تفسير إنجيل يوحنا ٦ للقمص أنطونيوس فكري

شرح يوحنا 6

 

الآيات (1-15): (معجزة إشباع الجموع)

 المسيح هنا إنتقل من اليهودية وأورشليم إلى الجليل حيث أجرى المعجزة. وهذه المعجزة هي الوحيدة المذكورة في الأربعة أناجيل (مت13:14-21+ مر30:6-44+ لو10:9-17) وهذا لأهميتها فهي معجزة خلق حقيقي تثبت لاهوت المسيح. فالناس أكلوا أكل حقيقي وتبقى 12قفة. ولكن يوحنا لا يكرر ما جاء في البشائر الأربعة ولكنه ذكر هذه المعجزة لإرتباطها بما سيذكره فيما بعد عن يسوع خبز الحياة. والمسيح في كل قداس يحضر في الوسط ويكسر ويعطي شبعاً لنا ويحول الحياة الحاضرة لحياة أبدية. ففي كل قداس يكرر المسيح معجزة إشباع الجموع ولكن على مستوى الحياة الأبدية. لذلك ينبه يوحنا أن الفصح كان قريباً. فالمسيح أعطانا جسده مأكلاً ودمه مشرباً في الفصح الذي يلي هذا الفصح فصار هو فصحنا الجديد، جسد المسيح المكسور لإشباع العالم. فالفصح القديم كان رمزاً للعشاء الرباني والمن الأرضي كان رمزاً للمن السماوي فالمن الأرضي يسند في برية سيناء والمن السماوي يسندنا في جهادنا في برية هذا العالم. وكما أمر الله موسى بحفظ جزء من المن تبقى هنا 12قفة.

–   إبتداء من إصحاح (6) وحتى إصحاح (12) يسمى إنجيل الإستعلان. فالمسيح يستعلن ذاته. ويتكلم المسيح عن نفسه بأنا هو (يهوه). وفي إصحاح (6) نسمع عن المسيح خبز الحياة “من يأكلني يحيا بي” وهو الخبز الحي النازل من السماء، وبدونه لا حياة للإنسان. وهذه الآيات (1-15) تتكرر كثيراً في القداسات ونسميها إنجيل البركة.

–   هنا نرى المسيح سر الشبع الذي لا ينتهي. وهو قادر أن يملأنا من شخصه ونشبع به (نفساً وجسداً وروحاً). موسى أنزل مناً من السماء أشبع بطونهم ولكن المسيح هنا يقدم نفسه كخبز للحياة فيه شبع بلا حدود. وقارن مع الإصحاح السابق الذي فيه بعض اليهود قد رفضوا المسيح لترى مدى خسارتهم. وعن الشبع بالمسيح تنبأ أشعياء (8:49-10).

–   وفي آية (4) يقول “وكان الفصح عيد اليهود قريباً” فهو يريد أن يربط بين المعجزة والفصح “فالمسيح فصحنا ذبح لأجلنا” (1كو7:5) فهذا الإشباع رمز للإفخارستيا. ولذلك يقول عن الفصح عيد اليهود، فهو لم يعد عيد لله بعد أن جاء المرموز إليه. فالفصح الحقيقي هو ذبيحة الصليب وهو بعينه الإفخارستيا على المذبح.

–   والسمكة كانت الرمز الذي يتعامل به المسيحيين الأوائل، فسمكة باليونانية “إخثيس” وهي من خمس حروف، هي نفسها الحروف الأولى من الجملة “يسوع المسيح إبن الله مخلص”. والسمكة كانت رمز سرى أيام الإضطهاد الروماني، فكان المسيحيون يتعرفون على بعضهم بعلامة السمكة. وكان السمك رمز للمؤمنين في معجزتي صيد السمك (لو5 +يو21). والسمكة لها زعانف لذلك تسير عكس التيار في الماء إشارة للمؤمن الذي بواسطة النعمة يسير عكس تيار الخطية الذي في العالم.

–   والمسيح طبيب النفوس أراد أن يشفي إيمان فيلبس الضعيف فسأله “من أين نبتاع خبز” وكانت إجابة فيلبس “لا يكفيهم خبز بمئتي دينار” أي حتى لو وجد المكان الذي نبتاع منه فأين النقود. ولاحظ في آية(6) أنه قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. وكيف شفى إيمان فيلبس، لاحظ أن الطعام أشبع الكل، والكل أخذوا بقدر ما شاءوا، وتبقى 12قفة. فالمسيح يعطي بفيض وليس فقط للملء. ولكن حتى الآن نيأس إذ نجد مشاكل لا حل لها ونظن أنه لو وُجِدَ المال تحل المشاكل، وننسى أن المسيح معنا.

–   سؤال: لو تمسك الطفل بخبزاته القليلة ماذا كان سيحدث؟ وماذا سيحدث لو قلت لنفسي المال مالي والوقت هو لي استمتع به، لما بارك فيه المسيح. ولاحظ أن المسيح يعطي بفيض أمام القليل الذي تقدمه.

–   والمسيح بعد المعجزة ذهب للجبل وحده آية (15) وذلك إشارة لأنه السماوي فالجبل رمز للسماويات وخوفاً من أن الجموع تقوم بثورة لتملكه فيثيروا عساكر الرومان ضدهم. واليهود ظنوا أن المسيح كملك سيدمر لهم الرومان. لكن المسيح أتى لليهود وللرومان.

 

الآيات (1،2): “بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية. وتبعه جمع كثير لأنهم ابصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى.”

ذهب يسوع للجليل وصنع فيها معجزات فبدأ الشعب يتبعه. بعد هذا= ركب يسوع مركباً هو وتلاميذه من كفرناحوم وعبروا بحيرة طبرية (بحر الجليل أو بحيرة جنيسارات). وكانت كفرناحوم مركز إقامته. وفي (لو10:9) نجد السيد عبر من كفرناحوم ليذهب إلى بيت صيدا شرقاً. والجموع الذين تبعوه سيراً على الأقدام ساروا 13.5كم.

 

الآيات (3،4): “فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه. وكان الفصح عيد اليهود قريباً.”

في (مر34:6) يصور الجموع كخراف وها هو الراعي الصالح المهتم بإشباع خرافه.

 

الآيات (5-7): “فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعاً كثيراً مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء. وإنما قال هذا ليمتحنه لأنه هو علم ما هو مزمع أن يفعل. أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً.”

يتضح هنا شخصية فيلبس وأنه يقوم بحساب كل خطوة حساباً دقيقاً، والمسيح يسأله ليعطيه درساً أن البركة لا تعترف بالحسابات ولا الحكمة الإنسانية، والمسيح يسأل فيلبس ليعلمه ويعلمنا فهو المعلم. ومازالت هذه طريقتنا مع الله، نريد أن نفرض عليه حلولنا العاجزة بحسب عدم إيماننا. ومازالت هذه هي طريقة المسيح معنا، فهو يسمح بتجربة لنرى يده حينما يتدخل ليحل المشكلة، كما سأل فيلبس. والسبب ليزداد إيماننا كما عالج المسيح ضعف إيمان فيلبس إذ رأي المعجزة. يمتحنه= فالمسيح هو المعلم. يسأله لإظهار ضعف إيمانه والهدف شفاء ضعف إيمانه. والمسيح سأل فيلبس من أين وفيلبس أجاب على شئ آخر وقال بمئتي دينار= فالإنسان يجيب بما يشغل باله.

 

الآيات (8،9): “قال له واحد من تلاميذه وهو إندراوس أخو سمعان بطرس. هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء.”

أندراوس أيضاً كان له نفس الخطأ الذي وقع فيه فيلبس فهو يحكم على عمل الله بحسب الإمكانيات البشرية وليس بحسب إمكانيات الله غير المحدودة. وهنا درس آخر في إحترام المواهب الصغيرة، فهنا غلام معه إمكانيات ضعيفة ولكنها ببركة الرب أشبعت الجموع. وخبز الشعير هو خبز الفقراء والسمكتان يقول دارسو الكتاب أنهما كانتا مملحتين كعادة أهل السواحل في الإحتفاظ بفائض الأسماك (ومازال الأقباط يحتفلون في يوم شم النسيم التالي لعيد القيامة (الفصح) بخروجهم للحدائق (كما كان المسيح هنا في مراعي خضراء) وأكلهم الأسماك المملحة. وكانت الأسماك التي مع الغلام أسماكاً صغيرة (بساريا وباليونانية إبساريون) القليل في يد المسيح يزداد بلا حدود: طفل صغير معه 5 خبزات شعير (أرخص خبز+ سمكتين صغار).

 

آية (10): “فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون وكان في المكان عشب كثير فإتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف.”

النساء والأطفال لا يدخلون في حسابات اليهود. ونلاحظ بحسب الأناجيل الأخرى أنهم جلسوا في ترتيب خمسين خمسين فإلهنا إله ترتيب ونظام وليس إله تشويش. وكان في المكان عشب كثير= أي مرعى فالمسيح هو الراعي الصالح (مز23) وهذه الصورة تذكرنا بصورة سفر الخروج (9:24-11) حين أكلوا وشربوا في حضرة الله. ونلاحظ أن يسوع يعطي لمن يقدم كل ما عنده. فهؤلاء ما كانوا يملكون سوى الخمس خبزات. وفي معجزة تحويل الماء إلى خمر قال إملأوا الأجران فهذا أقصى ما يستطيعوه. وما نقدمه يسمى الجهاد. ولاحظ فنعمة المسيح تعطي لمن يجاهد بأقصى ما عنده.

 

آية (11): “واخذ يسوع الأرغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاءوا.”

شكر ووزع= هنا حدثت البركة وتم التحول السري العجيب. والمادة الميتة أخصبت بروح الحياة فتحول المحدود إلى اللامحدود. وشكر= أي أنه يشرك الآب في هذه البركة فهو خبز بحسب مشيئة الآب. ولذلك لا يتم التحول في سر الإفخارستيا إلاّ بالدعاء بإسم الآب والإبن والروح القدس والألفاظ المستخدمة هنا شكر ووزع وأعطى هي نفسها المستخدمة في سر الإفخارستيا فما حدث هنا رمز للسر. وشكر باليونانية هي إفخارستيا. وهي المقابل لكلمة بارك اليهودية (BEREKAH) التي استخدمت في الأناجيل الأخرى. وبينما تستعمل الأناجيل الأخرى كلمة وكسر إستخدم يوحنا كلمة وزع فيوحنا ملتزم بأن المسيح لا يُكسر منه عظم (يو33:19،36) فيوحنا يكتب هذه المعجزة ويطابق بينها وبين ما حدث على الصليب، وكأن يوحنا يريد أن يقول أن الخبز الحي النازل من السماء لا يتجزأ ولا يًكسر بل يعطي ككل. لذلك ونحن نتناول لا نتناول كسرة خبز بل المسيح كله. ونلاحظ أن يوحنا لا يُصوِّر هنا ما حدث على الصليب فقط بل يصور ما حدث ليلة العشاء السري فالمسيح أيضاً شكر ووزع.

 

الآيات (12،13): “فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شيء. فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.”

شبعوا= في أصلها اليوناني إمتلأوا. فمازال يوحنا يتحدث عن المعجزة وفي ذهنه سر الإفخارستيا الذي يملأنا نفسياً وروحياً راحة وسرور ففي هذه المعجزة صار الخبز العادي في يد المسيح خبزاً سماوياً فائقاً للطبيعة أعلى من الأرقام والكميات فأصبح من يشبعهم ليس هو الخبز بل المسيح نفسه الذي يشبع أبدياً. لذلك فهذه المعجزة هي [1] رمز لسر الإفخارستيا [2] إعلان أن المسيح يسد كل إحتياج للإنسان (روح ونفس وجسد) ويشبعه ويملأه ويبارك في القليل الذي عنده. وفي (26:6) حينما يتكلم عن الذين لم يدركوا السر يستخدم كلمة أخرى تشير للشبع الجسدي، فهؤلاء لم يدركوا المسيح بعد أن أعطاهم أن يتذوقوا نعمته فجروا وراء الشبع الجسدي، بل طلبوا معجزة مثل أن ينزل لهم المسيح مناً من السماء كما فعل موسى ليشبعوا بطونهم. وماذا عنا هل نطلب المسيح لأجل شبع بطوننا فقط وللماديات فقط، أو نطلبه لنمتلئ به نفساً وروحاً. القفة= كانت تستخدم لملء العليقة لإطعام الدواب التي كان يركبها الناس والقفة تتسع لرجلاً بداخلها. والمسيح طلب “إجمعوا الكسر”= ويقصد الخبز فكلنا جسد واحد، خبز واحد، فالمسيح يهتم بكل نفس (39:6) بكل المؤمنين الذي يأكلون جسده، أن لا يتلفوا وينحلوا بل تكون لهم قيامة. وكلمة لا يضيع هنا ولا يتلف في آية(39) تشيران في اليونانية للفظ لا ينحل. فمن يأكل من الخبز الإفخارستي لا تضيع حياته ولا تتلف بل تبقى وتحيا (فهذه المعجزة رمز لما حدث ليلة العشاء السري). 12قفة= هي رمز لكنيسة المسيح، كنيسة الإثنى عشر تلميذا، التي إجتمعت حول المسيح لتصير واحداً في المسيح يسوع. وبنفس المفهوم يهتم الكاهن بأن لا يترك في الصينية أي جزء متبقي. وتفهم الكسر أيضاً على أنها أي بركة يعطيها لنا المسيح (وقت، فلوس..) علينا أن لا نهملها فهي من الممكن أن تشبع آخرين.

 

الآيات (14،15): “فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم. وأما يسوع فإذ علم انهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضاً إلى الجبل وحده.”

فهم الجموع المعجزة بطريقة خطأ، فهموها بطريقة بشرية، وأرادوا أن يملكوا المسيح فهو سيشبعهم دون مجهود ويحررهم من الرومان. بل في جهالتهم قرروا أنه لو رفض المسيح يختطفونه ويجعلوه ملكاً حسب إرادتهم. وحماس الجماهير كان بسبب معجزات الشفاء وهذه المعجزة العجيبة. وهم فهموا المسيح بطريقة خاطئة كما نفهمه حتى الآن، فكل ما نريده هو الشبع والخيرات المادية وحل مشاكلنا مع الآخرين، فكأننا نريد أن نملكه على العالم، ولكننا لا نهتم كما لم تهتم هذه الجماهير بالشبع الروحي. هم إهتموا بالخلاص من مشاكلهم وعبوديتهم للرومان وفكروا في أن المسيح هو المخلص من هذه العبودية ولم يفهموا هدف المسيح من الشبع الروحي والإيمان وتمجيد الله. حقاً كان هناك في فكر المسيح عمل رحمة في هذه المعجزة حتى لا يصرفهم جائعين ولكن الهدف الأسمى هو مجد الله. ولأنهم لم يفهموا إختفى المسيح من وسطهم. فهو لا يريد ملكاً في العالم، بل أن يملك على الصليب.

هذه المعجزة نرى فيها بوضوح المنهج الأرثوذكسي في الخلاص وهو الجهاد والنعمة فنعمة الله إنكسبت بفيض وغزارة في هذه المعجزة ولكن كان مهماً وجود الجهاد الذي يمثله الخمس خبزات والسمكتين. والذي مثله ملأ الأجران في قانا الجليل والذي مثله إزاحة الحجر عن قبر لعازر.

 

الآيات (16-21):   (السير على الماء)

الآيات (16-21): “ولما كان المساء نزل تلاميذه إلى البحر. فدخلوا السفينة وكانوا يذهبون إلى عبر البحر إلى كفرناحوم وكان الظلام قد اقبل ولم يكن يسوع قد أتى إليهم. وهاج البحر من ريح عظيمة تهب. فلما كانوا قد جذفوا نحو خمس وعشرين أو ثلاثين غلوة نظروا يسوع ماشياً على البحر مقترباً من السفينة فخافوا. فقال لهم أنا هو لا تخافوا. فرضوا أن يقبلوه في السفينة وللوقت صارت السفينة إلى الأرض التي كانوا ذاهبين إليها.” 

هذه المعجزة الملازمة لإشباع الجموع أوردها متى ومرقس أيضاً ونفهم من (مر45:6-46) أن السيد ألزم تلاميذه أن يركبوا السفينة ويسبقوا إلى العبر، أمّا هو فمضى إلى الجبل ليصلي والرب وعدهم أنه سيلحق بهم ولكنه لم يوضح كيف فلماذا ألزمهم السيد أن يركبوا السفينة وهو عالمٌ بما سوف يلاقونه من رياح؟! غالباً فالتلاميذ حزنوا إذ رفض المسيح الملك، فكلٌ منهم تصور لهُ دوراً عظيماً إذا صار المسيح ملكاً. والرب أرادهم أن يعرفوا أن العالم كالبحر مضطرب، هائج لا يصح أن نشتهيه ونشتهي مجده، بل نشتهي السماويات، لذلك قيل أن المسيح إنصرف إلى الجبل. فالجبال في الكتاب المقدس تشير للسماويات. أمّا هم فلأن فكرهم مازال أرضي فلينزلوا إلى البحر الهائج ليأخذوا درساً. وبعد أن أخذوا الدرس أتاهم المسيح ماشياً على البحر المضطرب ليفهموا أنهم سيواجهون متاعب شتى في خدمتهم وحياتهم ولكن المسيح له سلطان على كل شئ. ففي المعجزة السابقة رأيناه وله سلطان على المادة ونراه هنا وله سلطان على البحر والهواء، بل له سلطان على كل العالم فهو قد غلب العالم. بل حينما دخل المركب وصلت في الحال للبر. المسيح هنا يقول للتلاميذ لا تخافوا حين يهيج العالم إذا كان المسيح وسطكم ففي اللحظة التي يراها مناسبة يتدخل. ولما كان المساء= المساء تشمل معنى غياب الإيمان، أو الخلاف مع المسيح بسبب موضوع الملك. وأن المسيح ليس معهم. فإذا إختفى المسيح من حياتي فهو المساء (16) وهو الظلام (17) وهاج البحر(18). وإذا حدث هذا نتعرض لتجربة خطيرة كهياج البحر. فمع ضعف الإيمان ينشط إبليس. وهنا بصفته رئيس سلطان الهواء أهاج رياحاً عظيمة (اف2:2) فغياب المسيح أدى لظهور المجرب (مر47:6،48). ونفهم أن الريح كانت ضدهم وكانوا هم معذبين من الجذف (عرض البحيرة 8كم في زمان المسيح والآن هي 12كم وطولها 21كم. والغلوة= 200م. أي أن عرض البحيرة= 40 غلوة. وكان التلاميذ قد جدفوا مسافة 25-30غلوة أي 5-6كم بعيداً عن الشاطئ وبحسب مرقس فلقد إستغرق منهم هذا وقتاً طويلاً فهم صاروا في الهزيع الرابع حين أتاهم الرب ماشياً أي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، أي كانوا يجدفون حوالي 10ساعات متواصلة. والرب أتاهم كما يأتي لكل متألم ينتظره وكأن داود النبي رأي ما حدث حين قال (مز23:107-31). ونرى هنا سلطان المسيح على الريح وعلى البحر (مر37:4-41). المسيح كان موجوداً لكنهم لم يروه بسبب ظلمة قلوبهم. ربما لإختلافهم معه. وكثيراً نحن في ضيقاتنا نظن الله غير موجود بسبب ظلمة قلة إيماننا.

فرضوا أن يقبلوه= المعنى في اليونانية أنهم كانوا متلهفين على أن يدخل السفينة. ومن مرقس نفهم أن الرب سار بمحاذاة السفينة ولم يدخلها، وكان يبدو أنه يريد أن يعطي طمأنينة لتلاميذه، لكنهم صرخوا وخافوا إذ ظنوه خيالاً. فطمأنهم بقوله أنا هو لا تخافوا= أنا يهوه ثقوا فيًّ ولا تخافوا لا من العالم ولا من الشيطان. فرضوا= أي تحوَّل خوفهم إلى إيمان وفرحوا بوجوده معهم. ونفهم من (مت25:14-28) أن بطرس طلب أن يسير على الماء مثله ليتأكد أنه المسيح. فأراد أن يتجاوزهم= فالرب يتراءى وقت الضيقة لنصرخ له. وإذا صرخنا يدخل فتهدأ سفينتنا. وهذا ما حدث مع تلميذي عمواس إذ تظاهر أنه منطلق بعد عمواس وحينما دعوه ذهب معهما فإنفتحت أعينهما وتحول عدم إيمانهما إلى إيمان. فالمسيح يظهر لنا دائماً أنه فوق الضيقات وفوق الأمواج الهائجة. هو ضابط الكل. هو المتحكم في كل شئ والمسيطر على كل شئ فلماذا الخوف. وإذا دعوناه ليدخل حياتنا يعطينا هدوء وسلام وإيمان. ويوحنا البشير يضيف معجزة أخرى أن السفينة صارت للوقت إلى الأرض (مز29:107،30). وهكذا كل من يقبل المسيح في حياته ولا يرفضه يبلغ شاطئ الأمان ويحيا في سلام ونحن يكون حالنا أفضل والبحر هائج ولكن يسوع وسط السفينة من أن نكون في سلام زائف بعيداً عن يسوع. ولاحظ أن عينا المسيح كانت عليهم في ضيقهم وأنه أتى في الوقت المناسب.

 

الآيات (22-27):

“وفي الغد لما رأى الجمع الذين كانوا واقفين في عبر البحر انه لم تكن هناك سفينة أخرى سوى واحدة وهي تلك التي دخلها تلاميذه وأن يسوع لم يدخل السفينة مع تلاميذه بل مضى تلاميذه وحدهم. غير انه جاءت سفن من طبرية إلى قرب الموضع الذي أكلوا فيه الخبز إذ شكر الرب. فلما رأى الجمع أن يسوع ليس هو هناك ولا تلاميذه دخلوا هم أيضاً السفن وجاءوا إلى كفرناحوم يطلبون يسوع. ولما وجدوه في عبر البحر قالوا له يا معلم متى صرت هنا. أجابهم يسوع وقال الحق الحق أقول لكم انتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. اعملوا لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن الإنسان لأن هذا الله الآب قد ختمه.”       

الجموع مازالت تحاصر يسوع لعلها تنجح أن تجعله ملكاً. غير أنه جاءت سفن=بعض السفن جنحت نتيجة عاصفة الأمس، أو أن الريح التي عاكست سفينة التلاميذ في إتجاهها غرباً ساعدت السفن المتجهة شرقاً. فلمّا لم تجد الجموع الذين شبعوا بالأمس، يسوع. ركبوا هذه السفن التي تصادف أنهم وجدوها على البر الشرقي ربما لجنوحها، ورجعوا إلى كفرناحوم ليبحثوا عن المسيح، فلما وجدوه إزدادت حيرتهم كيف وصل؟ فليس هناك سوى طريقين [1] الطريق البري ويستحيل أن يسير فيه مساءً لأنه طويل ومحفوف بالمخاطر ومهجور ومملوء صخوراً [2] أن يركب سفينة وهم لم يروه يركب سفينة. وغالباً فهم سألوا تلاميذه وعرفوا قصة سيره على الماء فإزداد إعجابهم. متى صرت هنا= هم يريدون بهذا السؤال أن يكشف لهم سر قوته، والمسيح لم يخبرهم أنه سار على الماء هرباً من المجد الذاتي. ولكن كل حماسهم لم يخرج عن المحيط السياسي والمادي لذلك بدأ المسيح يصحح لهم مفاهيمهم حتى يعملوا لا للطعام البائد.. فبكتهم على أفكارهم المادية= لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم. هدف المعجزة أن يعرفوا من هو فيأتوا إليه لشخصه المشبع، لكن لم تفهموا من أنا بل طلبتم المزيد من الماديات. تطلبونني لا للآيات= أي تطلبونني بسبب ما رأيتموه في المعجزة فكلمة آية يشير لعمل يعلن عن الشخص. إذاً المعنى تطلبونني لا لشخصي بل لعطاياي. وهذه مازالت مشكلتنا أننا ننشغل بعطايا المسيح عن شخص المسيح. ولاحظ أن الله يعطينا الطعام الجسدي حتى لو لم نطلبه. لكن الطعام الباقي علينا أن نجاهد لأجله. علينا أن لا ننشغل بالماديات فالأهم أن الله يعطينا ذاته. هناك خطأ شائع أن يتحول المسيح في فهمنا ليصبح وسيلة وليس غاية. ولكن المسيح يصنع المعجزات ليثير فينا الإيمان به وبشخصه المشبع وبالإيمان ستكون لنا حياة أفضل. وإذا فهمنا هذا فكل طلب نطلبه يعطيه الله لنا إن كان له نفع في زيادة إيماننا، ولكن إن لم يكن كذلك فسيشابه ملء بطون الجليليين بالطعام البائد وقوله شبعتم هنا تعني ملء البطون. أما ما يريده المسيح لنا أن نمتلئ منه كما جاءت كلمة شبع في آية (12). فهو يشبع الأرواح والنفوس ويملأنا فرحاً فضلاً عن أنه يشبع البطون. فلنطلب من الله فإذا لم يعطنا يكون رفضه الإستجابة لأن إستجابة هذا الطلب لن تفيد في زيادة إيماننا حتى لو كان طلب شفاء مريض. وقوله بائد= فهو يتحلل ولأن العالم كله سيبيد. على أن الله مسئول أيضاً عن هذا البائد ويعطيه لنا. المهم ألا ننشغل به عنه. أما الباقي= فهو ما سيعطي أجسادنا قيامة في الأبدية وديمومة. وهو لا يفنى ولا يتغير إذاً هو الله خبز الحياة. ليس لأنكم رأيتم آيات= رأيتم هنا تعني أدركتم من أنا، وإستفدتم من المعجزة بطريقة صحيحة أي فهمتم القصد من الآية. فالمعجزة هدفها أن نعرف شخص المسيح وشخصه يشبعنا فرحاً. لأن هذا الآب قد ختمه= ختمه أي كمن ختم على وثيقة أن المسيح إبنه، وختمه أي شهد له الآب بقداسته وميًّزه عن أي أحد آخر (رؤ2:7-3). وختمه أيضاً يشير لأن الآب عينه للذبح وبالتالي عينه ليكون طعاماً وخبزاً للحياة الأبدية، فالخراف التي كانت تقدم كذبائح كانت تفحص أولاً من الكهنة ثم يختمها الكهنة أنها لا عيب وصالحة لتقدم كذبيحة. وهنا نسمع لأول مرة قوله الله الآب، فبذبيحة الإبن سيصير الله أباً لجميع المؤمنين.

 

آية (28): “فقالوا له ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله.”

في الآية السابقة قال السيد إعملوا وهنا يسألون ماذا نفعل. وسؤالهم يبدو أنه في محله ولكن في نيتهم ماذا نفعل لنتحرر من الرومان ونسود العالم، أو ماذا نفعل من الأعمال الطقسية حتى يتم لنا هذا هل الناموس ناقص؟! سؤال إستنكاري. أو هم يريدون عملاً يؤدونه ليدخلوا الحياة الأبدية. لكن دخول الحياة الأبدية هو عمل يعمله الله بأن يرسل إبنه لذلك أجابهم المسيح أن المطلوب ليس أعمال بل إيمان، وأن العمل هو عمل الله وليس عملهم هم. العمل بدون إيمان بالمسيح لا يرضي الله. الإيمان المقرون بالأعمال الصالحة شرط أساسي للحياة الأبدية. فالإيمان مدخل وبدونه لا حياة مع الله ولا حياة أبدية. وبعد ذلك لابد من الأعمال والجهاد ومن يؤمن ويجاهد يعطيه المسيح حياته ويعمل فيه. ومن يعمل وحده بدون المسيح يجد الأعمال ثقيلة. وبالمسيح نجد نيره هين وحمل الوصية خفيف.

 

آية (29): “أجاب يسوع وقال لهم هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله.”

المسيح يكشف لهم أن هدف معجزاته هو الإيمان البسيط وليس إثارة شهوتهم في الملك. وعمل الله= أنه أرسل لهم المسيح المخلص وما عليهم سوى الإيمان به فالإيمان به هو عمل في حد ذاته، فالناموس أرشدهم للمسيح. والخلاص يتضمن الشبع والحرية والحياة الروحية والخلاص من الموت. وهم سألوا عن أعمال والمسيح أجاب بقوله عمل واحد هو الإيمان به. فالمسيح يصحح إتجاه أفكارهم ولا يستبدل عمل بعمل آخر. والمسيح بهذا يشير لأنهم لم يؤمنوا به بعد المعجزة. ولنلاحظ أهمية الأعمال بعد الإيمان بالمسيح. لكن بدون الإيمان بالمسيح في أي عمل نعمله هو بلا قيمة.

 

الآيات (30،31): “فقالوا له فأية آية تصنع لنرى ونؤمن بك ماذا تعمل. آباؤنا أكلوا المن في البرية كما هو مكتوب انه أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا.”

لقد رأوا معجزة إشباع الجموع وسمعوا عن سيره على الماء وهم أرادوا أن ينصبوه ملكاً، ومع هذا يطلبون آيات أخرى، وكان هذا غالباً بسبب تشكيك الفريسيين فيه. وغالباً كان هذا الحوار في المجمع في كفرناحوم وسؤالهم عن المن راجع لأن اليهود كانوا يعتقدون أن المسيا سينزل لهم مناً من السماء ليشبعهم كما عمل موسى، وسيكون هذا علامة أنه المسيا. ولم يفهموا أن المسيح سيكون لهم خبزاً سماوياً (كان نزول المن أعظم معجزة عند اليهود) هم أرادوا خبزاً من السماء كل الأيام لتصير حياتهم سهلة فيؤمنوا به. وللآن نتصور أنه إن كان الله يحبني فلابد أن يعطيني ما أريد.

 

الآيات (32،33): “فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز الله هو النازل من السماء الواهب حياة للعالم.”

ليس موسى= فموسى كان واسطة. لكن المصدر هو الله. أبي يعطيكم= يعطي هنا مضارع مستمر. أي الآب أرسلني وأنا الخبز الحقيقي وليس أي معجزة. المسيح هنا يشرح أن المن لم يكن إلا رمزاً له، وهو الخبز الحقيقي الذي نزل من السماء. وكما أرسل الله المن لموسي، هكذا أرسل المسيح لهم الآن خبزاً حقيقياً. إذاً المن كان رمزاً. وكلمة حقيقي أي يختص بالعبادة الحقة. خبز الله= هو خبز حقيقي من الله ومقدم إلى الله ولا وينتن ويدود كالمن ولا يتحول ولا ينتهي وهو المشبع حقيقة أما خبز العالم فمن يأكله يجوع، ويموت ولكن المسيح من يأكله يحيا للأبد. (هذا معنى كلمة حقيقي). النازل= في الأصل اليوناني دائم النزول، فهو موجود في السماء قبل تجسده. والمن مهما كان معجزة فهو مجرد طعام للجوف، والمسيح يريد أن يبعد عن أذهانهم ما عَلَقَ فيها من أفكار مادية جسدانية. ومازال هذا الفكر اليهودي أي الشبع الجسدي كعلامة للمسيح موجود عند أصحاب مذهب الألف سنة، أمّا المسيح فيشرح أن عطاياه الأهم هي على مستوى الروح، ولهذا أتى وتجسد. الواهب حياة للعالم= بينما أن المن كان لليهود فقط. وهو يعطي حياة بينما أن من أكلوا المن ماتوا.

 

آية (34): “فقالوا له يا سيد اعطنا في كل حين هذا الخبز.”

نفس سؤال السامرية، فهم يريدون خبزاً بلا مشقة، هم ظنوه خبزاً ينزل من السماء بلا جهد كل يوم كالمن. وبينما فهمت السامرية أن الشرب من ماء الحياة يستلزم الطهارة فتطهرت باعترافها، رفض هؤلاء الخبز السماوي إذ عرفوا أن هذا الخبز هو جسد المسيح الذي سيبذله عن العالم.

 

آية (35): “فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة من يقبل إلىّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً.”

قبل ذلك كان يقول خبز الله لكنه هنا أوضح أنه هو خبز الحياة= أنا هو خبز الحياة. المسيح يكلم دارسين للعهد القديم سمعوا عن شجرة الحياة (تك9:2+ 22:3) وسمعوا عنها أيضاً في (أم13:3،18+ 30:11+ مز8:36،9) وتفسير هذا نجده في (رؤ7:2+ 1:22،2،6). والمسيح هنا يقدم نفسه مأكلاً ومشرباً. نأكله ونشربه هنا بالسر، وهناك في الأبدية نشبع ونرتوي فيه بالحق إلى الأبد. فالمسيح هو شجرة الحياة من يأكله يحيا للأبد فجسده فيه حياة أبدية. ونرى السامرية وقد إرتوت فعلاً بعد أن آمنت بالمسيح فهو لا يخيب رجاء من يقبل إليه. ولكن المسيح عرف أن الجليليين لن يقبلوه ولن يؤمنوا به لأنهم لا يريدون عطايا روحية. من يؤمن بي لا يجوع (فهو خبز الحياة) ولا يعطش (فهو ماء الحياة كما قال للسامرية) والشرط أن نقبل إليه أي يؤمن ويصدق، ونتحرك ونأخذ خطوة ناحية المسيح بإشتياق. يؤمن بي= موقف القلب الداخلي والضمير. والتحرك نحو المسيح مرتبط بالإيمان. المسيح هنا يحول نظرهم من أشياء يأخذوها منه إلى شخصه والشبع به هو.

 

آية (36): “ولكني قلت لكم أنكم قد رأيتموني ولستم تؤمنون.”

فكل ما يريدونه مطالب دنيوية، خبز نازل من السماء بدون جهد. قد رأيتموني= وهذا يدينهم أنهم رأوا المسيح ورأوا وجهه المقدس وهيئته الإلهية ورأوا معجزاته وسمعوا أقواله ومع هذا لم يؤمنوا. وذلك لأن شهوة الجسد وتعظم المعيشة يتلف حواس الإنسان الروحية فلا يتعرف على المسيح.

 

آية (37): “كل ما يعطيني الآب فالي يقبل ومن يقبل إلىّ لا أخرجه خارجاً.”

كل ما يعطيني الآب= هنا نرى دور الله في إيمان الإنسان فالله يجذب الإنسان ليؤمن. ولكن للإنسان حريته في أن يقبل. كلُّ.. فإلىَّ يقبل= كل بالجمع وإلىّ يقبل بالمفرد. فعلاقتنا مع المسيح علاقة فردية كعريس بعروسه. ولكن المسيح يجمعنا كلنا في وحدة واحدة متكاملة. لا أخرجه خارجاً= في أصلها اليوناني يستحيل بأي حال أن أخرجه. وبالتالي فهؤلاء اليهود لم يأتوا للمسيح ولم يؤمنوا به فرفضهم الآب وطردهم لأنهم لم يؤمنوا بالمسيح ولا قبلوه. (أف3:1-5)= كل ما يعطيني الآب. ومن الذي يخرجه خارجاً، الشيطان ومن ليس عليهم ثوب العرس (عرس إبن الملك) إذاً حتى لا أكون خارجاً مطلوب [1] الإيمان [2] التوبة.

 

الآيات (38،39): “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني. وهذه مشيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا اتلف منه شيئاً بل أقيمه في اليوم الأخير.”

مشيئة الآب الذي أرسل المسيح أن يهب الحياة الأبدية لكل من يؤمن، وهذا يكمل قوله في آية (37) أن من يقبل إليه لا يخرجه خارجاً، ويضيف هنا أن لن يتلف فهو سيحفظه أمام هجمات العدو الشرير. كان سؤالهم في آية (30) ماذا تعمل. وهنا نسمع أنه يعمل مشيئة الآب أن لا يتلف أحد بل يقيمه (يقيمه تكررت 4مرات). فهذه مشيئة الآب أن الجميع يخلصون وتكون لهم حياة أبدية. لذلك فالمسيح لا يرفض من يأتي إليه.

 

آية (40): “لأن هذه مشيئة الذي أرسلني إن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.”

كل ما مضى كان رد المسيح على الجليليين “ماذا نعمل” والمسيح يشرح أن العمل هو عمل الله وليس عملهم هم. وكل ما هو مطلوب منهم أن يصدقوا ويؤمنوا بالمسيح. وكل من لا يؤمن يكون قد رفض مشيئة الله الآب. فالخلاص متوقف إذاً على إرادتي. كل من يرى الإبن= ليس بالعين البشرية ولكنها رؤية بالقلب والفكر الروحي فاليهود رأوه ولم يؤمنوا ونحن لم نراه بالجسد لكن نؤمن به. ولابد أن نرى الإبن هكذا أولاً حتى نؤمن به فنحن لن نؤمن إلاّ بمن نعرفه ونثق فيه. وهذا يأتي بالتأمل في كلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدس فنرى الإبن كلمة الله برؤية عقلية فنؤمن به ثم نشبع به ونرتوي. والكلمة يرى باليونانية تشير لرؤية الحقائق الإلهية حيث يستنير الفكر بالنور الإلهي الداخلي. ومن يرى المسيح هكذا تكون له حياة وقيامة. وهذا ليس عمل صعب فمجرد قبول المسيح والإيمان به يصل بهذه العملية إلى أقصاها بدون حساب زمني. حياة أبدية= تبدأ من هنا على الأرض.

 

الآيات (41،42): “فكان اليهود يتذمرون عليه لأنه قال أنا هو الخبز الذي نزل من السماء. وقالوا أليس هذا هو يسوع ابن يوسف الذي نحن عارفون بابيه وأمه فكيف يقول هذا أني نزلت من السماء.”

النازل من السماء= يقصد أن طبيعته سماوية لكنهم هم فهموا أنه نزل من السماء بجسده الذي يرونه أمامهم وهم يعرفون أباه وأمه. يتذمرون= هذه طبيعة بنى إسرائيل منذ خرجوا من أرض مصر. وواضح أن صورة المسيح البشرية، إذ رأوه إنساناً وقفت كعثرة في قبول لاهوته. رأوه بعيونهم البشرية ولم يروه بالعيون الداخلية كما في آية (40). لذلك فيوحنا تحاشى الكلام عن نسب المسيح وولادته وتكلم عن لاهوته. ولقد صنع المسيح معجزة إشباع الجموع ليساعدهم على أن يؤمنوا بكلامه لكنهم كانوا مذبذبين، تارة يؤمنوا به وتارة يتذمرون عليه. فهم لم يروا إنسان يأتي من السماء ويهب حياة أبدية. وفهموا من كلامه أنه أعظم من موسى.

 

الآيات (43-47): “فأجاب يسوع وقال لهم لا تتذمروا فيما بينكم. لا يقدر أحد أن يقبل إلىّ إن لم يجتذبه الآب الذي أرسلني وأنا أقيمه في اليوم الأخير. انه مكتوب في الأنبياء ويكون الجميع متعلمين من الله فكل من سمع من الآب وتعلم يقبل إلىّ. ليس أن أحداً رأى الآب إلاّ الذي من الله هذا قد رأى الآب. الحق الحق أقول لكم من يؤمن بي فله حياة أبدية.”    

إن لم يجتذبه الآب= هذا عمل داخلي للآب بالروح القدس الذي ينخس القلب ويوقظ الضمائر بنور إلهي يشرق في القلب ويقنع فيأتي الشخص للمسيح ويؤمن به ولكن الآب يجتذب كل من يعطي قلبه لله ويفتح أعين قلبه لقبول مشيئته. ومشيئة الله هي عمل المسيح ورسالته. الآب يقنع الإنسان ويملأه نعمة حتى يؤمن بالمسيح رباً. لكن مع إحترام حرية الإنسان. فالله يستخدم قوته النابعة من شدة محبته ليجذب النفوس المترددة، والآب يجذب في مقابل مقاومة الإنسان، بقوة إقناع (أر7:20) لكن دون إجبار. وبدون هذا النور الإلهي لا يمكن لأحد أن يؤمن بالمسيح (1كو3:12). وكل أقنوم يقود للأقنوم الآخر بلا أنانية. فالأقانيم مرتبطة في وحدة بالحب. فالآب يجذب ويقود للإبن، والإبن يقود للآب “من أراد الإبن أن يعلن له” (لو22:10). والروح القدس يقود للإبن (يو14:16). ولزوم أن الآب يجذبنا هذا راجع لقصور العقل البشري وحده عن أن يدرك الله فيؤمن. ولكن كيف يجتذب الآب المؤمن؟ الإجابة. ويكون الجميع متعلمين من الله. أي أن الله يعلمهم فالمعرفة البشرية لا يمكن أن تؤدي وحدها لمعرفة المسيح.. وكيف يعلمهم الله؟ بأن الروح القدس يكتب على قلوبهم (أر33:31،34) ويكون هذا بالحب الذي رأيناه على الصليب. الآب يرسل الروح القدس فيسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5) وبهذا الحب ننجذب. ومن ينجذب ويأتي يعلمه الله. الآن الروح القدس فينا يعلمنا. وهم اليهود كان المسيح أمامهم يعلمهم. فالتعليم لن يصبح حكراً على الفريسيين بل هو للجميع، لكل من يريد. ولكن من أعطى قلبه لإبليس يصير إبليس أباه وقطعاً سيرفض تعليم الله (يو43:8،44). وهذا هو سر رفضهم للمسيح. فهم لم يستجيبوا لجذب الآب لهم بل أعطوا قلوبهم لإبليس. وكان تلاميذ المسيح برهان صادق على أن الروح القدس بدأ يكتب ويعلم من يقبل. والمسيح يعلم عن الله ليس كأي معلم قرأ كتباً ويعلمها بل لأنه رأى الله ويعرفه= ليس أحداً رأي الآب إلاّ الذي من الله. لذلك فمن يسمع من المسيح فهو يسمع من الله رأساً. أما حتى موسى فهو رأى شبه الله (عد5:12-8). أمّا المسيح فهو من طبيعة الله وجوهره فهو قد رآه في ذاته. فالرؤيا هنا هي رؤية الذات للذات فالآب والإبن ذات واحدة لذلك فعلى البشر أن يتعلموا فهم لم يروا الله. والله أرسل المسيح ليعلن الآب. (راجع مت27:11+ يو30:10+ 9:14+ 10:17). ولأنه الوحيد الذي رأى الآب ويعرفه صار الإيمان به الطريق الوحيد لنوال الحياة الأبدية. = من يؤمن بي فله حياة أبدية= فرسالته هي الحياة الأبدية التي أرسله الله الآب ليكملها. ومختصر الكلام أن المسيح هو الوحيد الذي رأى الآب لأنه الإبن الوحيد الجنس، لذلك إن سمعوا له وآمنوا به يكونون قد سمعوا الآب وبالتالي ينالون القصد من رسالته. ورسالته هي أن ينالوا الحياة الأبدية= أقيمه في اليوم الأخير. كل من سمع من الآب وتعلم= أي إستجاب لدعوة الآب في قلبه وتعليم الروح القدس. الدور البشري هو الإستجابة وعدم المقاومة.

 

الآيات (48-51): “أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد والخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي ابذله من اجل حياة العالم.”       

أنا هو خبز الحياة= المسيح إعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية فهو حي ومحيي والحياة موجودة في شخصه (يو19:14). وذلك لأن “أنا هو” المحيي أي الكيان الإلهي إتخذ بالخبز الذي هو جسده البشري فصار خبزاً حياً، من يأكله تكون هناك حياة لروحه، وحتى إن مات جسده يكمل حياته التي بدأها على الأرض. وبدون هذا الخبز تموت الروح حتى وإن كان الجسد حياً لكن من يريد هذه الحياة عليه أن يؤمن بالمسيح أولاً. وكما أن الجسد يموت إن لم يأكل الخبز المادي هكذا تموت الروح إن لم تأكل هذا الخبز الحي الذي هو جسد المسيح. الخطية مفعولها في الإنسان هو الموت والتناول من جسد المسيح ودمه هو عملية نقل حياة لهذا الميت روحياً بسبب الخطية. هذا مثل من عنده مرض في الدم فيحتاج بصفة مستمرة لعملية نقل دم. أما في السماء فلن نحتاج للتناول فلا خطية ولا موت. لكن سيكون الإتحاد الكامل بالمسيح هو حياتنا وفرحنا وشبعنا وأبدياً بلا إنفصال. والحياة التي في الجسد والدم سببها إتحاد لاهوت المسيح بناسوته. والمسيح تجسد ليعطي جسده الحي ليكون بذرة الخليقة الجديدة، نأكل جسده لنتحد به وقوة هذا الإتحاد هي الحياة الأبدية. ثم يرد المسيح على سؤال اليهود عن المن بأن أباؤهم أكلوا المن ولكنهم ماتوا روحياً ولم يدخلوا إلى الراحة بل هم ماتوا جسدياً أيضاً ولم ينفعهم المن. ولكن من يأكل جسد المسيح لن يموت روحياً. حقاً سيموت جسدياً ولكن يظل غير منفصل عن الله. يشبع من الله هنا على الأرض وتسرى فيه حياة بعد موت أي أن الموت الجسدي لا يؤذيه لذلك يكرر السيد هنا وأنا أقيمه في اليوم الأخير (39،40،44،54). أبذله= المسيح يكشف هنا عن نيته في الصليب. الخبز الحي= أي الذي يعطي حياة أبدية للإنسان. إن أكل= تشمل الإيمان به وقبوله. الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي= من هنا دخل المسيح في مرحلة أخرى فيها يتكلم صراحة عن جسده كمأكل حق. هو يعطي جسده للموت ليكون للناس حياة أبدية. ولاحظ في (32) يقول أبي يعطيكم وفي (51) يقول أنا أعطيكم.

 

آية (52): “فخاصم اليهود بعضهم بعضاً قائلين كيف يقدر هذا أن يعطينا جسده لنأكل.”

إن لم يأتي الإنسان بالإيمان إلى المسيح لن يتقبل هذه الحقائق. فخاصم= البعض فهم الكلام على المستوى الروحي. والبعض رفضه لأنه فكر بأسلوب جسدي. وللأسف فهذه الخصومة مازالت حتى اليوم بين الكنائس التقليدية والكنائس البروتستانتية. بين الإرتفاع للمستوى الروحي السرائري والمستوى المادي الطبيعي العقلاني. فيقولون نفس الكلام!! (وهل يمكن أن يتحول الخبز لجسد والخمر لدم، إنما هو رمز فقط).

 

آية (53): “فقال لهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.”

يوحنا إكتفى بما أورده هنا عن جسد المسيح ودمه والتناول منهما فلم يورد ما حدث ليلة تأسيس العشاء السري يوم خميس العهد. خصوصاً أنه كتب سنة 100م بعد أن كان هذا السر منتشراً ويمارس في كل الكنائس بالإضافة إلى أن الإنجيليين الثلاثة الآخرين كتبوا عنه.

كان سؤالهم كيف يقدر وكان رد المسيح بأن تأكلوا جسده وتشربوا دمه وهذا إشارة للصلب الذي فيه ينفصل دمه عن جسده، أي بتقديم المسيح نفسه كذبيحة. وسر الإفخارستيا الذي نأكل فيه الجسد ونشرب الدم هو إمتداد لذبيحة الصليب. كل قداس هو نفس الذبيحة. هو نفس المسيح في كل مكان وكل زمان. كما تشرق الشمس كل يوم، هي نفسها. ولو وضعت ملايين الأواني التي بها ماء لظهرت صورة الشمس فيها كلها. لذلك فأي جوهرة هي المسيح كله. والسر معناه نوال نعمة غير منظورة تحت أعراض شئ منظور، فما نتناوله هو خبز وخمر وفي الحقيقة هو جسد ودم. وكان شرب الدم محرماً عند اليهود (تك4:9+ تث23:12) لأن الروح في الدم، وذبيحة المسيح تختلف عن باقي الذبائح إذ أنه يعطينا حياته التي في دمه لتقديسنا (عب13:9،14)، فحياة المسيح الأبدية التي في دمه تنتقل إلى من يشربه. وكلمة هذا التي وجهها اليهود للمسيح في إحتقار رد عليها بقوله أنه إبن الإنسان ليذكرهم برؤيا دانيال (13:7،14).

 

آية (54): “من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير.”

أي أن تكون له حياة لا تزول من الآن وتستعلن في اليوم الأخير عند القيامة. ولذلك ففي كل مرة نتناول جسد المسيح ودمه نبشر بموته ونعترف بقيامته إلى أن يجئ. ويأكل ويشرب هنا في اليونانية تشير للأكل الدائم المسرور والشرب بمعنى الشركة الدائمة. ولاحظ أن الآيتين (40،54) فيهما تشابه، لكن آية (40) تتكلم عن الإيمان بينما أن آية (54) تتكلم عن سر الإفخارستيا بوضوح، الذي فيه نأخذ حياة الله لأن الجسد متحد باللاهوت. والأكل يتضمن الموت مع المسيح والقيامة معه.

 

آية (55): “لأن جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق.”

جسد المسيح هو المأكل الحق. وهذا الكلام رد على طلب اليهود أن يعطيهم مناً من السماء كعلامة على أنه المسيا. حق= أي غير مزيف بل حقيقي يختص بحاجة الإنسان الحقيقية وليس لسد حاجة الجوع، والحاجة الحقيقية تختص بالروح والحياة الأبدية وليس لمجرد عمل إعجازي دنيوي مظهري كما يطلب اليهود. ولكن في حوار المسيح الآن لم يفصح أن السر سيتم بالخبز والخمر، هذا تركه ليصنعه أمام التلاميذ ليلة الخميس المقدسة. وقوله مأكل حق ومشرب حق= فهو يشير لأكل حقيقي وليس للإيمان.

 

آية (56): “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه.”

أكل المن لم يغير شيئاً من طبيعة من أكله، بل من أكله مات، ولكن من يأكل جسد المسيح يبقي فيه ويصير فيه المسيح بصفاته، موت المسيح يصير موتاً لنا عن العالم وفداءً لنا وحياته تصير لنا حياة أبدية والثبوت هنا هو ثبوت جسد المسيح بالإنسان أف30:5 وهذا ما ينشئ فينا القيامة، إنه إلتحام حي، شخص بشخص ينشئ إتحاداً ووحدة. ونلاحظ أن الثبات متبادل= يثبت فيّ وأنا فيه. فهو لو قال يثبت فيّ فقط نكون معرضين للإنفصال فإمكانياتنا ضعيفة وإيماننا ضعيف ولكنه أضاف وأثبت فيه لتأمين الإتحاد خوفاً من ضعف الإنسان هذا فعل محبة من المسيح. ثباته فينا كما يثبت ويتحد الغذاء بالجسد. ويثبت فيّ= فهو يعطيني حياته “ليس الحياة هي المسيح” (في21:1) وأثبت فيه= فأنا صرت من جسده ومن عظامه (أف30:5).

 

آية (57): “كما أرسلني الآب الحي وأنا حي بالآب فمن يأكلني فهو يحيا بي.”

صفة الآب أنه حي (تث26:5+ مز9:36). أنا حيٌ بالآب= الإبن لا يحيا وحده ولكن حياة الآب هي حياة الإبن. فالآب والإبن هما واحد والآب في الإبن والإبن في الآب (يو30:10،38). ويفهم من الأصل اليوناني أن الآب ليس سبب حياة الإبن لكن المعنى “أنا حي بنفس حياة الآب” أنا حيٌ بالآب تفيد إتحاد الأبوة بالبنوة في حياة واحدة غير منفصلة بل الإبن قال عن نفسه “أنا هو القيامة والحياة” هو له نفس حياة الله بسبب اللاهوت المتحد به. وحياته ليست في سلطان آخر (يو18:10) لكن نفهم من العبارة أن المسيح بسلطانه في حالة خضوع لإرادة الآب فيسلم حياته، ليكون لنا نحن حياة في إتحاد مع الله. فإذا أكلنا الجسد وشربنا الدم فنحن لا نعود نحيا وحدنا بل نحيا حياة المسيح النابعة من نفس ينبوع الآب. وهكذا يتم الرباط الإلهي بين الإنسان والله الآب بحياة المسيح التي ننالها من الأفخارستيا ونحيا بها. والمسيح يضع علاقته بالآب مثلاً يحتذي (قارن مع يو18:17+ 9:15+ 21:17+ 14:10،15). وهنا نفس الشئ فنحن نحيا بالمسيح كما هو حي بالآب. وقوله أنا حيٌ بالآب يفهم منه أيضاً أنه من الآب وليس الآب منه. ويقال هذا دون مساس بالمساواة بينهم. أرسلني= أي صرت في الجسد. من يأكلني= يأخذ ويأكل حياة ويحيا بي= يأخذ الحياة التي فيَّ وهي حياة أبدية.

 

آية (58): “هذا هو الخبز الذي نزل من السماء ليس كما أكل آباؤكم المن وماتوا من يأكل هذا الخبز فانه يحيا إلى الأبد.”

المسيح يكرر حتى لا يطلبوا المن القديم ولكن للأسف لم يفهموا. هذا هو الخبز= كما يظهر لنا لكنه فيه حياة أبدية.

 

آية (59): “قال هذا في المجمع وهو يعلم في كفرناحوم.”

المتكلم هنا هو يوحنا البشير ويحدد مكان أقوال المسيح هذه. فهو لم يعلمها في السر أو في زاوية من الزوايا.

 

الآيات (60-63): “فقال كثيرون من تلاميذه إذ سمعوا أن هذا الكلام صعب من يقدر أن يسمعه. فعلم يسوع في نفسه أن تلاميذه يتذمرون على هذا فقال لهم أهذا يعثركم. فان رأيتم ابن الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً. الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة.”   

فقال كثيرون= قالوا في قلبهم. تلاميذه= ليس الـ12 ولا الـ70 رسول ولا الـ500 أخ الذين رأوه بعد قيامته. فالمسيح كان له تلاميذه وأتباع كثيرون. الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً= المسيح يلح على العقل البشري أن لا يهبط بالإلهيات إلى مستوى التراب. فمع نيقوديموس إذ عجز عن فهم سر الميلاد الثاني قال له المسيح المولود من الجسد هو جسد والمولود من الروح هو روح، أما كيف يتم ذلك فمن المستحيل على العقل البشري متابعته، كما لو أردت أن تتبع ريحاً تهب، فأنت ترى الإنسان يتغير من حال إلى حال ولا تعرف كيف. ومع المرأة السامرية أراد أن يسقيها الماء الحي الذي هو الروح القدس، ولما تابت شربت منه ولا نعرف كيف ولكننا رأيناها وقد تحولت إلى كارزة وهم نظروا للمسيح إبن يوسف النجار فإستصعبوا كلامه لأنهم إنما نظروا إليه جسدياً. وهنا يكلمهم عن التناول من الجسد والدم فعجزوا عن الفهم فطلب منهم أن يؤمنوا أولاً حتى يدركوا سر جسده المذبوح فلما عثروا في الفهم أكّد أن كلامه على مستوى الروح أي لا يمكن ملاحقته عقلياً تماماً كما أنه لا يمكننا أن نلاحق كيف صار الكلمة جسداً. وهكذا وبنفس السرية يصير الإنسان بالأكل والشرب من الجسد والدم إنساناً روحياً يتغذى بالروح وبالمسيح كلمة الله كسر خلاص. أمّا من يؤمن بأن التناول هو مجرد رمز أو عمل إيماني وأن الخلاص هو بالكلمة المنطوقة التي تؤخذ بالفهم يجب أن يفهم أن الله لم يخلص العالم بالكلمة المنطوقة بل بالكلمة المتجسد المذبوح. الجسد هنا في كلام المسيح يشير للفهم الجسداني والروح يشير للإستنارة التي يعطيها الروح القدس فندرك الحق.

الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة= كلام الله يعطينا أن نمتلئ بالروح ويعطينا حياة والكلام الذي أكلمكم به هو كلام روحي ويجب أن نفكر فيه روحياً ويعني أن تعليمي ليس بحسب الجسد فيفهم بالفكر الجسداني، بل يفهم بالروح وهو تعليم يعطي حياة، فالكلام عن تناول الجسد هو كلام حقيقي ولكن لا يفهم بالفكر بل يفهم روحياً بالإيمان. ومن يفهمه روحياً تكون له حياة لروحه، أما إذا فهموه جسدياً فلن ينتفعوا لا لأرواحهم ولا لأجسادهم. فالجسد لا يفيد شيئاً ولكن الروح والحياة اللذان في الجسد والدم يفيدان في كل شئ. والروح والحياة لم يستعلنا لنا ولن يستعلنا فينا إلا بشركة فعلية في الموت وفي القيامة. وهذا يتم فينا بأكل الجسد الذي فيه سر الموت وشرب الدم الذي فيه سر الحياة. ولاحظ أنه حينما نقبل كلام الله يكون خضوعنا لكلام الله وسيلة للإمتلاء من الروح القدس فيكون ذلك لنا حياة.

(في آية63) الجسد أي الفهم الجسدي أننا نأكل المسيح كلحم ودم والروح أي نتحد بالمسيح تحت أعراض الخبز والخمر. هذا الكلام صعب= سبق سمعان الشيخ وقال ها إن هذا وُضع لسقوط وقيام كثيرين (لو34:2). وها نحن نرى أن كثيرين سقطوا على المستوى الروحي. من تلاميذه= ليس الإثنى عشر (قارن مع آية67). فكان الـ12 من الذين قاموا بحسب كلام سمعان الشيخ. فمن آمن وسلَّم فرح ومن حكَّم العقل والمنطق سقط. من يقدر أن يسمعه= لهم أذان روحية مغلقة لم تنفتح بكل ما قاله المسيح من كلام روحي. وهم تعثروا في أنهم يعرفون أن المسيح هو إبن يوسف لذلك قال لهم المسيح.. ماذا سيكون موقفكم حين ترون المسيح صاعداً إلى السماء حيث كان أولاً فإذا كان جسدي لا يستطيع أن يهبكم حياة فصعودي بالجسد هو أيضاً أكثر صعوبة. وتعثروا أيضاً في أن كيف نأكل جسده ونشرب دمه وكان رد المسيح أنكم لن تأكلوا جسداً ودماً ماديين جسديين بل روحيين تحت أعراض الخبز والخمر، هما جسد ودم إلهيين ولكن بصورة سيعطيها هو أي خبز وخمر. فالأكل الجسدي أي بمفهوم الشبع الجسدي لن يفيد شيئاً ولكن الأكل الروحي للجسد بالروح يُحيي.

 

الآيات (64-66): “ولكن منكم قوم لا يؤمنون لأن يسوع من البدء علم من هم الذين لا يؤمنون ومن هو الذي يسلمه. فقال لهذا قلت لكم انه لا يقدر أحد أن يأتي إلىّ إن لم يعط من أبي. من هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء ولم يعودوا يمشون معه.”    

منكم قوم لا يؤمنون= هنا نرى قوة إحتمال عجيبة للرب يسوع فهو كان يعلم قلب كل واحد ومن منهم لن يؤمن لكنه إحتمل الجميع. من البدء= بلغة القديس يوحنا هي عبارة تشير لأزلية السيد المسيح ولاهوته. المسيح هنا يوجه كلامه إلى مجموعة كبيرة من تلاميذه، ربما كان من بينهم السبعين رسولاً، وهو هنا يعلن لاهوته من خلال درايته بالقلوب. وأمام عين المسيح الفاحصة تركه كل من وضعه المسيح أمام ضميره وكشف عدم إيمانه، فمن العسير أن يخادع أحداً الله. والمسيح يعلن أن من يأتي إليه فهو قد أعطاه له الآب، لذلك فهو غير آسف على المفقود وغير خائف على الموجود. فالمفقود ليس من نصيبه أصلاً والموجود لا يستطيع أحد أن يخطفه من يده لأنه أخذه من يد الآب. لذلك لم يكن المسيح يمالئ أحداً أو يهادن أحداً، ولكن من يطلب يجد، ومن يستجيب لجذب الآب يجد المسيح. ومن يبقى هو من قبل دعوة الآب كما هي لا كما يريد هو. فهم يريدون مسيحاً يملك زمنياً. يأتي إلىّ= ليس من الخارج لكن يقبلني ويثق في كلامي ويحبني وهذا عمل داخلي في القلب بالروح القدس. رجع كثيرون من تلاميذه= أي تركوا طريق المسيح. ولم يعودوا يمشون معه= فتلاميذ المسيح كانوا يعيشون معه ويعاشرونه. وللآن فهناك كثيرون يرجعون بسبب مصالحهم الشخصية أو لذاتهم الدنيوية أو لأنهم يجدون أن وصايا المسيح صعبة. والسيد لم يقل لهؤلاء شيئاً فهو لا يرغم أحد على البقاء معه. هؤلاء تركوه إذ لم يكن لهم إيمان حقيقي. فمن له الإيمان الحقيقي يظل تابعاً للمسيح حتى لو لم يفهم تماماً ما يقوله. ثقتي في المسيح تجعلني أتبعه حتى لو لم أفهم الآن ما يقول أو ما يصنع.

 

الآيات (67،68): “فقال يسوع للإثني عشر ألعلكم انتم أيضاً تريدون أن تمضوا. فأجابه سمعان بطرس يا رب إلى من نذهب كلام الحياة الأبدية عندك.”

كلام الحياة الأبدية عندك= كل كلمة تقولها وقلتها تعطي حياة. فالرب يعطي حياة أبدية. المسيح يضع الإثنى عشر أمام حريتهم ليختاروا. وكان رد بطرس هو الرد على موقف التلاميذ الذين إنسحبوا ورد بطرس متفق مع قول المسيح “الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة. ولكن لنلاحظ أن الآية (67) موجهة لكل من لا يؤمن بسر الجسد والدم. فالمسيح بإصرار أصر على أننا نتناول جسده ودمه وليس على شكل رموز كما تقول بعض الطوائف الآن. فالمسيح حين رأي أن تلاميذه يتركونه لم يقل أنتم لم تفهموا، فما يؤكل هو مجرد رمز، بل نظر إلى الإثني عشر وقال لهم ن لم تقبلوا إنصرفوا أنتم أيضاً. وما كان أسهل على المسيح أن يشرح لهم قصة الرمز والأكل بالإيمان ولا يخسر تلاميذه. الإثني عشر= إستمر هذا إسماً للتلاميذ حتى بعد غياب يهوذا.

 

آية (69): “ونحن قد آمنا وعرفنا انك أنت المسيح ابن الله الحي.”

بطرس إختار المسيح بعد أن عقد مقارنة بين المسيح وبين كل من سواه فوجد المسيح هو إبن الله الحي مؤكداً تبعيته للمسيح. آمنا= تصديق كلام المسيح وعرفنا= نتيجة الإختبار والعشرة. والإيمان يأتي أولاً ثم المعرفة. وبطرس هنا يجيب بالنيابة عن الإثني عشر.

 

الآيات (70،71): “أجابهم يسوع أليس أني أنا اخترتكم الإثني عشر وواحد منكم شيطان. قال عن يهوذا سمعان الاسخريوطي لأن هذا كان مزمعاً أن يسلمه وهو واحد من الاثني عشر.”

التلاميذ إكتشفوا أن يهوذا سارق وأبلغوا المسيح. ومن المؤكد أن المسيح كان يعلم حتى دون أن يخبروه ولكنه برحابة قلب تركه للنهاية ليعطيه فرصة أخرى، ولم يشأ أن يفضحه ويعلن إسمه لكنه أعلن أن أحد الإثنى عشر شيطان أي واقع تحت تأثير الشيطان كما قال المسيح هذا عن بطرس إذ رفض الصليب (مت16) أليس إني أخترتكم= تعليق من الرب يسوع على كلام بطرس، والمعنى أنه يعلم كل شئ ويعلم ما في القلوب. وأيضاً تشير لحب المسيح للجميع حتى وهو يعلم بخيانة أحدهم. لما رفضه كثيرون والتلاميذ رفضوا أن يتركوه. قال لهذا إخترتكم. الإسخريوطي= أي الذي من قيريوط وهي في اليهودية وبالتالي فيهوذا هو التلميذ الوحيد الذي من خارج الجليل. المسيح هنا يصحح قول بطرس، إذ قال نحن قد آمنا فيشير أنه يعلم أن منهم وفي وسطهم يهوذا غير المؤمن الذي يفعل إرادة الشيطان. واليهود كانوا يحتقرون الجليليين ولاحظ أن الخيانة جاءت من الذي من اليهودية.

فاصل

فاصل

تفسير يوحنا 5 تفسير إنجيل القديس يوحنا
القمص أنطونيوس فكري
تفسير يوحنا 7
تفسير العهد الجديد

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى