تفسير إنجيل يوحنا ٥ للقس أنطونيوس فكري

الإصحاح الخامس

رأينا في إصحاح (1) أن الكلمة صار جسداً، ويوحنا المعمدان يشهد له بأنه حمل الله الذي يرفع خطية العالم. ورأينا تلاميذ يوحنا المعمدان يتحولون إلى المسيح. ويوحنا المعمدان كان آخر أنبياء العهد القديم. والمعنى أن تلاميذ العهد القديم يتحولون للمسيح. وأنهم بدأوا يكتشفون المسيح، حتى لمن كان يشك فيه كنثنائيل. ورأينا في إصحاح (2) المسيح يحول الماء إلى خمر، فهو أتى ليعيد الفرح للإنسان، لكن على الإنسان أن يحاول أن يطهر نفسه، وإن لم يفعل فالمسيح بسوط تجاربه يطهره كما طهر هيكله. وفي إصحاح (3) نرى لزوم المعمودية لنولد من جديد. وفي إصحاح (4) نرى نموذج للتجديد، فالسامرية الخاطئة تحولت لكارزة.. ورأينا أهمية العبادة بالروح والحق. ثم رأينا قصة شفاء إبن خادم الملك بكلمة. وفي بداية إصحاح (5) نرى شفاء مريض بركة بيت حسدا بكلمة من السيد المسيح “قم. إحمل سريرك وأمشى”. وفي المعجزتين الأخيرتين نرى قوة الكلمة التي تشفي فوراً. والفرق بين المعجزتين أنه في شفاء إبن خادم الملك نرى أنه يجب أن نأتي للمسيح فيشفينا ويشفي إيماننا. وفي معجزة مريض بركة بيت حسدا نرى المسيح يذهب للمريض إذ هو يائس تماماً. وبعد هذا نتعرف على من هو المسيح، فهو خبز الحياة المشبع إصحاح (6) وهو ماء الحياة إصحاح(7) وهو النور إصحاح (8) وكتطبيق على النور نجد في إصحاح (9) شفاء الأعمى وفي (10) هو الراعي الصالح.

 

معجزة تحريك الماء:

الماء المتحرك يرمز للروح القدس. وتحريك الماء والشفاء كان نبوة وتحريك لأذهان اليهود أن شيئاً ما سيحدث قريباً. كان هذا إشارة للروح القدس (الماء الحي واليهود يسمون الماء المتحرك ماء حي) الذي سيحل على كنيسة المسيح ليشفي طبيعتنا. وكان من ينزل أولاً يشفى. ومن الطبيعي أن من يستطيع النزول أولاً هم الأقوياء، وفي هذا إشارة إلى أن الأقوياء روحياً في العهد القديم كان الروح القدس يتعامل معهم كالأنبياء مثلاً ويشفيهم. أما مريض بركة بيت حسدا فهو يشير لمن ليس له أحد وهو في حالة ضعف، غير فاهم ولا يدري شئ، وهذا حال كل البشر قبل المسيح ما عدا قلة. والمسيح أتى لهؤلاء الضعاف ليشفيهم. هذه المعجزة هي إشارة لأن هناك تدخل سماوي سيحدث ليشفي الأمراض. وكان الملاك الذي يحرك الماء رمزاً للمسيح الذي سيرسل الروح القدس. فملاك يعني مرسل، والمسيح أرسله الآب.

 

وكيف يشفى المسيح موتى الخطية؟

الإبن له حياة في ذاته، وهو يحيي من يشاء (آيات21،26) ومن يسمع له يقوم من موت الخطية الآن (آية25) ويقوم إلى قيامة الحياة في الأبدية (آية29). فالمسيح الذي ظهر أمامنا كإنسان هو له قوة حياة، فيه حياة يريد أن يعطيها لكل واحد فيحيا. ولكن الذي يحصل على هذه الحياة هو من يسمع للمسيح، أي يسمع كلامه وينفذه. والشفاء الذي ستحصل عليه هنا على الأرض سيكون جزئياً، لكن في السماء سيكون لنا أجساد ممجدة. هذا هو الشفاء الكامل والحقيقي.

 

لماذا صنع المسيح المعجزة في يوم السبت؟

ليس هذه المعجزة فقط، بل المسيح غالباً ما كان يشفي يوم السبت. والله منع شعبه من العمل يوم السبت حتى يتفرغوا للعبادة ويذكروا إنتمائهم لله. وقال لهم الله أنه إرتاح يوم السبت. فما معنى راحة الله؟ وهل الله يتعب؟! الله لا يتعب حتى يستريح. ولكن راحة الله هي في خلاص الإنسان. فحين يقول إستراح الله في اليوم السابع فهذا معناه أن الله إستراح حينما تمم خلاص البشر في اليوم السابغ فراحة الله في كمال عمله. فالراحة هي راحة الله في الإنسان وراحة الإنسان في الله. فما كان يفصل بين الله والإنسان هو الخطية التي مات المسيح ليرفعها عنا ويصالحنا على الله. والله في (حز20) نجده يقول ليدلل على محبته لشعبه أنه أعطاهم الوصية والسبت. فالله لم يذكر خروجهم من مصر ولا شق البحر.. الخ. الله رأى أن أعظم ما قدمه لشعبه هو الوصية (ليحيوا سعداء على الأرض) والسبت (ليذكروا إنتمائهم للسماء فيكون لهم نصيب في السماء). لكن اليهود خرجوا من المعنى الروحي، وفهموا الوصية أو طبقوها بمعنى حرفي فقط فمنعوا أن يحمل إنسان حتى إبرة خياطة يوم السبت. والمسيح أتى ليصحح هذه المفاهيم، ليعيد المعنى الروحي، ففي المسيحية العبادة ستكون بالروح والحق.

وهنا المسيح يشرح الآتي:

  1. الآب يعمل حتى الآن فلماذا تعتبرون الشفاء خطأ يوم السبت. ولو توقف الآب عن العمل لحظة لهلك العالم.
  2. الإبن يعمل في حفظ العالم فلماذا تعتبرون الشفاء خطأ يوم السبت. ولاحظ أن الإبن لا يعمل بالإنفصال عن أبيه فهما واحد، بل هو عامل مع أبيه.
  3. حينما يشفي المسيح فهو يشفي الإنسان كله (يو23:7) والمعنى أن المسيح شفاه نفساً وجسداً وروحاً. وطالما شفي روحه بأن غفر خطاياه، إستراح هذا الإنسان في الله، والله إستراح فيه، فتحقق مفهوم السبت، فما الخطأ في ذلك؟
  4. إذا تصادف اليوم الثامن لطفل ان كان يوم سبت، كان يختنون الطفل، فالختان في نظرهم عمل مقدس (يو22:7،23) وذلك لأن الختان يجعل الطفل من شعب الله أي إبناً لله. فالختان هو قطع كل رباط للشر ومريض بيت حسدا كان مختوناً ولكنه أخطأ، والمسيح شفاه وغفر خطاياه، فأعاده للعهد مع الله، أعاده كإبن لله. فما الخطأ الذي صنعه المسيح إذ أراح الله بأن غفر خطية المريض وشفى له روحه وأراح الإنسان إذ شفى إنسان يوم السبت.
  5. المسيح في كل عمل يعمله يحقق إرادة الآب (آية19)، فهو لا يقدر أن يعمل شيئاً إلاّ ويكون الآب موافقاً عليه (وهذا لتطابق إرادتهما ومشيئتهما).

ببساطة المسيح يشفي في السبت ليشفي اليهود من المفهوم الحرفي وينقلهم إلى العبادة بالروح والحق. هم فهموا السبت راحة ونوم للجسد. بينما أن أشعياء يشير لأن السبت تلذذ بالرب (13:58،14). إذاً هو فرح بالرب.

  • ولاحظ أن هذا المريض يعبر عن حال البشر المنحط الذي وصلوا إليه قبل المسيح.

1)    محطم جسدياً بسبب مرضه الذي طال (38سنة) مدة توهان الشعب في البرية وهي ترمز لمدة غربتنا في العالم.

2)  محطم نفسياً فهو شاعر بأن لا أحد يهتم به ليلقيه في البركة، ولا الملائكة التي تحرك الماء تهتم به. هو فاقد الثقة في السماء والأرض.

3)    محطم روحياً بسبب خطيته. والخطية فيها إنفصال عن الله.

والمسيح شفاه من هذا كله (23:7). هو أتى لشفاء البشرية المعذبة.

في هذا تطبيق لما قاله أشعياء “فرأى أنه ليس إنسان وتَحيَّر من أنه ليس شفيع. فخلصت ذراعه (المسيح المتجسد) لنفسه” (أش16:59).

الآيات 1-9

آية (1): “وبعد هذا كان عيد لليهود فصعد يسوع إلى أورشليم.”

كان عيد= هناك رأيان أولهما أن هذا العيد هو الفصح الرابع للمسيح أثناء مدة خدمته وثانيهما أنه عيد الخمسين وأصحاب هذا الرأي يقولون أنه لو كان الفصح لقال العيد وليس عيد غير معرفة فالفصح أشهر الأعياد. والمسيح يتخذ فرصة تجمع مئات الألوف في أورشليم ليقدم نفسه للجموع. فصعد يسوع إلى أورشليم= كما ذهب الرب إلى السامرة ليقابل السامرية صعد إلى أورشليم ليشفي المريض المقعد، فهو الذي يأخذ المبادرة ليشفي أمراضنا ويلاقينا، فقط نحن نحتاج أن نكتشفه، وهو سيشفى ضعفنا الروحي. ولكن قوله عيد اليهود بدون تحديد وعمل المعجزة في سبت وهو رمز لليهود أن المسيح جاء ليشفي كل من كان تحت الناموس. وقوله أبي يعمل وأنا أعمل فلأن المسيح يخلقنا الآن خلقة جديدة ويكون العيد والسبت هما رمز للراحة الحقيقية والشفاء الحقيقي الذي جاء المسيح ليعمله.

 

آية (2): “وفي أورشليم عند باب الضأن بركة يقال لها بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة.”

باب الضأن= هو باب في سور أورشليم بجانبه الحظيرة التي يأتون منها بالخراف لتقديمها ذبائح. وحينما فشلت ذبائح الناموس في شفائنا أتى المسيح ليشفينا. بركة بيت حسدا= أي بركة بيت الرحمة. وإسمها هذا راجع للأشفية التي كانت تجري فيها. ولقد طالما هاجم نقاد الكتاب المقدس هذا النص إذ لم يستدلوا على بركة بهذا الإسم إلى أن تم إكتشاف البركة فعلاً ووجدوا لها 5 أروقة ووجدوا أنها إنطمست أثناء غزو الرومان. والأروقة هي دهاليز مسقوفة تستعمل كأماكن إنتظار للمرضى. والبركة طولها 100متر. وعرضها يتراوح بين 50-70متر. وحولها أعمدة قسمت المساحة لخمس صالات للإنتظار. وكان اليهود يستخدمون هذه البركة للتطهير الناموسي ويتركون ملابسهم في الأروقة ليغتسلوا فيها. إلى أن حدثت ظاهرة تحريك الماء فتحولت البركة إلى مكان إستشفاء. وكان المرضى يضطجعون في هذه الأروقة. وكانت هذه الظاهرة علامة على قرب مجيء المسيح الشافي الذي كان اليهود ينتظرونه.

معاني الأرقام: 5 أروقة + المقعد له 38سنة. ورقم 5 يشير للنعمة وللمسئولية ورقم 38 يشير لسنوات تيه الشعب في البرية (تث14:2). والمعنى أن العالم قبل المسيح كان في تيه بلا أمل في الشفاء إلى أن أدركته نعمة المسيح.

 

آية (3): “في هذه كان مضطجعاً جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء.”

عُسم= مرضى بأنواع من الشلل. تتيبس فيه المفاصل. عمي وعرج= إذاً هي أمراض عسيرة وقوله عُسم وعمي وعرج فهذا إشارة لحال الناس قبل مجيء المسيح. تحريك الماء= الماء المتحرك هو ماء حي إشارة للماء الحي الذي يعطيه المسيح كما قال للسامرية، وللماء الذي يَلِدْ كما قال لنيقوديموس والماء الذي يتحول إلى خمر كما حدث في عرس قانا الجليل. وهو إشارة للروح القدس الذي يرسله المسيح.

 

آية (4): “إن ملاكاً كان ينزل أحياناً في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه.”

يقول يوحنا ذهبي الفم أن هذا سبق تصوير للمعمودية. وتحريك الماء إشارة إلى ما سيعمله الروح القدس. وهنا نرى تدخل سماوي إعجازي في العهد القديم لشفاء أمراض ميئوس من شفائها بنوع من الرحمة الإلهية (هذا معنى بيت حسدا). وفكرة الماء الذي فيه قوة للشفاء والحياة موجودة في العهد القديم (نعمان السرياني+ الذين شربوا من المياه النابعة من الصخرة لم يمرضوا 1كو4:10+ تث4:8) والمسيح شفى الأعمى بأن صنع له مقلة من طين ثم أمره أن يغتسل في بركة سلوام إشارة لما يعمله الروح القدس. فالملاك الذي يحرك الماء هو إشارة للمسيح السماوي الذي أتى ليرسل الروح القدس.

 

الآيات (5،6): “وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة. هذا رآه يسوع مضطجعاً وعلم أن له زماناً كثيراً فقال له أتريد أن تبرأ.”

يوحنا ينتقي المعجزات التي تثبت لاهوت المسيح (أش4:35-6، 18:29،19+ أر7:31،8+ مز7:146،8) فهذا ليس شللاً عادياً بل هو مشلول منذ 38سنة.. كما شفى الأعمى منذ ولادته وأقام لعازر بعد أربعة أيام. ولنثق أنه مهما طالت مدتنا تحت الخطية فالمسيح قادر أن يشفينا ويجددنا. هذا الفصل يقرأ قبل أحد التناصير للموعوظين الذين سيعمدوا في أحد التناصير. فالمفلوج يمثل الحياة القديمة وبالمعمودية يصير الإنسان جديداً ويولد من جديد من الماء، له قوة على الحركة في إتجاه السماء والشفاء من الشلل الروحي.

أتريد أن تبرأ= هناك من لا يريد أن يبرأ فمرضه صار مصدر رزق يتكسب منه. والمسيح يحترم الإرادة الإنسانية وهو لا يقتحم الإنسان، فنحن مخلوقين على صورته في حرية الإرادة. والمسيح يريد أنت يظهر أن مناط أمر الإنسان هو بيد الإنسان، والأهم هو شفاء الإنسان من الخطية. ويكون سؤال المسيح معناه هل عندك إرادة أن تترك خطيتك، فنحن فهمنا من أن المسيح قال لهُ لا تعود تخطئ أيضاً (آية14) أن سبب مرضه هو الخطية. والخطية لها نتائج وخيمة على الإنسان ولذلك فبعد توهان 38سنة دخل الشعب لأرض كنعان، وكانوا حينما يخطئون يسلمون لأيدي الأمم فيذلونهم. والخطية في حياة هذا المقعد هي التي حطمته بعد أنت إستعبدته، ولكن المسيح رأي فيه بقايا من إرادة فأتى إليه ليشجع الرجاء الذي فيه، وهذا يعطي رجاء لكل خاطئ فلا ييأس. ولكن لنلاحظ أن الخطية مع الاستمرار فيها فترات طويلة تطمس الإرادة في الإنسان فلا يعود يشعر بأنه يفعل خطأ ولا يريد التغيير. وهذه الحالة غير التي وصفها بولس الرسول حين قال “حينما أريد أن أفعل الحسنى أن الشر حاضر عندي” (رو21:7). هنا هو يجد قوة تقاومه لكن إرادته تنتصر. والمسيح بسؤاله كان يشفيه ويخلق له إرادة، والإرادة يصحبها همة للتغيير والعمل. ولذلك قال المسيح لليهود كم مرة أردت.. ولم تريدوا (مت37:23) والمسيح لم يسأل المقعد هل تؤمن فهو لم يسمع به من قبل (12:5،13)، أتى ليقدم له شفاء مجاني.

 

آية (7): “أجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر.”

ليس لي إنسان= المسيح يسأله عن الإرادة فأجاب بأن ليس له إنسان. هو أسقط الموضوع على الآخرين. كأنه يقول المشكلة ليست فيّ بل في الآخرين فالخاطئ دائماً يبرر نفسه. لكن عموماً علينا أن نستفيد من هذا بأن نقدم خدمات لكل محتاج حتى لا يشتكي علينا أحد. كم مرة ألقينا همنا على الناس وفشلنا، لكن إذا ألقينا همنا على الله فلن نفشل (1بط7:5). ويبدو من قول المفلوج أنه كان معروفاً بفظاظته وقسوته حتى في مرضه، حتى لم يبق له إنسان يلقيه في البركة، فقد إنفض عنه كل الناس وكرهوه وهذا عكس الإنسان المفلوج الذي دلاّه أصدقاءه من السقف (مر1:2-11). ولكن المقعد عوضاً عن أن يلقي باللوم على نفسه يلقي باللوم على الآخرين= بينما أنا آتٍ ينزل قدّامي آخر هذه مثل الآخرون يأخذون فرصتي.

 

الآيات (8،9): “قال له يسوع قم احمل سريرك وامش. فحالاً برئ الإنسان وحمل سريره ومشى وكان في ذلك اليوم سبت.”

هذا حال كل من يصدق المسيح، فكلمة منه تحيي العاجز وتنتهر الخطية فتلاشيها (يو63:6+ 25:5) فالمقعد نموذج لموتى الخطية ولكن لو لم ينفذ هذا المفلوج أمر المسيح ما كان قد شُفِىَ. وكان لو أعمل عقله لقال كيف أقوم. لكن هو نفد. والمسيح الفادي قدَّم شفاؤه للمقعد دون أن يطلب منه شيئاً. وهكذا فدانا دون ثمن؟ والله يعطي القوة وله سلطان عجيب قم/ إحمل/ إمش. بل إن نقطة الضعف تصبح مصدر قوة ونهضة بعد أن كانت يأساً. أوامر المسيح هي وعود في صورة أوامر وهكذا كل وصايا المسيح (1تس24:5). فكل وصية تحمل في داخلها قوة على التنفيذ. فحالاً= عجيب أن يقوم دون أن يسنده أحد وبدون علاج طبيعي بعد كل هذه المدة من الشلل. والمسيح أعطى المقعد حياة جديدة:

قم= ترمز إلى جدة الحياة التي أعطاها له.

إحمل= ترمز إلى قوة الحياة التي أعطاها له.

إمش= ترمز إلى السلوك في هذه الحياة الجديدة.

سريرك= في اصلها اللغوي هي فرشة الفقير وهي من الحصير. وسريره يمثل ذكرياته المؤلمة عن المرض. وحمل السرير إشارة لطرد الذكريات والخبرات المؤلمة فما عادت تعيق حركته ونموه. هو إشارة لوضع ذكرياتنا المؤلمة وراء ظهورنا لنتقدم.

الآيات 10-16

الآيات (10،11): “فقال اليهود للذي شفي انه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك. أجابهم إن الذي أبرأني هو قال لي احمل سريرك وامش.”

المسيح هو رب السبت (مر28:2+ لو5:6) وهو جاء ليعطي سبتاً أي راحة من نوع جديد عوض الراحة الجسدية القديمة (عب10:4) وإجابة المقعد تدل على تقدير لشخص المسيح أكثر من تقديره للسبت، أيسمع للناموس الذي لم يشفه أم يسمع للمسيح الذي شفاه. ومشكلة اليهود مع المسيح هي [1] الشفاء في السبت [2] أنه قال للمفلوج أن يحمل سريره. وكان اليهود قد غالوا في موضوع السبت حتى أنهم قالوا إن من حمل إبرة في ثيابه فقد كسر السبت. والسيد المسيح شرح لهم أن الأعمال الصالحة جائزة يوم السبت مثل الختان ورفع خروف من حفرة ليفهموا أن لا يتقيدوا بالحرف (لا3:12+ يو22:7-24+ مت2:12-8،11-12+ يو16:9). ولكن كراهية اليهود للمسيح كانت ليس بسبب كسره السبت، بل لحسدهم لهُ لشهرته بسبب معجزاته.

فقال اليهود= اليهود هم الرؤساء الدينيون.

 

آية (12): “فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش.”

هذا السؤال هو سخرية من المسيح، فهم يضعونه على أنه إنسان في مقابل الناموس. والله واضع الناموس، أي هل تطيع مجرد إنسان قال لك ولا تطيع الله وناموسه. ومن عمى اليهود أنهم لم يروا قوة المعجزة التي حدثت بل طلبوا رجم المسيح. وللآن وسط كل مراحم الله لا نرى سوى آلام تجربة سمح بها ولفائدتنا. والمسيح حاول جاهداً أن يشرح لهم أن فعل الخير يحل في السبت (الختان/ حمل خروف) وما دام يحل فعل الخير في السبت فيحل شفاء إنسان في السبت (مر4:3+ لو3:14-6).

 

آية (13): “أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع.”

لم يكن من طبع المسيح أن يلفت الأنظار إليه بل يأتي للمحتاج سراً. لم يكن يعلم من هو= هذه مشكلة المفلوج ومشكلتنا أننا نهتم بالعطية ولا نهتم بشخص العاطي أي بالمسيح لنتعرف عليه. بينما أن هدف العطايا أن نتعرف عليه.

 

آية (14): “بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل وقال له ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضاً لئلا يكون لك أشر.”

المسيح الذي حمل خطايانا على الصليب هو حمل خطايا هذا المقعد وغفرها له ليشفيه. حمل خطاياه في جسده الذي سيعلق على الصليب، والمسيح يعطي المقعد نصيحة أن لا يخطئ ثانية حتى لا يعود لنفس الحال. والمسيح أتى للمقعد حتى لا يظل جاهلاً من هو المسيح ليعطيه إمكانية الإيمان به. ولاحظ أن المقعد ذهب للهيكل غالباً ليقدم الشكر لله. ونلاحظ أنه كلما نعود لخطية تركناها يكون لنا أشر، فالضربات تتصاعد حتى نتوب. فهذا جزاء الإستهتار بغني لطف الله وإمهاله. وقوله أشر يشير لأن يحدث مرض أصعب له أو للدينونة على الخطية.

 

الآيات (15 ،16): “فمضى الإنسان واخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه. ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت.”

المقعد ذهب ليبشر بالمسيح الذي صنع المعجزة أو ليبرر تهمة حمل السرير ويلقيها على المسيح. ومن هنا حدث التصادم بين المسيح واليهود. والمسيح رد عليهم في الآيات (17،21،23،24..الخ). طلبوا أن يقتلوه= من أول هنا ستتكرر محاولات اليهود لقتل يسوع. لكنهم لن يقدروا حتى تأتي ساعته. وهذا يثبت أنه سلم نفسه بإرادته. هو كان قادراً أن لا يصلب. لكن هو أتى لهذا بإرادته.

وصل جنون اليهود في موضوع السبت أنهم قالوا أن الله نفسه ملتزم بالوصية فلا يعمل يوم السبت خارج حدود مسكنه الذي هو السماء والأرض، ولا يسير مسافة أطول من قامته لذلك فعمل الله هو في الحدود المسموحة. وإبتداء من (آية17) نجد رد المسيح على أعضاء أو رسل أرسلهم السنهدريم للتحقيق منهُ.

الآيات 17-30

آية (17): “فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا اعمل.”

إبتداء من هذه الآية يبدأ المسيح في الرد على إتهامات الفريسيين لأنهم إتهموه بكسر الناموس إذ عمل المعجزة يوم سبت. فأخذ يوضح لهم نوعية العمل ويوضح لهم شخصه وعلاقته بالآب. ولأن الله يستريح في خلاص الإنسان فلا يكمن أن يكف عن العمل، فهو يعمل على حفظ الخليقة ولعلاج الأخطاء الموجودة حتى لا يهلك الإنسان. الله خلق الخليقة بكلمته (اللوغوس) وهو أي اللوغوس مازال يحفظها ويدبرها. وراحة الله ليست في التوقف عن العمل، فلو توقف الله عن عمله لتوقفت الحياة. ويتضح من كلام المسيح هنا أنه يضع نفسه مع الآب في موضوع الخلقة ومسئوليته عنها من جهة قيامها ودوامها وحفظها فهو ضابط الكون. وهذه الآية تشير أن المسيح يتساوى مع الله وفي وحدة كاملة معه فإذا كان له هذا السلطان فله سلطان على السبت وله أن يقول ماذا ينبغي أن يُعمل فيه أو لا يُعمل فيه. أبي يعمل وأنا أعمل= هذه مساواة في المقام فهو لم يقل أنا أعمل من تحت الآب. والمسيح في (مر27:2،28) شرح لهم أن السبت جُعِلَ لأجل الإنسان وليس العكس وكون المسيح يشفي يوم السبت فبهذا هو يكمل عمل الخلق، المسيح أراد أن يظهر بمعجزات الشفاء التي يصنعها في يوم السبت أنه يكمل نقص خليقته، نقصها الذي حدث بسبب الخطية، يكمله بفدائه الذي أتى لأجله، لذلك فعمل الفداء هو من صميم عمل الخالق. المسيح بهذا يشير أنه مسئول عن الخليقة كما أن الآب مسئول عنها. ويكون سبت المسيح الحقيقي هو بعد أن يكمل عمل الفداء وخلاص الإنسان. فراحة الله وراحتنا هي في خلاص نفوسنا. وصار سبتنا الحقيقي هو حياتنا الأبدية. وقارن هذه الآية مع (عب10:4،11) نجد أن العمل والراحة لدى الآب والابن متوازيان. حتى الآن= أي بدون توقف ومنذ الأزل. هذه تشير لوجوده مع الآب قبل التجسد. وإن كان الله يعمل فشرف للإنسان أن يعمل (تك15:2+ 2تس7:3-10+ 1تس10:4+ أف28:4).

 

آية (18): “فمن اجل هذا كان اليهود يطلبون اكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضاً إن الله أبوه معادلاً نفسه بالله.”

فهم اليهود من رد المسيح المختصر أنه ألغى وصية السبت علناً وإصراراً، بل ألغى بالتالي سلطة الناموس. وأنه يفعل هذا إعتماداً على علاقته بالآب، وأنه ساوى نفسه بالله الآب (يو30:10) وأنه إبنه وله علاقة بنوة متميزة لله (كلمة أبوه أتت في اليونانية بمعنى أنه لا يوجد بشر يشاركه في هذه الأبوة بمعنى أنه (أبي أنا). لذلك فهم رأوا في كلامه هذا تجديف. والمسيح لم يتراجع فيما قاله ولم يناقض ما فهموه، بل أخذ يشرح فيما يلي علاقة الآب بالإبن وإمتياز الإبن بكونه مساوياً لله الآب ولذلك فمن يكرم الآب عليه أن يكرم الإبن أيضاً. يطلبون أكثر أن يقتلوه= فهو [1] كاسر للسبت [2] جعل المفلوج يحمل سريره في السبت [3] ساوى نفسه بالآب.

 

آية (19): “فأجاب يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل لأن مهما عمل ذاك فهذا يعمله الابن كذلك.”

حينما تذمروا على قوله أن الآب أبيه بدأ يشرح بالأكثر علاقته بالآب وأن الآب أرسله ليعطي حياة للبشر ولاحظ أن المسيح لم يقل لهم أنتم فهمتم خطأ، فأنا لست مساوياً لله، بل تدرج بهم ليثبت لهم أنه الله. لا يقدر= لا يفهم منها العجز بل كما نقول أن الله لا يقدر أن يكذب، أو لا يقدر أن ينكر نفسه (2تي13:2). فمن مستلزمات طبيعة الله الابن المطابقة التامة لطبيعة الله الآب وإرادته، ولا يقدر أن يفعل ما يخالف الآب فهذا يصبح ضد طبيعته. فالابن يستطيع كل شئ إلاّ شيئاً واحداً وهو أن تكون له إرادة مخالفة للآب. بل مهما عمل الإبن فهو متمشي مع عمل الآب. والآب والابن يعملان معاً في وحدة. هما متفقان تماماً بلا خلاف فهم في وحدة. فالآب هو الله غير المنظور والابن هو الله المنظور، ويعمل الأعمال المنظورة. والابن لا يعمل شيئاً ما لم يكن الآب يريده فإرادتهما واحدة. كما يكون في قلبي مشاعر تترجمها يدي إلى خطاب مكتوب. فالقلب واليد يعملان معاً. المسيح هنا يشرح علاقته بالآب إذ حنقوا عليه عندما قال “أبي” في (آية17) عسى أن تنفتح قلوبهم. والمسيح يتدرج مع الفريسيين في موضوع علاقته بالآب حتى يعلن نفسه بوضوح (آية24،30). ولنلاحظ أن وحدة العمل تتمشى مع وحدة الإرادة، وهذا يشير لجوهر الوحدة المطلق. وبالتالي فالمسيح لن يكسر السبت ما لم يكن الآب موافقاً على عمله= الابن لا يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً إلاّ ما ينظر الآب يعمل= أي أعمال الابن غير منفصلة عن أعمال الآب. هذا القول لا يلغي سلطان الابن بل يعلن وحدة الإرادة التي لا تنفصم. ينظر= يرى فكر الآب فهو فكره وعقله، فهو يرى أي يعرف ما يريده الآب فيعمله. تعني المعرفة المستمرة والرؤية الواضحة للآب فهما واحد. وجاءت في المضارع. فالمسيح يتكلم هنا وهو في الجسد. أمّا حينما يقول وأنا ما سمعته منه (38:8) أو أتكلم بما رأيت (26:8) فهذه تشير لما رآه وسمعه قبل تجسده عند الآب. وقوله رآه وسمعه إشارة لإتحادهما الفريد فلا أحد يعرف الآب أو يراه أو يسمعه سوى الابن الذي هو في حضن الآب (يو18:1) وهو واحد معه (يو30:10). وقارن مع (36:5،42:8) لتعرف أن المسيح له وجود سابق على تجسده. والمسيح يقول هذا لنصدق بلا ريبة كل ما يقوله والإيمان بلا فحص، فالآب والابن واحد وكل ما يعمل الآب يراه الابن وحده أي يعرفه معرفة التطابق، وبإعتباره الله المتجسد يعمل بمقتضاه لأن إرادتهما واحدة، بل الابن يستعلن إرادة الآب. مهما عمل ذاك (الآب) يعمله الإبن كذلك= هنا تظهر قوة الابن المطلقة واللانهائية. هو يعمل مع الآب في شركة عمل بلا إنفصال. يعمل معه في إنسجام وإتفاق.

 

آية (20): “إن الآب يحب الابن ويريه جميع ما هو يعمله وسيريه أعمالاً أعظم من هذه لتتعجبوا أنتم.”

مطابقة أعمال الابن لأعمال الآب راجعة للصلة المكينة بين الآب والابن والمبنية على المحبة. فالله محبة والوحدة بين الآب والإبن تم التعبير عنها بأن الآب يحب الإبن. والأعمال التي يعملها المسيح هي إعلان دائم عن محبة الآب للإبن والتي صارت لنا، والابن يعلن محبته في خضوعه التام لإرادة الآب (يو34:4). والابن المتجسد يقول إن الآب يُريه وسيُريه من واقع الزمن البشري. فمعجزة تفتيح عيني الأعمى التي حدثت بعد ذلك هي أعجب ثم إقامة لعازر أعجب وأعجب. والمسيح يسمى هذه المعجزات أعمال. فهي بالنسبة لنا خوارق ومعجزات أما بالنسبة له فهي مجرد أعمال. لتتعجبوا= فهو يعلم أنهم لن يؤمنوا وسيكتفوا بالتعجب، أمّا المؤمن فهو يؤمن حتى دون أن يرى. فالتعجب إن لم يتحول إلى إعجاب والإعجاب إلى إيمان يتبخر التعجب. والفعلان يحب ويريه جاءا بصيغة الحاضر المستمر فهما عملان مستمران لا ينقطعان. والآب يحب الإبن= أي إرتباط ووحدة في المحبة فطبيعة الله المحبة.

 

آية (21): “لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحيي كذلك الابن أيضاً يحيي من يشاء.”

المسيح أراهم سلطانه في شفاء المقعد، وهنا يشرح أن سلطانه يصل لأن يحيي. إذاً الأعمال الأعظم التي تكلم عنها سابقاً هي الإقامة من الأموات.

 

آية (22): “لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن.”

المسيح هو الديان. الآب لا يدين أحد فقد ترك الدينونة للإبن الذي تجسد وشعر بضعف البشر وهو أتى ليعطينا حياة، (مت31:25-46+ أع141:10،42+ رو10:14+ 2كو10:5+ 2تي1:4) فالذي يعطي الحياة يكون له أيضاً سلطان أن يحكم عليها، ومن يقيم الموتى له أن يحاسبهم، ومن يحيي قادر أن يميت أيضاً. وكنا خلق الآب العالم فهو يدين العالم بالإبن. كل الدينونة= يدين كل مخلوق، فهو خالق الجميع، ولأنه نور فمن يرفضه يُدان. وهو له أن يدين على الأرض وفي السماء. والدينونة هي من الأعمال الأعظم.

 

آية (23): “لكي يكرم الجميع الابن كما يكرمون الآب من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله.”

الذي أرسله= ليؤكد لهم صلته بالله الآب. وأرسلهُ هذه كما ترسل الشمس أشعتها بدون إنفصال عنها. وهنا المسيح يعلن مساواته للآب في لاهوته بغير مواربة. وهذا راجع للوحدة بينهما. لكي= أي لأن الابن يحيي ويدين تحتم أن يكرم الناس بل كل الخليقة، الابن، كما يكرمون الآب. الإيمان بأحد الأقنومين يستلزم الإيمان بالآخر فهما واحد وكذلك إكرام أحدهما. في الآيات (21،22،23) يعلن المسيح لاهوته علانية.

 

آية (24): “الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.”

الحياة الأبدية= هي حياة الله ذاته يعطيها الله للإنسان نأخذها من الآن بإيماننا بالمسيح. فهي ليست حياة بشرية. هذا هو الخلود الحقيقي. ابتداء من هذه الآية يتكلم المسيح بصيغة المتكلم بعد أن كان يتكلم بصيغة الغائب وكأن المعنى أن ما قلته لكم من قبل عن العلاقة بين الآب وإبنه ينطبق علىَّ فأنا الإبن الوحيد. الحق الحق أقول لكم= هذه تشبه القسم في العهد القديم، فهو إعلان رسمي إلهي. وهنا نرى الوحدة بين الآب والإبن، فشرط الحياة أن نسمع كلام الإبن ونؤمن بالآب، فالخلاص هو بالآب والابن.

يسمع كلامي= أي يدخل لأعماقه ويحرك قلبه ويصدق وينفذ ويستمد قوة من الوصية على تنفيذها. ويسمع كلامي= كلامي جاءت هنا لوغوس ويكون المعنى أن يقبلني أنا الكلمة المتجسد. يؤمن بالذي أرسلني= الإيمان بأحد الأقنومين يستلزم الإيمان بالآخر فهما واحد وكذلك إكرام أحدهما= أي يؤمن بكل ما قلته عن الآب كما إستعلنته أنا، وبالذات أنه أرسل المسيح. فالإيمان بالآب يستلزم الإيمان بالمسيح والإيمان بالمسيح يستلزم الإيمان بالآب. يؤمن بالذي أرسلني= حتى لا يشعروا أنه يفضل نفسه عن الله. عموماً هو والآب واحد وهو لا يريدهم أن يتشككوا فيه. لا يأتي إلى دينونة= أي الهلاك فالمسيح سيحمل الدينونة عن الإنسان الذي يؤمن به (التائب طبعاً). إنتقل من الموت= الموت هنا هو موت الخطية لأن الذي يؤمن ويسمع تغفر خطاياه. لقد إنتهت خطورة الموت الجسدي، ولكن الموت الأخطر هو موت الخطية وعدم الإيمان، لذلك يقول يوحنا في (1يو2:1،4) أن الحياة أظهرت. والإنتقال من الموت إلى الحياة يعني بداية الحياة الأبدية. وهذه تبدأ بالمعمودية وتستمر بالتوبة “إبني هذا كان ميتاً فعاش” والحياة الأبدية هي حياة المسيح الأبدي، نحصل عليها بالإتحاد معه في المعمودية (رو3:6-5) ونستمر نحياها بحياة التوبة.

 

آية (25): “الحق الحق أقول لكم انه تأتى ساعة وهي الآن حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون.”

هنا نرى أن التوبة هي شرط للحياة الأبدية. فمن يسمع صوت إبن الله أي يؤمن به ويتوب وهؤلاء يحيون. في هذه الآية يتحدث المسيح عن قيامة النفس من موت الخطية. ولكن هناك قيامة ثانية للجسد يشير لها في آية (28). الآن= هذه الآية تشير للواقع الحاضر. يسمع الأموات= أي موتى الخطية الابن الضال كان ميتاً فعاش+ (أف5:2+ أف14:5) فالميت فقد الإحساس ببشاعة الخطية وصار يشرب الإثم كالماء. هذا فقد تبكيت الروح القدس. وكانت إقامة المقعد رمزاً لإقامة موتى الخطية وأيضاً تشير لمقدرة الرب على قيامة الجسد. والآن= هو وقت التوبة (إش8:49+ 2:61). فالقوة القادرة أن تقيم من الموت مستعدة الآن أن تقيم كل من يريد. ومن يسمع تكون له حياة ومن لا يسمع ويسلك وراء شهواته يكون له دينونة.

 

آية (26): “انه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته.”

الطبيعة الإلهية للآب هي نفسها الطبيعة الإلهية للإبن. والحياة هي من صميم خواص الطبيعة الإلهية. فالله حي بذاته أي الحياة ليست ممنوحة له. لذلك نصلي “قدوس الحي الذي لا يموت”

أعطى الإبن أيضاً= أغسطينوس يقول أن أعطى تساوي ولد، فالإبن مولود وله حياة في ذاته من آب له حياة في ذاته. ليس أنه أعطاه شيئاً من خارجه فهو لأنه مولود منه بالطبيعة له نفس ما للآب كولادة النور من الشمس. هو لم يعطه حياة في ذاته، بل أعطى الإبن أن تكون له الحياة في ذاته. هو لم يقل (الآب أعطى للإبن حياة في ذاته) فهذا يعني أن الإبن لم يكن له حياة في ذاته، والآب أعطى له حياة. ولكن قال (أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته) فالإبن فيه الحياة التي في الآب. الحياة الذاتية التي لا تموت. ولأن له الحياة في ذاته يستطيع أن يحيي من يسمع صوته. والآية تشير للتساوي التام والتطابق التام بين الآب والابن خصوصاً أن لفظ أيضاً يشير لهذا فكل ما هو للآب هو للإبن (يو10:17). ويقصد بالآية أن هناك تقسيم للعمل داخل الثالوث القدوس. وهو يذكر هذه الآية هنا بعد آية (25) لكي يشير أن للإبن سلطان أن يعطي حياة لمن يسمع صوته ويتوب ويؤمن. ويقولها قبل آية (29): فللإبن سلطان أن يعطي حياة للأموات. وقد رأينا توزيع الأعمال أيضاً في آية (22) فالدينونة هي للإبن. فالآب له حياة في ذاته والإبن له حياة في ذاته. ولكن كلمة أعطى تفيد التمايز بين الآب والإبن. وكما أن الآب لا يستمد وجوده من آخر كذلك الإبن لا يستمد وجوده من آخر. والإبن بإتحاده بالآب هو أيضاً واهب حياة بسلطانه المطلق الناتج عن هذا الإتحاد. ولكن بحكم أن المسيح كان تجسده في فكر الله منذ الأزل فإن الآب أعطى أن تكون للإبن الحياة في ذاته ليعطيها بكونه فادياً، ولكن بكونه إلهاً ذا جوهر واحد مع الآب فهو له الحياة في ذاته، هو نبعها ومعطيها. ويمكن بتشبيه بسيط أن نقول أن الآب أعطى الإبن كذا= أنني مثلاً خصصت ذراعي اليمنى لكذا.. والإبن مشبه فعلاً بذراع الله (أش9:51). بإختصار فالمعنى أن الآب له حياة في ذاته، ومولود منه إبن له نفس طبيعته، أي له حياة في ذاته. ولأن الآب يريد أن يعطي حياة للبشر يكون هذا عمل الإبن. فالإبن ينفذ إرادة الآب. وإرادة الآب والإبن واحدة لأنهما واحد. لكن الآب يريد والإبن ينفذ.

 

آية (27): “وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً لأنه ابن الإنسان.”

كما أن الآب يخلق العالم بالإبن هكذا هو يدين العالم بالإبن. سبق المسيح وأعلن لاهوته وهو هنا يعلن ناسوته وإنه إبن الإنسان وأنه هو يدين كإنسان. فالديان صار من جنسنا وهذا منتهى العدل الإلهي (عب17:2،18+ 15:4،16). وما يميزه كقاضٍ للبشرية أنه شفيع للبشرية أيضاً (عب24:7،25). وبولس جمع بين الصفتين في (رو34:8) ومن يرفض المسيح كشفيع لا يتبقى له سوى المسيح الديان. إبن الإنسان (دا 13:7،14+ 1كو21:15) والمسيح بقوله إبن الإنسان كان ينبه الحاضرين ليتذكروا نبوة دانيال فيعرفوا شخصه.

 

الآيات (28،29): “لا تتعجبوا من هذا فانه تأتى ساعة فيها يسمع جميع الذين في القبور صوته.فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيئات إلى قيامة الدينونة.”

المسيح هنا يتكلم عن الموتى بالجسد حين يقومون في نهاية الزمان للدينونة. لا تتعجبوا= من إقامة مخلع فستروا أعظم وأنني إبن الله وأنني إبن الإنسان. ولي هذا السلطان وسترونني دياناً للكل يوماً ما ومعطي حياة جديدة وأعيد خلقة البشر. فعلوا الصالحات= تشمل الإيمان بالمسيح. وعملوا السيئات= تشمل رفض الإيمان بالمسيح.

هنا المسيح إستخدم فعلين مختلفين فعلوا وعملوا. وإستخدام فعلوا للصالحات وعملوا للسيئات. فعلوا= تشير لأن الإنسان الصالح فعل ما سمعه من صوت الروح القدس أفعالاً كانت ثماراً للروح الذي في داخله. عملوا= أعمالاً سيئة ناشئة عن طبيعة سيئة عاصية متمردة. فعلوا هي ثمار الروح القدس وعملوا هي ناتج الجسد الطبيعي. ومن يؤمن بالمسيح تكون أعماله صالحة، فهو صار يعيش للمسيح والمسيح يحيا فيه. ومن لا يؤمن سيدان (يو18:3+ 1يو9:5-12). ومن أعماله غير صالحة سيدان (رو2:2-10+ 2كو10:5). وهناك يوم محدد للدينونة (أع30:17،31). وهذا اليوم هو يوم ظهور المسيح (2تي1:4). وأن المسيح هو الديان (أع40:10-42). والمسيح طالما له سلطان أن يحيي فهو سيعطي الحياة الأبدية لمن ليس عليهم دينونة (يو39:6-40). وهو أعطانا جسده ودمه لتكون لنا حياة (يو54:6). ولاحظ أنه هنا قال جميع. فالبشر كلهم لهم قيام. ولكن يوجد طريقان (الحياة والدينونة) بينما في آية (25) لم يقل جميع، فالبشر أحرار الآن أن يستجيبوا أو يرفضوا.

 

آية (30): “أنا لا اقدر أن افعل من نفسي شيئاً كما اسمع أدين ودينونتي عادلة لأني لا اطلب مشيئتي بل مشيئة الآب الذي أرسلني.”

هذه الآية وصلة بين ما سبق الذي تحدث فيه يسوع عن مساواته مع الآب وبين بقية الإصحاح الذي يتكلم فيه عن الشهادة له. المسيح هنا لأول مرة يقول أنا. فظهر بوضوح أنه يقصد نفسه بكل ما سبق كما أسمع أدين= تعنى إستحالة الإنفصال بين الأقنومين في الرأي أو العمل وتشير للإتفاق التام. هي إشارة لمعرفة تامة لفكر الآب لذلك يقول دينونتي عادلة= فهو لا يطلب شيئاً لنفسه. ما دام هناك تساوي مطلق فهذه تشير أن لهما إرادة واحدة فالآب يريد والإبن ينفذ ويعلن لنا أي يستعلن إرادة الآب، فهو وحدهُ الذي يعرف مشيئة الآب. ولا توجد خليقة ما مهما كانت تستطيع أن ترى الله وتسمعه وتعرفه وتعرف إرادته إلاّ الإبن الذي هو من طبيعة الآب، لذلك فهذه الآية تشير لطبيعة المسيح الإلهية (يو18:1). لا أطلب مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني= مشيئة الإبن أن يعمل مشيئة الذي أرسله (يو34:4) ومشيئة الآب نجدها في (يو39:6،40) وبهذا نرى أن مشيئة الآب والإبن في إنسجام تام ووحدة، فمشيئة الله أن الجميع يخلصون. هذه الآية تكرار للآية (19) ولكن هنا يوضح أن الإبن في آية (19) هو يسوع نفسه، لذلك يقول هنا “أنا” وهو لا يعمل شيئاً بدون شركة مع الآب. فالنبوة فيها إتصال الآب بالإبن.

 

الآيات (19-23) نرى فيها تسلسل لطيف جداً. ففي آية (19) نرى الإبن يعمل ما يعمله الآب. وفي آية (20) يشرح لماذا فيقول لأن الآب يحب الإبن. ثم يقول وسيريه أعمالاً أعظم. وفي آية (21) يقول لأن الابن يحيي. إذاً إقامة الأموات هي الأعمال الأعظم. والإبن سيحيي من يشاء لأنه له الدينونة آية (22) ولكن ما معنى يريه جميع ما هو يعمله.. وسيريه.. وكما أسمع أدين (آية30).

نرى في آية (19) التساوي المطلق بين الآب والإبن= مهما عمل ذاك فهذا يعمله الإبن كذلك. والسبب في آية (20) هو المحبة. فالله محبة، ينبع محبة. والإبن هو المحبوب (أف6:1). والروح القدس هو روح المحبة. هي وحدة أساسها المحبة. وبسبب هذه الوحدة والمحبة، فالإبن يعمل كل ما يعمله الآب، وله كل ما للآب ويريه جميع ما هو يعمله= يريه تعني المعرفة الكاملة بما يريد الآب. فلا يعرف الآب إلا الإبن ولا أحد يعرف الإبن إلاّ الآب (لو22:10). هي معرفة التطابق الناشئ عن الوحدة. ولكن داخل المشورة الثالوثية لكل أقنوم عمله. فالآب يريد. والإبن ينفذ. فالآب يريد أن الجميع يخلصون، والإبن يقدم التجسد والفداء. الآب يريد أن يعطي حياة للبشر، وهذا ما يعمله الإبن والآب خلق العالم بالإبن، ويفعل كل الأشياء بالإبن، فالإبن به كان كل شئ. بل الإبن سيقوم بتجميع البشر في جسده ليقدم الخضوع للآب، ويعطي البشر حياة فهو له حياة في ذاته. بل هو الوحيد الذي بجسده أطاع كل الوصايا. والمسيح له أعمال هذه قال عنها أن الآب أراه إياها أو يريه إياها. وله أقوال وتعاليم ودينونة قال عنها أنه سمعها من الآب. وبنفس المفهوم يقال هذا عن الروح القدس “كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية” (يو13:16). فهي معرفة التطابق الناشئ عن المعرفة نتيجة الوحدة، الوحدة التي في طبيعة الله بالمحبة. والآب يريد والإبن يَعْمَلْ ويُعَلِّمْ. والروح القدس يُخْبِرْ.

وبهذا المفهوم فالمسيح يقول لهم.. وإن شقيت في السبت فأنا لم أخالف وصايا الآب. وكيف أخالفها إن كان هناك هذه الوحدة وهذا الحب.

وإذا قال المسيح يريها فهو يقصد الأعمال التي يعملها الآن. وإذا قال سيريه فهو يقصد الأعمال التي سيعملها في المستقبل كإقامة أموات، بل قيامته هو شخصياً. وإذا قال رأيت فهذا إشارة لسابق وجوده قبل التجسد.

وقول السيد المسيح هنا أنه يحيي من يشاء فهذا إشارة لأنه هو يهوه، فهذه مقدرة الله فقط (تث29:32+ 2مل7:5+ 1صم6:2). وهذا ما يفهمه اليهود الذين يكلمهم المسيح. ويعلن المسيح أيضاً بوضوح أنه يهوه إذ هو الديان، وكان يغفر الخطايا. هو ينقلهم بالتدريج ليفهموا من هو.

وإذا فهموا من هو فيكرموه كما يكرموا الآب آية (23). ومن يرفضه ولا يؤمن به أو لا يكرمه فمصيره الدينونة آية (24).

 

في هذه الآيات نرى العلاقة بين الآب والإبن :

1)    فهما مشيئة واحدة: فالإبن لا يقدر أن تكون له إرادة منفصلة في العمل عن إرادة أبيه.

2)    غير منفصلين: فالإبن ينظر كل ما للآب ويسمع كل ما عند الآب (وهكذا الروح القدس).

3)    نفس القدرة: كل ما يفعله الآب يفعله الآبن.

4)    الحب يربط بينهما: فالإبن يعرف كل أسرار الآب.

5)    كل ما للآب هو للإبن: فالإبن يحيي من يشاء وهذا عمل الآب. وهذه عبارة لم تقال عن إيليا أو غيره حين أقاموا أموات.

6)    الإبن هو الديان: وهذا عمل الآب “أديان الأرض كلها..” (تك25:18).

7)    لهما نفس الكرامة: فكما يكرمون الآب عليهم أن يكرموا الإبن أيضاً.

إذاً هما متساويان.

الآيات 31-35

آية (31): “إن كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً.”

المسيح هنا يلجأ لثلاثة شهود فاليهود شكوا فيه إذ قال عن نفسه إبن الله وهو قرأ فكرهم وهنا المسيح يلجأ للشهود الآخرين [1] هو نفسه (آية31 + يو14:8) [2] الآب (آية32) [3] يوحنا المعمدان (آية33). فالمسيح يؤكد شهادته لنفسه بشهادة إثنين آخرين. وبحسب الناموس اليهودي فالشهادة تقبل على فم شاهدين (تث6:17+ 15:19+ عد30:35). قطعاً شهادة المسيح عن نفسه كافية فهو الحق. وهو قال هذا (يو14:8) ولكن اليهود بحسب تفكيرهم وبحسب ناموسهم يحتاجون لشهود (يو13:8) هنا يقول إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي ليست حقاً= هذا بحسب المنطق البشري. وفي (13:8) قال “شهادتي حق” = فهذا منطق الله فالله غير خاضع للمعايير البشرية.

 

آية (32): “الذي يشهد لي هو آخر وأنا اعلم إن شهادته التي يشهدها لي هي حق.”

آخر= هو الآب لأن الفعل يشهد أتى في زمان المضارع الدائم، وهذا لا يستقيم في حالة أي إنسان، لأن أي إنسان تكون شهادته مؤقتة أما شهادة الآب فدائمة وصادقة. والآب شهد للمسيح أنه إبنه يوم العماد ويوم التجلي وشهد له بالنبوات (آيات 38،39) وشهد له بالأعمال التي يعملها المسيح والتي تظهر أن الآب فيه (36). والمسيح يعرف شهادة الآب عنه بسبب علاقته الأقنومية به. واليهود لا يعرفون بسبب خطاياهم وكبريائهم (38).

 

الآيات (33،34): “انتم أرسلتم إلى يوحنا فشهد للحق. وأنا لا اقبل شهادة من إنسان ولكني أقول هذا لتخلصوا انتم.”

هنا المسيح يقول لهم أنا أشهد لنفسي ويشهد لي الآب وأنتم لا تصدقون، وأرسلتم وسألتم يوحنا فشهد لي، والمسيح يقول هذا لا ليطلب شهادة المعمدان لأنه محتاج إليها فهو لا يحتاج لشهادة إنسان، فمن يحتاج لشهادة إنسان فهو يعتمد على هذا الإنسان ويحتاج لهذا الإنسان والله لا يحتاج لأحد. بل إذ كانوا فرحين بالمعمدان وواثقين فيه ويكرمونه (على أن كثيرين رفضوه أيضاً لو29:7،30) لجأ المسيح لشهادته ليجعلهم يؤمنون به فيخلصون. المسيح يلجأ لشهادة المعمدان ليرضيهم بسحب منطقهم فيجذبهم للخلاص. ولكن من غير المقبول أن يتوقف صدق الله على شهادة إنسان.

 

آية (35): “كان هو السراج الموقد المنير وانتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة.”

يوحنا المعمدان كان سراج= ربما كان المعمدان قد إستشهد وقتها أو كان في السجن وبهذا توقفت خدمته أي نوره قد توقف، ومهما كان المعمدان فهو كمصباح لابد وأن وقوده سينفد في وقتٍ ما. ولكنه كان سراج موقد من الداخل بالمحبة والغيرة ومنير من الخارج في قداسته. أنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره= هللوا له وقت ظهوره إذ ظنوه هو المسيا، ولكن المعمدان ظهر لفترة وجيزة= ساعة= وقت قصير أي عدة شهور، بينما أن بهجة خلاص المسيح فأبدية. أمّا اليهود الذين فرحوا بيوحنا المعمدان وتركوا المسيح، فهم إختاروا البركة المؤقتة وتركوا نعمة الملكوت الدائمة. ويوحنا كان سراجاً ينيره آخر أي الله (يو8:1). لكن المسيح هو النور الحقيقي فالنور طبيعته (يو9:1).

الآيات 36-47

آية (36): “وأما أنا فلي شهادة اعظم من يوحنا لأن الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا اعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني.”

الأعمال= المعجزات+ تعاليمه وأقواله التي كانت بسلطان. كل هذا يشير للقوة الإلهية التي تعمل فيه. أعمال المسيح هي برهان صدق إرساليته (25:10،32،37،38+ 10:14،11+ 24:15). أعمال المسيح تستعلن الله الآب في شخص المسيح. ولنلاحظ أن من يقبل إبن الله في قلبه يكون له شهادة في داخله له ولا يحتاج معها شهادة من خارج، فالإيمان بالمسيح يحمل تأكيده فيه لأنه هو شهادة صدق الله.

أعطاني= المسيح يركز على أن الآب يعطي الإبن (35:3+3:13+22:5،26،27+ 39:6+ 2:17،4،6،12،24+ 49:12) ومعنى أن الآب يعطي الإبن فهذا لأن كل شئ وكل عمل وكل مشيئة عند الآب هي غير منظورة والآب يعطيها للإبن ليظهرها، أو يعطي الإبن أن يظهرها ويعلنها على مستوى الفعل والواقع المنظور. فالأعمال عند الآب والإبن هي واحدة، غير منظورة عند الآب، ومنظورة بالإبن، فالآب يعمل بالإبن، الآب يريد والإبن ينفذ فهو قوة الآب (1كو24:1). إذاً العطاء من الآب للإبن يفيد أن الإبن يكمل عمل الآب أو يظهره. لأكملها= يكملها هنا تفيد التكميل حتى النهاية أو حتى الكمال “العمل الذي أعطيتني قد أكملته” + “قد أكمل”.

 

الآيات (37،38): “والآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته. وليست لكم كلمته ثابتة فيكم لأن الذي أرسله هو لستم انتم تؤمنون به.”

المسيح هنا ينتقل من شهادة الأعمال له وهي نفس أعمال الآب إلى شهادة الآب نفسه (16:8،18،29). فالآب شهد للإبن يوم العماد ويوم التجلي وبالأنبياء وبروحه الذي يخاطب القلوب ولكنهم لا يريدون أن يسمعوا، وبأعماله التي يعملها. فالآب والإبن يعملوا الأعمال. وبأقواله وتعاليمه، فالآب كلمنا في إبنه. ولاحظ أن أعمال الإبن: [1] كثيرة جداً (لا يسعها كل كتب العالم) [2] عظيمة ومبهرة (ما رأينا مثل هذا قط) [3] جهراً أمام الكل [4] كلها للخير (هو لم يميت أحد) أما أقواله فبهرت الكل. وكان كل هذا ليستعلن الآب. فالآب يشهد للإبن شهادة كامنة في الإبن، لأن الإبن هو كلمة الآب وصوت الآب وصورة الآب، وهذا ندركه بالإيمان، بالعين الروحية التي ترى الله في المسيح والأذن الروحية التي تسمع الله في المسيح “من رآنى فقد رأى الله (الآب). لذلك فاليهود الذين رفضوا المسيح رفضوا صوت الله.

لم تسمعوا صوته= فالمسيح يقول عن نفسه أنه صوت الآب. ولا أبصرتم هيئته= فالمسيح هو هيئة الآب.. فأذانهم الروحية وعيونهم الروحية مغلقة. ومعنى كلام الرب أنتم لم تعرفوني فأنا صورة الآب. ولو عرفوا الآب لعرفوا المسيح والعكس. والآب يشهد للمسيح بفم أنبيائه وأخرهم المعمدان، كلهم تنبأوا عن المسيح، ولو أخلص اليهود فهم ناموسهم لعرفوا المسيح= ليس لكم كلمته ثابتة فيكم= أي النبوات. بل أن أبائهم الذين سمعوا صوت الله على الجبل أيام موسى ورأوا البروق، فهم أطاعوا الله أياماً قليلة لكنهم عادوا وإرتدوا، كلام الله علق بذاكرتهم دون قلوبهم.

 

آية (39): “فتشوا الكتب لأنكم تظنون إن لكم فيها حياة أبدية وهي التي تشهد لي.”

هنا المسيح يلومهم فهو يَدَّعون الخبرة في الكتب المقدسة ولكنهم بعد كل هذه السنين لم ينفتح ذهنهم علىسر الحياة الأبدية الكائن في الأسفار، ليدركوا منها الأمور المختصة بالمسيح (لو27:24) فالأسفار المقدسة هي إستعلان للمسيح مملوءة نبوات عنه، في كل خطوة من خطوات حياته (2بط17:1-21+ 1بط10:1،11) هم كانوا يظنون أن فهمهم الحرفي للأسفار المقدسة سيعطيهم حياة أبدية، وكانوا يظنون أن مجرد حفظها أو تلاوتها سيعطيهم حياة أبدية. ولكنهم لو فهموها بعمق لإكتشفوا المسيح واهب الحياة الأبدية. لكنهم درسوها لمجرد المعرفة والتفاخر بما يعرفونه. فتشوا= تدل على الفحص الشديد المثابر للأسفار. ومن يفعل سيكتشف المسيح وسيعرفه ويؤمن به. أنتم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية=وهذا حق ولكن كيف نقرأ؟ هل لمجرد المعرفة مثل اليهود أو لنرى ونبحث عن شخص المسيح ونعرفه، فنحبه ونؤمن به ونثق فيه فتكون لنا حياة.

 

آية (40): “ولا تريدون أن تأتوا إلىَّ لتكون لكم حياة.”

مازالت أمامكم الأسفار المقدسة، فتشوا فيها فتؤمنوا بي وتأتوا إلىّ فيكون لكم حياة، فمن يأتي إلىّ أعطيه حياة، الحياة الأبدية التي تفتشون عليها في الأسفار المقدسة هي معي، وهي فيَّ، وهي أنا (1يو2:1) ولا تريدون= هي مسئولية كل شخص أن يقبل المسيح أو يرفضه ومن يفتش الكتاب المقدس بأمانة سيجد أنه محتاج لشخص المسيح فيذهب إليه فتكون له حياة.

 

آية (41): “مجداً من الناس لست اقبل.”

 عندما تكلم عن شهادة المعمدان فهو لا يشتهي مجداً من الناس كما يفعلون هم، فمجده راجع لإتحاده بالآب. المسيح لا يقبل شهادة من الناس ولا مجداً من الناس. قال هذا حتى لا يتصوروا أنه يقول ما يقوله ليمجدوه، وإلاّ لوافق طلبهم أن يصير ملكاً زمنياً. فمن يقبل شهادة أو مجد من إنسان يلزمه أن يستند على هذا الإنسان فيخضع لمعايير البشر. إذاً فالمسيح يطلبهم لا لأنه يريدهم أن يمجدوه بل ليعطيهم حياة (راجع آية34).

 

آية (42): “ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم.”

قد عرفتكم= أنا أعرف حالتكم، هم لا يحبون الله ولا شركة لهم مع الله. فرفضهم للمسيح علامة على الحالة السيئة التي هم فيها. رفضهم للمسيح علامة أنهم في عداوة مع الله، هم لا يحبون الله لذلك لم يجتذبهم الآب. المسيح هنا يكشف ما في قلوبهم. في أنفسكم= فهم يقولون بأفواههم أنهم يحبون الله ويتباهون بهذا، لكن المحبة غير موجودة في قلوبهم (24:15،25) وإن غابت المحبة سكنت البغضة في القلب. هم لو كانوا يحبون الله، كانت المحبة قد فتحت أعينهم وعرفوا المسيح. ولكن “هذا الشعب يكرمني بشفتيه وقلبه مبتعد عني بعيداً”. اضطهادهم للمسيح صادر ليس عن غيرة لله بل حسداً للمسيح وبغضة له، لو أحبوا الله لآمنوا بالمسيح.

 

آية (43): “أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني أن آتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه.”

عدم وجود محبة الآب في قلب اليهود أفقدهم القدرة على معرفة المسيح لما جاء إليهم باسم الآب. والمحبة تأتي بالعشرة مع الله ودرس الكتاب المقدس بعمق. بإسم أبي= هو واحد ومستقر في الآب وثابت فيه ومتحد به. هو أتى ليعلن الآب. هو يبحث عن مجد الآب لا مجد نفسه فهو أخلى نفسه. ولو أتى لهم من يتكلم بإسم نفسه لقبلوه، أي نبي كاذب أو أي شخص يدّعى أنه المسيح، لأنهم سيرون أنفسهم فيه. فالنبي الكاذب سيستغل نقطة ضعفهم ويظهر أمامهم بمظهر العظمة العالمية التي يشتهونها، وسوف يَعِدْهُمْ أن يعطيهم هذه العظمة العالمية فيقبلونه، كما سيحدث مع ضد المسيح في الأيام الأخيرة. آتى بإسم نفسه= يعلن رغباته وأفكاره هو الذاتية التي تتوافق مع أفكارهم. بهذا يظهر أن اليهود واقفين في موضع مضاد للمسيح ولله، فهم يقبلون مجد الناس ولا يطلبون مجد الله. وهذا ما عطل إيمانهم.

 

آية (44): “كيف تقدرون أن تؤمنوا وانتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه.”

الإيمان في أبسط صوره هو تمجيد الله بالقول والعمل. وثمر الإيمان هو تسبيح الله على الدوام. وإذا إنشغل إنسان بتمجيد الآخرين له ضعفت قوة تسبيح الله في قلبه فهو لن يرى عظمة الله فيسبحه لأنه إنشغل بتملق الآخرين. واليهود كانوا منشغلين بتمجيد أنفسهم، وحتى الناموس كان سبباً في أن يعظموا أنفسهم، فهو فهموا أن الله أعطاهم الناموس لعظمتهم هم كشعب مختار مميز عن باقي الشعوب. وكانوا يقبلون مجداً من بعضهم البعض ولم يقبلوا المجد الأصلي الذي هو الله ظاهر في الجسد. لاحظ المسيح في آية (43) يخلى ذاته قائلاً “أنا أتيت بإسم أبي” فلا يبحث عن مجد شخصي بل كأنه مجرد مرسل من الآب. واليهود يبحثون عن مجد أنفسهم.

 

آية (45): “لا تظنوا أني أشكوكم إلى الآب يوجد الذي يشكوكم وهو موسى الذي عليه رجاؤكم.”

الإبن يحتفظ بوظيفته كشفيع ويترك الحكم للناموس بقيادة موسى، لأن موسى كتب عن المسيح فموسى سيشهد ضدهم. لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح. وكما صرخ موسى لله بسبب عنادهم ورفضهم له سيشكوهم موسى لله لأنهم رفضوا من تنبأ عنه. فالمسيح في مجيئه الأول لم يأت للدينونة بل ليخلص العالم. وأحال بمنتهى الإتضاع القضية إلى الناموس الذين هم متمسكين به فهم يتهمونه بأنه كسر السبت والمسيح قال لهم بل أنتم ضد ناموس موسى. موسى سيتحول لديان لهم.

 

الآيات (46،47): “لأنكم لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني لأنه هو كتب عني. فان كنتم لستم تصدقون كتب ذاك فكيف تصدقون كلامي.”

ها أنا قد أتيت كما قال موسى (تث15:18-19) فلماذا لا تؤمنون بي. وهناك كثير من الرموز للمسيح في كتابات موسى (الذبائح والتطهيرات..) فالمسيح كان الهدف والمحور والغاية.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 4 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 6
تفسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى