تفسير إنجيل القديس يوحنا 16 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح السادس عشر 

 

آية (1): “قد كلمتكم بهذا لكي لا تعثروا.”

قد كلمتكم بهذا = [1] أنه سيكون هناك ضيقات [2] لكنه سيرسل لهم الروح القدس [3] يسلكوا بمحبة فالمسيح لم يخدع أحد، فطريق المسيح فيه ضيق، ولكن تعزيات الروح القدس تساند. هذا الكلام ليس موجهًا للتلاميذ فقط بل لكل الكنيسة عبر كل العصور. المسيح في هذه الآية والآيات التالية يكمل حديثه عن اضطهاد العالم لتلاميذه ولكنيسته والذي سيبدأ بأن يخرج اليهود التلاميذ من المجمع، ثم يصل الأمر للقتل، بل سيأخذ هذا الاضطهاد شكل الغيرة الدينية وبعد هذا سيأتي الاضطهاد الروماني ولن ينتهي اضطهاد العالم للكنيسة، والاضطهاد هو كل مقاومة من العالم ضد الإيمان. وهناك اضطهادات من نوع حديث كأن يجتمع الأشرار ليدينوا إنسانًا طاهرًا بحجة أنه منغلق ومقفول عن المجتمع ولا يساير روح العصر.

ولكن السيد المسيح يخبر تلاميذه ليطمئنهم أن الروح القدس الذي سيرسله لهم سيشهد في داخلهم بمجد المسيح الذي ينتظرهم وسيعطيهم ما يقولونه إذا وقفوا أمام مجامع أو ولاة. بل سيعزيهم ويشددهم. قد كلمتكم بهذا= كلمهم عن مفارقته لهم وثباتهم فيه وإضطهاد العالم وإرسال الروح وإلتزامهم بقانون المحبة. لكي لا تعثروا= العثرة تعني الارتداد عن المسيح أو يتوقفوا عن الكرازة إذا واجههم إضطهاد ورفض من العالم وبالذات من إخوتهم اليهود. والمسيح أخبرهم بالإضطهاد الذي سيواجهونه حتى لا يفاجأوا به فيتشككوا في حماية الله لهم،أو يتصوروا أن الله قد تخلى عنهم ، خاصة أن لهم مواعيد إرسال الروح وإستجابة الآب لصلواتهم إن حفظوا الوصايا وبالتالي تعزيات ومساندة الروح لهم إذا ثبتوا. والعكس فالسيد أخبرهم أيضا أن الإنكار سيؤدي لفقدان التعزية وفقدان السلام على الأرض وخسارة حياتهم الأبدية (مت33:10).

تعثروا = العثرة هي أن يتوقف إنسان عن السير حين يصطدم بحجر في طريقه. والمقصود بالعثرة هنا الشك في مساندة المسيح لهم أو تخليه عنهم أو كراهيتهم لبعضهم البعض، فحينما تزداد الضيقات يتضايق الناس ممن حولهم، بل يمكن أن يشوا بعضهم ببعض (يع8:5-9)

 

آية (2): “سيخرجونكم من المجامع بل تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله.”

قارن مع (يو22:9 + 42:12-43). ومن يخرجونه من المجمع يُحرم من الصلاة وكل الحقوق الدينية والسياسية والاحتفالات وعقوبة مدنية فلا أحد يشتري أو يبيع منه. بل أن الموضوع سيتطور إلى القتل= كل من يقتلكم= تشير لكثرة المضطهدين الذين يريدون قتلهم. وقطعًا سيكون مصاحبًا لهذا اضطهاد على كافة المستويات. بل يظنون أنهم يقدمونهم كذبائح لإرضاء اللهيقدم خدمة لله= فكلمة خدمة تشير للعبادة الطقسية. وهكذا صنعوا بإسطفانوس بل قيل في كتاب المدراش اليهودي “أن من قتل إنسان شرير مثل المسيحيين فكأنه قدَّم ذبيحة لله وإستندوا في هذا إلى (عد1:25-11) حينما قتل فينحاس الرجل الزاني فرد سخط الله عن الجماعة” ولنرى ماذا صنع بولس قبل إيمانه بالمسيحيين (أع9:26-11).

 

آية (3): “وسيفعلون هذا بكم لأنهم لم يعرفوا الآب ولا عرفوني.”

راجع (1تي13:1) فمن يفعل هذا يجهل حقيقة الآب والابن. هؤلاء لا يعرفون سوى أنفسهم، ولا يعرفون الله، يحبون ما عندهم سواء ذواتهم أو عقيدتهم التي يدافعون عنها عن جهل. ولو عرفوا الله لأحبوا أعدائهم وليس ذواتهم فالله محبة. ومن يعرف الآب سيعرف ابنه، فالابن هو صورة الآب ورسم جوهره (عب3:1)

 

آية (4): “لكني قد كلمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم ولم أقل لكم من البداية  لأني كنت معكم.”

لكني= لم أكن أريد أن أحزنكم بهذه الأخبار الآن، ولكن أنا مضطر حتى إذا جاءت الساعة= واضطهدوكم لا تفاجأوا. وإذا فهمتم أني عالم من البداية ستفهمون أنني مسيطر على الأمور فلا تخافوا. ولم أقل لكم من البداية= لم يقل لهم عن هذا الاضطهاد لأنه كان معهم يحفظهم من الذئاب ويشجعهم حين يخافون ويقويهم حين يضعفون ويخفف عنهم كل ضيق ويتلقي هو الهجمات بدلًا منهم ليحفظهم منها. المسيح أراهم قوته وسلطانه وهو معهم حتى يثقوا فيه حتى وسط الاضطهادات الآتية بعد صعوده.  والمسيح استمر في هذا إلى أن قبل الصليب عنهم. ولكن الآن هو ماضٍ إلى الآب ولن يروه. ولكنه لن يتركهم يتامى فسيرسل لهم الروح القدس الذي سيعطيهم القوة ويشجعهم ويعزيهم. وعليهم [1] أن يتعلموا الاستجابة لصوته [2] أن يجاهدوا. ونلاحظ أن في (مت17:10، 21، 28) سبق المسيح وأخبرهم عن اضطهاد العالم فلماذا يقول المسيح لم أقل لكم من البداية؟ هنا يوجد احتمال من اثنين:-

أ‌-     الأهوال التي كلمهم عنها في (مت17:10، 21، 28) ذكرها المسيح في ذلك الوقت بطريقة مخففة حتى لا يصدمهم في بداية الطريق، ولكن متى حين كتب في (ص10) عن الأهوال دمج كل أقوال المسيح عن الأهوال سواء ما قاله في بداية الخدمة أو نهايتها، فالإنجيليون ليسوا مؤرخين ولا يهتمون بالتأريخ، بل هم يقدمون فكرًا، أي يريدون لفكرة معينة أن تصل للقارئ.

ب‌-                   أو أن الجديد هو عمل الروح القدس معهم بدلًا من عمل المسيح الذي سيفارقهم.

 

آية (5): “وأما الآن فأنا ماض إليَّ الذي أرسلني وليس أحد منكم يسألني أين تمضي.”

ليس أحد منكم يسألني= هذه لها عدة احتمالات:-

  1. المسيح يعاتبهم لأنهم انشغلوا بما سيحدث لهم من آلام ولم يسألوه أين يمضي، هم سألوه بمفهوم خاطئ كان سؤالهم عن مركزهم الأرضي حين يملك بينما هو ذاهب ليعد لهم مكانًا سمائيًا. فلنتعلم ألاّ ننشغل بآلام أو أمجاد هذا العالم عن المجد المعد لنا. فالمجد السمائي هو التعزية الحقيقية وسط الألم.
  2. أو يكون المعنى لا تسألونني إلى أين أنا ذاهب فأنا لا أريد الكشف عما سيحدث وأنكم لن تفهموا الآن. ولكن الروح القدس سيعلمكم كل شيء ويشرح كل غموض. وهم سبق وسألوه (يو36:13 + 5:14) ولكن بأسلوب مختلف عما يقصده المسيح هنا، بل هم كانوا يسألونه ليثنوه عن طريق الصليب.
  3. التلاميذ إذ شعروا أن المسيح سيفارقهم حزنوا بشدة، ولم يفكروا في الحال التي سيكون فيها المسيح. هم سألوا عن المكان الذي سيذهب إليه لكن لم يسألوا عن معنى الذهاب للآب. ولو فهموا لفرحوا كما قال لهم من قبل.

 

آية (6): “لكن لأني قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم.”

لقد تعودوا أن يفرحوا في وجودهم معه ووجوده وسطهم. والآن يحزنون بسبب فراقه لهم. ولكنهم لم يفهموا أن ذهابه للآب يعني أفراحًا وأمجادًا مضاعفة.

 

آية (7): “لكني أقول لكم الحق أنه خير لكم أن انطلق لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزي ولكن أن ذهبت أرسله إليكم.”

هم عرفوا المسيح حسب الجسد ولكن بالروح القدس سيعرفون حقيقة المسيح وعمله. ومن يعرف المسيح حسب الجسد لن يعرفه ولن يقبله (2كو16:5). وجود المسيح على الأرض يجعلنا نراه في صورة جسد ضعيف وصعوده يجعلنا بالروح القدس نراه في مجده وقدرته. ولو استمر المسيح معنا بالجسد فهناك احتمالين:-

1)  أن يستمر بجسده غير الممجد وهنا يكون:-

أ‌-          الفداء لم يتم، فالفداء يتم بدخول المسيح بجسده للسماء وجلوسه عن يمين الآب.

ب‌- نقع في حيز المحدود، والمسيح بإمكانياته غير محدود، ولكن طالما نرى المسيح بجسد محدد فلن نتصور لا محدوديته. أما الروح فهو يعطينا صورة ورؤية واضحة عن المسيح الإله غير المحدود.

2)   أن يظهر لنا بجسده الممجد وهنا:-

أ‌-          من يحتمل صورة مجده (رؤ17:1).

ب‌- لن يكون اختيارنا للمسيح حرًا، فمن يرى صورة المجد ويرفضه. وما يفرح قلب الله الإيمان وهو الإيقان بأمور لا ترى. حتى لا أكون مضطر لأن أقبله مجبرًا.

وهم الآن حزانى لأن المسيح سيفارقهم بالجسد ولكن الأفضل لهم أن يأتي الروح القدس ليشهد لهم عن حقيقة المسيح. والروح القدس لن يأتي إن لم تكمل آلام المسيح وفدائه بالصلب والموت ثم بالقيامة والصعود، وبالصعود يتم الفداء فيرسل الروح القدس ليعمل فيهم وبهم. فبدخول المسيح بدم نفسه للأقداس السماوية يتم الصلح بين الله والإنسان (عب12:9) فيأتي الروح ليسكن في الإنسان فالروح لا يسكن عند أعداء. وهذه الآية نجد لها شرحًا في (يو39:7). وحينما نقارن بين (مت11:7)، (لو13:11) نفهم أن الروح القدس هو الخيرات بل هو الخير الأعظم الذي يعطيه الآب لنا. لذلك يقول المسيح خيرٌ لكم فهو بانطلاقه سيرسل الخير الأعظم. ولنفهم أننا حتى وإن لم نفهم مشيئة الله فما يريده الله هو دائمًا الخير لنا. والروح القدس هو الذي يسكب محبة الله في قلوبنا فنفرح.

ومحبة الله في قلوبنا ستحولها إلى قلوب لحمية تطيع الوصايا حتى لا تغضب الله الذي تحبه (يو14 : 23) . وبالروح القدس نولد من الماء والروح متحدين بالمسيح ويكون لنا حياته (رو6)، والروح القدس في سر الميرون يثبتنا في المسيح فتثبت فينا حياة المسيح الأبدية (2كو1 : 21 + 22) . والروح القدس هو الذي يغير طبيعتنا لنصير خليقة جديدة لها صورة المسيح (2كو5 : 17 + غل4 : 19) .  

أقول لكم الحق= الحق هو أن صلب المسيح هو لحساب التلاميذ والكنيسة. لأن بعد الصلب قيامة وصعود. وانطلاق المسيح فيه كمال الفداء وعمل الفداء وفيه وبه التبني لنا. ودخول المسيح إلى المجد يحقق لنا الحب الأبوي والروح يأخذ مماّ للمسيح ويخبرنا، فهو سيخبرنا عن مجده الذي سيصير لنا ويشهد لنا بأننا أبناء، لنا حق الوراثة (يو21:17 + رو16:8-17) فحزن التلاميذ كان بسبب تعلقهم الجسدي بالمسيح ولكن انطلاق المسيح هو المستقبل المجيد للكنيسة. ويكفينا أن نراه الآن بالإيمان وبما يعلنه الروح القدس في قلوبنا (أف17:3 + 1كو9:2-12) الفداء يكمل بتمجيد جسد المسيح أي صعوده وجلوسه عن يمين الآب. والمسيح بذهابه مجد الطبيعة البشرية في جسده، فطبيعة البشر صارت في عرش الله. ولكي ندخل نفس المكان يرسل لنا الروح القدس ليعيننا. وكيف يعيننا؟ هذا موضوع الآيات التالية.. بأنه يبكت على خطية وبر ودينونة. والروح يعطي رؤية حقيقية للمسيح غير التي رآها التلاميذ بالجسد وهذا أفضل. وهو يمكث للأبد والسيد طوب من آمن ولم يرى. وهذا الإيمان يعمله الروح القدس.

 

الآيات (8-11): “ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم   لا يؤمنون بي. وأما على بر فلاني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضًا. وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين.”

في الآية السابقة سمعنا أن المسيح سيرسل الروح القدس للكنيسة، وبهذا يكون المسيح قد تمم كل ما يلزم لتجديد الخليقة. فبدمه تم الصلح مع الآب وغفرت الخطايا، وأعطانا حياته نخلص بها حينما نسلك في بره “لأنه جعل الذي لم يعرف خطية، خطية لاجلنا. لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5 : 17) . وأرسل الروح القدس ليثبتنا في المسيح فتكون “لنا الحياة هي المسيح” (فى1 : 21) وبهذا يستطيع كل من يريد أن يحيا في بر أن يسلك في البر، هو بر المسيح الساكن فيه، وبهذا يخلص. أما من يرفض المسيح سالكا في طريق شهواته، فلا توجد وسيلة أخرى أمامه :- 1) لغفران خطاياه.  2) ليسلك في البر فيخلص. وبهذا سيدان مع الشيطان الذي سار وراءه تاركا المسيح. فمن يترك المسيح المخلص لن يجد سوى المسيح الديان.

بعض الترجمات الإنجليزية ترجمت كلمة يبكت كالآتي [1] يوبخ     [2] يدين     [3] يقنع . (REPROVE  /   CONVICT  / CONVINCE) فالكلمة اليونانية المُستخدمة تحمل المعاني الثلاثة.

يبكت= هذه الكلمة ترجمتها تعني التوضيح للشخص بشأن خطيئته ودعوته للتوبة وقد يكون هذا التوبيخ سرًا (كما جاءت الكلمة في مت15:18) لمن لا يقاوم بعناد وقد يكون هذا التوبيخ علنًا (كما جاءت الكلمة في تي9:1) والروح القدس يستخدم الكتاب المقدس والوعظ والتعليم والإرشاد والاعتراف والعمل الداخلي، كل هذا سرًا. فإذا لم يأتي كل هذا بنتيجة يلجأ الروح القدس لمن نسمع منه أخطاءنا علانية لعلنا نندم ونتوب. إذًا عمل الروح القدس أن يوضح الخطية للإنسان بهدف إقناعه ببشاعة نهاية طريقها “اقنعتني يا رب فاقتنعت” (أر7:20). وبأن يتركها. والروح يقنع بأن طريق الله كله فرح لا يقارن بلذة الخطية. فهي نوع من التلمذة التعليمية للتهذيب وهذا المعنى نجده في (2تي16:3). فكلمة يبكت تشير أيضًا لمن يغلب بالحجة حتى يسكت. وهذا التبكيت يؤدي لحياة لمن لا يقاوم ويؤدي إلى دينونة لمن يقاوم “فهو رائحة حياة لحياة ورائحة (دينونة) وموت لموت (2كو16:2). ومَنْ يرفض المسيح الفادى المخلص سيجد المسيح الديان.

والروح القدس أعظم من الضمير. فالضمير يوبخ الإنسان لو أخطأ لكنه قد يقوده لليأس، أمّا الروح القدس فيوبخ فاتحًا باب الرجاء (هذا هو الفارق بين يهوذا وبطرس). فالروح القدس الذي يعزي هو الذي يبكت فتبكيته لا يؤدي إلى اليأس بل للتوبة والبر والسلام والتعزية لمن يطيعه والعكس يكون رائحة موت لموت. وهذا ما حدث يوم الخمسين فهناك من آمن بفرح وهناك من إستهزأوا (أع13:2-14) والضمير أيضًا قد يتغير بحسب البيئة التي يحيا الإنسان فيها فيقبل الخطية على أنها شيء عادي، وقد يمرض وهذا ما يسمى بالوسواس.

على خطية…. فلأنهم لا يؤمنون بي.

الروح القدس يبكت الإنسان على خطاياه، فقصد الرب أن يعطي الإنسان شركة مع المسيح، وكل من يؤمن بالمسيح وتكون له هذه الشركة يرفع المسيح عنه خطاياه (فالمسيح هو الشفيع الكفارى الوحيد ودمه يغطى كل من يثبت فيه). وهو أيضًا يعطى معونة للخاطئ ليتخلص من خطيته (رو8 : 26). نحن متنا مع المسيح في المعمودية وكل من يؤمن يكون له قوة للموت عن شهواته وأهوائه. وكل من يؤمن حتى لو أخطأ فدم المسيح يطهره من كل خطية. (1يو1 : 7). ولا طريق للتطهير من الخطية سوى دم المسيح . لذلك فكل من لا يؤمن يرفض هذا القصد وبذلك يقع تحت غضب الآب ويحرم نفسه من النعمة الوحيدة القادرة أن تحفظه من السقوط في الخطية ويحرم نفسه من نعمة الدم الغافر. فتبكيت الروح القدس يشعر الإنسان بجرم خطيته وقساوتها وكيف أنها رهيبة في نظر السماء ومن يستجيب ويقدم توبة بإخلاص ويرجع سيجد المعونة ويجد الغفران. ومن يرفض ويقاوم الروح سيجلب على نفسه اللعنة والدينونة. وطبعاً المقصود بالإيمان هو الإيمان الحي الذي له ثمار واضحة في حياة الإنسان، الإيمان العامل بمحبة. والروح القدس يبكت العالم على الخطية ليس بحسب مفهوم العالم أو بحسب مفهوم اليهود. فاليهود ظنوا أن الخطية قاصرة على تعدي الناموس وكسر السبت لذلك حكموا على المسيح أنه خاطئ (24:9) وأما العالم فكل له تصوره عن الخطأ والصواب. لذلك جاءت كلمة خطية غير معرفة لأن العالم لم يكن يعرف تمامًاً ما هي الخطية. والآن يشرحها المسيح بأنها عدم الإيمان به فهو وحده الذي يرفع الخطية (رؤ14:7) ويعطي معونة لنتخلص منها. لغويا كلمة خطية تشير لمن يخطئ الهدف فلا يكافأ. لذلك يقول بولس الرسول “الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله” (رو3 : 23). ووصايا الناموس كانت الهدف في العهد القديم، لذلك قال الله “التي إذا فعلها الإنسان يحيا بها” (لا18 : 5). وفشل الجميع في ذلك فماتوا وهلكوا. بل حتى تلاميذ المسيح إعترفوا بأن الوصايا ثقيلة “فالان لماذا تجربون الله بوضع نير على عنق التلاميذ لم يستطع اباؤنا ولا نحن ان نحمله” (أع15 : 10). أما في العهد الجديد فلقد صار المسيح هو الهدف فهو يحملنا فيه إلى حضن الآب في المجد فنتمجد. ولا يوجد طريق للآب إلا في المسيح “قال له يسوع: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد ياتي إلى الآب إلا بي” (يو14 : 6). لذلك يطلب المسيح من المؤمنين “اثبتوا فيَّ وأنا فيكم” (يو15 : 4).

بل أن كل خطية هي نوع من عدم الإيمان بالمسيح. فالسارق لا يؤمن بأن المسيح قادر أن يسدد احتياجاته والذي يشتهي لا يؤمن أن المسيح قادر أن يشبع شهواته. والذي يخطئ عموماً لا يؤمن أن المسيح يراه وسيعاقب (تك9:39). ومن يؤمن بالحياة الأبدية كيف يتصارع على المادة. ومن يؤمن بصلاح الله كيف يتهم الله بالقسوة إن حدثت له تجربة.. إلخ. أما من يؤمن بالمسيح، فالمسيح يملك على قلبه عوضاً عن الخطية (رو14:6). ومن لا يؤمن بالمسيح فهو لا يؤمن بالله ولا يعرفه فالمسيح هو ابن الله (يو19:8). إذاً خطية عدم الإيمان بالمسيح هي أصلاً خطية عدم إيمان بالله أو عدم معرفة بالله.

لو استخدمت يدي في السرقة يبكتني الروح القدس حتى أكف عن إستخدامها في السرقة (تبكيت على خطية) ثم يبدأ يبكتني على بر، أي لماذا لا أستخدمها في عمل الخير.

وعلى بر.. .. فلأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني أيضاً

ماذا كان مفهوم البر قبل المسيح؟ بحسب المفهوم اليهودي كان البر في الالتزام بالناموس. لكننا نجد شاول الطرسوسي يحكم بقتل إسطفانوس ظلماً وهو بريء بالرغم أن شاول كان ضليعاً في الناموس. والعيب لم يكن في الناموس بل فيمن ينفذ الناموس. وأمّا العالم فكان غارقاً في عباداته الوثنية وفجوره وزناه. فالمسيح فضح بر اليهود الكاذب إذ صلبوه، وفضح فساد القانون الروماني، إذ حكم عليه بالموت. وبعد المسيح فقد تغير مفهوم البر. فالمسيح وحده هو البار والذي ظهر بره في ذهابه إلى أبيه وجلوسه عن يمينه، وقبول الآب له وأنه لن يعود يظهر على الأرض، فهو جالس عن يمين الآب لذلك لن نراه، فهو في مجد السماء. ولكن المسيح لم يكن محتاجاً أن يظهر بره، بل هو يظهره ليبررني أي لأصنع البر بحياته التي في، المسيح يعطيني حياته فأعمل البر، فأخلص بحياته (رو10:5 + غل20:2 + في21:1). ومن يفعل البر يدخل إلى المكان الذي فيه المسيح البار. والروح أظهر أن بر المسيح الذي ظهر بصعوده للسماء صار لنا. الروح يبكتني إن لم أعمل أعمال بر وتتحول أعضائي إلى آلات بر (رو13:6). وهذا البر لا أصنعه بقدرتي، بل بحياة المسيح فيًّ. فبدونه لا أقدر أن أعمل شيء (يو5:15). وهو يستخدم اعضائي آلات بر فهي صارت أعضاءه لصنع البر. فأى آلة يوجد من يستخدمها . ولأنني ما عدت أراه إذ هو صعد إلى السماء وذهب إلى أبيه، فما عدت أرى بره لأتمثل به، فالروح القدس الذي يأخذ مما له ويخبرني (يو14:16) يرسم لي صورة للمسيح فأتمثل به ويذكرنى بأقوال المسيح ويعلمنى وصاياه (يو26:14). والروح يقنعني أنني قادر أن أسلك في بر المسيح ليس بقدرتي بل بحياة المسيح فيَّ، الذي وإن لم أراه بالجسد، لكنه يعطيني حياته وبره.

ولهذا رأينا أن إسطفانوس في ساعة موته يردد ما قاله المسيح على الصليب “إغفر لهم + في يديك أستودع روحي”. ويبكتني إن لم أفعل البر. والروح يبكتني إذا شابهت اليهود وعشت متصوراً أنني أتبرر بأعمالي (بر ذاتي) ويبكتني لو شابهت اليونانيين الوثنيين الذين يعيشون في خطاياهم غير شاعرين باحتياجهم للمسيح والإيمان به ليبررهم أي يعملون أعمال بر، معجبين بأنفسهم وفلسفاتهم وطرقهم.

أمّا المسيحي الحقيقي فهو يقف أمام المسيح شاعراً بخطيته كالمرأة الخاطئة، باكياً عند قدميه شاعراً بعدم استحقاقه لشيء، شاكراً المسيح في نفس الوقت أنه أنعم عليه ببره، فالمسيح هو الذي يبرر الخاطئ. ولاحظ أن الروح القدس يبكت على خطية أولًاً، فإذا ما رجع المؤمن بتوبته الصادقة لله وبدموعه حينئذ نتكلم عن التبكيت على البر. (راجع 1تي16:3) أي أعمال البر التي لا نعملها. والروح أيضاً يبكتني لو نسبت أعمال البر لنفسي وتصورت أنني أنا الذي أعملها (أف2 : 8 ، 9 + 1كو4 : 7).

ذاهب إلى أبي= المسيح تمم الفداء بجلوسه عن يمين الآب ومجَّد الطبيعة البشرية في جسده. فالله خلق الإنسان ليمجده (إش43 : 7) أي لينعكس مجد الله من الإنسان فيظهر مجد الله. وهذا معنى قول الرب “لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” فلما طردنا من حضرة الله بطرد آدم ونسله من الجنة، فقدنا صورة المجد. والمسيح تمم الفداء ليس فقط ليدفع ثمن الخطية، بل ليعيدنا لحالة المجد. وكانت هذه طلبة المسيح الأخيرة من الآب (يو17 : 24). لقد عدنا لأحضان أبونا السماوي الذي فرح بعودتنا بعد أن كنا مطرودين. لذلك يقول الرب للمجدلية “إذهبى إلى إخوتى وقولى لهم إنى أصعد إلى أبى وأبيكم وإلهى وإلهكم” (يو20 : 17). فعمل المسيح كان سيكمل بالصعود وليس بالقيامة فقط. ولما تمجد جسد المسيح وتمجدت فيه الطبيعة البشرية أرسل لنا الروح القدس كما قال سابقا أنه سيرسل الروح القدس الْمُعَزِّي” (يو16 : 7).

والروح القدس هو الذي يثبتنا في المسيح وتثبت حياته فينا، فنكون قادرين أن نعمل أعمال بر. فكما إستخدم الإنسان العتيق أعضاءنا كألات إثم – وهذا العتيق قد مات في المعمودية، فالإنسان الجديد الذي قام في المعمودية سيستخدمها كألات بر (رو6).

ولا ترونني أيضاً = حقا لن تروننى بالجسد ولكن حياتي الأبدية ستكون ثابتة فيكم، وهكذا أكون باقٍ “معكم كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر” (مت28 : 20). وهو باقٍ معنا بجسده ودمه في سر الإفخارستيا إلى إنقضاء الدهر، لذلك اختفى المسيح من أمام تلميذى عمواس بعد أن حوَّل الخبز إلى جسده، فهو صار ظاهرا في هيئة الخبز والخمر. وأيضا فإن الروح القدس سيرسم لكم صورة واضحة لي لتقتدوا بها “يأخذ مما لي ويخبركم” (يو16 : 14).

وأيضاً ما كان يمكن أن أذهب إلى أبي إن لم أكن باراً وسيكون لكم بري. والروح القدس سيشهد ببري ويشهد بالمجد الذي لي في السماء، ويعطيكم رؤية واضحة لي أفضل من رؤيتي بالجسد. فالروح يرسم صورة لقدراتي وقوتي وغفراني للخطايا لا تراها العين الجسدية في جسدي الذي ترونه بعيونكم الجسدية الآن. وإذا ما أدركتم هذا المجد الذي سأكون فيه بالجسد وأن هذا كان لحسابكم، ستشتهون أن تكونوا معي في المكان الذي أعددته لكم (يو14 : 2 + رؤ3 : 21). وإذا أدركتم قدراتى وأننى قادر على أن أعطيكم معونة لتسلكوا بالبر فهذا يدفعكم لعمل البر.

يبكت على بر= يبكت المؤمن على عدم وجود بر في حياته أو بشعوره بالبر الذاتي. فمن اعتمد قام مع المسيح في حياة جديدة يجب أن يمارس فيها أعمال بر إيجابية، إيمان عامل بمحبة. الروح يرسم لنا صورة لبر المسيح ويبكتنا إن لم نشتاق أن يكون لنا نفس البر الذي للمسيح. هذا التبكيت يعطي حالة عطش وإشتياق لهذا البر. ومن لا يقبل تبكيت الروح على الخطية وعلى البر يسقط تحت الدينونة، لأنه إنحاز لرئيس هذا العالم الذي قد دين، وكما صار المسيح رأساً للأبرار الذين يسلكون في بره صار إبليس المدان رأساً للأشرار الذين يسلكون في شره.

وعلى دينونة.. .. فلأن رئيس هذا العالم قد دين

الروح يبكت الإنسان المؤمن لأن رئيس هذا العالم قد دين أي أن الشيطان قد هزم وبطل سلطانه. وبهذا يكون التبكيت للناس أنهم رفضوا الخلاص وأطاعوا الشيطان ومن يرفض الخلاص يظل عبداً للشيطان، أمّا الذين تبعوا الرب فقد رفعت عنهم خطاياهم من أجل اسمه (1يو12:2). فهو حمل الله الذي يحمل خطايا العالم. والمؤمنين صاروا متبررين مجاناً بنعمة الفداء (رو24:3 + 1:8). والمسيح دان الخطية (رو3:8) فما عاد لها سلطان علينا (رو14:6). والروح يدين من ما يزال يعتذر بأن الخطية أقوى منه. والدينونة على إبليس كانت نتيجة طبيعية لظهور بر المسيح. فإبليس إشتكى عليه ظلماً. وبعد ظهور بر المسيح دين إبليس وقيده المسيح بسلسلة (رؤ1:20-3)، بل أعطانا نحن المؤمنين سلطاناً عليه (لو19:10) “أعطيتكم سلطان أن تدوسوا الحيات والعقارب..” فتبرئة المتهم ظلماً (ظهر بر المسيح بعد أن تم إتهامه ظلما) هي إدانة للمشتكي (الشيطان) بهتاناً. والمبلغ بلاغاً كاذباً (الشيطان) يقع عليه عقاب من يقترف جريمة.

والشيطان كان مسيطراً على نفوس الناس متحكماً فيها حاكماً لها. له سلطان أن يذل البشر. ولكنه الآن قد أدين وسقط وفقد بإنتصار المسيح عليه كل ما كان له من رياسة وسيطرة وسلطان. ومع ذلك ظل الناس على شرهم ومكرهم وظلمهم وظلام عقولهم. مع أنهم وقد جاءهم المسيح الذي عمل على إقتلاع كل ما غرسه الشيطان فيهم لم يَعُدْ لهم عذر ولا مبرر في مفاسدهم ومعاصيهم. وطالما بدأت الدينونة بالشيطان، فمن المؤكد أن الله سيدين كل من ظل تابعا للشيطان (رؤ19 ، 20) لكن ما زال أمامنا نحن فرصة. والعالم له مقاييسه الخاصة في الدينونة ولكنها مقاييس باطلة، فمثلاً اليهود لهم محكمتهم التي بحسب الناموس. والرومان لهم قانونهم الروماني أساس كل دساتير العالم، وكلاهما حكم ظلماً بقتل المسيح بعد أن أدانوه. والمسيح قام ناقضاً حكم الموت ليعلن بطلان أحكام العالم (يهود ورومان) وأنهما ليسا بحسب الحق بل بحسب إبليس، الذي دانه وأظهر غشه وكذبه وأنه قتال للناس منذ البدء. أمّا الروح القدس الذي دخل إلى العالم فجاء ليصحح هذه المقاييس، وصارت الدينونة الآن بحسب مفهوم الروح القدس هي في رفض المؤمن للخلاص والبر والمجد الأبدي. وإصراره على عدم التوبة. الدينونة الآن تقف على طرف نقيض مع حياة الخلاص. وهي تقع من الآن على من يرفض الخلاص وتَكْمُل في اليوم الأخير. الروح القدس يدخل إلى العالم الشرير ليبكته ويستذنبه على ما فعل وعلى دينونته الغاشة الباطلة الكاذبة القائمة بتحريض من رئيس عالم الكذب والضلال الذي أدانه المسيح بالصليب وعلى الصليب وفضح غشه (لو18:10 + يو31:12) إذ ضبطه متلبساً بالحكم بقتل إنسان بريء بعد أن لفق له إتهامات باطلة، فالمسيح أظهر بره بقيامته وصعوده. والمسيح دان إبليس ورفع يد رئيس هذا العالم عن أن تتدخل بعد اليوم ولا أن يكون له صوت في الدينونة التي سيتولاها ابن الله (رؤ9:12-11) بل أن المسيح سيكون هو الشفيع عن المؤمنين أمام هذا الشيطان المشتكى (رو8 : 33 – 34) . فالمسيح غلب وصار دياناً للأحياء والأموات. بل أننا نلاحظ أن المسيح بدأ هزيمة إبليس في تجربته له في البرية حين رفض إغراءات هذا العالم ثم وصل في رفضه لهذا العالم لأنه قبل الموت. والخلاصة أن الروح القدس يبكت المؤمن الذي مازال يدّعي أن إبليس له سلطان عليه لذلك فهو يخطئ، ويبكت من لازال خائفاً من أحكام ودينونة العالم الذي رئيسه إبليس بعد أن ظهر أن أحكامه باطلة كلها غش (مثل من يخطئ ويدّعي لنفسه العذر بأنه يساير المجتمع، وأن هذه هي القوانين السائدة) ويبكت من ما زال سائراً وراء هذا العالم ورئيسه قائلاً كيف تسيرون وراء الشيطان الذي غلبه المسيح وحكم عليه.

يبكت على خطية وعلى بر وعلى دينونة

يبكت على خطية.. هذا هو داء البشرية وهو الخطية. والمسيح أتى ليرفع الخطية لكل من يؤمن به وهذا هو المدخل للمسيحية. المسيح بدمه يكفر عن الخطايا السالفة ويعطى معونة لنتوب عنها. وبدون دمه لا غفران وبدون معونته لا يمكن أن نغلب الخطية.

يبكت على بر.. .. بعد أن ندخل المسيحية كيف نحيا؟ الإجابة نحيا أبرار ببر المسيح الذي أعطانا حياته. . ولاحظ قول الرسول “أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني” (فى4 : 13) . فنحن في المسيح قادرون أن نغلب الخطية وأن نسلك في البر.

يبكت على دينونة.. دائماً الإنسان يحاول أن يتحجج بأن إبليس هو سبب الخطية، وأنه لا يسلك في البر بسبب قوة إبليس، ولكن السيد يعلن بصراحة أن إبليس قد دين وأن لنا سلطان أن ندوسه. وأن لنا قوة من الله تعين. والسؤال لمن مازال يقول أن الشيطان قوي هو…. من الأقوى الروح الذي يعين ضعفاتنا (رو26:8) أم الشيطان؟ قطعاً من معنا أقوى. وإن كان إليشع قد قال هذا عن ملائكة فكم وكم قوة الروح القدس. حقاً نحن بلا عذر فالروح يعطي نعمة أعظم (يع6:4). وكل من رفض المسيح وفدائه ورفض السلوك في البر تابعا غواية الشيطان ورافضا معونة المسيح سيدان مع الشيطان الذي تمت دينونته. لذلك فالروح القدس يبكتنا لو سلكنا في طريق الشيطان، طريق الخطية.

ولنلاحظ أن العاملون في قضية خلاص الإنسان هم الإنسان نفسه والرب يسوع والشيطان. فالله يسعى لخلاص الإنسان والشيطان يسعى لهلاكه والإنسان حر في أن يختار طريق البر أو طريق الشر. والروح القدس أتى ليجذب ويوجه البشر نحو الفداء وذلك بأن يبكتهم على خطاياهم وعلى رفضهم للمسيح البار الحقيقي مصدر برهم وعلى تبعيتهم للشيطان الذي تمت هزيمته.

والروح القدس يبكت ويعطي قوة ومعونة على طاعة الله. والقوة التي يعطيها الروح القدس أقوى بما لا يقاس من قوة إبليس. ولذا كان رفضه أي رفض الروح القدس إغلاقاً لباب التوبة. ولذا قال الرب “من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له وأمّا من قال على الروح القدس فلن يغفر له” (مت32:12) لأن من يجدف على الابن فهو قد يستمع لصوت الروح الذي في قلبه فيتوب عن خطيته فتغفر له. وأمّا من أنكر الروح أي رفضه وقاومه وأحزنه فأطفأه، والروح هو الذي يبكت ويقود إلى التوبة، فبإطفائه للروح القدس فهو يفقد التوبة والغفران لذلك يوصينا الرسول (لا تحزنوا الروح/ لا تطفئوا الروح) ونصلي في المزمور الخمسين “روحك القدوس لا تنزعه مني” (مز11:51)

فالروح القدس يبكت الإنسان على خطايا عدم إيمانه فإمّا يتجاوب مع الروح ولا يقاوم فيكون له بر المسيح وإمّا ينحاز إلى جانب إبليس فيدان معه. والإنسان بلا عذر فإبليس مدان.

ونلاحظ أن كلمات خطية وبر ودينونة أتت بدون أداة التعريف للتعميم والإطلاق.

يبكت العالم= العالم بشقيه [1] اليهود المنغلقين في عالمهم الحرفي وبرهم الذاتي. [2] الأمم التائهين وراء شهواتهم وفلسفاتهم ووثنيتهم.

هذه الآيات تضع معادلة معاملة الله مع المسيحي:

  1. تبكيت على خطية=  تبكيت الروح للإنسان الخاطئ الذي تسكن الخطية في جسده.
  2. تبكيت على بــر= المسيح يريد أن يعطي بره للإنسان.
  3. تبكيت على دينونة= إبليس يريد جذب الإنسان إليه ويظل الإنسان تحت تأثير قوتين.. 1) قوة جذب الروح (ليصبح له بر المسيح)     2) وقوة جذب الشيطان.

ولكن قطعاً قوة جذب الروح لا تقارن في قوتها بقوة جذب إبليس ولكن لنلاحظ فالله ترك الإنسان حراً. ونلاحظ أن الشيطان يعرض أفكار الخطية حتى لو طردناه ، أما الروح القدس فهو يعطى المعونة لمن يطلب “اسألوا تعطوا”. وما زال السؤال “هل تريد أن تبرأ”.

 

قصة الخلاص

ما قبل السقوط :- كان الإنسان في الجنة متمتعا برعاية ومحبة الله. ولما سقط طرده الله من الجنة ففقد الفرح والمجد والحياة الأبدية، هو خالف وصية الله وصار مديونًا لله. وكانت خطية الإنسان في حق الله لانهائية لأن الله غير محدود. وإحتاج الإنسان لفداء غير محدود. بل بدأ الشيطان يعثره ويغريه بخطايا العالم، وكلما أخطأ :-

  1. تزداد الفجوة والإبتعاد عن الله. فلا شركة للنور مع الظلمة (2كو6 : 14).
  2. والشيطان المشتكى يطالب الله بعقاب الإنسان الخاطئ (راجع رو8 : 33).
  3. يستعبد الشيطان الإنسان، وكلما تزداد خطايا الإنسان يسقط بالأكثر في يد الشيطان الذي يذله. وهذا تم شرحه في (لا25 : 47 – 49). ولم يكن ممكنا فك المستعبد إلا بعد دفع الدين عن طريق فادى من إخوته أو أقربائه. فالشيطان هو الغريب الذي تمكن من الإنسان وإستعبده حتى أتى المسيح وحررنا وصار هو ولينا، وصار هو الفادى (إش41 : 14). 

الفداء :- المسيح صالحنا مع الله ودفع الديون عنا لأبيه. وثبتنا فيه بالروح القدس. وفيه نصير كاملين وبلا لوم وبلا دينونة (كو1 : 28 + أف1 : 4 + رو8 : 1).

والمسيح دان الشيطان  

  1. لمؤامرته ضده وتدبير الصليب مع براءة المسيح.
  2. لأنه سبب عثرة للبشر، وويل لمن تأتى به العثرات (مت18 : 7).
  3. وأصبح الشيطان غير قادر على توجيه التهم لنا، هذا إذا كنا ثابتين في المسيح فيحسبنا الآب كاملين. ولأننا ما زلنا في الجسد الضعيف نخطئ، قَدَّم المسيح لنا جسده ودمه على مائدة الإفخارستيا لنظل ثابتين فيه فلا يقدر عدو الخير على الشكوى ضدنا إذ يجدنا في المسيح (راجع رو8 : 33 ، 34). وهكذا تنبأ داود النبي “ترتب قدامي مائدة تجاه مضايقيَّ” (مز23 : 5). بل صار الشيطان هو المُدان كصانع عثرات يعثر بها أولاد الله، أما أولاد الله فهم في المسيح كاملين.

الروح يبكت على خطية :- لمن لم يؤمن *فلا غفران للخطية إلا بدم المسيح. *لا خلاص سوى بالخليقة الجديدة (غل6 : 15) وهذه بالمعمودية لمن آمن وبتجديد الروح القدس (تى3 : 5). *لا يمكن لإنسان أن يغلب الخطية إلا بالنعمة وهكذا قال المسيح “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيء” (يو15 : 5). لذلك قال الرب أن الروح يبكت على خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي = فالإيمان هو المدخل لكل هذه البركات.

الروح يبكت على بر :- بعد المعمودية تكون لنا حياة المسيح لنسلك في البر. فإن لم نفعل يبكتنا الروح فالله خلقنا خلقة جديدة في المسيح لنعمل أعمال صالحة (أف2 : 10). والروح القدس الذي يثبت فينا حياة المسيح، أرسله المسيح لنا بعد جلوسه عن يمين الآب. لذلك قال الرب وَأَمَّا عَلَى بِرّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أَبِي وَلاَ تَرَوْنَنِي أَيْضًا = ذاهب إلى الآب لأمجد الجسد الإنساني فأرسل الروح القدس ليكمل العمل ويبرركم بأن يثبتكم فيَّ.

الروح يبكت على دينونة :- وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ قَدْ دِينَ.

  1. المسيح قيَّد الشيطان بسلسلة 1000 سنة (رؤ20)، أي أضعف قوته جدًا بعد الصليب. وما عاد قادرا على شيء غير أنه يعرض علينا أفكارا. لذلك يسميه الآباء قوة فكرية. وجهادنا هو رفض أفكاره. وشرح حزقيال النبي هذا بقول الله عن فرعون كرمز للشيطان أن الله كسَّر ذراعى فرعون (حز30 : 22 – 25). إذاً هذا معنى أن الله دان رئيس هذا العالم. فهو عدو مهزوم. هو يكذب ويدعى أنه قوى وأننا أضعف من أن نقاوم. ولكن لنصدق المسيح ولا نصدقه كما فعلت أمنا حواء. إذ أن المسيح وعدنا بسلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو10 : 19).
  2. الروح القدس يزودنا بقوة أعظم (يع4 : 6) ونسميها النعمة. فلماذا السقوط؟!
  3. الشيطان أصبح غير قادر أن يديننا فهو مدان إذ أعثرنا، ونحن في المسيح نحسب كاملين. الآن هو غير قادر أن يشتكى علينا إذ يجدنا كاملين في المسيح، وهذا معنى الآيات (رو8 : 33 ، 34) فالمسيح هو الذي يحامى عنا وهو أيضًا الديان.

 

ملخص لهذه الآيات

هذه الآيات تلخص عمل المسيح والروح القدس في تجديد الخليقة

تبكيت على خطية

لأنهم لا يؤمنون بي

الروح القدس يدعو للإيمان بالمسيح، فلا أحد يستطيع أن يقول المسيح رب إلاّ بالروح القدس (1كو3:12) والإيمان بالمسيح هو الطريق الوحيد لغفران الخطايا والإيمان الحي بالمسيح هو الطريق الوحيد للتوبة.

تبكيت على بر

لأني ذاهب إلى أبي ولا ترونني

المسيح ذهب ليعد لنا مكان، ويأتي ليأخذنا إليه. بعد التوبة يبدأ الروح القدس في الدعوة لأن نحيا في بر المسيح. وذلك بأن:

1)  يرسم لنا صورة المسيح (آية14)

2)  يثبتنا في المسيح (2كو21:1)

3)  فتكون لنا حياة المسيح المسيح فنعمل أعمال بر.

4)  يذكرنا بكل أقوال المسيح (يو26:14)

لذلك فمع أننا لا نرى المسيح لكن الروح يجعلنا نشتهي أن نحيا في بره، ويعطينا القوة على ذلك.

تبكيت على دينونة

لأن رئيس هذا العالم قد دين

الروح القدس ثبتنا في المسيح فصرنا كاملين، فصار الشيطان غير قادر أن يشتكى علينا. والروح يساندنا بقوة جبارة لكي نسلك في حياة البر، فالشيطان أصبح بلا قوة بل صار مدانا كصانع عثرات. وصار لنا نحن المؤمنين سلطان عليه. بل الذي معنا وهو قوة الروح القدس أعظم بكثير من قوة هذا العدو المهزوم. إذاً نحن بلا عذر.

فمن لا يسلك في البر ومن يرفض الإيمان فقد رفض المسيح سالكا وراء الشيطان فلا يوجد من يغفر له خطيته، وسيدان مع الشيطان.

القرار قرارنا والاختيار اختيارنا.. أن نحيا في بر المسيح أو نحيا مهزومين. وراجع وعود سفر الرؤيا (2-3) لمن يغلب.

 

آية (12): “أن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن.”

وهذه تشبهها آية (25). فالمسيح أخبر تلاميذه عن أمور كثيرة ولكنهم لم يستوعبوا كل ما قاله. وهو أخفى عنهم أمورًا أخرى كثيرة عن طبيعته الإلهية وعن أمور صلبه، أو ما سيحدث لهم من آلام واضطهاد، وما سيحدث بعد قيامته. ولكن الروح القدس الذي سيرسله سوف يشرح لهم ما غمض عليهم فهمه، وما لم يذكره المسيح لهم إذ كانوا غير مؤهلين بعد بل سيعطيهم احتمال الآلام. وقوله الآن يعني قبل أن يحل الروح القدس عليهم ويشهد للمسيح ويشرح أسراره (أف3:3-10). فالروح هو الذي يعلم ويذكر ويعزي ويقوي..

 

الآيات (13-15): يعرفنا المسيح بعمل الروح القدس مع الكنيسة في إصحاحات (14-15-16) لذلك يسمون هذه الإصحاحات إصحاحات الباراقليط فهو المعزي (16:14) وهو روح الحق الذي يكون فينا (17:14) وهو يعلم ويذكر (26:14) وهو يشهد للمسيح في التلاميذ وهم يشهدون بواسطته للعالم (26:15،27) فهو روح الشهادة للمسيح. ويضيف في هذه الآيات أنه يرشد لجميع الحق (13:16) ويخبر بأمور آتية كسفر الرؤيا مثلًا. بل هو يخبر أحباؤه بكثير من الأمور المستقبلية وعن المجد المعد والملكوت الآتي. وهو يأخذ مماّ لي ويخبركم (14:16). وبذلك يمجد المسيح. فهو يستعلن الآب والابن للمؤمنين. وكان من نتائج عمل الروح القدس في التلاميذ [1] بشروا العالم [2] كتبوا الإنجيل.

 

آية (13): “وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية.”

متى جاء ذاك= أي الروح القدس الذي سيعطيهم إنفتاح الذهن فيقبلوا ما هم غير قادرين على احتماله. الحق= هو المسيح لذلك هو معرّف بالـ. فهو يرشدنا لكل الحق الذي في المسيح ويستعلن لنا المسيح (يو21:14) فعمل الروح القدس هو الإنارة والإرشاد لجميع الحق كما كان عمود النار يهدي ويرشد الشعب في البرية. هكذا الروح القدس يهدينا في طريق الحق وسط ضلال العالم. ونلاحظ أن المسيح بتعاليمه وضع بذور الحق، والروح القدس ينميها فينا وينير كل جوانب الحق فيما علمه المسيح. وكلمة الحق عند اليونانيين الفلاسفة تعني تحرير الفكر من الجهل، وعند اليهود تعني السلوك بحسب الناموس حرفياً. ولكن بهذا المفهوم فإن الحق الذي يعلمنا إياه الروح القدس هو إعلان المسيح لنا وإعلان عمله، وتذكيرنا بأقواله. فإذا آمنا به وإستجبنا له نتحرر من الشيطان والخطية والعالم. لذلك فالروح القدس هو روح الحق هو يأخذ من الحق الذي ليسوع ويعطي لنا. فهو يعرفنا بالمسيح وعلاقة الابن بالآب. يأخذ مما لي ويخبركم. لأنه لا يتكلم من نفسه= يرشد إلى كل تعاليم المسيح، هو ينقل كلام المسيح إلى قلوبنا. وهو لا يتكلم من نفسه= أي هو لا يقول كلاماً غير ما قلته أنا فنحن على إتفاق. أي لا تظنوا أن هناك انفصال بيننا، بل نحن واحد.

بل كل ما يسمع يتكلم به= سبق المسيح وقال أنه يشهد بما سمعه (يو32:3 + 26:8). هناك اتفاق تام بين الأقانيم. وما يريده الآب يريده الابن ويريده الروح القدس. لكن هناك توزيع للأدوار بين الأقانيم. فمثلًا الآب يريد أن الجميع يخلصون. فالابن ينفذ الفداء. والروح القدس يقود الكنيسة كلها للسماء. فالآب يريد والابن والروح ينفذان. وكيف يتم التعبير عن هذا. نسمع الرد في هذه الآية. فالآب حينما يريد شيئًا ينفذه الروح، وتم التعبير عن ذلك بأن الروح سمع إرادة الآب وأخبرنا بها، والآب والروح لهما نفس الإرادة فالروح يفحص اعماق الله (1كو 2:10)= هذا يعنى أن الروح ينفذ ما يريد الآب أن يخبرنا به. والابن لأنه يعرف إرادة الآب يقال أنه حين يسمع يقول الأقوال (يو26:8) وحين يرى يعمل الأعمال. ولأنهم واحد يقول الآب يعمل (يو19:5-20). فالآب في الابن فهو يعمل فيه وبه.

يرشدكم إلى جميع الحق= كل ما لم يقله المسيح وكل ما لم يفهموه من المسيح إذ كان يتكلم بأمثال، فالروح سيكشف الحق بطريقة كاملة. والروح القدس يلقي النور ليكشف عن الأعماق التي في كل آية، وكل يوم نرى فيها معنى جديد نفرح به. فالروح يشرحها مرات ومرات. والروح يشهد عن طريق الرسل أو الخدام أو مباشرة داخل القلب. يأخذ مما لي ويخبركم= يعرض ويكشف أمامكم كل ما يخصني. كل ما للآب هو لي= الحق الخاص بي هو نفسه خاص بالآب. والمسيح جاء ليمجد الآب. والروح جاء ليمجد المسيح. والروح الآن مستتر وكل ما يعمله يظهر المسيح.

يخبركم= بالبشارة والإعلان. بأمور آتية= فالروح يرشدنا إلى ماذا نفعل في المستقبل لنحصل على الخلاص، والروح سيخبر التلاميذ بما حدث للمسيح بعد صعوده، ويخبرنا بما لنا من مجد معد في السماء (1كو9:2-12). وكشف ليوحنا ما رآه وسجله في سفر الرؤيا. وليس معنى هذه الآية بالضرورة إعلان نبوات لنا، كما كان يفعل مع الأنبياء (أغابوس مثلاً). وسيكشف لكم عن الضيقات التي تحل بالكنيسة.

 

آية (14): “ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم.”

المجد هنا هو استعلان حقيقة المسيح الإلهية وأنه مساوٍ للآب في الجوهر، جوهر الألوهية. وأن له كل المجد. وأيضاً فالروح القدس يأخذ ممّا للمسيح وينقل صورة للمسيح داخل قلوبنا فنحبه ونمجده، إذ نراه بالقلب. ومن يعرفه يحبه فهو يستحق. ويسكب بغني النعمة على قلوب وحياة المؤمنين. وهو ينقل لي بر المسيح وخلاص المسيح. فالآب يمجد الابن والابن يمجد الآب والروح يمجد الابن. كل إقنوم يمجد الآخر. وكل إقنوم ينكر نفسه ويشهد للآخر.

 

آية (15): “كل ما للآب هو لي لهذا قلت أنه يأخذ مما لي ويخبركم.”

المسيح ينبه أذهاننا أن مجده هو مجد الآب. وهذا ما سيعمله ويعلنه الروح القدس لنا، الذي سيشهد في قلوبنا أن المسيح الذي رأيناه بالجسد له كل المجد الذي للآب شخصياً. هذا الكلام موجه للتلاميذ الذين لم يكونوا يدركون وهم يرون المسيح وسطهم بالجسد أن له كل مجد الآب. وكل ما يخبرنا به الروح القدس عن مجد المسيح هو عن الآب أيضاً. والروح القدس يعرفنا باستمرار عن الآب والابن وعلاقة الآب بالإبن التي هي موضوع خلاصنا. فحب الآب للإبن صار من نصيبنا أن نشترك فيه وطاعة الابن للآب علينا الآن أن نتشبه بها ونشترك فيها حتى إن وصلت للصليب.

والروح القدس يعطي القوة على طاعة الله، وهو يعلمنا ويذكرنا بما قاله المسيح.

كل ما للآب هو لي= إشارة واضحة جدًاً للوحدة. والحق الخاص بي هو خاص بالآب.

 

آية (16): “بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني لأني ذاهب إلى الآب.”

بعد قليل= المسيح أتى ليقضي أياماً قليلة على الأرض ينهي فيها رسالته وها هي قد قاربت على الإنتهاء. ولا بُد من الفراق بالجسد. والمسيح بعد ساعات سيصلب ويموت ولن يراه التلاميذ بالجسد ثانية. ولكن المسيح هنا يعزي تلاميذه على حزنهم بسبب الفراق أنهم بعد قليل سيرونه ثانية لأنه سيقوم. إلاّ أنه بعد قليل يصعد للآب فلا يعودوا يرونه، ثم بعد قليل يحل عليهم الروح القدس فيرونه في قلوبهم= لأني ذاهب إلى الآب فلن ترونني بالجسد لكن الروح القدس يعطيكم رؤيا حقيقية أقوى بكثير من رؤية الجسد. لا تبصرونني.. ترونني= الفعل يبصر في اليونانية يشير إلى رؤية شبه صحيحة، رؤية فكرية، لا رؤية حق، هي رؤية تصوُّر وليس رؤية واقع واستخدمت هنا بخصوص رؤية التلاميذ للمسيح بالجسد المادي. أمّا الفعل يرى في اليونانية يعبر عن الرؤية الصحيحة، رؤية الحق كما هو، بلا أي خيال فكري أو أي تصور عقلي بشري. وإستخدمت هنا للتعبير عن رؤية المسيح القائم من الأموات بالجسد الروحاني الممجد. والمعنى أن رؤية التلاميذ للمسيح قبل أن يقوم وقبل أن يتمجد هي رؤية ليست تامة أو صحيحة. فهم يرونه كإنسان ضعيف. فالمسيح لم يكن مستعلناً استعلاناً كاملاً. أمّا بعد القيامة وبعد أن عرفوا من هو فكانت رؤية صحيحة لذلك صرخ توما ربي وإلهي (28:20). فهم رأوه وقد إنتصر على الموت وقام، رأوه بالعين الروحية التي تستعلن الحق، وكأن المسيح يريد أن يقول “إنكم لا ترونني على حقيقتي، بالرؤية الصحيحة ولكن بعد قليل حينما أكمل استعلاني وأظهر في مجدي حينئذ ترونني حقاً سواء بعد القيامة أو أثناء صعوده أو بعد صعوده “كما رآه شاول في الطريق لدمشق” وبالأكثر حين يحل عليهم الروح القدس ويعطيهم الرؤيا الروحية الحقيقية للمسيح في مجده الذي صار فيه فعلاً. وهنا نرى أن الروح القدس يعطي الرؤية الصحيحة وهذه الرؤية الصحيحة التي يعطيها الروح تسبب فرح حقيقي (آية22) . ونرى أيضاً في (لو39:23-43) أن اللص اليمين بعد أن إعترف بخطيته وشعر

بحقيقة حاله إنفتحت عيناه وعرف أن المسيح هو الرب والذي سيأتي في ملكوته. فمن يشعر بخطيته وينسحق أمام الله يفتح الروح القدس عينيه ليرى المسيح. أما في السماء فسنراه كما هو (1يو2:3). فمعرفة المسيح تتدرج عرفه التلاميذ كمعلم صالح، ورأوا تعاليمه ومعجزاته فعرفوا أنه من عند الله، ورأوا قيامته فعرفوا إنتصاره على الموت، ورأوا صعوده فعرفوا أنه من السماء، أما بعد حلول الروح القدس عرفوا أنه يهوه وقد تجسد بينهم. وهذه الرؤيا بالروح فاقت كل ما قبلها.

 

الآيات (17-19): “فقال قوم من تلاميذه بعضهم لبعض ما هو هذا الذي يقوله لنا بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني ولأني ذاهب إلى الآب. فقالوا ما هو هذا القليل الذي يقول عنه لسنا نعلم بماذا يتكلم. فعلم يسوع أنهم كانوا يريدون أن يسألوه فقال لهم اعن هذا تتساءلون فيما بينكم لأني قلت بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضًا ترونني.”

واضح أن حالة من الارتباك سادت التلاميذ ولم يفهموا ما قصده الرب من كلماته هذه. ويوحنا كشاهد عيان يصوِّر المشهد بدقة.

 

الآيات (20-22): “الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح انتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح. المرأة وهي تلد تحزن لأن ساعتها قد جاءت ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح لأنه قد ولد إنسان في العالم. فانتم كذلك عندكم الآن حزن ولكني سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم.”

المسيح لم يتركهم في حيرتهم بل بدأ يشرح لهم أن العالم يحزن ويفرح بطريقة مختلفة عن حزن وفرح أولاد الله.

*فالعالم يحزن بسبب الخسائر المادية ويفرح للمكاسب المادية وبكل ملذات العالم.

*والمسيحي الذي لم يدخل إلى العمق حينما تصيبه التجارب والأحزان يتصور أن المسيح تركه وقد يتهم الله أنه تخلى عنه.

*ولكن المسيحي الحقيقي الذي عرف المسيح بعمق، فهذا يفهم أن الله لا يترك أولاده، وهو قد يتضايق ولكن سرعان ما يشرق نور المسيح مبدداً ظلمات الحزن والكآبة مالئاً قلبه تعزية وفرح.

*لكن ما يسبب الحزن الحقيقي لأولاد الله هو الخسائر الروحية حينما لا يحقق مشيئة الله في حياته أو يخطئ إلى الله وهو يعرف أن الخطية تحزن قلب الله وأن عواقبها سيئة.

*والمسيحي يفرح إذا ما شعر برضى الله، ولكن هذه الأشياء الروحية لا تفرح أهل العالم.

*ولكن ما علاقة موضوع الحزن والفرح بما سبق عن رؤية المسيح؟!

*الإجابة في أن من يرى المسيح وتكون له هذه الرؤية الروحية سيفرح فرحاً حقيقياً. بل أن هذه الرؤية الحقيقية للمسيح هي الطريق للتعزية في الضيق.

المسيح هنا يخبر تلاميذه بأنهم يبكون وينوحون ومثلها أنتم كذلك عندكم الآن حزن بسبب صلبه وبسبب مفارقته لهم بينما العالم يفرح= لأنهم تخلصوا من المسيح وصلبوه فتصوروا أنفسهم أقوياء. وهم سيبكون ويحزنون بسبب إضطهاد العالم لهم.

*وما قاله الرب لتلاميذه هنا هو موجه لكل مسيحي الآن. نحن عندنا الآن حزن بسبب خطايانا أولًا، وبسبب أي ضيقة أو تجربة أو خسارة أو بسبب آلام العالم وإضطهاده لنا، وكراهيته وإهاناته للمسيح الذي نحبه ونعبده. بينما أن العالم حولنا يتمتعون بملذات العالم ومراكزه، ويتفاخرون بقوتهم = العالم يفرح .

* ولكن حزنكم يتحول إلى فرح = بالنسبة للتلاميذ فهم سيفرحون قريباً بقيامة المسيح، ويوم حلول الروح القدس وبدء ظهور ثمار فداء المسيح. وبحلول الروح القدس رأى التلاميذ المسيح رؤية روحية حقيقية فإمتلأت قلوبهم فرحاً والفرح من ثمار الروح القدس.

*وبالنسبة لنا ، فكل تجربة مادية فيها حزن، ولكن حين نلجأ لله نجد أن الروح القدس يكشف لنا وسط أحزاننا عن وجه المسيح المحب فيتحول حزننا إلى فرح. وأيضاً أحزان التوبة المقدسة هكذا تتحول إلى فرح. فالمسيح بدمه يغفر وبقوته يحول الخسارة لمكاسب روحية. والروح القدس يعطى للمتألم الرؤية لوجه المسيح المملوء حنانا ومحبة فيتعزى.

* بل كل ما نخسره إن كان مرض/ ألم/ خسارة/ تجربة.. فبينما نجد أن العالم يحزن بسبب هذه الخسائر، ستكون هذه سبب فرح للمسيحي الحقيقي، فالمسيحي يعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير. وأن التجربة التي سمح بها الله هي الطريق للتنقية وبالتالي طريق السماء. فالحزن تحول إلى الفرح بالنسبة للمسيحي.

المسيح ضرب مثالاً بالمرأة التي تحزن حينما تأتي ساعتها لتلد بسبب الخوف من آلام الولادة ولكن حزنها يشوبه رجاء وفرح وأمل وسريعاً ما يتحول الحزن إلى فرح. وهكذا المسيحي يخاف من الآلام ومن تنفيذ الوصايا الصعبة أو أن تسلب أمواله أو يتألم في مرض أو إضطهاد أو يُهان اسمه، بل هناك من يخافون ويحزنون إذا أتى الصوم وهو ألم اختياري. ولكن عمل الروح القدس أنه يعطي عزاء هنا على الأرض وفي السماء مجد أبدي. (رو18:8 + أع40:5-41 + عب34:10-35). ولكن لماذا اختار المسيح التشبيه بآلام المرأة التي تلد؟

  1. إن المرأة تقبل على هذه الآلام اختيارياً وبإرادتها وهي تعلم قسوة آلامها.
  2. فترة الحزن والألم قليلة جدًاً لا تزيد عن ساعات في حالة الولادة. (هكذا قال المسيح للتلاميذ ويقول لنا “أما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة”).
  3. يعقبها فرح بولادة طفل.
  4. الولادة بآلامها الصعبة يخرج منها فرح. وهكذا الصليب سيخرج منه قيامة، وأي حزن يسمح به الله لنا سيخرج منه حياة وبه نَكْمُل = “حولت لي العقوبة” (القداس الغريغوري) فالألم نتيجة الخطية يحوله الله إلى خلاص = تزكية أي تنقية.

والأبرار الذين فهموا هذا طلبوا التجربة كما قال داود النبي “أبلنى يا رب وجربنى، نقى قلبي وكليتى” سبعينية(مز26: 2)، ويقول القديس يعقوب “إحسبوه كل فرح يا إخوتى حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع1: 2).

وهكذا اختار المسيح آلام الصليب بإرادته (وهي كانت لفترة ساعات) ولكن أعقبها فرح المسيح بولادة كنيسته. ومهما زادت فترة آلامنا في طريق القداسة الذي إخترناه ، فهي لن تزيد عن أيام عمرنا، وهي قليلة ، ولكن يعقبها فرح أبدي. آلامنا وتجاربنا هي كآلام الأم إن إحتملناها يولد فينا إنسان جديد فالألم يطهر (1بط1:4) . عموماً طريق المسيح يبدأ دائماً بالألم وينتهي بالفرح هنا على الأرض ومن المؤكد في السماء.

سأراكم= كما يقال نظر الملك بعين العطف على فلان. لم يقل المسيح سترونني بل سأراكم. وجميل جدًاً أن ننظر نحن للمسيح لنحصل منه على الفرح. والأروع أن يتكرم هو علينا بنظرة تعطينا الفرح الحقيقي. هو الذي سيفتش علينا في حزننا كما فتش على الأعمى الذي شفاه حين طردوه ليعلن له نفسه فيفرح (يو35:9-37) ولاحظ قول الكتاب “فوجده”. وقصد المسيح أنه سيفيض من فرحه وتعزياته بل من مجده الأسنى بعد قيامته علينا. فنحن لو حاولنا أن ندرك المسيح لنراه سنفشل. ولكنه هو في محبته وفرحه يبحث عنا ليفيض علينا من فرحه وسط أحزاننا، هو يتطلع إلى تلاميذه من مجده، ومع رؤيته لهم يُرى ذاته لهم. هو يأتي ليظهر نفسه ويسكب حينئذ فيهم فرحته فهم سيفرحون إذ يروه بالروح القدس. ولأن الفرح هو فرح الله فلا يستطيع أحد أن ينزعه منا لا أشخاص ولا أحداث ولا حتى آلام ولا أمراض مخيفة ولا الموت نفسه. وهذه ميزة الفرح الذي يعطيه الله بالمقارنة بأفراح العالم. فأفراح العالم مؤقتة ولفترات بسيطة. والتسمية الصحيحة لما يعطيه العالم هو لذة، فالفرح صفته أنه دائم وهو عطية من الله فقط. أما اللذة فهي عطية الجسد، وهي عابرة لحظية، أي ضيقة تذهبها كأنها لم تكن. أما عطية الله فهي فرح روحي سماوي يبدأ هنا ولكنه أبدي، هذا الفرح سيغطي كل أحزان وأوجاع التلاميذ ، وآلامنا التي هي مؤقتة أرضية لا تلبث أن تنتهي ويبقي الفرح الأبدي. ولنقارن الآن بين الحزن القليل الذي عبروه، والفرح الذي هم مقيمون فيه الآن.

حياة النصرة في المسيحية ليست في إنتهاء الألم بل الفرح وسط الألم. نلاحظ أن بولس الرسول إستخدم نفس التشبيه، مخاض الأم الوالدة للتعبير عن ميلاد إنسان جديد (غل19:4) فالكنيسة كمسيحها (عريسها) تتألَّم لتلد إبناً لله. هذه هي آلام الخدام. وهذا التشبيه إستخدمه أيضا حزقيا الملك القديس عند حصار جيش أشور لأورشليم، فقد رأى أن آلام الحرب الرهيبة هي مقدمة لولادة أورشليم جديدة نقية (إش37: 3)

 

الآيات (23-24): “وفي ذلك اليوم لا تسألونني شيئًا الحق الحق أقول لكم أن كل ما طلبتم من الآب  باسمي يعطيكم. إلى الآن لم تطلبوا شيئًا باسمي اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملًا.”

في ذلك اليوم= يوم حلول الروح القدس، يوم ينفتح عهد جديد من العلاقات فوق الطبيعة. حينما يَسْتَعْلِن الروح القدس مجد المسيح المقام لتلاميذه. يوم الحصول على فرح القيامة ورؤية المسيح بالروح بعد حلول الروح وهي خبرة روحية فيها استنارة داخلية. يوم يفهم التلاميذ معنى أن الآب في الابن والابن في الآب وأن الابن فينا. هنا يمتنع السؤال. والفعل يسأل مختلف عن الفعل يطلب في اليونانية. فيسأل تعني يسأل أسئلة. أما يطلب تأتي بمعنى يقدم طلب. لا تسألونني شيئًا= كما حدث في الآيات (17-19) وكما كان يحدث دائمًا أن التلاميذ حينما لا يفهمون يسألون أسئلة عدم فهم سواء في أمثال المسيح أو كلامه، مثل أرنا الآب وكفانا، أو إلى أين يذهب. ولكن بعد أن حدثت الاستنارة بالروح لا يعودون لهذه الأسئلة. أو كانوا يطلبون أشياء مادية كما طلب يعقوب ويوحنا الجلوس عن يمينه وعن يساره أي يملكا معه زمنيًا. وإذا حلّ الروح القدس فيهم سيكفون عن هذه الأسئلة فالروح القدس سوف يشرح لهم كل ما يجول بخاطرهم فلا يعودون بحاجة إلى السؤال فهو يعلمهم ويذكرهم بكل شيء (26:14) وسيفتح عيونهم الروحية فيروا ما لم تره عين ويدركوا أن لهم الميراث السماوي كأبناء لله (رو17:8) فيصبح لسان حالهم “ومعك لا أريد شيئًا في الأرض” (مز25:73) ولن يطلبوا أي أشياء مادية أمّا فعل اطلبوا الذي تكرر هنا فيشير لشعور الإنسان أنه في المسيح يتمتع بحب الآب وهنا يطلب بدالة البنوة وسيستجاب له فيكون فرحه كاملًا. وماذا يطلب الابن إلاّ ما يمجد أبيه. فمن اكتشف بنوته للآب السماوي لن يطلب سوى ما يمجده بل أنه بعد حلول الروح القدس وارتفاع المستوى الروحي للتلاميذ ستتفق إرادتهم مع إرادة الله وتكون طلباتهم متفقة مع رأيه. ومن يراه المسيح أي يسكب فرحه فيه سيكون مكتفيًا تمامًا بالمسيح ولا يطلب سوى مزيد من الحب والفرح ومجد الله. أمّا فرح العالم فدائمًا ناقص ومعه يشعر الإنسان بالاحتياج. وقد ينزع في أي لحظة. أمّا فرح المسيح فلا يوجد سبب يمكن أن يبطله. والفرح ثمرة من ثمار الروح، لذلك فأهم ما نطلبه الامتلاء من الروح، والروح يكشف لنا أمجاد السماء التي هي لنا (1كو9:2-12) فنكف عن طلب الأرضيات.

من الآب بإسمي= الاسم يدل على الشخص وقدراته وإمكانياته والمسيح كان عمله وفداءه جبارًا، أعطانا دالة أن نطلب من الآب. المسيح بذهابه للآب أتم الصلح بين الآب والبشر فاستعاد المسيح للإنسان صلته الأولى بالله (رو1:5-2) لذلك ننهي صلواتنا بقولنا “بالمسيح يسوع ربنا” والآب يستجيب لنا بشفاعة المسيح أي عمل دمه القوي لكن يجب أن تكون أسئلتنا متفقة مع مشيئة المسيح (1يو14:5). هو قرَّبنا للآب بعمله القوي فصار الآب يستجيب لنا إذا صلينا بحسب مشيئته (1يو14:5 + مت7:7). وماذا نطلب حسب مشيئته إلاّ أعظم عطية أعطاها لنا وهي الروح القدس (لو13:11) الذي بواسطته يعطي الله عطاياه.

إلى الآن لم تطلبوا= أي أن التلاميذ لم يدركوا بعد من هو المسيح وما هو عمله. لكن متى جاء الروح القدس سيعرفهم من هو المسيح. بل سيعرفهم كيف يصلون وماذا يطلبون (العبادة بالروح يو24:4) والتلاميذ لم يدركوا بعد أن المسيح بفدائه أعطاهم دالة كبيرة عند الآب بها يطلبون منه. حتى الآن لم يستعلن اسم المسيح بالكامل ولم يُكَّمَلْ بالآلام ولم يدخل إلى المجد. وإلى الآن لم تنفتح قلوب التلاميذ ليطلبوا فهم لم يفهموا بعد. ثم نجد تعليم المسيح اطلبوا هو طلب بدالة بعد أن يتم الفهم ومثل هذه الطلبات تقبل. وهو تصريح دائم بأن طلباتنا ستقبل أمام الآب باسم المسيح (عب19:10-23). وحينما يستجيب الآب يكون.. فرحكم كاملاً. الفرح الكامل هو عطية الروح القدس لذلك فأهم ما نطلبه هو الامتلاء من الروح القدس. وهو كامل لأن الفرح الزمني يطفئه الحزن وهذا سريعاً ما يحدث. أمّا الفرح الذي سيسكبه المسيح عليهم حينما يشرق بوجهه من السماء ويطلع عليهم.. “سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم” فهو فرحه الخاص الذي فيه نتذوق بهجة الحياة الأبدية مسبقاً (ونقارن بين 13:17 + 11:15 + 1يو3:1-4) لنرى أن الفرح الكامل هو في الشركة مع الآب والابن. والفرح الحقيقي هو أن المسيح قام ونحن قمنا معه. ولكن هناك من يهتم بأن يفرح قلب الله. هل نطلب من الله أن يفرح هو بنا، الحقيقة أن فرح الله سينعكس علينا فنفرح فرح حقيقي.

 

آية (25): “قد كلمتكم بهذا بأمثال ولكن تأتى ساعة حين لا أكلمكم أيضًا بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية.”

الأمثال= كان المسيح يعلمهم عن السماويات والحقائق الإلهية بأمثال ورموز كمثل الكرمة والأغصان والمرأة التي تلد.. إلخ وهذه الرموز والأمثال تحتاج إلى إستفسار وشرح. والمسيح استخدم هذا الأسلوب لأنه لو تكلم بكلام مباشر فلن يفهموا أو هم سيسيئوا الفهم، أمّا حين يحل الروح القدس عليهم يعطيهم استنارة بها سيدركون كل الحقائق وما غمض منها كعلاقة الآب مع الابن= تأتي ساعة حين أخبركم= هذه الساعة هي وقت حلول الروح القدس لذلك لم يقل تأتي ساعة وهي الآن. فالفهم بدون الروح القدس صعب على مستوى الفكر البشري. أمّا بعد حلول الروح القدس فسيصير الكلام واضحًا على مستوى الوعي الروحي (راجع يو36:13 + 5:14 + 28:13 + 27:8 + 7:13 + 8: 28 + مر18:7، 21 + 32:9 + لو45:9 + 34:18). فكيف نفهم أسرار السماوات بعقل جسداني، أمّا الروح القدس فهو يرشد لجميع الحق ويكشف كل يوم عن معاني جديدة وأعماق جديدة لكلمة الله التي يعلمها لنا ويذكرنا بها حينما نقف أمام الله بروح الصلاة والطلبة.

علانية= كان كلام المسيح علانية ولذلك نفهم أن العلانية هنا المقصود بها ليس أنه أمام الناس. لكن العلانية هي أن يكون الكلام واضحًا أمام قلوب التلاميذ بدون أمثال توضيحية إذ صار هناك إمكانية للفهم في وجود الروح القدس داخلنا، الذي يعلن لنا حتى أعماق الله. (1كو10:2) فالمسيح سبق وتكلم لكنهم لم يفهموا بسبب أذانهم المغلقة. أمّا حينما يحل الروح القدس ويفتح أذانهم وبصائرهم يصير الكلام علانية أي يصل لقلوبهم. فعدم معرفتهم بالمسيح معرفة واضحة جعلهم لا يعرفون الآب بوضوح. أما الروح القدس سيعطي الشعور بالبنوة فنصرخ “يا آبا الآب” فندخل في علاقة خاصة مع الآب والابن وهذه هي العلانية. وللآن هناك من يقول يا ليت المسيح يظهر لنا والحل سهل أن نصلي والروح يفتح قلوبنا فنرى ونسمع علانية والخطوة الأولى هي الإيمان (يو24:5).

 

آية (26): “في ذلك اليوم تطلبون باسمي ولست أقول لكم أني أنا اسأل الآب من أجلكم.”

في ذلك اليوم= الموضوع ليس هو نطق اسم يسوع، بل هو حالة الوحدة بيننا وبين المسيح بالروح القدسفاليوم هو إذاً يوم حلَّ الروح القدس فيضرم الحب والمعرفة. والحب يولد الطلبة. والطلبة تقبل بسبب المسيح الحاضر داخلنا متحداً بنا. لست أقول لكم إني أنا أسأل الآب من أجلكم= المسيح لم يقل لن أسأل ولم يقل لن أشفع فيكم. فالمسيح سبق وأخبرهم في آية (23) أن كل ما يطلبونه بإسمه سيقبله الآب. ولكن المسيح هنا يقول لهم أنه أزال كل حاجز بينهم وبين الآب بعد أن تم الصلح (أف16:2-19). أزال المسيح كل حاجز يفصل بيننا وبين الآب بعد أن كان إله محتجب (إش15:45 + مز24:44) والمسيح رفع هذا الحجاب وجعلنا بنين ولنا دالة البنين نشعر بمحبة الآب. ليس معنى كلام المسيح أنه ليس هناك داعٍ لشفاعته بل هو يشجع التلاميذ أن يتكلموا مع الآب لأن الآب يحبهم. هذه الآية هي منتهى ما كان المسيح يريده من عمله. أي أن يظهر الآب ويستعلن الآب. وهو هنا يعلنها صراحة أن الآب يحبنا. خصوصاً أن الابن اتحد بنا فصرنا أبناء لنا صورة الابن. وكما أن الروح القدس يشهد للإبن ويعطينا رؤية صحيحة له، نرى هنا الابن يظهر لنا محبة الآب، فعمل الابن أنه يستعلن لنا الآب (يو1: 18).

 

آية (27): “لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم أني من عند الله خرجت.”

هنا المسيح يوضح لماذا أصبح من غير الضروري أن يسأل المسيح الآب من أجلنا والسبب أنه يحبنا. ولماذا يحبنا الآب؟ هذا لأننا أحببنا ابنه وآمنا به (21:14 + 1يو10:4، 19). فالآب يحب من يحبون ابنه ، وإذا عدنا لمفهوم أن الحب يعبر عن الوحدة، يكون من آمن بالمسيح وأحبه معناه أنه اتحد به، ويكون هنا حب الآب هو كما وقع الأب على ابنه الضال العائد وأحتضنه وقبله، وهذا يعنى أن المسيح الذي إتحدنا به يحملنا إلى حضن أبيه. ونحن نحب المسيح كإستجابة لمحبته هو لنا. فالله بادر بإعلان محبته إذ كان البشر في خطاياهم كالعميان لا يدركون محبة الله. لاحظ أن محبة الآب هنا للمؤمنين بالمسيح هي محبة خاصة غير محبته لكل العالم. محبته للمؤمنين فيها صداقة لهم، وهم قريبين لقلبه جدًاً وأعزاء عنده. المسيح بهذا يفتح إدراكهم لمحبة الآب لهم.

خرجت :- والخروج من…. له 3 حالات في اليونانية:-

  1. بمعنى الخروج والإبتعاد وهذا التعبير إستخدمه التلاميذ عن إيمانهم (يو30:16) وهذا بقدر معرفتهم في ذلك الوقت.
  2. خروج مع بقاء بجانب ، كزمالة. وهذه إستخدمها المسيح ولكن ليعبر بها عن وجهة نظر التلاميذ عن المسيح في هذه الآية فهو يعبر عن قدر فهمهم.
  3. خروج من الداخل مع البقاء في الجوهر (يو28:16) وهذا هو تعبير المسيح عن نفسه، ويشير المعنى أن الابن هو من الله في وجوده وكيانه ومجده قبل الميلاد والتجسد. وهو باقٍ مع الله بالرغم من تجسده وبالرغم من خروجه. هو خروج دون انفصال عن الآب في الجوهر، = خروج النور من الشمس، هذا له صفة الاستمرارية دون انفصال.

إذاً في هذه الآية فإن خروج لا يعني الانفصال بل الاتصال كما شرحها قانون الإيمان نور من نور وهم آمنوا بهذا بأنه خرج من عند الآب لذلك أحبهم الآب بسبب إيمانهم بإبنه. وكلمة خرجت تشير للتجسد. فالإبن بلاهوته لم يفارق الآب ولكن لأنه ظهر بالجسد على الأرض فقد ظهر كأنه ترك مجده لأنه أخلى ذاته. وقوله خرجت تشير أيضاً للوحدة بين الآب والابن التي شرحها المسيح في (13:3)، وتشير لأن رسالة المسيح هي من عند الآب.

 

آية (28): “خرجت من عند الآب وقد آتيت إلى العالم وأيضًا اترك العالم واذهب إلى الآب.”

هذه الآية فيها خلاصة عمل المسيح وفيها إرسال الآب للابن وميلاد الابن بالجسد ثم آلامه وقيامته وصعوده للآب. خرجت من عند الآب= من= هنا تعني من داخله فهو من ذات طبيعة الآب وتشير لأزلية الابن الذي هو نور من نور ومن نفس جوهر الله. وأنه في مجد أزلي. وتشير للتجسد لأن الابن في تجسده ظهر للعالم في جسده، وحده مع أنه قائم دائم في أبيه. أتيت إلى العالم= تشير لتجسد الابن وأنه أخذ صورة عبد. أترك العالم= تشير لأن الابن أتم رسالته التي أتى لأجلها. وهو تركه بحسب الظاهر حينما صعد أمام تلاميذه ولن يعودوا يرونه بالجسد ولكنه باقٍ في كنيسته دائمًا (مت20:28). أذهب إلى الآب= تشير لأبدية الابن ومجده الأبدي. هذا الذهاب كان سببًا في أن يجيء الروح القدس للكنيسة. والابن حينما يذهب لحضن أبيه سيأخذنا لحضن الآب. وذهابه للآب هو بجسده فلاهوت الابن لم يفارق الآب أبدًا. إذًا نفهم أن قوله خرجت يشير لإخلاء ذاته أخذًا صورة عبد. وقوله أذهب هي إشارة للمجد الذي سيحدث للجسد (ناسوت المسيح). فهو سيحمل ناسوته معه ذاهبًا للآب، فيكون للجسد نفس مجد اللاهوت= “كما غلبت أنا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ21:3). فناسوت المسيح لا يفارق لاهوته أبدًا. وهذا معنى جلس “عن يمين الآب”

 

آية (29): “قال له تلاميذه هوذا الآن تتكلم علانية ولست تقول مثلًا واحدًا.”

علانية= ظن التلاميذ أن هذا الكلام هو العلانية لأنه لا يقول أمثال ولم يفهموا أن العلانية الحقيقية لن تحدث إلاّ بحلول الروح القدس.

آية (30): “الآن نعلم أنك عالم بكل شيء ولست تحتاج أن يسألك أحد لهذا نؤمن أنك من الله خرجت.”

حقيقة هم لم يكونوا فاهمين لكل شيء لكن التلاميذ يظهرون هنا اندهاشهم من أن المسيح كان يعرف أفكارهم، وهذا رد على آية (19). ولكن فهم التلاميذ كان ناقصًا. فهم بدون حلول الروح القدس عليهم ما كانوا يفهمون سوى الواقع الزمني. هم لم يفهموا مثلًا من هو المسيح ولا علاقته بالآب ولا أهمية الصلب وأنه ليس عن ضعف. وهذا ما تأكد في إنكار البعض وهروب البعض منهم بعد ساعات قليلة من هذا الحديث.

 

آية (31): “أجابهم يسوع الآن تؤمنون.”

الآن= المسيح يقارن بين قولهم الآن أنهم يؤمنون وبين ما سيحدث بعد قليل من عدم إيمان وهروب. كأن المسيح يريد أن يشرح لهم أن إيمانهم الآن على مستوى قدرتهم واحتمالهم، لذلك سيهربون في خوف، أمّا حينما يحل عليهم الروح القدس سيتخذ إيمانهم أبعادًا وأعماقًا جديدة تعطيهم شجاعة لاحتمال الآلام. ولفظ الآن يساوي قول المسيح لبطرس في (يو37:3،  38) “أتضع نفسك عني” حينما اندفع بطرس في شجاعة ناقصة يعرض أن يضع نفسه عن المسيح. إذًا قول المسيح الآن= هو تساؤل فيه شك في مستوى إيمانهم وفهمهم وإدراكهم لحقيقة الأمور. ولذلك أخبرهم بما سوف يحدث “هوذا تأتي ساعة.. تتفرقون.. وتتركونني وحدي” (آية32). فأين هذا الإيمان إذًا. كل ما حدث أنهم دهشوا أن المسيح عرف أفكارهم وتساؤلاتهم عن معنى كلمة “القليل” التي قالها آيات (16-19) وأنهم أرادوا أن يسألوه عنها.

 

آية (32): “هوذا تأتى ساعة وقد أتت الآن تتفرقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي وأنا  لست وحدي لأن الآب معي.”

لأن الآب معي= قارن مع “إلهي إلهي لماذا تركتني” فنفهم أن الآب لا يترك الابن أبدًا. إذًا المعنى لماذا تركتني لهذا الصليب؟ والإجابة.. حبًا وخلاصًا للبشر. والتلاميذ أعلنوا أنهم آمنوا بالمسيح والمسيح يقول لا بل هي لحظة ضعف ستنكرون فيها وتهربون. إن قوتكم الآن مستمدة من وجودي وحين أغيب سيغيب إيمانكم. المسيح هنا لا يعاتب بل يقرر واقع سيحدث وتنبأ عنه أشعياء (1:63-6) وهو يخبرهم ليتأكدوا منه إذ يحدث ما قاله لهم، وليتأكدوا أنه يحبهم حتى إذا أنكروه وهربوا. وكلمة خاصته قد تعني بيته (كما جاءت في يو27:19) أو تعني مهنته (كما جاءت في هذه الآية). والشيطان ضرب تلاميذه بالخوف ليتركوه فلا يقف أحد بجانبه أما الآب فكان معه (مز16:22-20) “أمّا أنت يا رب فلا تبعد” الإنسان العادي يلجأ لخاصته عند الضيق ولكن الإنسان المؤمن فيلجأ لله، بل أن المؤمن يسند الآخرين ولا يطلب من إنسان أن يسنده بل يطلب من اللهتتركونني وحدي= هل يوجد منا الآن من يتركه وحده ويرفض أن يجلس معه أو يخدمه..إلخ. الآب معي= ابن الله يشعر باستمرار أن الله معه ولا يحتاج، ولا يشعر بالاحتياج لأحد.

 

آية (33): “قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام في العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم.”

حينما يرى التلاميذ أن كلام المسيح هنا قد تحقق يزداد إيمانهم به فيكون لهم سلام. لكم فيَّ سلام= ولم يقل لكم سلام فقط (السلام ليس في حل مشكلتي بل في وجود المسيح في حياتي) فلا سلام حقيقي سوى في المسيح إذا آمنا به (لا تبحث عن السلام في العالم وملذاته بل إطلبه في الإتحاد بالمسيح وفي شخص المسيح). هذا الذي غلب على الصليب مستعد أن يغلب فينا عدونا المهزوم إن نحن أعطيناه قلبًا مفتوحًا وإرادة خاضعة، إذًا جهادنا نتيجته مضمونة. المسيح غلب الموت وغلب الخطية والشيطان فلماذا الخوف. وهذا المسيح الغالب يحل في قلوبنا بالإيمان (أف17:3) فلا بد وسنغلب + (1يو4:5، 5) فنحن نخطئ لو تذمرنا في الضيق ونخطئ إذا لم نجد سلامًا في الداخل. فالمسيح الذي يهب السلام وهو مقبل على الصليب هو قادر أن يعطيه دائمًا للمؤمنين الثابتين فيه. المسيح غلب العالم والشيطان بناسوته وكان هذا لحسابنا، لكي يغلب بنا وفينا. لذلك رأيناه وقد “خرج غالبًا ولكي يغلب” (رؤ2:6) هو غلب على الصليب وما زال يغلب فينا.

ملخص الإصحاحات السابقة (14، 15، 16)         مقدمة لإصحاح (17)

تكلم المسيح عن الإيمان به وبأنه يجب على المؤمن أن يقبل شركة صليبه فيتحمل الآلام والاضطهاد والرفض. وأن هذا سيعطي للنفس فرح حقيقي كأنها جازت الموت والقيامة وغلبت العالم. وهذا يحمل معنى إتحاد النفس بالمسيح فتجوز في نفس الطريق لأن المسيح هو الطريق. فهو يأخذنا فيه. ولذلك بدأ المسيح بغسل الأرجل لينقي تلاميذه استعدادًا لهذا الإتحاد فلا شركة للنور مع الظلمة. ودعا تلاميذه للمحبة ليتحدوا فبدون محبتهم له ومحبتهم لبعضهم البعض فلا إتحاد معه. لذلك فالوصية الجديدة للعالم هي المحبة (34:13) وهي على شكل محبة المسيح الباذلة. والمسيح صوَّر هذه الوحدة بمثل الكرمة والأغصان وأن على الأغصان (المؤمنين) أن يكون لهم ثمار وبهذه الثمار يتمجد الآب (8:15). وهنا نرى أن وحدة المسيح مع تلاميذه هي التي أنشأت هذا الثمر. وهذه الوحدة هي فعل لمحبة الآب التي استعلنت في المسيح. فأن يكون هناك ثمر فهذا هو الرد المباشر لمحبة الآب. وحتى الاضطهاد الذي سيجوزه التلاميذ في العالم فهو ثمرة الوحدة مع المسيح (أع4:9 + يو20:15، 21) والمسيح يتألم أيضًا لآلامنا (أش9:63). وإرسال الروح القدس سيكون لتعميق هذه الوحدة والحفاظ عليها ومن خلال هذه الوحدة يعلن المسيح أسراره لأحبائه (15:15). وهذا الإتحاد كان من نتائجه أن المسيح بموته افتدى البشر وأعطاهم حياته (غل20:2). والمسيح أعطى تلاميذه جسده ودمه لتثبيت هذه الوحدة. وكأن الحب الذي يربط المسيح بكنيسته وتلاميذه وبالتالي الوحدة بين المسيح وكنيسته هو من نفس نوع وعلى شكل محبة الآب للابن والوحدة بينهما (9:15).

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 15 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 17
تفسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى