تفسير إنجيل متى 27 للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح السابع والعشرون

(الآيات 1:27-10)    يأس يهوذا وانتحاره

الآيات (1، 2): “ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه. فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي.”

أنظر المحاكمة المدنية للمسيح.

 آية (3): “حينئذ لما رأى يهوذا الذي أسلمه أنه قد دين ندم ورد الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ.”

كان يهوذا في طمعه يظن أنه يقتني ربحًا بالثلاثين من الفضة وإذا به يقتني همًا وغمًا، فذهب يرد الفضة في ندامة بلا توبة ومرارة بلا رجاء. وهكذا كل خاطئ فهو يظن أن الخطية ستعطيه لذة وإذا به يقتني همًا وغمًا ويأسًا.

 

الآيات (4-6): “قائلًا قد أخطأت إذ سلمت دمًا بريئًا فقالوا ماذا علينا أنت ابصر. فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه. فاخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم.”

ماذا علينا= عبارة تعني عدم اهتمامهم بما يقول، فقد حصلوا على ما يريدون. عجيب أن هؤلاء القتلة يقولون ليهوذا أنت أبصر، أما هم قاتلوه فليس عليهم أن يبصروا. ثم يقولون “لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم” فإذا كان وضع ثمن الدم في الخزانة يعتبر إثمًا فكم يكون إهدار الدم. وإذا كنتم قد رأيتم عذرًا لصلب المسيح فلماذا ترفضون قبول الثمن، حقًا قال عليهم السيد “يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” إذ يشترون صاحب الدم الزكي بالمال ليقتلوه، ويرتابوا من وضع ثمن الدم في الهيكل.

ثم مضى وخنق نفسه= لعله تصوَّر أن المسيح سوف يخرج من بين أيديهم كما كان يفعل سابقًا. ولما لم يفعل ندم يهوذا. ولكن التوبة ليست مجرد ندم، ولكنها إيمان يملأ القلب بالرجاء، ويدفعه الحب للارتماء في أحضان الله. ولكن يهوذا كان أعمى عن رحمة الله الواسعة. إن الشيطان الذي أغواه بالخطية دفعه لليأس بعد السقوط مصورًا له أن خطيته لن تغفر (2كو10:7). وفي (أع18:1) نفهم أنه في شنقه لنفسه سقط على وجهه فإنشق من الوسط وانسكبت أحشاؤه كلها، ويبدو أنه بعد أن خنق نفسه سقط على شيء حاد أو بارز فشقت بطنه.

 

آية (7): “فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء.”

حقل الفخاري= سمى هكذا لأن فخاريًا كان يمتلكه ويستغله، وكان ثمنه زهيدًا إذ لا يصلح للزرع ولا للرعي بسبب استعمال الفخاري له. وهذا الحقل الذي اشترى بالثلاثين من الفضة وصار مدفنًا للغرباء يشير للعالم الذي افتداه الرب بدمه لكي يدفن فيه الأمم فينعمون معه بقيامته (الذين ماتوا مع المسيح وأيضًا سيقومون معه) وهذا ما يحدث في المعمودية.

 

آية (9): “حينئذ تم ما قيل بإرميا النبي القائل واخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمن الذي ثمنوه من بني إسرائيل.”

ما قيل بإرمياء النبي= الذي تنبأ هذه النبوة هو زكريا. ولكن كان سفر إرمياء في التلمود أول أسفار الأنبياء لذا كان اسم إرمياء يطلق على كل النبوات (زك12:11، 13). فاليهود يقسمون العهد القديم ثلاثة أقسام الأول هو الشريعة والثاني يبدأ بالمزامير ويسمونه المزامير والثالث هو الأنبياء ويسمونه إرمياء.

فاصل

الآيات (مت32:27-38):-

 32وَفِيمَا هُمْ خَارِجُونَ وَجَدُوا إِنْسَانًا قَيْرَوَانِيًّا اسْمُهُ سِمْعَانُ، فَسَخَّرُوهُ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ. 33وَلَمَّا أَتَوْا إِلَى مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ جُلْجُثَةُ، وَهُوَ الْمُسَمَّى «مَوْضِعَ الْجُمْجُمَةِ» 34أَعْطَوْهُ خَّلاً مَمْزُوجًا بِمَرَارَةٍ لِيَشْرَبَ. وَلَمَّا ذَاقَ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَشْرَبَ. 35وَلَمَّا صَلَبُوهُ اقْتَسَمُوا ثِيَابَهُ مُقْتَرِعِينَ عَلَيْهَا، لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ:«اقْتَسَمُوا ثِيَابِي بَيْنَهُمْ، وَعَلَى لِبَاسِي أَلْقَوْا قُرْعَةً». 36ثُمَّ جَلَسُوا يَحْرُسُونَهُ هُنَاكَ. 37وَجَعَلُوا فَوْقَ رَأْسِهِ عِلَّتَهُ مَكْتُوبَةً:«هذَا هُوَ يَسُوعُ مَلِكُ الْيَهُودِ». 38حِينَئِذٍ صُلِبَ مَعَهُ لِصَّانِ، وَاحِدٌ عَنِ الْيَمِينِ وَوَاحِدٌ عَنِ الْيَسَارِ. 39وَكَانَ الْمُجْتَازُونَ يُجَدِّفُونَ عَلَيْهِ وَهُمْ يَهُزُّونَ رُؤُوسَهُمْ 40قَائِلِينَ:«يَا نَاقِضَ الْهَيْكَلِ وَبَانِيَهُ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، خَلِّصْ نَفْسَكَ! إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ!». 41وَكَذلِكَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ مَعَ الْكَتَبَةِ وَالشُّيُوخِ قَالُوا: 42«خَلَّصَ آخَرِينَ وَأَمَّا نَفْسُهُ فَمَا يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَهَا! إِنْ كَانَ هُوَ مَلِكَ إِسْرَائِيلَ فَلْيَنْزِلِ الآنَ عَنِ الصَّلِيب فَنُؤْمِنَ بِهِ! 43قَدِ اتَّكَلَ عَلَى اللهِ، فَلْيُنْقِذْهُ الآنَ إِنْ أَرَادَهُ! لأَنَّهُ قَالَ: أَنَا ابْنُ اللهِ!». 44وَبِذلِكَ أَيْضًا كَانَ اللِّصَّانِ اللَّذَانِ صُلِبَا مَعَهُ يُعَيِّرَانِهِ. 45وَمِنَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ كَانَتْ ظُلْمَةٌ عَلَى كُلِّ الأَرْضِ إِلَى السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ. 46وَنَحْوَ السَّاعَةِ التَّاسِعَةِ صَرَخَ يَسُوعُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «إِيلِي، إِيلِي، لِمَا شَبَقْتَنِي؟» أَيْ: إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟ 47فَقَوْمٌ مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ لَمَّا سَمِعُوا قَالُوا:«إِنَّهُ يُنَادِي إِيلِيَّا». 48وَلِلْوَقْتِ رَكَضَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَأَخَذَ إِسْفِنْجَةً وَمَلأَهَا خَّلاً وَجَعَلَهَا عَلَى قَصَبَةٍ وَسَقَاهُ. 49وَأَمَّا الْبَاقُونَ فَقَالُوا:«اتْرُكْ. لِنَرَى هَلْ يَأْتِي إِيلِيَّا يُخَلِّصُهُ!». 50فَصَرَخَ يَسُوعُ أَيْضًا بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَأَسْلَمَ الرُّوحَ. 51وَإِذَا حِجَابُ الْهَيْكَلِ قَدِ انْشَقَّ إِلَى اثْنَيْنِ، مِنْ فَوْقُ إِلَى أَسْفَلُ. وَالأَرْضُ تَزَلْزَلَتْ، وَالصُّخُورُ تَشَقَّقَتْ، 52وَالْقُبُورُ تَفَتَّحَتْ، وَقَأمَ كَثِيرٌ مِنْ أَجْسَادِ الْقِدِّيسِينَ الرَّاقِدِينَ 53وَخَرَجُوا مِنَ الْقُبُورِ بَعْدَ قِيَأمَتِهِ، وَدَخَلُوا الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ، وَظَهَرُوا لِكَثِيرِينَ. 54وَأَمَّا قَائِدُ الْمِئَةِ وَالَّذِينَ مَعَهُ يَحْرُسُونَ يَسُوعَ فَلَمَّا رَأَوْا الزَّلْزَلَةَ وَمَا كَانَ، خَافُوا جِدًّا وَقَالُوا:«حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ!». 55وَكَانَتْ هُنَاكَ نِسَاءٌ كَثِيرَاتٌ يَنْظُرْنَ مِنْ بَعِيدٍ، وَهُنَّ كُنَّ قَدْ تَبِعْنَ يَسُوعَ مِنَ الْجَلِيلِ يَخْدِمْنَهُ، 56وَبَيْنَهُنَّ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ، وَمَرْيَمُ أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي، وَأُمُّ ابْنَيْ زَبْدِي. “

صُلِبَ المسيح يوم الجمعة، اليوم السادس، يوم سقط آدم وفيه تعرى من لباس البهاء وصار في هذا الجسد غير القادر أن يعاين بهاء الله ولا أن يراه، صار هذا الجسد لهُ حاجزًا كثيفًا. والظلمة التي حدثت تشير لظلمة عيون اليهود وعلامة على عقوبات قادمة كما عاقب الله فرعون بضربات منها الظلام. والظلمة هي مكان عقاب الأشرار. وكان الصلب يتم بأن يمدد المصلوب على خشبة الصليب إلى أقصى الحدود ثم يسمر بالمسامير. ويرفع الصليب ويضعونه في حفرة معدة بطريقة عنيفة. وكانوا يستخدمون عقوبة الصلب مع العبيد والمجرمين. ولكن بالصلب ملك السيد على قلوب المؤمنين به. لذلك قال إشعياء “وتكون الرئاسة على كتفيه” (إش6:9). وإبراهيم قدَّم ابنه إسحق في نفس المكان، وإسحق كان رمزًا للمسيح. وهذا المكان نفسه هو مكان الهيكل الذي كان يقدم فيه الذبائح رمزًا لذبيحة الصليب.

 

آية(32): “وفيما هم خارجون وجدوا إنسانًا قيروانيًا اسمه سمعان فسخروه ليحمل صليبه.”

قيروانيًا= القيروان توجد في شمال إفريقيا، ومنها سكن كثير من اليهود وكان لهم مجمع في أورشليم (أع9:6). وقد صار ابنا سمعان وهما الكسندروس وروفس من المسيحيين المعروفين جدًا (مر21:15). وفي الطريق حيث حمل ربنا الصليب سقط عدة مرات فسخروا سمعان القيرواني ليحمل معه صليبه. فكان سمعان رمزًا للكنيسة التي تحتمل صليبها وتحمله لتشارك ربها صليبه وبالتالي تشاركه مجده. واضح أن المسيح لم يستطع حمل الصليب بسبب جروح الجلدات.

سخروه = يفهم من الكلمة أن سمعان أجبر على ذلك، وربما قال أنا بريء فلماذا أحمل الصليب. ولم يدرى وقتها ربما أي كرامة ومجد حصل عليهما إذ اشترك مع المسيح في صليبه. وهذا ما يحدث مع كل منا إذ تواجهه تجربة فيقول “أنا بريء” “أنا لم أفعل شيء” فلماذا هذه التجربة. ولكن لنعلم أن كل من تألم معه يتمجد أيضًا معه (رو17:8).

 

 

آية(33): “ولما أتوا إلى موضع يقال له جلجثة وهو المسمى موضع الجمجمة.”

يقال لُه الجمجمة= لأنه يقال أن آدم كان مدفونًا في هذا الموقع. أو أن الصخرة تشبه الجمجمة أو لكثرة المصلوبين في ذلك المكان وكثرة جماجمهم. المهم أن المسيح صُلِبَ ومات ليعطى حياة لآدم وبنيه (صُلِبَ على شجرة لأجل من مات بسبب شجرة).

 

آية(34): “أعطوه خلا ممزوجًا بمرارة ليشرب ولما ذاق لم يرد أن يشرب.”

خلًا ممزوجًا بمرارة= هذا كان نوع من الشراب الذي يشربه الرومان عادة وهو خمر ممزوج بأعشاب مرة وله تأثير مخدر. وكان يعطى للمصلوبين لتخفيف آلامهم. لكن السيد رفض أن يشرب حتى يحمل الألم بكماله بإرادته الحرة.

 

آية(35): “ولما صلبوه اقتسموا ثيابه مقترعين عليها لكي يتم ما قيل بالنبي اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي القوا قرعة.”

قسموا ثيابه أربعة أقسام (يو23:19) إشارة لانتشار الكنيسة لأربعة جهات المسكونة. وقميصه لم يقطع ويقسم لأن كنيسته واحدة، وغرض المسيح أن تكون بلا انشقاقات ولا انقسام. ثوبه منسوج من فوق= أي كنيسته طبعها سماوي، هي منسوجة بيد الله نفسه ومن عمل روحه القدوس (مزمور18:22)

 

ملابس الربيين والتي كان الرب يسوع يلبسها

كانوا يلبسون داخليا ما يسمى “الكيتونا” وهو ينزل إلى الكعبين. وهذا لا بد أن يلبسه كل من له عمل بالمجمع وكل من يقرأ في الترجوم أو الكتاب المقدس. وهذا الرداء أو القميص بحسب تسمية القديس يوحنا، يكون منسوجا من أعلى إلى أسفل بدون أي شق وله أكمام. ويربط وسطه بزنار لتثبيت القميص على الجسم. وكان الرداء الخارجى يسمى “الطاليث” ومزود في أركانه الأربعة بالعصائب والأهداب (والأهداب مصنوعة من جدائل بكل ركن. وكان يضع على رأسه غطاء يسمونه “السودار” وهو على شكل عمامة. ويضع في قدميه صندلا. هذه هي الثياب التي إقتسمها الجنود عند صلب السيد. وكانت أربعة أقسام وهي غطاء الرأس والصندل والطاليث والزنار. وأما القميص فلم يقسموه. 

 

آية(37): “وجعلوا فوق رأسه علته مكتوبة هذا هو يسوع ملك اليهود.”

هذه الجملة تختلف في البشائر ولكن البشيرين كتبوا الجملة واهتموا بالمعنى دون الحروف (راجع نش11:3).

 

آية(38): “حينئذ صلب معه لصان واحد عن اليمين وواحد عن اليسار.”

جلس معلمو اليهود على كراسي يعلمون كمن هم من فوق، يوبخون وينتهرون، يخشون أن يلمسوا نجسًا فيتنجسوا، أمّا السيد فقدم مفهومًا جديدًا إذ ترك الكرسي ليحُصى بين الأثمة والمجرمين، يدخل في وسطهم ويشاركهم آلامهم حتى إلى الصليب ويقبل تعييراتهم، معلناْ لهم حبه العملي لينطلق بهم إلى حضن أبيه

فاصل

الآيات (39-44):

“وكان المجتازون يجدفون عليه وهم يهزون رؤوسهم. قائلين يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام خلص نفسك أن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. وكذلك رؤساء الكهنة أيضًا وهم يستهزئون مع الكتبة والشيوخ قالوا. خلص آخرين وأما نفسه فما يقدر أن يخلصها أن كان هو ملك إسرائيل فلينزل الآن عن الصليب فنؤمن به. قد اتكل على الله فلينقذه الآن أن أراده لأنه قال أنا ابن الله. وبذلك أيضًا كان اللصان اللذان صلبا معه يعيرانه.”

هنا نرى الاستهزاء بالسيد فمن ناحية تكاتفت كل قوى الشر ضد السيد لتقديم أَمّر صورة للصلب ومن ناحية أخرى فلقد بدأ الشيطان فيما يبدو يتحسس خطورة الصليب فأثار هؤلاء المجدفين ليثيروا المسيح فينزل من على الصليب ليوقف عملية الفداء وما كان أتعس حال البشرية لو نزل المسيح فعلًا من على الصليب.

 

آية(45): “ومن الساعة السادسة كانت ظلمة على كل الأرض إلى الساعة التاسعة.”

كانت الظلمة ظلمة إعجازية ولم تكن كسوفًا فالقمر كان بدرًا لا هلالًا (عيد الفصح يأتي في اليوم الرابع عشر من الشهر القمري) ومن المعروف أن الكسوف لا يحدث إلاّ والقمر محاق أي في نهاية الشهر القمري. والشمس قد حجبت نورها عدة ساعات لأن إله الطبيعة متألَمّ. لذلك فأحد علماء الفلك والفلسفة اليونانية علَّق على هذا الكسوف غير الطبيعي بقوله “إماّ أن إله الكون يتألَّم وإماّ يكون كيان العالم ينحل”. ولماّ ذهب بولس الرسول إلى أثينا وذهب إلى أريوس باغوس وتكلم عن أن المسيح مات وقام وأنه هو الله كان هذا الفيلسوف الوثني حاضرًا وهو ديونيسيوس الأريوباغى (أع22:17-34). وذلك لأن ديونيسيوس خرج وراء بولس وسأله متى تألَّم يسوع الذي يبشر به ومتى مات فلماّ حدّد لهُ الوقت والسنة تذكر قوله المذكور سابقًا وآمن. والظلمة التي سادت كانت إعلانًا عن الظلمة التي سادت العالم منذ لحظة السقوط ثم أشرق النور ثانية بعد أن مات المسيح وتمت المصالحة. وهذه الساعة التي أظلمت فيها الشمس في وسط النهار تنبأ عنها الأنبياء (زك6:14، 7+عا9:8، 10). وفيه نرى أن عيد فصحهم صار نوحًا لهم إذ بكت النسوة وغابت الشمس. بل بدأ في نهاية أمتهم وانشقاق حجاب هيكلهم إذ تخلى عنهم الله.

 

آية(46): “ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلًا إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني.”

صرخ يسوع بصوت عظيم= كان المسيح في النزع الأخير، ولو كان إنسانًا عاديًا ما استطاع أن يصرخ بصوت عظيم. فهذا يدل على لاهوته. وهو قال إلهي إلهي وهذا يدل على ناسوته. وبهذا دلَّ المسيح على أنه الإله المتأنس أو الله ظهر في الجسد. وصياحه هذا يدل على أن آلامه حقيقية وجسده حقيقيًا لا خيال فالمصلوب المتألّم لا يستطيع الصراخ بصوت عظيم، وقوله إلهي إلهي لماذا تركتني إشارة إلى أنه إنسان كامل تحت الآلام. فهذه الآية تشير للاهوته وناسوته. إيلى= كلمة عبرانية معناها “إلهي” وبالسريانية إلوى (مر34:15)

إلهي إلهي لماذا تركتني= المسيح هنا كممثل للبشرية التي سقطت تحت سلطان الظلمة يصرخ في أنين من ثقلها كمن في حالة ترك، فإذ أحنى السيد رأسه ليحمل خطايا البشرية كلهما صار كمن قد حجب الآب وجهه عنه حتى يحطم سلطان الخطية بدفع الثمن كاملًا، فيعود بنا نحن البشر إلى وجه الآب الذي كان محتجبًا عنا. وبهذا تكون صرخة المسيح إلهي إلهي لماذا تركتني تحمل المعاني الآتية:

1-    احتجاب وجه الآب عن الابن كحامل خطايا العالم، وهذه يصعب فهمها على مستوانا البشرى، كيف حدث هذا لن نفهم ولكن كان هذا سببًا لألام المسيح غير المحتملة.

2-    إلهي إلهي لماذا تركتني هو الاسم العبري (لمزمور22) الذي يتنبأ عن آلام المسيح ولو تذكر اليهود الذين يهزأون بالسيد كلمات هذا المزمور لوجدوها تنطبق عليه.

3-    إذا فكَّر أيٌ مناّ في هذه الكلمات، ولماذا ترك الآب ابنه لهذه الآلام، تكون الإجابة.. لأجلى أنا فهو لا يستحق هذه الآلام.

لقد قبل الابن أن ينظر الآب إليه كخاطئ لأجلنا وهو حمل الخطية في جسده وحمل لعنتها. ونلاحظ أن المارة أخطأوا فهم أو سمع ما يقول المسيح فالمسيح قال ما قاله بالآرامية فكان “إيلى إيلى لما شبقتنى” وهم أخطأوا السمع فظنوه ينادى إيليا. وقولهم إنه ينادى إيليا فيه سخرية منه إذ المعروف أن إيليا يسبق المسيح.

 

آية(48): “وللوقت ركض واحد منهم واخذ إسفنجة وملأها خلًا وجعلها على قصبة وسقاه.”

هو رفض أن يشرب الخل الممزوج بمرارة الذي له مفعول تسكين الألم. لكنه شرب الخل فقط. ولاحظ أن الخل يزيد من إحساس العطش.

 

آية(50): “فصرخ يسوع أيضًا بصوت عظيم واسلم الروح.”

وأسلم الروح= يدل ذلك أن سلم روحه باختياره لا عن قهر صالبيه وكان المصلوب ربما يستمر أيامًا على الصليب. لذلك وبسبب الفصح كسروا سيقان اللصين ليموتوا سريعًا. أمّا المسيح فلم ينتظر أن يكسروا ساقيه فيكونوا هم الذين تسببوا في موته سريعًا بل هو بسلطانه أسلم روحه (يو17:10، 18). لقد مات السيد قبل كسر رجليه ليعلم الجميع أنه مات بإرادته وليس بكسر رجليه أو بإرادة آخرين. وكان هذا تحقيقًا للنبوات. وكان موته سببًا في طعن جنبه بالحربة ليتحققوا من موته، فكان هذا أيضًا لتحقيق نبوة زكريا “لينظروا إلى الذي طعنوه” (زك10:12). ولقد تعجب بيلاطس من موته سريعًا. ونلاحظ صراخه ثانية بصوت عظيم. وهذا لا يحدث مع من يُسِلمْ الروح بطرية عادية، ولكنه أسلم الروح وهو في ملء حياته.

 

آية(51): “وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى اسفل والأرض تزلزلت والصخور تشققت.”

حجاب الهيكل إنشق= انشقاق الحجاب الذي يفصل القدس عن قدس الأقداس يكشف عن عمل المسيح الخلاصي، إذ بموته انفتح باب السموات للمرة الأولى، لكي بدالة ندخل قدس الأقداس الإلهية خلال إتحادنا بالمسيح. وكان قدس الأقداس لا يدخله سوى رئيس الكهنة ولمرة واحدة في السنة يوم عيد الكفارة، والحجاب كان ليحجب مجد الله الذي يظهر ما بين الكروبين المظللين لتابوت العهد. وكان مذبح البخور الذي يرمز لشفاعة المسيح خارج قدس الأقداس، هو موجود في القدس. ولكن بعد شق الحجاب تراءى مذبح البخور لقدس الأقداس وهذا معناه أن المسيح بموته على الصليب دخل إلى السماء ليشفع فينا أمام الآب شفاعة كفارية. ولذلك قال بولس الرسول أن شق الحجاب يرمز لموت المسيح على الصليب بل أن الحجاب نفسه يرمز لجسد المسيح (عب19:10+عب24:9)

ومن ناحية أخرى فشق الحجاب كان يدل على نهاية الكهنوت اليهودي “هو ذا بيتكم يترك لكم خراباً” (مت38:23). ويوسيفوس المؤرخ اليهودي يقول أنه في وقت صلب الرب خرج من الهيكل أصوات قوات سمائية تقول “لنرحل من هنا” أماّ الحجاب في الكنائس المسيحية فهو ليس ليحجب مجد الله عن أحد، بل بحسب اسمه اليوناني إيكون ستاسيس أي حامل الأيقونات. ووضع الأيقونات عليه إشارة لأن هؤلاء القديسين هم في السماء، فالهيكل هو رمز للسماء في الكنيسة. ويوجد ستر يفتحه الكاهن (رمز لكهنوت المسيح) حينما يبدأ الصلاة، وفي يده الصليب، بمعنى أن المسيح الكاهن قدم ذبيحة نفسه بالصليب فإنفتح الحجاب ولم تعد السماء محتجبة عنا.

الأرض تزلزلت والصخور تشققت= عجيب أن تتحرك الطبيعة الصماء ولا تتحرك قلوب اليهود. ولكن ما حدث كان إشارة لأن الأرض كلها ستتزلزل بالإيمان المسيحي، ويترك الناس الأمم وثنيتهم وتتكسر قلوبهم الصخرية وتتحول إلى قلوب لحمية تحب المسيح وتؤمن به (حز19:11). وبموت المسيح تزلزل إنساننا العتيق الأرضي داخل مياه المعمودية إذ نموت معهُ وننعم بالإنسان الجديد المقام من الأموات.

 

الآيات(52، 53): “والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين. وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين.”

غالبًا تفتحت القبور بفعل الزلزلة ولم يستطيعوا إغلاقها لأن اليوم يوم سبت، وعند قيامة المسيح قام الأموات علامة انتصار المسيح على الموت. وبقيامة هؤلاء الأموات تتكامل الصورة السابقة فلقد تحطم القلب الحجري أي مات الإنسان العتيق وقام الإنسان الجديد (هذا ما يحدث مع المعمودية والتوبة) وقيامة الأموات كما تشير لقيامتنا الروحية تشير أيضًا لقيامة الأجساد في يوم الرب العظيم. فهناك خطاة موتى يسمعون صوت المسيح الآن فيتوبون ويحيون.. وفي اليوم الأخير يسمع من في القبور صوته فيقومون (يو25:5-29) وكان خروج الموتى من قبورهم آية لليهود وكثيرون آمنوا. وهم لم يظهروا لكل الناس بدليل قوله وظهروا لكثيرين= ظهروا لمن هو متشكك ولكن قلبه مخلص لله، يطلب الله ولا يعرف، فالله يساعده برؤية مثل هذه. ولكن من قلوبهم متحجرة لن تنفعهم مثل هذه الأدلة فهم حين أقام السيد لعازر فكروا في قتله ثانية.

 

آية(54): “وأما قائد المئة والذين معه يحرسون يسوع فلما رأوا الزلزلة وما كان خافوا جدًا وقالوا حقًا كان هذا ابن الله.”

قائد المئة سمع سخرية اليهود على المسيح وقولهم “إن كنت ابن الله”. ولماّ حدث ما حدث آمن بالمسيح، وكان إيمانه إيذانًا بدخول الأمم للإيمان.

(مت57:27-61): “ولما كان المساء جاء رجل غني من الرامة اسمه يوسف وكان هو أيضًا تلميذًا ليسوع. فهذا تقدم إلى بيلاطس وطلب جسد يسوع فأمر بيلاطس حينئذ أن يعطى الجسد. فاخذ يوسف الجسد ولفه بكتان نقي. ووضعه في قبره الجديد الذي كان  قد نحته في الصخرة ثم دحرج حجرًا كبيرًا على باب القبر ومضى. وكانت هناك مريم المجدلية ومريم الأخرى جالستين تجاه القبر.”

كان يوسف الرامي تلميذاً للمسيح في الخفية بسبب الخوف من اليهود (يو38:19) ومرقس يقول عنه أنه مشير شريف (مر43:15) أي أنه عضو في السنهدريم. وظهر يوسف في لحظات المحنة ومعه نيقوديموس (يو39:19) عندما تخلى الكل عن المصلوب. وتقدم يوسف في شجاعة يطلب جسد يسوع ووضعه في قبره الجديد فصار قبر يوسف الرامي أقدس مكان على الأرض (إش10:11). شجاعة يوسف الرامي تتضح أنه بعمله هذا سيعزل من مناصبه اليهودية وسيحتقره الرومان.

  • في لحظات الضيق والألم يظهر القديسون، فبينما تجف الأوراق الصفراء وتتساقط من حرارة الشمس تزداد الأوراق الخضراء حيوية، والشمس هي شمس التجارب، وبينما تحرق الشمس العشب فهي نفسها تهب نضوجاً للثمر.
  • كان من الممكن أن يفضل يوسف الرامي نفسه عن المسيح ويحتفظ بقبره لنفسه. ولكن كان القبر قد تحوَّل إلي مكان نجاسة كسائر القبور، ولكن إذ قدّمه للسيد المسيح صار كنيسة مقدسة يحج إليها المؤمنون من كل العالم عبر كل العصور.
  • هكذا لو أردنا أن نحتفظ بجسدنا لنتلذذ بلذات وخطايا العالم لتحول إلى قبر نجس أمّا لو وهبناه للمسيح فهو يقدسه (يو25:12)
  • سبق إشعياء وتنبأ أن المسيح يدفن في قبر رجل غنى (إش8:53، 9). ولو كانوا قد تركوا جسد يسوع (يوسف الرامي ونيقوديموس) لكان اليهود قد دفنوه في مدافن المجرمين واللصوص. = “وجعل مع الأشرار قبره ومع غنى عند موته”.
  • كان القبر يبعد مسافة قصيرة جدًا (عدة أمتار) عن مكان الصليب.
  • لما كان السيد قد وُلِدَ من مستودع جديد طاهر لم يتقدمه فيه غيره، حسن دفنه في قبر جديد لم يوضع فيه غيره.
  • وُضِعَ في قبر لم يوضع فيه أحد حتى حينما يقوم لا يظن أحد أن غيره هو الذي قام. وكونه قبر لم يوضع فيه أحد سَهَّلَ مجيء تلاميذه لهُ، وصار سهلًا أن يعاينوا ما حدث من أحداث القيامة، وحتى الأعداء صاروا شهودًا على ما حدث بوضعهم الأختام على قبره وإقامة جنود حراسة صاروا شهود قيامته.
  • كان يوسف ونيقوديموس قد أحضرا حنوطًا كثيرًا، ومع هذا خرج المسيح من كفنه تاركًا إياه مكانه ولم يُعَوِّقه كل هذا الحنوط الذي جعل الجسد يلتصق بالأكفان، وكان هذا دليلًا على أن القيامة إعجازية.
  • لكن لنلاحظ أنهم لفوا جسد المسيح بكتان، وهذا لبس الكهنة. فهو رئيس كهنتنا الذي قدم ذبيحة نفسه.
  • مريم الأخرى. هي مريم أم يوسي (راجع مر47:15).

(مت62:27-66): “وفي الغد الذي بعد الاستعداد اجتمع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى بيلاطس.    قائلين يا سيد قد تذكرنا أن ذلك المضل قال وهو حي أني بعد ثلاثة أيام اقوم. فمر بضبط القبر إلى اليوم الثالث لئلا يأتي تلاميذه ليلا ويسرقوه ويقولوا للشعب أنه قام من الاموات فتكون الضلالة الأخيرة اشر من الأولى. فقال لهم بيلاطس عندكم حراس اذهبوا واضبطوه كما تعلمون. فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر.”

ما زالوا يسمون المسيح المضل بالرغم من الظلمة والزلزلة. فبينما انفتحت عين القائد الروماني ظل أعضاء مجمع السنهدريم في عماهم “لهم عيون ولكنهم لا يبصرون”. وواضح أنهم فهموا كلام المسيح أنه سيقوم بعد 3 أيام من (يو19:2) أو من تلاميذه الذين فهموا هذا من (مت21:16). وطلبهم وضع الأختام ووجود الحراس أكد القيامة إذ لو لم يحدث هذا لأكدوا أن التلاميذ قد سرقوا جسد المخلص.

الضلالة الأخيرة = هم اعتبروا أن كل تعاليم المسيح ومعجزاته ما هي إلاّ ضلال وأن قيامته ستكون الضلالة الأخيرة أي حين يسرق التلاميذ جسده ويدعون قيامته.

فاصل

إنجيل معلمنا متى : 12345678 910111213141516171819202122232425262728 

تفسير إنجيل معلمنا متى : مقدمة 12345678910111213141516171819202122232425262728 

زر الذهاب إلى الأعلى