تفسير إنجيل يوحنا ٤ للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الرابع 
(الســــامرية)

كان اليهود يتعالون على السامريين. وكان السامريون يكرهون اليهود. ولذلك صارت السامرة ملجأ أميناً للمسيحيين الذين هربوا من اليهود (أع1:8). وقد ذهب فيلبس الشماس للكرازة في السامرة (أع5:8-8،14-17). والمسيح بعد أن حضر عرس قانا الجليل (يو2) ذهب ليفتقد شعبه في اليهودية ويطهر هيكله. ثم تقابل مع ناموسيٌ (يو3) ثم ها هو يفتقد امرأة نصف أممية. هي قصة تطبيق لما رأيناه من قبل عن التجديد. فها هو السيد المسيح يسعى وراء هذه السامرية الساقطة ليحولها إلى كارزة. وهكذا يسعى الله وراء كل نفس خاطئة ليجددها.

 

معاملات المسيح مع الخطاة:

المسيح هو الطبيب الذي أتى ليشفي مرضى الخطية، وكطبيب حكيم يعرف ما الذي تحتاجه كل نفس، فهو له طريقة مع كل نفس تختلف عن الأخرى، لكنه يسعى وراء كل نفس طالباً عودتها للأحضان الإلهية.

  1. فها هو مع آدم: يقول له أين أنت، ليحثه على الإعتراف بخطيته.
  2. وها هو مع قايين: يسعى وراءه ليمنعه من السقوط، بل حتى بعد أن سقط وقتل أخيه. وربما هناك من يقول ولماذا يسعى الله وراء شخص مثل قايين وهو يعلم أنه لن يستجيب.

أ‌-      هو يسعى وراء كل نفس في حب أبوي مشتاقاً لرجوع كل نفس.

ب‌-في هذا نجد معنى الآية “تتبرر في أقوالك وتغلب إذا حوكمت” ففي الدينونة لن يجرؤ إنسان أن يقول أن الله لم يعطني فرصة.

  1. مع المرأة السامرية: إذ هي لا تعرف شيئاً عنه، يذهب إليها ويعرفها بنفسه ويتحاور معها.
  2. مع الإبن الضال: لا يذهب إليه، فهو ترك بيت أبيه بإرادته، بعد أن تذوق حب أبيه. فهذا لن يجدي معه الحوار. لكن الله في محبته يحاصره بالضيقات والمجاعة ليقارن مع الحال في بيت أبيه ويندم ويعود.
  3. المرأة الخاطئة (لو7): يشجعها ربما بنظراته الحانية ويعلن لها أنه غفر لها خطاياها الكثيرة فتحبه كثيراً وتبكي عند قدميه وتنال الغفران والخلاص. والكتاب لم يذكر كيف عرفت المرأة أن المسيح غفر لها الكثير فأحبته كثيراً. والكتاب حين يصمت عن شئ فهو يقول شئ. وما نتعلمه من هذا أن المسيح له طريقة تختلف من واحد لآخر.
  4. المرأة الكنعانية: يصدمها بقوله أنها كالكلاب في نجاستها. فهي تعيش مثل الكنعانيين تشرب الإثم كالماء وقبل أن يشفي أمراضها الجسدية (إبنتها) كان لابد من شفائها من خطيتها. السيد هنا يضعها أمام مرآة لتدرك مدى نجاستها، فتتوب وتشفي (مت22:15-28).
  5. ضعف إيمان فيلبس: يعالجه بسؤال عن شراء خبز للآلاف فيحسب فيلبس المبلغ ويعلن إستحالة تدبير مبلغ. ثم يصنع السيد المعجزة ويُشفى فيلبس من عدم إيمانه.
  6. مريض بيت حسدا (يو5): هنا مريض لا يشغله سوى مرضه ومن يلقيه في البركة، هذا لن يصلح معه حوار أو تبكيت بل هو لن يحتمل تجربة جديدة فيكفيه ما فيه. فالسيد يشفيه ثم يطلب منه أن لا يخطئ ثانية.

 

ولكن نرى الخطاة في معاملتهم مع المسيح يختلقون المعاذير حتى لا يتوبوا ويرجعوا وحتى لا تتواجه النفس مع نور المسيح ولتبقى في ظلمة الخطية، وكمثال لأعذار الخطاة نرى هذه السامرية:-

1)  أنت يهودي وأنا سامرية: فلا معاملات بينهما. والآن يظن كثير من الناس أنهم طالما أخطأوا فالله لن يتعامل معهم. بل كثيرون يمتنعون عن الذهاب للكنائس إذا سقطوا ظناً أن الله لن يقبلهم. ولكن ألم يأتي السيد المسيح للخطاة ليشفيهم من خطيتهم.

2)  لا دلو لك والبئر عميقة: لن تستطيع أن تأتي بالماء فلا توجد وسيلة لديك. والآن كم من الناس لديهم مشاكل ولا يتصورون أن الله لديه حلول لها. وهذا ما حدث مع شعب إسرائيل إذا وجدوا الماء مراً، ففكروا أن الله غير قادر على حل هذه المشكلة.

3)    إعطنى هذا الماء: ظناً أن الماء ماء مادي. وكثيرون لا يعرفون المسيح سوى للماديات، بغير تفكير في عطاياه الروحية.

4)  أباؤنا سجدوا في هذا الجبل: مناقشة غير مجدية. كثيرون إذا كلمتهم عن الذهاب للكنيسة يبدأون في الحوار عن الفروق بين الأديان والفروق بين الطوائف وتتوه المناقشة. والمطلوب التوبة والذهاب للكنيسة.

 

السامرة: محددة باليهودية جنوباً وبالجليل شمالاً. ويقال أن طولها كان 47ميلاً وعرضها 40ميلاً. وأنها ورثت أرض منسى وأفرايم بعد العودة من السبي. ولكنها تقلصت أيام المسيح لبعض مدن تحيط بالسامرة. وكانت السامرة قد ذهبت للسبي على يد أشور وخربت البلاد. والسامريون هم بقايا هذا السبي بعد أن تزاوجوا مع الوثنيين الذين أتى بهم ملك أشور ليسكنوا إسرائيل محل أهل البلاد الذين ذهبوا إلى السبي. وكان الدم اليهودي هو الغالب. وأصل العداوة هي عملية الإصلاح التي قام بها عزرا ونحميا لتنقية الدم اليهودي. فطردوا كل من تزوج من السامرة، ورفض اليهود أن يشترك معهم السامريين في بناء الهيكل. وكان السامريون لا يعرفون سوى أسفار موسى الخمسة فقط، ولكن اليهود عاملوهم كهراطقة.

وكانت عبادتهم تقام في هيكلهم على جبل جرزيم الذي أقيمه سنة 409ق.م. (وضع السامريون في توراتهم إسم جبل جرزيم عوضاً عن جبل عيبال [تث4:27-8]) وحدث في هذه الأيام أن رئيس كهنة اليهود الكبير “يادوا” إمتنع أن يسمح لأخيه منسى أن يظل متزوجاً من بنت سنبلط السامري وطلب منه أن يطلقها فرفض منسى فأرغمه يادوا على الفرار من اليهودية. فذهب منسى وأقام نفسه رئيس كهنة لهيكل جرزيم عند السامريين سنة 332ق.م بمساعدة سنبلط حميه، الذي وعده بهذا إن لم يطلق إبنته. وصارت العبادة في جرزيم صورة طبق الأصل من هيكل أورشليم. وقد هدم يوحنا هركانوس هيكلهم في جرزيم سنة 130ق.م. ولم يبنى ثانية. وقد أعاد هيرودس بناء السامرة وأسماها سباسطية على إسم إغسطس قيصر “(سبستوس باليونانية هي أغسطس باللاتينية) وأعاد بناء شكيم وأسماها نيابوليس وهي نابلس حالياً.

ولقد إحتقر اليهود السامريين وأسموهم نجسين، بل كانوا يرفضون أن يقولوا إسم سامري على ألسنتهم. وكان السامريون لذلك يكرهون اليهود ويهاجمونهم إذا مروا في السامرة، لذلك كان مرور المسافرين اليهود في السامرة من الخطورة بمكان. وكان اليهود يقولون إن من يقبل سامرياً في بيته ويستضيفه وجب أن يذهب هذا اليهودي إلى السبي هو وبنيه. ومما زاد العداوة مع السامريين أن بعض السامرين دخلوا خلسة سنة 6ق.م. وألقوا عظاماً بشرية (وهي تعتبر نجاسة) داخل الهيكل ليغيظوا اليهود. ولكل هذا كان اليهود يعتبرون أن أكل السامريين كلحم الخنزير. فلا يأكلون أكلهم ولا يشترون منهم. وكانوا إذا أرادوا أن يشتموا أحداً قالوا عنه أنه سامري (يو48:8).

ومن هنا نتصور وقع تعاليم المسيح عن السامري الصالح، وشفاء عشرة برص ليعود منهم واحد وهو سامري. بل طلب المسيح من تلاميذه أن يبشروا في السامرة بعد أن يبشروا في اليهودية. ومن محبته لكل الناس عَلَّم تلاميذه أن لا يتقيدوا بتعاليم اليهود وأن يذهبوا ليبتاعوا طعاماً من السامرة، فهو أتى لأجل الجميع ولأجل هذه السامرية الخاطئة، فهو الذي يرحم المنبوذين.

وكان اليهود والسامريين متفقين في أشياء كثيرة.

  1. هؤلاء يسمون أنفسهم إسرائيليين (اليهود). والسامريين يسمون أنفسهم يعقوبيين وكلاهما شخص واحد.
  2. يقدس كلاهما السبت والأعياد.
  3. يمارس كلاهما الختان كعقيدة أساسية.
  4. يقدس كلاهما توراة موسى.

ونلاحظ أن المسيح في حواره مع هذه السامرية كان يجادلها ليرفع إيمانها، وهذا ما نلاحظه درجة درجة في كلماتها:-

1-   أنت يهودي وأنا امرأة سامرية. (هنا هو في نظرها مجرد رجل يهودي).

2-   يا سيد (هنا رفعت درجته)

3-   ألعلك أعظم من أبينا يعقوب (بدأت تشك أنه أعظم من يعقوب).

4-   أعطني هذا الماء لكي لا أعطش (بدأت هي تطلب منه).

5-   يا سيد أرى أنك نبي (هنا صار في نظرها أنه نبي).

6-   أنا أعلم أن مسيا يأتي.. أنا هو (هنا عرفت حقيقته)

فطريقة الله الحوار والإقناع “أقنعتني يا رب فإقتنعت وألححت علىّ فغلبت” (أر7:20)

 بين نيقوديموس والسامرية

نيقوديموس

السامرية

–         رجل فريسي طاهر في سيرته.

–         حديث كان في الليل.

–         شخص معروف أعلنه الكتاب.

–         ظل إيمانه مخفياً حتى وقت الصليب.

–   ضعف الرجل كان في قوته، فما عطّله كان التصاقه بالسنهدريم وخوفه على مركزه.

–   كانت الصعوبة أمامه عقلية. لذلك وجه المسيح كلامه له ليفتح بصيرته

–         امرأة سامرية ساقطة.

–         الحديث في وضح النهار.

–         أخفى الكتاب شخصها.

–         ظهر إيمانها في الحال.

–   كانت قوة المرأة في ضعفها فهي تقابلت مع المسيح الذي شفاها من خطيتها.

–   كانت الصعوبة أمامها خطيتها. لذلك وجه المسيح كلامه إلى ضميرها لتتوب فيطهرها.

– العجب أن كلام المسيح لكليهما كان عن الماء

 

 

الآيات (1-3):

“فلما علم الرب أن الفريسيين سمعوا أن يسوع يصير ويعمد تلاميذ اكثر من يوحنا. مع أن يسوع نفسه لم يكن يعمد بل تلاميذه. ترك اليهودية ومضى أيضاً إلى الجليل.”

فلما علم الرب.. أن يسوع. قوله الرب هذا يشير للمسيح في لاهوته كما يراه يوحنا. وقوله يسوع فهذا يشير له كإنسان كما يراه الفريسيين. يصير= يجذب إليه الناس ويتلمذهم ويعمدهم بعد أن يتلمذهم.

فبعد الإثارة التي فعلها تلاميذ يوحنا، والمشاكل التي توقع المسيح حدوثها من الفريسيين، إنسحب من اليهودية إلى الجليل منعاً للمصادمات معهم قبل الوقت (وكانت عودة المسيح للجليل هذه هي بداية الخدمة في الأناجيل الثلاثة الأخرى). وتلاميذ يوحنا أشاعوا أن المسيح يعمد لذلك يركز يوحنا على أن المسيح لم يكن يعمد فهؤلاء كاذبين يريدون إثارة الجماهير ضد المسيح. ونلاحظ أن المعمودية المسيحية كما نعرفها لم تبدأ إلا بعد حلول الروح القدس، والروح القدس لم يحل على التلاميذ إلا بعد موت المسيح وقيامته. فالمعمودية هي موت مع المسيح وقيامة معه. والمعمودية لا تكتسب فاعليتها إلا بالروح القدس.

 

 

ترتيب الأحداث:

في (يو43:1) توجه الرب إلى الجليل.

في (يو13:2) عاد إلى أورشليم.

في (يو3:4) توجه إلى الجليل فوصلها في (آية43).

وفي (يو1:5) توجه إلى أورشليم.

وفي (1:6) عاد إلى الجليل.

وفي (يو10:7) عاد إلى اليهودية وظل هناك إلى ما بعد القيامة.

الآيات 4-6

آية (4): “وكان لابد له أن يجتاز السامرة.”

الطريق عبر السامرة شاق وحار ومحفوف بالمخاطر بسبب عداء السامريين لليهود وتعديهم على المارة منهم. وكان هناك طريق آخر من شرق الأردن شمالاً للناصرة. لابد له أن يجتاز= ليؤمن أهلها. فالمسيح أتى وتجسد لهذا السبب. (وكان اليهود يتحاشون المرور بالسامرة أيضاً حتى لا يتنجسوا).

 

آية (5): “فأتى إلى مدينة من السامرة يقال لها سوخار بقرب الضيعة التي وهبها يعقوب ليوسف ابنه.”

سوخار= تحت جبل اللعنات (جبل عيبال) وهو في مقابل جبل جرزيم. وبين سفحي الجبلين مدينة شكيم (نابلس حالياً). وسوخار (خربة عسكر حالياً) هي بجانب شكيم. والمرأة أتت إلى بئر جافة تقريباً ووقت الظهر، بينما من يستقي يأتي ليستقي صباحاً، فهي خجلانة من نظرات الناس إليها وهي امرأة فقيرة وإلاّ أرسلت خدمها ليسقوا لها. وهبها يوسف= (راجع تك20:48-22+ يش32:24).

 

آية (6): “وكانت هناك بئر يعقوب فإذ كان يسوع قد تعب من السفر جلس هكذا على البئر وكان نحو الساعة السادسة.”

تَعِبَ= فهو إنسان كامل يتعب، وهو يتعب لتؤمن السامرية. جلس هكذا= هذا تعبير يوناني يشير لمُتْعَب إنهارت قواه فإرتمى في جلوسه متعباً وفي عطش من حرارة الجو، ودون تنظيف للمكان. البئر= هناك لفظان في اليونانية للبئر. الأول يشير لينبوع طبيعي ماؤه جارٍ ويستخدمه لها يوحنا إذا قالها المسيح. أمّا حين تقولها السامرية فيستخدم لها يوحنا تعبير آخر يشير للبئر الذي ماؤه راكد وشحيح (أر13:2) مقارنة بين ينبوع يعطيه الله وبئر شحيح يحفره إنسان). وفي هذا إشارة للمسيح ينبوع الحياة (رؤ6:21،17:22). الساعة السادسة= هي الساعة التي صُلِبَ فيها الرب ليموت فيعطي حياة. ونلاحظ أن المسيح قال في الساعة السادسة أنا عطشان ويقول التقليد أن المرأة السامرية إسمها فوتينا. ويقال أن طول الحبل المستخدم في بئر يعقوب هذا 106قدم.

الآيات 7-26

الآيات (7،8): “فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء فقال لها يسوع أعطيني لأشرب. لأن تلاميذه كانوا قد مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً.”

أعطيني لأشرب= قد يطلب منا المسيح خدمة بسيطة ليمنحنا هو بركة كبيرة. واهب الحياة يتحول لشحاذ محتاج ولكن ذلك ليعطي لهذه المرأة حياة.

وهناك من يستثقل خدمة المسيح غير عالم أن عطايا المسيح لا حصر لها. هناك من لا يزال يظن أن المسيح محتاج لخدماته غير عالم أن من يقدم خدمة للمسيح يأخذ في مقابلها مئة ضعف. هذه مثل إعطني قلبك.. ولكنه حين يأخذه يملأه فرحاً. ماذا كانت أتعاب المرأة، هي ستنزل الدلو لتحصل على بعض الماء ليشرب المسيح. وماذا كانت ستأخذ؟ ماءً حياً. وكل منا يظن أنه يتعب في الصلاة والصوم.. ولكنه ماذا سيحصل عليه من نعم. المسيح لا يبقى مديوناً. هي تصورت أنها ستتعب لأجل المسيح ولا تعلم مقدار تعبه لأجلها. بل هو حينما يعطي، يعطي ذاته. لكن عموماً هناك نقطة إيجابية لدى هذه السامرية وهي قابليتها للنقاش مع المسيح، فهناك من يرفض. وعجيب أن المسيح عطش وطلب أن يشرب ثم لم يشرب، فهو فرح بخلاص نفس السامرية. (فطعام المسيح وشرابه هو إجتذاب النفوس ليخلصها) لقد طغت حاجة المرأة على حاجته هو. والمسيح في محبته قادر أن يهب ماء الحياة ويحول الماء إلى خمر وفي نفس الوقت يرسل تلاميذه ليشتروا طعاماً ولا يعمل معجزة لأجل نفسه. يشبع الآلاف حتى لا ينصرفوا جائعين ولا يحول الحجارة إلى خبز لنفسه. والمسيح بسؤاله للسامرية أراد أن يعطيها لا أن يأخذ منها. هو هنا يبحث عن خلاص نفس امرأة فقيرة (تستقي لنفسها وليس لديها من يستقي لها)، وسامرية أي نصف أممية بل زانية، وهناك عداء بينها وبين اليهود. والسامرية فرغ ماؤها وسط النهار كما فرغت خمر عرس قانا الجليل، وهذا معناه أن الفرح أعوز الجميع. ونلاحظ أن كلمات المسيح للسامرية 7 كلمات (7 رقم الكمال) تلاميذه كانوا قد مضوا أرسلهم كلهم حتى لا يجرح مشاعر المرأة وهو يكلمها أمامهم.

 

آية (9): “فقالت له المرأة السامرية كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية لأن اليهود لا يعاملون السامريين.”

أمر غريب أن يتكلم رجل مع امرأة ويهودي مع سامرية. ويشرب من إناء سامري نجس (أنظر مت5:10+ لو52:9،53+ يو48:8+ أع28:10). وهي كخاطئة في محضر المسيح الذي تلوح عليه ملامح القداسة بدأت في بجاحة تتكلم كأنها تدافع عن عفتها المزعومة لكنها سريعاً ما تغيرت في أسلوبها. هي ظنت أنها لا تعرفه وهو لا يعرفها، ثم إكتشفت أنه يعرف عنها كل شئ. وأنها هي أيضاً تعرف أنه المسيا. إذاً كل من يقترب من المسيح سيجد أنه يعرفه وأن المسيح يعرفه شخصياً.

 

آية (10): “أجاب يسوع وقال لها لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماءً حياً.”

ماءً حياً= (رؤ17:7+ 10:22+ إش3:12+ 3:44). وكان اليهود يسمون مياه الآبار مياه ميتة، والمياه الجارية مياه حية. لو كنت تعلمين= المسيح يتمنى لو أنها إكتشفت شخصه الذي يعطي بسخاء ولا يعير فتطلب هي منه، لا تراه مسافراً في عطش بل إلهاً يعطي حياة. لكن غرور الخطية يعمي العيون فلا يدرك الخاطئ إحتياجه للمسيح. لكن المسيح يعرض ذاته دائماً لكي نتعرف عليه فنطلبه فيعطينا حياة. الماء الحي أي الماء الجاري ينظف بإستمرار مجرى المياه من أي قاذورات موجودة. أما الماء الراكد فتجده مملوءاً بالقاذورات. والإنسان المملوء من الروح القدس، يطهره الروح القدس (بالتبكيت والمعونة) من خطاياه لذلك نصلي “روحك القدس جدده في أحشائنا” حتى يعمل عمله وينقينا. وهذا جهاد كل منا أن نصرخ في الصلاة طالبين أن نمتلئ ويتجدد الروح في داخلنا فنتنقى من خطايانا، فهو يعطي الروح للذين يطلبونه بلجاجة (لو13:11) وراجع أيضاً (أف18:5-21) + (2تي6:1) إذاً الإمتلاء (جعل الماء حي جاري) هو نتيجة جهادنا.

 

قصة الماء في إنجيل يوحنا:

(ص2) نجد أول معجزة، وهي تحويل الماء إلى خمر.

(ص3) الإنسان يولد من الماء والروح. والروح ينقص معمودية يوحنا.

(ص4) المسيح ينبوع حي، يعطي ماء حياة.

(ص5) تحريك الماء يشفي.

(ص6) المسيح يمشي على البحر الهائج (هذا يشير لسلطان المسيح على العالم المضطرب).

 لكن ماء البحر ماء مالح يشير للعالم، ومن يشرب من هذا الماء يعطش.

(ص7) من آمن بي تجري من بطنه أنهار ماء حي (38:7).

(ص9) شفاء المولود الأعمى بإغتساله في بركة سلوام.

بهذا نرى أن الماء عنصر أساسي في التحول من الحياة القديمة إلى الحياة الجديدة. والمسيح يتوق أن نولد كلنا جديداً من الماء والروح ويفيض علينا من الماء الحي الذي هو روحه القدوس. الماء هو سر الحياة. والمعنى أن المسيح أتى ليعطينا نحن الموتى، الحياة “فيه كانت الحياة” وكما تقابل إسحق مع رفقة عند بئر. فالتقابل مع عريسنا السماوي يكون عند جرن المعمودية حين نموت معه ونقوم متحدين معه. ويرسل لنا روحه القدوس (الماء) ليحيي نفوسنا.

 

 

 

آية (11): “قالت له المرأة يا سيد لا دلو لك والبئر عميقة فمن أين لك الماء الحي.”

يا سيد= (= LORD كيريي). هنا المرأة العاصية تقبل أن تدخل في حوار مع المسيح. ونرى عطايا الله أنها أكثر مما نظن أو نفتكر، ولكن العقل البشري لا يتخيل أن هذه عطايا الله، بل يضع العراقيل في وجه من يحاول خلاصه، بل يضع الخاطئ قيوداً على نفسه ويتصور أن لا حل لها= لا دلو لك= بل نتصور أن الله ليس عنده حل لمشاكلنا. هي رأت شكله البسيط المتعب من السفر ولم تدري إمكانياته. البئر عميقة= هكذا أتصور عمق مشكلتي التي لا حل لها، أو خطيتي.

 

آية (12): “ألعلك أعظم من أبينا يعقوب الذي أعطانا البئر وشرب منها هو وبنوه ومواشيه.”

السامرية هنا تتحصن بالماضي فتراه أفضل من القفز إلى المجهول. وهكذا فعل نيقوديموس إذ تمسك بشيخوخته ورأى الحل أن يدخل لبطن أمه، وتمسك رؤساء الكهنة بهيكلهم بالرغم من فساده وتمسك تلاميذ يوحنا بمعموديته.

وتقليد السامريين يقول أن يعقوب عندما وقف على هذه البئر وهو في عطش هو ومن معه وصلّى لله فاضت البئر بالماء. ونفس القصة نجدها في تلمود اليهود. فسؤال السامرية هل أنت أعظم من يعقوب أي ستجعل البئر تفيض. فالمشكلة في نظرها أنه لا دلو له ولا حبل طويل فهل تقدر أن تعمل ما عمله أبينا يعقوب وتفيض البئر.

 

الآيات (13،14): “أجاب يسوع وقال لها كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية.”

(راجع أش10:49+ 1:55+ رؤ16:7+ 6:21+ يو35:6). الجسد يشرب ثم يعطش وهكذا، أما الروح فهي تشرب وترتوي ولا تعود تشعر بالعطش بل تطلب المزيد. ومن يشرب من الماء الذي يعطيه الله ينتمي للسماويات فلا تعود الدنيا تشغله بملذاتها. لذلك من عاش للخطية يأتى يوم عليه يتمنى الموت ولا يجده، أمّا من يشرب من الماء الذي يعطيه الله يولد كل يوم جديداً. والماء الذي يعطيه الله هو ماء فياض= أي يروي الآخرين. ومن يشرب ويجري وراء شهوات العالم يعطش الماء الذي أعطيه= عطايا المسيح تفوق كل تصورنا، ماء يروي الروح وليس الجسد فقط. الروح القدس هو الماء. والروح القدس هو الذي يستعلن لنا المسيح فنشتاق أن نعرف أكثر ونراه أوضح، ويصير في داخلنا فرح وتهليل يظل ينبع بفيضان فنعيش بإطمئنان في بهجة الخلاص نشرب منها كل يوم. فالمياه الحية التي أسماها المسيح عطية الله حينما تستقر في نفس الإنسان تصبح قوة حية فاعلة تسكن هيكل الإنسان تحييه وتجدده مثلها مثل عطية الحياة التي ينالها الإنسان من أكل الجسد (يو54:6). وفي سفر النشيد نسمع “أختى العروس جنة مغلقة ينبوع مختوم” أي أن مواردها من الداخل وليس لها حاجة لشئ من الخارج. وماء الحياة من الداخل فعلينا أن لا نسعى إليه خارجاً عن دائرة قلوبنا. وهو أبدي يبدأ في الزمان ولكنه يدخل الأبدية، يروي فلا نحتاج لشئ آخر. ويوقف تياره أن نتركه ونذهب نبحث عن أبار مشققة لا تضبط ماء. “ويقتادهم إلى ينابيع ماء حية” (رؤ17:7).

 

آية (15): “قالت له المرأة يا سيد اعطني هذا الماء لكي لا اعطش ولا أتي إلى هنا لأستقي.”

هنا نرى أول علامات العودة، لقد نجح المسيح أن يجتذبها أي أنها شعرت بالإحتياج إليه، ولكنها كطفل على قدر تفكيره يطلب، فهي تسأل لكي تستريح من عناء جلب الماء يومياً فتستريح وتريح من تخدمهم أي زوجها. والمسيح التقط الخيط فسألها عن زوجها هذا الذي تتعب لأجله، أن تأتي به إليه. ولاحظ أن المسيح لم يعطها الماء الذي طلبته، هو حرك إشتياقاتها لتطلب، ولكن لتحصل على هذا الماء عليها بالتوبة أولاً.

 

آية (16): “قال لها يسوع اذهبي وادعي زوجك وتعالي إلى ههنا.”

الخطية هي العقبة الوحيدة في طريق نوالها للعطية، لذا يتحتم كشفها والاعتراف بها، وإذا حدث سترتوي وتصير نبعاً تشرب منه المدينة وأهلها وزوجها. لكنه يفعل هذا بمنتهى الرقة ودون أن يجرحها بل هو يساعدها. (الجديد في المسيح لا يلبس على عتيق والروح لا يستقر في القلب إلاّ بعد تطهير القلب بالتوبة).

 

الآيات (17،18): “أجابت المرأة وقالت ليس لي زوج قال لها يسوع حسنا قلت ليس لي زوج. لأنه كان لك خمسة أزواج والذي لك الآن ليس هو زوجك هذا قلت بالصدق.”

حسناً قلت= المسيح بهذا قبل إعترافها، وها هو يشجعها ويرى فيها حسنة هي الصدق. بل يكمل ما لم تستطع البوح به من سلسلة خيانات وزنا. ولكن متى إستيقظ الضمير لا يهمه إفتضاح أمره ولا بما يقال عنه. وبما فعله المسيح من كشف الغيب بدأ يظهر لها شخصيته كفاحص للقلوب والكلى. ونلاحظ أن إستجابة الشخص لصوت الله يحدد طريقة خلاصه، فهذه المرأة كان يمكن لها [1] أن تقول له مالك ومالي ومال زوجي [2] أنا حرة [3] تكذب وتقول زوجي مسافر. ولاحظ أن المسيح يعرف كل شئ لكنه يريد الإعتراف. والخمسة أزواج ربما طلقوها أو ماتوا.

 

آية (19): “قالت له المرأة يا سيد أرى انك نبي.”

هنا نرى المرأة قد أحسنت الرؤيا، وقد شعرت بهيبة الجالس أمامها، وحتى هذه اللحظة هي شعرت أنه على إتصال بالله ولكنه إنسان، عندما أفرغت المرأة خطاياها إستضاءت عينها ورأت المسيح على قدر ما استطاعت أن تبصر= أرى أنك نبي. بالإعتراف ينفتح القلب لله فتتدفق نعمة الله داخل القلب. والمرأة شعرت بهذه النعمة أن المسيح قادر أن يرى ما لا يراه الآخرون، ويعلم الغيب فهو نبي.

 

آية (20): “آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وانتم تقولون أن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه.”

ربما هذا السؤال لتغطي على خطيتها، لكن فيه نقطة إيجابية أن العبادة لله كانت نقطة تشغلها. هي حاولت الهروب من ماضيها، ولكن كان المهم أنها إنكشفت لنفسها واعترفت بخطيتها. والأكثر واقعية أنها إكتشفت أن الذي أمامها قادر أن يقودها كنبي في الطريق الصحيح ولكن إلى أين سيأخذها، هل إلى أورشليم حيث يقول اليهود أم إلى جرزيم حيث يقول السامريين. لقد إنقلبت الزانية إلى مصلية تبحث أين تصلي، وهي تبحث بصدق ممن آمنت به أنه نبي. والمسيح لم يدخل في شكليات التدين والمظهريات بل دخل إلى العمق، إلى السجود لله بالروح والحق. إن شكليات العبادة وترك العبادة بالروح يبعدنا عن الله. فنحن لو قدمنا عبادة حقيقية سنعرف أين الحق ولن نعود نسأل أين الحق. يجب ان يكون هدف عبادتنا أن نعرف المسيح.

 

آية (21): “قال لها يسوع يا امرأة صدقيني انه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب.”

تأتي ساعة= هذه هي البشارة بالعهد الجديد، فبصلب المسيح لم يعد هناك داعٍ للذبائح. وبالتالي أصبح واجباً إلغاء الهيكل اليهودي. وصارت العبادة والسجود لأب الجميع= الآب أب الجميع. وعوض التنافر بين اليهود والسامريين ستصبح هناك عبادة واحدة، لواحد فقط هو الآب. صدقيني= هو يستعطفها لتصدقه فتجد راحتها. وكون أن الله يعبد في كل مكان تنبأ عنه الأنبياء (ملا11:1 + صف11:2)

 

آية (22): “انتم تسجدون لما لستم تعلمون أما نحن فنسجد لما نعلم لان الخلاص هو من اليهود.”

لما لستم تعلمون= قال لما وليس لمن. أي القصد العقائد والشرائع والنواميس. فالمسيح لا يتكلم عن شخص الله بل عن أصول العبادة. حتى لا تفهم السامرية أن أورشليم تتساوى مع جرزيم، قال المسيح هذا حتى تفهم أن عبادة اليهود هي الحق، والسامريين ولو أنهم يعبدون الله إلاّ أن الله عندهم غير معروف فهم لا يؤمنون بالأنبياء الذين أعلنوا الله، أمّا اليهود فكانوا يعرفون الله معرفة صحيحة. والمسيح هنا لا يدافع عن اليهود بل عن الحق المعلن لليهود. فالله استأمنهم على أسرار الخلاص. وهو يدافع عن مصدر الخلاص الآتي الذي هو نفسه، ويشفق على السامريين إذ أن عبادتهم تذهب سدى بسبب عدم معرفتهم وغياب الحقيقة. والحقيقة أن المسيح (الخلاص) سيتجسد ويأتي من اليهود، وهذه الحقيقة أعلنها الأنبياء. أما نحن فنسجد= المسيح كلمها بلغتها أنتم ونحن. المسيح كإبن إنسان ضم نفسه في تواضع لجمهور العابدين. الخلاص هو عند اليهود= نرى هنا عدم المجاملة في العقائد. فالمسيح لم يقل “الكل واحد” بل هناك حق وهناك خطأ. وهم إنحرفوا عن أصول العبادة أي عن العقائد السليمة. أما نحن فنسجد لما نعلم= المعرفة التي أعطاها الله لموسى وللأنبياء.

 

آية (23): “ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له.”

هنا المسيح إنتقل من السجود لما إلى السجود “لمن” الآن= لنترك الخلافات لأن الآن أصبح مفهوم السجود الحقيقي مختلف. السجود الحقيقي= أي سجود بإنتماء حقيقي لله، من أناس يعيشون لله وتقدسوا وإنفرزوا عن العالم ويكون سجودهم للآب بالروح والحق. وقوله الآن= فبالمسيح الموجود الآن عرفنا الآب. وبالمسيح الحق عرفنا الحق. وبالمسيح صار لنا الروح فهو أرسل لنا الروح يقودنا في العبادة.

بالروح= هو بهذا يهاجم اليهود الذين يتمسكون بالحرف.

وبالحق= هو بهذا يهاجم السامريين الذين عبادتهم مزيفة أخذت الشكل دون الجوهر، ودخلت فيها الوثنية.

والروح= معناها ضد كل ما هو جسدي ومادي وحرفي والحق= معناها ضد كل ما هو باطل ووهمي (هو سجود إنسان إختار حياة الإستقامة وعرف الحق أي المسيح فتحرر). والروح تشير لشعور العابد وإنسحاقه والحق تشير لفكر الساجد عن الخالق الذي يسجد له. وقوله الآن= لأن المسيح أوجد الإتصال مع الآب الذي نسجد له. فنحن في المسيح نسجد للآب بالروح. والمسيح هو الإستعلان الكامل للآب، فنحن صرنا نسجد لمن نعرفه. فالعبادة الحقيقية لا تكون إلاّ بالإبن. ويكون بهذه العبادة الحقيقية الخلاص.

والله روح ووضع في الإنسان عنصراً روحياً يقيم كيانه، ليكون مخلوقاً روحياً يتسنى له الإتصال بالله. والروح هي إداة الإتصال بالله، وفي وضع الإنسان السليم يكون الروح خاضعاً لله (رو8:1،9). والعبادة بالروح ليست مستعصية. فالآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له= فهو يجذبهم إليه. فالساجد بالروح والحق يطلب الله والله يطلب هذا الساجد فيحدث التلاقي. ولأن الله روح يطلب الساجدين بالروح ولأنه حق يطلب الساجدين بالحق. الساجدين= العابدين. والله يبحث عن هؤلاء العابدين ويفرح بنضوجهم الروحي ويتمجد فيهم فهو يرى صورته تتحقق فيهم.

 

آية (24): “الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.”

معنى الكلام أن الله لا يدخل في كيانه أي شئ من قياسات العالم المنظور، لا الزمان ولا المكان ولا المحدودية فهو روح. ولكي نعبد الله علينا أن نسجد له بالروح وهنا لا يهم من الذي يسجد لله هل يهود أم سامريين، وأين يسجدون هل في أورشليم أم جرزيم، وهكذا العبادة في المسيحية لا ترتبط بمكان ولا زمان ولا أجناس، بل الكل يسجدون للآب، إذ آمنوا بإبنه المسيح. وحل فيهم الروح القدس ليقودهم في العبادة بالروح. السجود بالروح= (رو9:1) هو عبادة نقدمها لله منقادين بالروح، طالبين مجد الله لا أشياء تافهة لأنفسنا. ليس هو الإنحناء بل هو الشعور بوجود الله والإنسحاق أمامه. شاعراً الإنسان بخطاياه ونجاسته في مقابل قداسة الله وعطاياه ومحبته. مثل هذا السجود يعطي للإنسان أن يقبل توبيخ وتبكيت الروح القدس وأيضاً تشجيعه ويخرج الإنسان من صلاته وهو مملوء سلاماً وقد إزداد إنسحاقاً. وكلما إزداد إنسحاقاً يمتلئ من الروح فيمتلئ فرحاً. ولذلك ينبغي أن ندخل للصلاة ونحن تاركين أحزاننا وضيقاتنا، أو نبدأ صلاتنا بعرضها على الله وطلبنا منه أن يتصرف فيها(أي في ضيقاتنا). ثم نبدأ صلاتنا التي نطلب فيها الله لنعرفه ونمتلئ من الروح فيسهل على الروح أن يقودنا للعبادة التي تفرح قلب الله وتفرحنا. والإتصال بالله هو طعام الروح، إن لم يتم فالروح تجف ويبطل عملها، فلا يعود الإنسان يشعر بوجود الله، بل يشك في الله وفي الحياة الأبدية وذلك لأن أداة الإتصال معطلة. فالله وضع الروح كأداة إتصال بالله، فإمّا أن نستخدمها أو تنزع مواهبها منّا. وروح الإنسان النشطة تصير مكاناً لسكنى الروح القدس ومرافقته. فإذا أهمل الإنسان السجود بالروح لا يعود يحظى بزيارة الروح القدس والنعمة وتترصده الخطية فتتعتم الرؤيا. السجود بالحق= السجود بالروح فيه يملك الروح على القلب فينير فيعرف الحق. فتكون لنا فكرة صحيحة عن الله الذي نقدم له العبادة. ونعرف إرادته وفكره فمن يقدم عبادة لله وقلبه مملوء من الشهوات العالمية والأحقاد وطلب الماديات أو طلب الإنتقام من أحد فهذا ليس سجود بالحق. من يطلب الله لأجل الماديات فقط، لم يفهم أن الله أبدي وأعد لنا مجداً في الأبدية هو الذي يجب أن نتعلق به. السجود بالحق هو أن الله الحق يقودنا لنعبده بالحق فنعرف الحق فنتحرر. ومن يصلي وهو شاعر أن الله لا يمكنه حل مشكلته، هو لا يعبد بالحق، فهو لم يعرف أن الله قدير ولا يعسر عليه أمر. لكن من يصلي طالباً معرفة شخص المسيح القدير بل والتلذذ باللهالله هو الحق) يكون ساجداً بالحق. وكما أعطى الله للإنسان الشهية للأكل أعطى الروح الشهية للعبادة والسجود والصلاة. ومن لا يأكل معرض للموت الجسدي. ومن لا يصلي معرض للموت الروحي ولكن الموت الروحي لا يشعر به الجسد، والنفس المستهترة لا تعيره إهتماماً. والمرأة حين سمعت هذا وجدت ملكوتاً أخر غير ما تسمعه في السامرة.

 

آية (25): “قالت له المرأة أنا اعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء.”

كلما بدأت تقترب من المسيح يزداد إنفتاح بصيرتها وتدخل في المجال الروحي للمسيح. وهنا تتذكر وعد الله لموسى (تث18). وهي لاحظت أن الذي أمامها هو أكثر من نبي فهو يتكلم بسلطان وقوة شعرت بها، فهل يا ترى هو هذا المسيا المنتظر. مسيا= كما ينطقها السامريون الذي يقال له المسيح= هذا تعليق يوحنا البشير. والمسيح هو النطق اليهودي. يخبرنا بكل شئ= عن ملكوت الله الذي كله خيرات. وها المسيح يكلمها عن ملكوت عجيب. فهل هو يا ترى المسيح المنتظر.

 

آية (26): “قال لها يسوع أنا الذي أكلمك هو.”

توقع المرأة لهذه الحقيقة هو الذي دفع المسيح لإعلانها أنا هو الذي أكلمك و(أنا هو) هم إسم يهوه الشخصي. هذا قمة إستعلان المسيح لنفسه أنه يهوه. ويهوه هو الذي يصنع كل شئ جديداً. والمسيح أعلن نفسه بوضوح لهذه المرأة لبساطتها ولم يعلن نفسه بوضوح لليهود لخبثهم. وهو أعلن نفسه لها لأنها سألته. “أطلبوا تجدوا”

الآيات 27-38

آية (27): “وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون انه يتكلم مع امرأة ولكن لم يقل أحد ماذا تطلب أو لماذا تتكلم معها.”

نظرة اليهود للمرأة= كان اليهود يحتقرون المرأة. ومن أقوالهم “أشكرك أنت الرب الذي لم تخلقني امرأة ولا أممياً ولا عبداً” (الخدمة اليومية في المجامع). “الرجل لا يتكلم مع امرأة في مكان عام حتى لو كانت زوجته أو أمه” (إنذار الحكماء لليهود) “إنه خيرٌ لكلمات التوراة أن تحرق من أن تلقي على مسامع امرأة” (قول الربانيين لليهود) “أي رجل يعطي إبنته أي معرفة عن التوراة يكون كمن يعلمها الدعارة” (رابي اليعازر).

نظرة المسيحية “ليس رجل أو أنثى لأنكم جميعاً واحداً في المسيح يسوع” (غل28:3) لذلك تعجب التلاميذ أن وجدوا المسيح يكلم امرأة بل وسامرية ولكنهم تأدباً لم يسألوا المسيح لماذا فعل ذلك فهم كانوا يوقرونه ويخشونه.

 

آية (28): “فتركت المرأة جرتها ومضت إلى المدينة وقالت للناس.”

المرأة تركت جرتها كما ترك إبراهيم أور وكما ترك التلاميذ شباكهم، هم تركوا لأنهم حصلوا على الأعظم، فمن وجد اللؤلؤة كثيرة الثمن يترك باقي اللآلئ، من يجد الأعظم يترك الأقل. وهي ذهب بحياتها النقية الجديدة إلى المدينة لتكرز لأهلها. لقد بادت كل خطاياها السابقة، وأضاءت حياتها المعتمة من حوار لم يستغرق أكثر من دقائق معدودة مع المسيح. ترك الجرة هو إنقلاب كامل في حياتها، هو إعلان عن ترك كل حياتها القديمة.

 

آية (29): “هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت العل هذا هو المسيح.”

لم تدع زوجها بل دعت كل الناس، تركت جرتها ونسيت صنعتها وملأ المسيح فكرها وقلبها وكأنها تقول مع أشعياء (1:55،3). هي فعلت ما لم يفعله التلاميذ. فهي كرزت بالمسيح دون أن يحل الروح عليها. فإن من يجد المسيح ينسى نفسه وكل شئ من إهتماماته. قال لي كل ما فعلت= هذا أكثر ما أثر في نفسيتها أن المسيح فاحص القلوب. ولكل إنسان إكتشافه الخاص في المسيح الذي يؤثر فيه ويجذبه. هذا التلامس مع المسيح يغير حياة من يتلامس معه. شهادتها هذه وإعترافها لا يأتوا إلا ممن إستنار قلبه. فالتائب الحقيقي يسهل عليه أن يعترف علناً. وهذا يطهره دم المسيح. أما السالك في الظلمة فلا يرى خطاياه.

 

آية (30): “فخرجوا من المدينة وأتوا إليه.”

(إش5:55) إستجاب السامويون لنداء المرأة الحار وصدق مشاعرها.. من عرف المسيح يود لو أخبر كل الناس عنه. أين هذه المرأة من التي كانت تتلصص حتى لا يراها أحد. هذا ما عمله المسيح مع موسى الأسود وأغسطينوس. صارت غير خجلة من خطاياها، فالذي يخجل هو من لا يزال متمسكاً بخطيته.

 

الآيات (31-33): “وفي أثناء ذلك سأله تلاميذه قائلين يا معلم كل. فقال لهم أنا لي طعام لأكل لستم تعرفونه انتم. فقال التلاميذ بعضهم لبعض العل أحداً أتاه بشيء ليأكل.”

كان السيد عطشاناً لخلاص السامرية. وجوعاناً لخلاص أهل السامرة (إش11:53). والجوع لخلاص النفوس أخفى جوع الجسد. فالشبع الروحي يخفي جوع الجسد والعكس ليس صحيحاً. وكما لم تفهم السامرية الماء الذي من يشربه لا يعطش لم يفهم التلاميذ الأكل الذي يُشْبِعْ المسيح.

 

آية (34): “قال لهم يسوع طعامي أن اعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.”

كل ما يفكر فيه المسيح هو خلاص النفوس، وهذه هي إرادة الآب التي أرسله لأجلها فجسد المسيح تعيَّن أصلاً ليكون ذبيحة وليس لمجاراة أعوازه، بل العكس كان يُكمَّلْ بالآمه (عب10:2+ 9:5).

 

آية (35): “أما تقولون انه يكون أربعة اشهر ثم يأتي الحصاد ها أنا أقول لكم ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول أنها قد ابيضت للحصاد.”

إذا قارنا الروحيات بالروحيات فنحن نجد ظلال قصة الصليب في قصة السامرية مع المسيح.

1-   التلاميذ تركوه

2-   هو متعب ومجهد جداً من مسيرته.

3-   هو حبة الحنطة التي تسقط ليبدأ الحصاد.

4-   قوله أنه يريد أن يشرب الساعة السادسة.

5-   أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله.

6-   الماء الذي أعطيه.

7-   أنا هو الذي أكلمك.

8-   إيمان السامرية.

9-   7 كلمات للسامرية.

…. تلاميذه تركوه وقت الصليب وهربوا.

…. مسيرته حاملاً صليبه.

…. يُصلب ليؤمن العالم كله. (إبيضت الحقول).

…. قول المسيح في الساعة السادسة أنا عطشان.

…. قول المسيح قد أكمل.

…. خرج من جنبه دمٌ وماء.

…. أنت تقول إني ملك لذا ولدت أنا.

…. إيمان الجندي الروماني “حقاً كان هذا إبن الله”.

…. 7 كلمات على الصليب (كلام المسيح كامل).

الحقول إبيضت= هذا عن السامريين الذين بدأوا يتقاطرون عليه بعد كرازة السامرية لهم (ربما بملابسهم البيضاء فهذه ملابس السامريين، هؤلاء آمنوا أسرع من اليهود فهم أقل كبرياء ورياء.) والمسيح رأى فيهم حصاد المؤمنين الذي سيبدأ بعد صلبه (فهو حبة الحنطة). المسيح رأى في نضج الحقول أن نضج إيمان شعوب العالم به (يو24:12) وكان المسيح يتكلم مع التلاميذ وأمامهم حقول القمح خضراء والقمح يستمر في الأرض من منتصف أكتوبر حتى منتصف إبريل أي ستة شهور. يكون أربعة شهور= (وهناك ساعة بين البذرة التي ألقاها المسيح للمرأة السامرية وحصاد السامريين الذين آمنوا ويراهم التلاميذ الآن بملابسهم البيضاء فحصاد الأرض يأخذ شهور منذ أن تلقى البذرة في الأرض أما عمل المسيح فأخذ دقائق) وبهذا تكون القصة حدثت في منتصف شهر ديسمبر. وكان حصاد القمح في منتصف إبريل وهو نفس وقت الصليب. وإبيضت الحقول= المسيح هنا لا يتكلم عن حقول القمح بل عن حصاد المؤمنين الذي بدأت ثماره تظهر في إيمان السامريين. المعنى: كما تتوقعون أنتم من منظر الحقول أمامكم أن الحصاد إقترب، هكذا أنا أتوقع حصاد المؤمنين الكثيرون والذي بدأ بهؤلاء السامريين بملابسهم البيضاء.

ملحوظة: المسيح خدم حوالي 3.5سنة أي حضر أربعة أعياد فصح.

ويذكر في إنجيل يوحنا أن المسيح حضر الفصح (3مرات) (13:2+ 4:6+ 14:19) ولذلك يتبقى هناك فصح غير مذكور وتختلف الآراء بخصوصه.

1-   الرأي الأول أن الفصح الرابع هو المذكور في (يو1:5).

2- الرأي الثاني أن الفصح الرابع غير مذكور صراحة ولكننا يمكننا إستنتاجه من هذه الآية. فهذه الآية تثبت أن وقت حدوث قصة السامرية كان قبل عيد الفصح الناقص بأربعة شهور.

 

الآيات (36،37): “والحاصد يأخذ أجرة ويجمع ثمراً للحياة الأبدية لكي يفرح الزارع والحاصد معاً. لأنه في هذا يصدق القول أن واحداً يزرع وآخر يحصد.”

الثمر الذي يحصده الخدام أن يتوب الناس ويعرفوا المسيح ويحبونه ويحيون معه في قداسة ويتعبون لأجله ويتمسكوا بإيمانه ويشتاقون لمجيئه. الحاصد لم يتعب فهو يحصد نفوساً آمنت وهي جاهزة للحياة الأبدية فالأنبياء تعبوا في العهد القديم. والمسيح يتعب الآن، ويجذب النفوس ويخلصها بدمه. والتلاميذ يحصدون ما عمله المسيح وما عَمِله الأنبياء، ومع هذا فالمسيح يعطي أجرة للحاصدين (الخدام) لأنهم يجمعون مع المسيح ولأنهم تعبوا في خدمة كلمة الله. كل من يتعب لحساب الملكوت له أجره السماوي. أما من يتعب للأرض فأجره سيذهب للتراب.

 

آية (38): “أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه آخرون تعبوا وانتم قد دخلتم على تعبهم.”

آخرون تعبوا= هم الأنبياء (عب35:11-40). وهم تعبوا دون أن يروا المسيح بل من بعيد نظروا المواعيد (عب13:11). لذلك فتعبهم يعتبر أكثر درجة من التلاميذ الذين عاشوا مع المسيح وتذوقوا حبه وإمتلأوا من الروح القدس. ما لم تتعبوا فيه= فالمسيح هو الذي تعب وجذب النفوس ومع هذا يكافئ من يعمل معه. المسيح هنا يشجعهم أنه هو الذي يعمل العمل الأصعب ومع هذا يكافئهم.

الآيات 39-42

الآيات (39-41): “فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد انه قال لي كل ما فعلت. فلما جاء إليه السامريون سألوه أن يمكث عندهم فمكث هناك يومين. فآمن به اكثر جداً بسبب كلامه.”

هناك من آمن بسبب شهادة المرأة، ثم بعد أن استمعوا له آمنوا به أكثر جداً بسبب كلامه. والعجيب أن أهل السامرة لم يطلبوا آيات ولا معجزات بل إقتنعوا بالتعليم. وواضح سرعة إيمان السامريين بالنسبة لليهود. بل أن اليهود قاوموه في كل مكان وحاولوا قتله بالرغم من كل المعجزات التي صنعها وسطهم.

سألوه أن يمكث عندهم= هل نطلب أن تطول مدة عشرتنا مع المسيح يومياً.

 

آية (42): “وقالوا للمرأة أننا لسنا بعد بسبب كلامك نؤمن لأننا نحن قد سمعنا ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم.”

قارن مع (نش3:3،4) فالنفس تستمع للخدام يكلمونها عن المسيح، كما إستمع السامريون للسامرية. لكن لابد من الخبرة الشخصية. وهم قبلوه إذ لم يتعالى عليهم كما يتعالى اليهود عليهم. ثم سمعوا كلامه عن السجود للآب بالروح والحق فآمنوا به. والسامريين هم أول من توصل إلى أن المسيح هو مخلص العالم وروعة إيمان السامريين [1] في وقت قصير [2] لم يطلبوا معجزات [3] لم يكن لهم نبوات كاليهود.

إنجيل السامرية يقرأ 3 مرات:

1-   في الصوم الكبير.. كنموذج للتوبة، وعمل الله في حياة الإنسان وسعيه وراء توبة كل إنسان ليجدده.

2- في الخمسين المقدسة.. رمز للحياة الأبدية (المياه التي لا يعطش من يشربها) فبنهاية الخمسين حلول الروح القدس والخمسين كلها فرح بالقيامة (الحياة الأبدية التي حصلنا عليها). والمسيح هو الذي يروي النفوس حقيقة وليس ملذات العالم. وهو ما نحتاجه خلال رحلتنا إلى السماء، فهو خبز الحياة وماء الحياة ونور الطريق بل هو الطريق إلى السماء.

3-   ليلة السجدة.. ففي هذا الإنجيل سمعنا عن السجود لله بالروح والحق.

ولاحظ أن هنا سامريين قبلوا المسيح. لكن في (لو35:9) نجد سامريين رفضوا أن يعبر يسوع بمدينتهم، ففي كل شعب هناك من يقبل المسيح وهناك من يرفضه.

الآيات 43-54

الآيات (43، 44): “وبعد اليومين خرج من هناك ومضى إلى الجليل. لأن يسوع نفسه شهد أن ليس لنبي كرامة في وطنه.”

بعد اليومين= أداة التعريف “الـ” تشير لأهمية هذين اليومين، إذ آمن فيهما شعب مدينة. خرج من هناك= خرج من السامرة. ومضى إلى الجليل لأن شعب اليهودية لمن يقبله، وأيضاً شعب الناصرة رفضوه، لذلك ذهب إلى الجليل. إذ ليس لنبي كرامة في وطنه (مثل يهودي معروف)= والمقصود بوطنه إمّا اليهود أو الناصرة. والمسيح لا يبحث عن كرامة في هذا العالم، بل هو يبحث عن أرض تثمر فيها كلمة كرازته. أمّا لماذا يكون النبي بلا كرامة في وطنه فهذا بسبب أن أهله تتملكهم الغيرة من شهرته. الجليل هنا هو الجليل الأعلى فالجليل يبدأ بعد السامرة مباشرة. لكن المسيح لم يشأ أن يبقى في وطنه الناصرة بسبب مقاومتهم له.

 

آية (45): “فلما جاء إلى الجليل قبله الجليليون إذ كانوا قد عاينوا كل ما فعل في أورشليم في العيد لأنهم هم أيضاً جاءوا إلى العيد.”

الجليليون= هم غير مقبولين من يهود اليهودية لإختلاطهم بالأمم. هنا نرى الفرق بين الجليليين الذي آمنوا بسبب المعجزات التي صنعها في أورشليم، والسامريين الذين لم يروا آية واحدة وبهذا يصير السامريون أفضل من الجليليين. على أننا سنرى في (66:6) أن الجليليين سوف يرفضون المسيح، فهم قبلوه أولاً لمعجزاته لا لشخصه. وقبلوه أي رحبوا به. عموماً فيوحنا يشير إلى أن من قبل المسيح ليسوا اليهود بل السامريين والجليليين الذين يحتقرهم اليهود.

 

آية (46): “فجاء يسوع أيضاً إلى قانا الجليل حيث صنع الماء خمراً وكان خادم للملك ابنه مريض في كفرناحوم.”

أيضاً= ثانية. فالمسيح يسعى ثانية لمن يقبله أولاً. خادم للملك= أي ضابط في الجيش برتبة عظيمة فهو كرئيس ديوان الملك. والملك هو هيرودس أنتيباس الذي كان معروفاً بإسم الملك وكثير من العلماء يقولون أن هذا الضابط هو خوزي (لو3:8) زوج يونّا المرأة التي كانت تتبع المسيح مع النساء اللواتي كن يخدمنه من أموالهن الخاصة. وقال آخرون أنه مناين (أع1:13). صنع الماء خمراً= ولم يقل حول الماء إلى خمر. فهو أوجد شيئاً من العدم، خلقه. فالخمر عناصره أكثر من عناصر الماء.

 

آية (47): “هذا إذ سمع أن يسوع قد جاء من اليهودية إلى الجليل انطلق إليه وسأله أن ينزل ويشفي ابنه لأنه كان مشرفاً على الموت.”

كفرناحوم على شاطئ بحر الجليل. وقانا هي على هضبة أعلى من البحر. والمسافة بينهما 16كم لذلك سأله أن ينزل من قانا إلى كفرناحوم (والمسيح قادر أن يشفيه دون أن ينزل، هذا يعبر عن ضعف إيمان السائل) هذا إيمانه أقل من إيمان قائد المئة الذي قال للسيد “قل كلمة فقط فيبرأ غلامي” (مت8:8).

 

آية (48): “فقال له يسوع لا تؤمنون إن لم تروا آيات وعجائب.”

المسيح يعطيه درساً في أنه يجب أن يؤمن دون أن يرى (فهو كان يريد أن يرى معجزة حتى يؤمن). فالإيمان بالكلمة يستقر في القلب، أمّا الإيمان بالمعجزة فيستقر في العقل حيث يكون معرضاً للشك والنسيان.. [هذا الضابط غير قائد المئة في (مر24:9)]. والمسيح هنا يريد أن يقول له آمن أولاً فتحدث المعجزة.

 

آية (49): “قال له خادم الملك يا سيد انزل قبل أن يموت ابني.”

الأب في جزع نسى آداب الحديث مع من جاء يطلب منه الحياة. فهو في تعجله ليس مستعداً للدخول في حوار حول الإيمان بل يلح في طلب المعجزة. هو نظر إلى المسيح كصانع معجزات فحسب. مثلما يفعل الناس الآن فهم ينظرون للقديسين لا ليتعلموا من حياتهم بل يرونهم كصانعي معجزات فقط. لكن هذه العبارة يا سيد إنزل= نرى فيها [1] إيمان الرجل [2] لجاجة الرجل.. مع [3] قصور في المعرفة. فهو لم يتصور أن المسيح هو قادر أن يشفيه بكلمة.

 

آية (50): “قال له يسوع اذهب ابنك حي فآمن الرجل بالكلمة التي قالها له يسوع وذهب.”

الرب نظر بشفقة لهذا الرجل الذي سافر مسافة طويلة ليلتقي به وثقته أنه سيشفي إبنه. ولم يرد أن يخيب ظنه. والرب يطٍّوب الإلحاح واللجاجة كما حدث من هذا الرجل. إذهب إبنك حي= قول لا يقوله سوى الله. من له سلطان أن يحيي. والضابط أخذها كأنه وعد من الملك أو أمر واجب التنفيذ. المسيح أبرأهُ من ضعف إيمانه كما أبرأ الغلام. فآمن الرجل= فهو لم يناقش أو يسأل بل أخذ الكلمة كما هي ومشى.

 

الآيات (51،52): “وفيما هو نازل استقبله عبيده واخبروه قائلين ان ابنك حي. فإستخبرهم عن الساعة التي فيها اخذ يتعافى فقالوا له أمس في الساعة السابعة تركته الحمى.”

سؤال القائد عن الساعة كان حتى يتأكد أن الشفاء لم يكن عَرَضاً بل حينما نطق المسيح. هنا نرى سؤال القائد الذي سيحكم به على المسيح، فإمّا يؤمن به أو لا يؤمن. ومن هنا نرى لماذا كلمه الرب عن الإيمان. (آية48) فهو كان ضعيف الإيمان. إستقبله عبيده= هذه تظهر مركز الرجل الهام.

 

آية (53): “ففهم الأب انه في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع أن ابنك حي فآمن هو وبيته كله.”

لقد خبأ كلمة المسيح في قلبه والآن أفرخت هذه الكلمة في قلبه. وهنا نسمع لأول مرة عن إيمان عائلة بأكملها. ونلاحظ أن المسيح يعرف إحتياج كل شخص. فأهل السامرة آمنوا بالكلام. والقائد آمن بمعجزة، فإن كانت المعجزة هي السبيل للإيمان فالله لا يمانع. والسامرة وبيت القائد آمنوا وهذا ما يريده المسيح. ولكن نستنتج من القصة أن المسيح يريد أن يُعلِّمْ أن الإيمان يقيم من الموت لذلك كان يلح على القائد أن يؤمن (يو21:5،24). هنا نرى فائدة التجارب، فالمرض الذي لحق بالولد كان سبب إيمان عائلته كلها. إبنك حي= تعبير الخدام هو نفسه تعبير الرب (آية50) ثم يكررها يوحنا (آية51،53). قيل هنا فآمن هو وبيته وقيل في (آية50) فآمن الرجل. وآمن في (آية50) تعني أن الرجل صدق كلمة المسيح. ولكن آمن في هذه الآية تشير لإيمانه بشخص المسيح. وحتى الآن فهناك من يؤمن بالعقيدة ويدافع عنها لكن تنقصه الخبرة الشخصية بالمسيح.

 

آية (54): “هذه أيضاً آية ثانية صنعها يسوع لما جاء من اليهودية إلى الجليل.”

آية= الكلمة آية تشير لعمل فيه إشارة لشخص صانع العمل. هذه ثانية المعجزات التي صنعها المسيح في قانا الجليل ليظهر مجده. في الأولى أمام الحاضرين في العرس والثانية أمام كل الموجودين في بيت القائد. لكن رأينا من قبل أن شروط الخلاص هي [1] الصليب [2] الإيمان [3] المعمودية. وهنا نرى كيف شفى المسيح ضعف إيمان هذا الرجل.إذاً علينا أن نأتي للمسيح معترفين بضعف إيماننا وهو قادر أن يشفي إيماننا. بل رأينا هنا قوة الكلمة، فبكلمة عن بعد شفى المريض.

 

ملحوظات:

1)    حتى الآن قدّم المسيح نفسه.

  • في أورشليم للفريسيين والرؤساء.
  • في اليهودية للشعب المتعصب اليهودي.
  • في السامرة للشعب المنبوذ.
  • في الجليل للشعب البسيط فلاحين وصيادين.
  • وتبدأ بعد ذلك فترات الصدام بين المسيح واليهود التي تنتهي بآلامه.

2)  السيد صنع هذه المعجزة، وكانت نتيجتها إيمان أسرة بأكملها، وهذا هو هدف أي معجزة، أن يتمجد إسم الله حين يؤمن به الناس. وإذا كان المعجزة هي الوسيلة التي ستجعل شخصاً ما يؤمن بالله، فالله يسمح بالمعجزة. لكن الله يفضل أن نؤمن به إذ نتعرف على شخصه ونحبه لشخصه دون طلب معجزات.

3)  نلاحظ هنا أن المسيح تباطأ في عمل المعجزة، وتكلم مع الرجل عن الإيمان. لكن حين يتباطأ الله في الإستجابة فإن هذا يكون لزيادة الإيمان.

4)    في آية (54) حين يقول ثانية فهذا لإظهار عظمة السامريين الذين آمنوا دون أي معجزة. و”طوبى لمن آمن ولم يرى”.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 3 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 5
تفسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى