبئوا فيها.

تعبير “تحت قبرص” يحمل معنى الإبحار بقرب ساحلها حتى يتحاشوا خطر الرياح العنيفة في وسط البحر.

ليكية” كانت مقاطعة في جنوب غرب آسيا الصغرى، يحدها شمالاً فريجية وبسيدية، وجنوبًا البحر المتوسط، وشرقًا بمفيلية، وغربًا كارالاCarala .

v انظروا كيف لم يغير الله نظام الطبيعة، بل سمح لهم أن يبحروا والرياح مضادة. ومع هذا فقد تمت المعجزة وهي أنهم يبحروا بسلام، ولم يسمح لهم بالدخول إلى البحر (المفتوح)، وإنما ساروا بجوار البر. انظروا كيف تُنسج حياة القديسين (بخيوط التجارب)، فإذ يخرجون من المحاكمة يسقطون تحت التعرض لانكسار السفينة والعاصفة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“بعدما عبرنا البحر الذي بجانب كيليكية وبمفيلية،

نزلنا إلى ميرا ليكية”. [5]

ميرا لها سمعتها المباركة ومكانتها العظيمة في قلوب أهل اليونان، لأن القديس نيقولاوس شفيع اليونان وبالأخص البحارة ومن في مدينة ميرا Myra . وقد سرق الروس جسده وحملوه إلى مدينة سان بطرسبرج St. Petersburg أثناء ثورة اليونان، وأرسلوا لهم أيقونة متقنة عوضًا عن جسده.

يدعى ميناء ميرا أندرياس Andriace كان من أهم مواني أسيا الصغرى، وكانت السفن الحاملة للقمح من الإسكندرية إلى روما ترسو فيه، لأن خط سيرها هو بحذاء الشواطئ من فينيقية إلى آسيا الصغرى. هذا وكانت السفن الكبيرة تنطلق من هناك إلى إيطاليا حيث التيار المائي يتجه هناك نحو الغرب، بالإضافة إلى الرياح المساعدة. فوجود سفينة إسكندرانية ضخمة أمر طبيعي حسب مسارها في الخط البحري الدائم بين الإسكندرية وروما.

  1. من ميرا إلى المواني الحسنة

“فإذ وجد قائد المائة هناك سفينة إسكندرية مسافرة إلى إيطاليا،

أدخلنا فيها”. [6]

ربما انحرفت هذه السفينة الكبرى إلى شاطئ أسيا الصغرى، وهي في طريقها إلى روما بسبب العواصف والرياح المضادة.

“ولمّا كنا نسافر رويدًا أيامًا كثيرة،

وبالجهد صرنا بقرب كنيدس،

ولم تمكنا الريح أكثر،

سافرنا من تحت كريت بقرب سلموني”. [7]

المسافة بين ميرا وكنيدس 130 ميلاً، وكانت السرعة بطيئة.

كنيدس Canidus: ميناء على ساحل آسيا الصغرى في الاتجاه الغربي من ميرا، ومسيرتهم كانت بحذاء الساحل، وكان البطء بسبب الرياح الغربية الشمالية المقاومة لاتجاههم، لذلك وصلوا بصعوبة إلى الميناء، وكان يلزمهم الاتجاه جنوبًا حتى تكون لهم ذات الرياح مساندة لهم. كان اتجاه التيار المائي نحو الغرب لكن الرياح الغربية الشمالية كانت تقاوم اتجاه تيار المياه. هكذا اتجهوا جنوبًا نحو كريت، وداروا حول رأس سلمون Salmon أقصى نقطة في شرق كريت، وساروا تحت كريت بحذاء الشاطئ حتى وصلوا إلى المواني الحسنة [8]. هنا واجهوا نفس الصعوبة التي عانوا منها في رحلتهم من ميرا إلى كنديس.

أبحرت السفينة ببطء لعدة أيام بسبب الرياح الغربية حتى بلغت كنيدس ميناء كارياCaria ، والتزمت أن تسلك تحت كريت كما التزمت قبلاً أن تسلك تحت قبرص. ووجدت صعوبة شديدة أن تبلغ سلموني الساحل الشرقي لكريت. وبالجهد بلغوا المواني الحسنة.

“ولمّا تجاوزناها بالجهد،

جئنا إلى مكان يقال له المواني الحسنة،

التي بقربها مدينة لسائية”. [8]

عبروا حول نهاية الساحل الشرقي للجزيرة إذ لم يكن ممكنًا لهم الإبحار مباشرة ما بين الجزيرة والبر الرئيسي.

المواني الحسنة” في جنوب شرقي جزيرة كريت، كانت شاطئًا غالبًا ما يُعتبر ملجأ مفتوحًا إلى حين، دعاه ستيفن عالم الجغرافيا “الشاطئ الحسن” كما دعيت في طرق السير البحرية في الهولندية والفرنسية “الخليج الجميل” لم يكن بها مدينة، إنما بالقرب منها مدينة مشهورة تدعى لسائية.

  1. من المواني الحسنة إلى مليطه

“ولمّا مضى زمان طويل وصار السفر في البحر خطرًا،

إذ كان الصوم أيضًا قد مضى،

جعل بولس ينذرهم”. [9]

وقت الصوم قد مضى” هو اصطلاح يفيد بأن هذا الميعاد من السنة لا يُبحر فيه، ولا يُستحب فيه السفر مهما كان السبب. فقد كان بدء شهر أكتوبر، وكل الرحالة يؤكدون أن الإبحار في ذلك الوقت مجازفة خطيرة.

واضح أنهم إذ بدأوا الرحلة كان الكل يترجى وصولهم إلى روما قبل موسم الإبحار الخطر في البحر المتوسط، لكن لم يتحقق ذلك.

يرى البعض مثل القديس يوحنا الذهبي الفم أن الصوم هنا هو صوم يهودي أي في يوم الكفارة العظيم (لا 23: 27)، في اليوم العاشر من الشهر السابع تشري، نحو نهاية سبتمبر. وذلك بعد الاعتدال الخريفي حيث الإبحار يكون خطرًا.

“قائلاً: أيها الرجال،

أنا أرى أن هذا السفر عتيد أن يكون بضرر وخسارة كثيرة،

ليس للشحن والسفينة فقط،

بل لأنفسنا أيضًا”. [10]

كان بولس الرسول ليس أسيرًا عاديًا، بل أشبه بقبطان متقاعد له خبرته في الإبحار، متمرسًا في انكسار السفن (2 كو 11: 25-26). لقد سد رئيس سلطان الهواء، عدو الخير، أذان الكل عن الاستماع لمشورة القديس بولس لكي يضيف إلى أتعاب بولس أتعابًا جديدة.

كان القديس بولس صاحب خبرة في الرحلات البحرية، وقد ذكر من بين آلامه أنه انكسرت به السفينة ثلاث مرات (2 كو 11: 25). هذا ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الرسول وهو تحت قيادة الروح القدس أدرك ما سيحل بالسفينة بإعلان الروح له.

بلا شك كان الشحن (القمح المُرسل إلى روما) له تقديره الخاص، لا من جهة قيمته المادية، وإنما لاحتياج العاصمة إليه.

“ولكن كان قائد المائة ينقاد إلى ربان السفينة والى صاحبها،

أكثر مما إلى قول بولس”. [11]

حسب قائد المائة إن ربان السفينة ومالكها، وكلاهما صاحبا خبرة في البحار، ويهمهما سلامة السفينة والشحن، أكثر خبرة من بولس، فمال إلى رأيهما. كان القائد مترفقًا بالرسول بولس، وربما كان معجبًا به لكنه لم يأخذ بمشورته.

“ولأن الميناء لم يكن موقعها صالحًا للمشتى،

استقر رأي أكثرهم أن يقلعوا من هناك أيضًا،

عسى أن يمكنهم الإقبال إلى فينكس ليشتّوا فيها،

وهي ميناء في كريت تنظر نحو الجنوب والشمال الغربيين”. [12]

لم تكن المواني الحسنة ملائمة لقضاء فترة الشتاء، لذلك فضلوا الإبحار إلى فينكس وهي في غربي كريت. هي مصيف وليست مشتى، ليست ميناء بمعنى الكلمة، إنما مجرد شاطئ، يتعرض من يقطن فيها للرياح الباردة.

“فلما نسمت ريح جنوب ظنّوا أنهم قد ملكوا مقصدهم،

فرفعوا المرساة،

وطفقوا يتجاوزون كريت على أكثر قربٍ”. [13]

كانت الريح السابقة قادمة من الغرب تقاوم الإبحار، وخطيرة، أما قيام ريح جنوبية هادئة ولطيفة فبعث فيهم الأمل أن الإبحار غير خطر، خاصة بجوار ساحل كريت، حتى يبلغوا فينكس في الغرب، وهذا ما كانوا يأملون فيه.

فجأة توقفت الرياح الشمالية الغربية المقاومة لتهب ريح الجنوب اللطيفة بنسمات هادئة. هذا يحدث بسبب تغيير الضغوط الهوائية، لكن هذه النسمات مؤقتة ومزيفة سرعان ما تزول لتعود الرياح الشمالية الغربية.

“ولكن بعد قليل هاجت عليها ريح زوبعيّة،

يقال لها أوروكليدون”. [14]

فجأة تحولت نسمات الريح الهادئة القادمة من الجنوب إلى ريح عاصفة مضادة للرحلة تدعى أوروكليدون. يرى البعض أنها تشير إلى ريح أشبه بالهراكين أو الأعاصير حيث تهب الريح من كل جانب، فتصير السفينة كما في دوامة في مهب رياح من كل اتجاه. تدعى هذه الرياح حاليًا Levanters وهي مشتقة من Levant ومعناها “مشرق”.

وُضع القديس بولس في ذات ظروف يونان النبي، لكن الأخير كان هاربًا من وجه الرب، أما بولس فكان مقيدًا من أجل الشهادة للرب. كأن يونان يرفض الكرازة للأمم، أما بولس فكان يبذل كل الجهد للشهادة للسيد المسيح أمام الأمم.

“فلما خُطفت السفينة،

ولم يُمكنها أن تقابل الريح،

سلَّمنا فصِِرنا نُحمَل”. [15]

اختطفت الريح السفينة، ولم تعد تحت سيطرة الملاحين. صارت السفينة أشبه بكرة في يد النوء العنيف تتخبط، فقدت توازنها وأصبح لا يمكن توجيهها. توقف البحارة تمامًا عن أية محاولة للسيطرة على الموقف، وسلم كل الحاضرين حياتهم كما في يد ريح لا ترحم، أما بولس الرسول فباسم كل الذين في السفينة سلم الأمر بين يدي الله، فأدرك أن الكل محمولون على الأذرع الأبدية.

“فجرينا تحت جزيرة يقال لها كلودي،

وبالجهد قدرنا أن نملك القارب”. [16]

لم يستطيعوا التحكم في السفينة الكبيرة، لكن بالكاد استطاعوا أن يتحكموا في القارب. هذا لا يعني أنهم بلغوا به إلى الشاطئ.

كلودي“: جزيرة صغيرة تبعد حوالي 20 ميلاً جنوب غرب كريت.

“ولمّا رفعوه، طفقوا يستعملون معونات حازمين السفينة،

وإذ كانوا خائفين أن يقعوا في السيرتس أنزلوا القلوع،

وهكذا كانوا يُحملون”. [17]

طفقوا يستعملون معونات، أي يستخدمون حبالاً وسلاسل لإنقاذ السفينة. خشوا أن تغرس السفينة في الرمال الناعمة اللينة (سرتس)، فأنزلوا القلوع التي بسبب الريح العاصف كان يصعب التحكم في تويجهها.

“وإذ كنا في نوء عنيف،

جعلوا يفرغون في الغد”. [18]

في الغد صاروا يلقون بكل البضائع، خاصة القمح، في البحر، فقد أدركوا أن المال لن ينقذهم، وأنه يمثل ثقلاً في سفينة الحياة تبلغ بها إلى الغرق في مياه هذا العالم. وكما يقول الحكيم: “ثروة مصونة لصاحبها لضرره” (جا 5: 13).

يا للعجب! ما أسهل على أهل العالم أن يلقوا في البحر كل ما لديهم لكي ينجوا بحياتهم الزمنية، بينما يستصعبوا جدًا أن يقدم نصيبًا بسيطًا مما لديهم لإخوتهن الفقراء والمحتاجين لأجل حياتهم الأبدية. أما من يتطلع إلى بلوغ الأبدية بأمجادها، فلا ينشغلون بما للعالم، بل كما كتب القديس بولس: “قبلتم سلب أموالكم بفرح، عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السماوات وباقيًا” (عب 10: 34).

أي إنسان عاقل يحطم السفينة بما عليها لينجو بحياته، لكن كثيرين يفضلون تحطيم سفينة إيمانهم وضميرهم الصالح من أجل أمور زمنية.

في وسط النوء الشديد قام النوتية بتخفيف أحمال السفينة بإلقاء الشحن في المياه حتى ينجو هم ومن معهم. وهكذا في وسط نوء هذا العالم يلزمنا أن نخفف أثقالنا وارتباكاتنا حتى يصير الإنسان خفيفًا كطائرٍ يسبح في الجو، ولا يُقال عنهم ما قيل عن فرعون وجنوده “غاصوا كالرصاص في مياه غامرة” (خر 15: 10)

“وفي اليوم الثالث رمينا بأيدينا أثاث السفينة”. [19]

“وإذ لم تكن الشمس ولا النجوم تظهر أيامًا كثيرة،

واشتد علينا نوء ليس بقليلٍ،

اُنتزع أخيرًا كل رجاء في نجاتنا”. [20]

مما زاد الحال سوء أنه قد خيم عليهم الظلام، فلم يعرفوا نهارهم من ليلهم إلى أيام كثيرة، حيث لم تظهر الشمس نهارًا ولا النجوم ليلاً، بهذا فقد البحارة إدراكهم لحقيقة موقعهم، والتعرف على الاتجاهات، ليسلكوا الطريق الآمن.

هذا هو حال النفس التي تفقد رؤيتها للسيد المسيح، شمس البرّ، فلا تتمتع بنوره، ولا يحل بها نهار لتصير ابنة النهار. وأيضًا حين فقد رؤيتها لأولاد الله الحقيقيين كنجوم متلألئة، فلا تجد أمامها أمثلة حية في الإيمان تقتدي بها. هنا يصير الموقف في غاية الخطورة، حيث لا يدرك الإنسان بنور الروح القدس حقيقة نفسه، ولا موقعه، ولا يرى نور مخلصه، ولا جمال الكنيسة وبهاء قديسيها.

هذا الموقف الخطير حطم نفسية البحارة، فقد عكست الظلمة الخارجية عليهم ظلمة داخلية مهلكة، إذ حلت بهم ظلمة اليأس وانقطع عنهم نور الرجاء “انتزع أخيرًا كل رجاء في نجاتنا“. تسلل إليهم أخطر عدو يحطم حياة الإنسان في هذا العالم ويفقده أبديته ألا وهو اليأس، فإنه حين يدخل تدخل معه بقية الخطايا وتجد الشياطين لها عرشًا في القلب تتربع فيه.

“فلما حصل صوم كثير،

حينئذ وقف بولس في وسطهم، وقال:

كان ينبغي أيها الرجال أن تذعنوا لي،

ولا تقلعوا من كريت،

فتسلموا من هذا الضرر والخسارة”. [21]

وسط هذا الجو الرهيب انزلوا القلوع ليحدوا من تأثير قوة الرياح، إذ صارت السفينة ألعوبة قي يد الأمواج. وأُفرغت السفينة من حمولتها التي تزن ألف طن حتى لا تنفسخ السفينة مع ثقلها من ضربات الأمواج العالية، وفي اليوم الثالث القوا أثاثات السفينة وتجهيزاتها في عملية الإنقاذ المرهقة هذه. صار الكل يصطدم ببعضهم البعض، وينطرحون على وجوههم. علت الصرخات المستمرة وتوترت الأعصاب، وملأت المياه السفينة، وإذ حل بدء فصل الشتاء مع رياح باردة وأمطار غزيرة، وسحب وظلمة متكاثفة صار الموقف لا يمكن وصفه! في وسط هذا الجو وقف بولس الرسول الصائم يصلي لإلهه لينعم بوعد إلهي أن يُوهب له جميع الذين في السفينة، وأن يحقق رسالته بوقوفه أمام قيصر يشهد لمخلصه، وأراه عن بعد الجزيرة التي ستحتضنهم. يرى البعض أن هذا الصوم مارسه كل الذين في السفينة، ليس كعملٍ تعبديٍ، وإنما هو ثمرة الضيق والمرارة، فلم ينشغل أحد بأكلٍ أو شربٍ، مع العمل المستمر لإنقاذ السفينة بكل وسيلة كإلقاء الشحن.

وبخهم الرسول لأنهم لم يسمعوا له، وهو يرى الخطر قادمًا، الآن صاروا يسمعون له، فقد نال وعدًا إلهيًا بخصوص نجاتهم.

v لا يزال بولس يبحر معنا الآن، لكنه ليس مقيدًا كما كان في ذلك الحين؛ إنه ينصحنا إلى الآن… لنطع بولس، وإن كنا في وسط النوء، فإننا بالتأكيد نخلص من المخاطر، حتى وإن بقينا بلا طعام لمدة 14 يومًا، فإن الرجاء في الآمان مُقدم لنا؛ وإن كنا في ظلمة وضباب، فإننا إذ نتمم أمره نخلص من المخاطر. لنتطلع إلى العالم كله، إنه سفينة ويوجد بها أشرار لهم رذائل بلا حصر وولاة وحرس، وأيضا أبرار، كما كان بولس مع مسجونين آخرين، مربوطين بخطاياهم. فإن كنا نفعل ما يأمرنا به بولس لن نهلك في القيود بل نتحرر منها، فان الله يهبنا له (لبولس) أيضًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“والآن أُنذركم أن تُسّروا،

لأنه لا تكون خسارة نفس واحدة منكم إلا السفينة”. [22]

قدم لهم الرسول أخبار سارة أنه لن يهلك أحد منهم، هذه الأخبار ليست من عنده بل هي هبة إلهية.

وسط مرارة المحنة كان بولس كواحدٍ منهم صائمًا وعاملاً معهم، يلقي معهم الشحن، ويبذل كل الجهد لإنقاذ السفينة. أما وقد تمتع بوعدٍ إلهيٍ، فوقف في وسطهم، لا كأحد الأسرى، بل كمشيرٍ صالحٍ ومبشرٍ مفرحٍ. نزع عنهم روح اليأس، وبعث فيهم روح الرجاء، مقدمًا لهم تعزيات من السماء.

أنذركم أن تسروا“، كما أن الله هو مصدر سرور السمائيين والأرضيين، هكذا يهب الله مؤمنيه، ليس فقط أن يفرحوا، بل ويصيروا علة فرح الكثيرين.

“لأنه وقف بي هذه الليلة ملاك الإله الذي أنا له،

والذي أعبده”. [23]

حينما كان بولس الرسول على حافة الموت وعندما نال وعدًا بالنجاة هو ومن معه لم يكن يشغله سوى أمر واحد، أنه لله، وأن خدمته الكرازية هي غاية كل حياته. لم يربكه الموت، ولا شغله الخلاص الزمني، بل تكريس كل كيانه لله مخلصه.

لم يقل الرسول: “الذي نحن له، والذي نعبده أو نخدمه” بل “الذي أنا له، والذي أعبده”، فإنه ذاهب إلى روما ليس من أجل عمل تجاري، إنما ليظهر كشاهدٍ وسفيرٍ للسيد المسيح.

بشرهم بأن الله الذي كرس الرسول حياته له وصار منسوبًا إليه، ويتمتع بالعبادة له أرسل ملاكه له كارزًا باسمه.

“قائلاً: لا تخف يا بولس،

ينبغي لك أن تقف أمام قيصر،

وهوذا قد وهبك اللَّه جميع المسافرين معك”. [24]

كشف الرسول بولس عن خطة الله من نحوه، فإنه من أجل الشهادة للإنجيل أمام قيصر ينقذه الله، ويهبه كل المسافرين كعطية خاصة به. هنا يكشف الرسول بولس عن مدى شوقه في الكرازة حتى في القصر الإمبراطوري، كما يكشف عن عمل الله خلال خدامه. فإذ كرس بولس قلبه لإنجيل المسيح، صار وجوده في السفينة بركة عظيمة، من أجل تحقيق رسالته وهبه ألا يهلك أحد الحاضرين.

حتمًا لم يكن الرسول بولس خائفًا من الموت، لكن ربما ما حلّ به من خوفٍ، هو مشاركته للذين في السفينة خوفهم وآلامهم، فقد عاش يحسب نفسه مقيدًا مع المقيدين، وضعيفًا مع الضعفاء، وملتهبًا من أجل كل نفسٍ تتعثر.

من يسلك ببرّ المسيح لا يضطرب ولا يخاف، إنما الخوف هو سمة غير المؤمنين الأشرار؛ أما المؤمن فإن اضطرب إنما في شركة آلام مع الضعفاء.

من أجل بولس أنقذ الله كل من في السفينة 276 شخصًا، ومن أجل لوط لم يقلب الله مدينة صوغر (تك 19: 21)، ولو وجد عشرة رجال أبرار لما حرق الله سدوم (تك 18: 32).

لو أن بولس ألقى بنفسه وسط الأشرار بإرادته لهلك معهم، لكن إذ وُجد بينهم من أجل الخدمة، ليس عن تهاونٍ أو تراخٍ أو شهواتٍ خاطئة، قام الرب بإنقاذهم بسببه. صار بركة لهم، إذ وهبه الله إياهم أو أعطاه إنقاذهم عطية إلهية مقدمة له شخصيًا.

v إن كان هنا وُجدت سفينة في خطر، تعاني من الغرق، وقد خلص المساجين من أجل بولس، تأملوا ماذا يكون الأمر بالنسبة للشخص القديس في بيته.

فإنه كثيرة هي التجارب التي تهاجمنا، تجارب أكثر خطورة من تجارب الطبيعة، لكن الله قادر أن يهبنا أن نخلص، إن كنا فقط نطيع القديسين كما فعل الذين في السفينة، إن كنا نتمم ما يأمروننا به. فإنهم ليس فقط خلصوا، وإنما ساهموا في إيمان آخرين.

بينما كان القديس في قيودٍ، صنع أعمالاً أعظم ممن هم في حرية.

انظروا فإن الحال هنا هو هكذا: قائد المائة الحر كان في حاجة إلى سجينه المقيد، وربان السفينة الماهر كان في عوزٍ إلى من لم يكن ربانًا، بل بالأحرى كان هو الربان الحقيقي.

فإنه قاد كربان سفينة ليست من هذا النوع (أرضية) بل كنيسة العالم كله، متعلمًا من ذاك الذي هو رب البحر أيضًا. قادها لا بفنٍ بشريٍ بل بحكمة الروح. في هذه السفينة يوجد تحطيم خطير للسفن، أمواج كثيرة، أرواح شر “من خارج خصومات، من داخل مخاوف” (2 كو 7: 5)؛ فكان هو الربان الحقيقي.

v قوله “قد وهبك الله جميع المسافرين معك” لم ينطق بها عن تشامخ، وإنما رغبة في كسب الذين يبحرون في السفينة. فإنه كمن يقول هكذا أنهم لا يشعروا بأنهم مرتبطون به بل يصدقون ما يقوله. “وهبك لله“، كأنه يقول إنهم مستحقون الموت، إذ لم يريدوا أن يصغوا إليك؛ على أي الأحوال هذا يتحقق كمنحةٍ لك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“لذلك سُروا أيها الرجال،

لأني أومن باللَّه أنه يكون هكذا كما قيل لي”. [25]

آمن الرسول بأن ما يمارسه إنما هو عمل الله نفسه، لذلك تيقن أنه حتمًا سيقف أمام قيصر، لا ليدافع عن نفسه وينال براءة، بل لكي يشهد لمخلصه.

“ولكن لابد أن نقع على جزيرة”. [26]

“فلما كانت الليلة الرابعة عشرة،

ونحن نُحمل تائهين في بحر أدريّا،

ظن النوتيّة نحو نصف الليل أنهم اقتربوا إلى بر”. [27]

بعد 14 يومًا وسط العاصفة يتوقعون فيها الموت، صاروا الآن بالقرب من البر، صاروا تائهين في بحر الأدرياتيك وهو جزء من البحر المتوسط. ويرى البعض إن تعبير “بحر الأدريا” لا يشير إلى بحر الإدرياتيك على وجه الخصوص، وإنما إلى الجزء الشرقي كله للبحر المتوسط، من جهة إيطاليا واليونان وإفريقيا، يضم فيه بحر الإدرياتيك.

“فقاسوا ووجدوا عشرين قامة،

ولمّا مضوا قليلاً،

قاسوا أيضًا، فوجدوا خمس عشرة قامة”. [28]

القامة عبارة عن 6 أقدام، يقيسها البعض من الإصبع الذي في منتصف اليد إلى الإصبع الذي في منتصف اليد الأخرى.

“وإذ كانوا يخافون أن يقعوا على مواضع صعبة،

رموا من المؤخر أربع مراسٍ،

وكانوا يطلبون أن يصير النهار”. [29]

إلقاء أربع مراسٍ يشير إلى مدى عنف العاصفة حتى لا تتحرك السفينة. وأما طلبهم أن يصير النهار فلكي يستطيعوا أن يميزوا النور أنهم بالفعل قد صاروا أكثر أمانًا.

“ولمّا كان النوتيّة يطلبون أن يهربوا من السفينة،

وأنزلوا القارب إلى البحر،

بعلّة أنهم مزمعون أن يمدّوا مراسي من المقدم”. [30]

فضّل بعض النوتية أن يستقلوا بقارب ويهربوا إلى الشاطئ، عن أن تصطدم السفينة بصخرة ما فيهلكون. فقد تظاهروا بأنهم يستقلون بالقارب ليمدوا المراسي.

“قال بولس لقائد المائة والعسكر،

إن لم يبق هؤلاء في السفينة،

فأنتم لا تقدرون أن تنجوا”. [31]

كشف الرسول بولس خطتهم لقائد المائة والعسكر، فقاموا بقطع الحبال ليغرق القارب، ويبقى البحارة في السفينة، حتى يبحرون بها إلى الشاطئ.

غالبًا ما كنت السفينة حكومية، وكان لقائد المائة الكلمة الأولى في إدارة السفينة.

مع أن الرسول بولس قد نال وعدًا إلهيًا بأنه قد وهبت له كل الأنفس التي في السفينة، فإن هذا لا يعني تراخيه في العمل، إنما يلتزم أن يفكر ويتحرك، مستخدمًا كل وسيلة ممكنة للنجاة. فالوعود الإلهية تتحقق حتمًا في الذين يتجاوبون عمليًا مع العمل الإلهي، ويبذلون كل الجهد للسلوك حسب مسرة الله. فالخلاص المجاني لا يعني تهاون الإنسان أو تراخيه وعدم جديته، لهذا يحدثنا الرسول بولس عن “الإيمان العامل بالمحبة”.

v أراد البحارة أن يهربوا، إذ لم يكن لهم إيمان فيما قاله، لكن قائد المائة صدق بولس، إذ قال إنهم إن هربوا “لا تقدرون أن تنجوا“. قال هذا لكي يمنعهم من الهروب ولا تسقط النبوة أرضًا. انظروا كيف كما لو كان في كنيسة يعلمهم بسلوك بولس الهادئ، كيف خلصهم من وسط المخاطر. إنها عناية الله المدبرة أنهم لم يصدقوا بولس حتى بالأحداث الواقعية يصدقونه. هكذا كان الحال.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“حينئذ قطع العسكر حبال القارب،

وتركوه يسقط”. [32]

إذ قطع العسكر الحبال التي تربط القارب بالسفينة، وترك القارب يسقط ألزم البحارة أن يبقوا في السفينة، وأن يعملوا لإبحار السفينة إلى الشاطئ.

“وحتى قارب أن يصير النهار،

كان بولس يطلب إلى الجميع أن يتناولوا طعامًا قائلاً:

هذا هو اليوم الرابع عشر وأنتم منتظرون،

لا تزالون صائمين، ولم تأخذوا شيئا”. [33]

لم يعد بولس بالأسير الذي يئن من القيود، لكنه صار في نظر الكل الربان الحقيقي للسفينة، والمشير الحكيم، والأب المترفق بأولاده، وراعي نفوسهم، والشفيع عنهم أمام الله، والمهتم حتى بأكلهم وشربهم!

إذ أشرق النور فاستطاعوا أن يدركوا حقيقة الموقف، نصح بولس البحارة والمسافرين أن يكفوا عن هذا الصوم الإلزامي، وأن يتناولوا الطعام حتى يتقووا به. لا يعني هذا أنهم لم يأكلوا طوال الأسبوعين، وإنما إذ كانوا في قلقٍ شديدٍ يترقبون الموت لم يشغلهم الأكل والشرب، إن آكل أحدهم فليس خلال وجبة معينة بل يأكل قليل القليل أثناء ارتباكه.

“لذلك التمس منكم أن تتناولوا طعامًا،

لأن هذا يكون مفيدًا لنجاتكم،

لأنه لا تسقط شعرة من رأس واحدٍ منكم”. [34]

هذا تعبير عن عدم حدوث أي ضرر بل تبقى حياتهم محفوظة في آمان.

قال هذا أخذ خبزًا وشكر اللَّه أمام الجميع،

وكسر وابتدأ يأكل. [35]

لم يخجل بولس الرسول وهو في وسط الوثنيين والمسجونين والجند وقائد المائة من أن يشكر الله قبل أن يمد يده للطعام، معبرًا عن امتنانه بعمل الله معه ومعهم.

v لاحظوا أن تقديم شكره بعد كل ما قد حدث قواهم، لأن هذا أظهر فكرًا يقينيًا أنهم سيخلصون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فصار الجميع مسرورين،

وأخذوا هم أيضًا طعامًا”. [36]

تصرفات الرسول ويقينه بعمل الله أشع فرحًا على الجميع من نوتيه وحراس ومسجونين ومسافرين.

“وكنا في السفينة جميع الأنفس،

مائتين وستة وسبعين”. [37]

إذ أكلوا وشبعوا صارت فيهم قوة لطرح الحنطة في البحر، إذ لم يكن هناك أي أمل لإنقاذ الشحن أو البضائع. بإلقاء البضائع تصير السفينة خفيفة، ويمكنها أن تعبر في مياه ضحلة دون خطر من أن تغرس في الرمال تحت المياه. بهذا يمكن أن يبلغوا بالسفينة إلى الشاطئ.

[في رده على فيجيلانتيوس الذي أنكر إمكانية صلاة الراقدين عن المجاهدين معتمدًا على العبارة: “كلب حي أفضل من أسد ميت”.]

v إن كان الرسل والشهداء وهم بعد في الجسد يمكنهم أن يصلوا عن آخرين، وهم لا يزالوا في قلق من أجل أنفسهم، كم بالأكثر أن يفعلوا هذا عندما ينالوا أكاليلهم وهم غالبون ومنتصرون؟ موسى، رجل واحد، غالبًا ما نال صلحًا من الله عن 600 ألفًا رجلاً مسلحين (خر 32: 30 الخ). واسطفانوس الذي تبع الرب وأول شهيد مسيحي طلب صفحًا عن مضطهديه، فهل عندما دخلا إلى حياتهما مع المسيح يكونا أقل قوة مما كانا عليه؟ يقول الرسول بولس أن 276 نفسًا قد وُهبت إليه الذين كانوا في السفينة (أع 27: 37)، فهل بعد انحلال (جسده) وقد صار مع المسيح يغلق فمه، ويصير عاجزًا عن أن ينطق بكلمة عن الذين في كل العالم يؤمنون بإنجيله؟ هل فيجيلانتيوس الكلب الحي أفضل من بولس الأسد الميت؟… الحق أن القديسين لا يدعون أمواتًا، بل يُقال عنهم أنهم راقدون.

القديس جيروم

“ولمّا شبعوا من الطعام،

طفقوا يخففون السفينة،

طارحين الحنطة في البحر”. [38]

إذ شبعوا ألقوا ما تبقى من الحنطة في البحر، فإنها لم تعد تصلح للأكل ولا للتجارة، فقد غرقت من المياه.

“ولمّا صار النهار،

لم يكونوا يعرفون الأرض،

ولكنهم أبصروا خليجًا له شاطئ،

فأجمعوا أن يدفعوا إليه السفينة إن أمكنهم”. [39]

كانوا بلا شك بلا معرفة لجغرافية الموضع، ليس لهم إدراك للشاطئ ولا للجزيرة، لكنهم رأوا خليجًا له شاطئ يمكن أن ترسي السفينة عنده، إذ اطمأنوا أنه لا توجد صخور يمكن أن تحطم السفينة.

“فلما نزعوا المراسي،

تاركين إيّاها في البحر،

وحلّوا رُبط الدفّة أيضًا،

رفعوا قلعًا للريح الهابّة،

وأقبلوا إلى الشاطئ”. [40]

رفعوا المراسي الأربع التي ألقوها في البحر [29]، وقد جاء التعبير في اليونانية يحمل احتمال نزعها عن السفينة بقطع سلاسلها تاركين المراسي مغروسة في أعماق المياه. كما حلوا ربط الدفة حتى يمكنهم توجيه السفينة نحو الشاطئ.

جاءت كلمة “الدفة” هنا في اليونانية في صيغة الجمع مما يبدو أنه كان للسفينة أكثر من دفة.

ترجم البعض الكلمة اليونانية المترجمة هنا “قلعًا” بأنه سارية، والبعض “شراعا” أو “الصارية الأمامية” أو “شراع السارية”.

“وإذ وقعوا على موضع بين بحرين،

شططوا السفينة،

فارتكز المقدم ولبث لا يتحرك،

وأمّا المؤخر، فكان ينحل من عنف الأمواج”. [41]

يرى البعض أن مقدم السفينة ارتطم بلسانٍ بحريٍ رمليٍ والمياه من الجانبين كأنها بين بحرين، وكانت الأمواج بعنفها تحطم مؤخر السفينة.

v قد يسأل أحد: لماذا لم ينقذ السفينة؟ لكي يدركوا مدى الخطورة الشديدة التي خلصوا منها، وأن الأمر كله لا يعتمد على عونٍ إنسانٍ، بل على يد الله التي خلصتهم دون السفينة. هكذا وإن كان الأبرار يتعرضون للتجربة، ولو في البحر، في الأعماق، لكن لن يحل بهم أمر مخيف، وإنما بالأحرى يخلصون ومعهم آخرون.

القديس يوحنا الذهبي الفم

“فكان رأي العسكر أن يقتلوا الأسرى،

لئلاّ يسبح أحد منهم، فيهرب”. [42]

حسب النظام الروماني كان الأسرى يُقتلون ولا يُتركون لئلا يهرب أحد منهم، فيتعرض العسكر للاتهام بالإهمال أو الاختلاس مع الأسرى. كان في رأي العسكر أن يُقتل الأسري فيحسبون كمن ماتوا بالغرق خير لهم من أن يهرب أحد، فيُحاكمون بجريمة التواطؤ. هكذا بينما يفيض الله بمراحمه على الجميع، وينقذ الحراس من موتٍ محقق إذا بهم يُظهرون كل عنفٍ نحو المسجونين الذين في أعينهم لا يساوون شيئًا.

“ولكن قائد المائة إذ كان يريد أن يخلص بولس منعهم من هذا الرأي،

وأمر أن القادرين على السباحة يرمون أنفسهم أولاً،

فيخرجون إلى البر”. [43]

كان قائد المائة لطيفًا للغاية في تعامله مع الأسير بولس [3]. وإذ تلامس مع حكمته وسلوكه المقدس أراد أن ينقذ حياته مهما تكن التكلفة. من أجل بولس البار أبقى على حياة كل الأسرى.

“والباقين بعضهم على ألواح،

وبعضهم على قطع من السفينة،

فهكذا حدث أن الجميع نجوا إلى البر”. [44]

تحقق الوعد الإلهي للقديس بولس [22]، فما حدث هو خلال عناية الله الفائقة.

من وحي أع 27

سلمنا فصرنا نحمل!

v صعد الرسول بين الأسرى إلى السفينة.

وكان هو القائد الخفي،

احتل آخر موضع، وهو الأول في عيني الله.

v أعطاه اللَّه نعمة في عيني القائد.

فسمح له أن يذهب إلى أصدقائه في صيدا.

v بروح الرب سبق أن كشف الرسول لهم عن المخاطر,

لكنهم حسبوه أسيرًا لا خبرة له بالبحر,

v هاجت الرياح وأشدت العاصفة.

انسحق الرسول أمام اللَّه،

باسم من معه, لوقا وارسترخس, كما باسم الوثنيين:

القائد والجند والمساجين والمسافرين والنوتية،

سلم حياة الكل في يدي الضباط الكل!

v لم يغضب ولا ثار لأنهم لم يسمعوا له.

لكنه تذلل أمام الله من أجلهم.

إنه بالحق أب يرى في الكل أبناء أعزاء جدًا لديه.

تألم إذ فقد الكل كل رجاء لهم في النجاة,

أما هو فوجد في المسيح، قائد السفينة الحقيقية، مصدر رجاء مفرح.

v أرسل اللَّه له ملاكه,

وبشره بأن وهبه كل الذين في السفينة,

لن يهلك منهم أحد قط!

وهبه الجميع لأنه محب للكل!

وأعطى نجاة لهم، حتى يقف بولس أمام قيصر,

ليشهد للإنجيل في القصر الإمبراطوري!

v بعث روح الرجاء والفرح في وسط العاصفة المرة,

أخذ خبزًا وشكر الله أمام الجميع,

وسألهم أن يأكلوا ببهجة قلب!

إنه كسيده مصدر فرح للكل!

فاصل

سفر أعمال الرسل : 123456789101112131415161718192021222324  – 25262728

تفسير سفر أعمال الرسل : مقدمة1 23456789101112131415161718192021222324 25262728

زر الذهاب إلى الأعلى