تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١٦ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح السادس عشر

 

‏” وأما من جهة الجمع لأجل القديسين فكما أوصيت كنائس غلاطية هكذا افعلوا أنتم أيضاً ” (ع۱) .

انظر فهم بولس الرسول إذ بعدما أقنعهم في موضوع القيامة خاطبهم في قضية مساعدة القديسين ، مع أنه خاطبهم في شأنها فيما تقدم فقال ” إن كنا نحن زرعنا لكم الروحيات أفعظيم إن حصدنا منكم الجسديات ” ( 1 كو ۱۱:۹ ) .

والآن إذ عرف بولس الرسول عظم فضيلة الصدقة فوضعها في آخر هذه الرسالة وأطلق عليها لفظ “الجمع”، لتصير القضية من بدايتها خفيفة ، لأنها إذا جُمعت من الكل معاً فيكون الأمر عند كل أحد خفيفاً.

وقول بولس الرسول “فكما أوصيت كنائس غلاطية هكذا افعلوا أنتم أيضاً ” لأنهم كانوا يخجلون أن يظهروا أقل من أهل غلاطية.

ولم يقل أشرت أو نصحت بل قال “أوصيت” . 

“في كل أول أسبوع ليضع كل واحد منكم عنده خازناً ما تيسر حتى إذا جئت لا يكون جمع حينئذ” (ع2)

قول بولس الرسول “في كل أول أسبوع” ، ليس لأن هذا اليوم هو وقت موافق للاعتناء بالتعطف فقط ؛ بل لأنه يوم راحة وتفرغ من التعب ، لأن النفس المتفرغة عن الكد تكون أسهل وأوفق لأن ترحم.

وقوله “ليضع كل واحد منكم ” أي ليس فلان فقط وفلان بل كل واحد إن كان فقيراً أو غنياً إن كانت امرأة أو رجلاً ، إن كان عبداً أو حراً.

ولم يقل يأتي بها إلى الكنيسة بل قال “عنده خازناً ما تيسر ” لكي لا يخجلوا بالقليل بل إذا جمعت قليلا قليلا تزيد العطية ، وعندما يضعونها عندهم تصير منازلهم كنائس وصناديقهم مخازن تحفظ أموالاً طاهرة مقدسة خاصة لخدمة المساکین.

 وقد عرفنا أن كثيرين يذموننا ويلوموننا أيضاً عندما نخاطبكم في معنی هذه الأمور فيقولون : نتوسل ضارعين ألا تكون مبغوضاً ثقيلاً عند السامعين ، سلم الأمر للنية وأترك العزم للسامعين كونك تخجلنا الآن وتحمر وجوهنا.

إلا أنني لا أقبل هذه الأقوال ، كما أن بولس الرسول لم يخجل أن يقول كثيراً في معنى هذه الأمور قائلاً أقوال الذين يتسولون ، فلو أقول هذا أي أعطني أنا وأخذتها في بیتی لكان قولی مخزياً.

والآن اتضرع من أجل المحتاجين بل ومن أجلكم أنتم الذين تعطون 

. فلا أخجل إذا بل بدالة أقول جهاراً اعطوا المحتاجين وبكثرة ، لأنه إن كان أحد يمكنه أن يثبت ويبكتنا بأننا نقول هذه الأقوال لنستميلكم نحونا متصنعين بالمساكين ، فهذه لا تستوجب الخزي فقط بل وتوجب الصواعق ، والذي يفعل مثل هذه الأمور لا يستحق الوجود في الحياة .

فجهاراً أقول اعطوا المحتاجين ولا أكف عن هذا القول وأكون مُذما للذين لا يعطون ، لأني لو كنت قائداً للجند ولی جنود لم أكن أخجل أن أسأل للجنود طعاماً.

إنني أشتاق خلاصكم جداً بل ولكي يصير قولی واضحاً وأكثر فعالية أتخذ بولس الرسول مساعداً ومعه أخاطبكم قائلا ، ليضع كل واحد منكم عنده خازنا ما تیسر .

ولم يقل بولس الرسول بهذا المقدار أو بهذا المقدار بل قال « ما تيسر » كثيراً كان أم قليلاً .

ولم يقل بمقدار ما يكسب الإنسان بل إنه قال : ما تيسر ، موضحا أن الواهب هو الله.

“ومتی حضرت فالذين تستحسنونهم أرسلهم برسائل ليحملوا إحسانكم إلى أورشليم” ( ع ۳ ) .

لم يقل بولس الرسول فلان وفلان بل قال : فالذين تستحسنونهم ، أي أنتم الذين تنتخبونهم ، وذلك ليجعل الخدمة خالية من الشك إذ جعل الحكم لهم في اختيار الذين يحملون إحساناتهم.

وقوله “أرسلهم برسائل ليحملوا إحسانكم” كأنه يقول إنني سأكون معهم. وأشارك الخدمة بالرسائل .

“وإن كان يستحق أن أذهب أنا أيضاً فسيذهبون معي ” ( ع 4).

أراد بولس الرسول هنا أن يوضح إن كان الأمر يحتاج لحضوره فحتى هذا لا يعفی نفسه منه ، إلا أنه لم يعد بذلك ولا سكت عنه بالكلية.

“وساجى إليكم متي اجتزت بمكدونية لأني أجتاز بمكدونية » ( ع 5 ) .

لم يقل بولس الرسول إذا جئت لمكدونية بل قال « متي اجتزت بمكدونية » .

“وربما أمكث عندكم أو أشتي أيضا لكي تشيعوني إلى حينما أذهب ” ( ع 6) .

لم يحتم بولس الرسول الأمر مطلقاً بل تركه لما يوافق فقال « ربما » .

ولأن بولس الرسول لا يريد أن يمر بهم كعابر طريق غير متعمد بل قصده الإقامة عندهم ، لأنه عندما كتب هذه الرسالة وأرسلها كان في أفسس إذ كان الوقت شتاء والأمر الغالب أنه سيقضي الشتاء عندهم. 

“لأني لست أريد الآن أن أراكم في العبور لأني أرجو أن أمكث عندكم زماناً إن أذن الرب” ( ع 7) .

‏ قال بولس الرسول هذه الأقوال موضحاً المحبة لأهل كورنثوس .

“ولكنني أمكث في أفسس إلى يوم الخمسين” ( ع ۸ )

على ما يجب عرفهم بولس الرسول بالأمور كلها ، موضحاً لهم ذلك كأصدقاء ، لأن هذا هو أمر المحبة أن يعرفهم بالسبب الذي لأجله لم يحضر والذي لأجله سيأتي وأين هو مقيم.

“ولأنه قد انفتح لى باب عظيم فعال ويوجد معاندون كثيرون ” ( ع ۹).

وإن كان الباب عظيماً فالمعاندون كثيرون لكون الإيمان عظيماً والمدخل عظيماً ومتسعاً.

وإن كان المتآمرون كثيرين فهذا هو علامة نجاح البشارة لأن الشيطان لا يهيج قط سوى عندما یرانا اختطفنا أواني كثيرة من أمتعته.

“ثم إن أتى تيموثاوس فانظروا أن يكون عندكم بلا خوف لأنه يعمل عمل الرب كما أنا أيضا” ( ع ۱۰ ) .

قول بولس الرسول عن تيموثاوس ” أن يكون عندكم بلا خوف” أي لكي لا يشمخ عليه أحد أو يتمادى في احتقاره وتوبيخه.

أما قوله “لأنه يعمل عمل الرب ” أي ليس هو غني ولا هو شيخ بل إنه ينفع أي ” يعمل عمل الرب “وهذا يكفي فيه عوض الأشياء كلها.

وقوله « كما أنا أيضا » وكذلك قال من قبل « لذلك أرسلت إليكم تيموثاوس الذي هو ابني الحبيب والأمين في الرب الذي يذكركم بطرقي في المسيح كما أعلم في كل مكان في كل كنيسة » ( 1 کو 4 : 17) هذا ما قاله بولس الرسول عن تيموثاوس ، كونه حدثا إذ أرسله بمفرده ليصلح جمهورة من الناس هذا مقداره.

« فلا يحتقره أحد بل شیعوه بسلام ليأتي إلى لأني انتظره مع الإخوة » . ( ع۱۱ )

(لم يطلب بولس الرسول منهم ألا يحتقروا تيموثاوس فحسب بل عليهم أن يعطوه الإكرام الزائد ، ولذلك قال « بل شیعوه بسلام » أي ناجياً من الخوف مصغین له كالمعلم.

وقول بولس الرسول عن تيموثاوس ” ليأتي إلى لأني أنتظره مع الإخوة ” فكان بذلك يخوفهم ليعرفوا أن تيموثاوس سيقول له ما حدث معه فيكونون بذلك ودعاء معه ، كذلك صير تيموثاوس مستوجب القبول إذ كان عتيداً أن يمضى من عنده وهو في انتظاره . 

“وأما من جهة أبلوس الأخ فطلبت إليه كثيرا أن يأتي إليكم مع الإخوة ولم تكن له إرادة البتة أن يأتي الآن ولكنه سيأتی متى توفق الوقت ” ( ع ۱۲ ).

يبدو أن أبلوس كان مدللاً وأكبر في السن من تيموثاوس ولذلك سماه « الأخ » . وقول بولس الرسول عن أبلوس « فطلبت إليه كثيرة أن يأتي إليكم مع الإخوة ولم تكن له إرادة البتة أن يأتي » وذلك لكي لا يظهر بولس الرسول أنه فضل تيموثاوس على أبلوس ولذلك لم يرسله .

« اسهروا اثبتوا في الإيمان كونوا رجالاً تقووا . لتصر كل أموركم في محبة » ( ع 13 ، 14 )

قد يُظن ببولس الرسول أنه بقوله هذا ينصحهم ، ولكنه في الحقيقة يلذعهم کمتوانين ولذلك قال « اسهروا » كالنائمين ، « اثبتوا» ، کمتحرکین ، « تقووا » کمتراخين.

أما قوله « لتصر كل أموركم في محبة » الأمر الذي هو رباط الكمال وأصل الصالحات وينبوعها.

« وأطلب إليكم أيها الإخوة أنتم تعرفون بيت إستفاناس أنهم باكورة أخائية وقد رتبوا انفسهم لخدمة القديسين » ( ع 15 ) .

بولس الرسول أطلق على بيت إستفاناس “أنهم باكورة ” لأن الباكورة يجب أن تكون أفضل من بقية الأشياء التي هي باکورتها ، الأمر الذي شهد به بولس الرسول لهم في هذا القول.

ولم يقل بولس الرسول يخدمون وإنما قال « رتبوا أنفسهم لخدمة القديسين » کون البيت كله كان ممتلئاً من التقوى.

«کی تخضعوا أنتم أيضا لمثل هؤلاء وكل من يعمل معهم ويتعب». ( ع 16 ) 

لم يقل بولس الرسول ساعدوهم بل قال “کی تخضعوا أنتم ” لهم فيما يأمرونكم به ، مثبتاً الطاعة المأمور بها .

أما المقصود من قوله « کی تخضعوا أنتم أيضا لمثل هؤلاء» أي لكي تساعدوا مثل هؤلاء في نفقة الأموال والخدمة ، لتشاركوهم ، لأن تعبهم بذلك يكون خفيفاً عندما يكون لهم مساعدون.

“ثم إني أفرح بمجيء إستفاناس وفرتوناتوس وأخائیکوس الأن نقصانكم هؤلاء قد جبروه . إذ أراحوا روحی وروحكم فاعرفوا مثل هؤلاء » ( ع ۱۷ ، ۱۸ ) .

مدح بولس الرسول الذين أرسلهم عندما قال عنهم “أراحوا روحی وروحکم ” إذ أوصى أهل كورنثوس أن يعرفوا مثل هؤلاء ، لأنهم من أجلهم تركوا البيت والوطن ، واهبين ذواتهم ليس لبولس الرسول فقط ، بل ولهم أيضاً. 

“تسلم عليكم كنائس أسيا يسلم عليكم في الرب كثيراً اکیلا وبريسكلا مع الكنيسة التي في بيتهما” ( ع ۱۹).

ذکر بولس الرسول “أكيلا وبريسكلا” ، لأنه كان مقيماً عندهما إذ كان يصنع الخيام .

أما قوله “مع الكنيسة التي في بيتهما ” وهذا لم يكن فضيلة صغيرة أن يصيرا منزلهما كنيسة

“يسلم عليكم الإخوة أجمعون سلموا بعضكم على بعض بقبلة مقدسة” ( ع ۲۰ ) .

أمرهم أن يتألفوا بواسطة القبلة المقدسة لأن هذا يُوجد ويُولد جسداً واحداً وهذا أمر مقدس إذا كان خالية من الغش والرياء .

“السلام بيدي أنا بولس “( ع ۲۱ ) .

أوضح بولس الرسول بذلك أن الرسالة كتبت بحرص كثير .

“إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح فليكن اناثيما ماران اثا » ( ع ۲۲ ) .

قول بولس الرسول . اناثیما ، ( محروماً ) بهذه الكلمة الواحدة خوف الجميع أي الذين صيروا أعضاءهم أعضاء زانية والذين زرعوا الشكوك في الإخوة لسبب ضحايا الأوثان والذين كانوا ينكرون القيامة.

أما قوله “ماران آثا”  أي الرب يأتي .

“نعمة الرب يسوع المسيح معكم” ( ع ۲۳ ).

هذه طبيعة المعلم ألا يساعد بالنصائح فقط بل وبالدعاء .

” محبتى مع جميعكم في المسيح يسوع آمين ” ( ع 24) .

إن ذلك قول محب يحب جداً، ولأنه كان بعيداً حسب المكان كمن يمد بیدی المحبة قائلاً محبتی معکم وكأنه يقول أنا معكم كلكم.

وبولس الرسول إذ يحبهم حيث يفاوضهم برسائله وكتبه لأن هكذا يجب أن يفعل من يروم الإصلاح ، وإن تلك الأمور التي فعلها إنما عن محبة فعلها.

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

تفسير 2 كورنثوس 15 تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
فهرس
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى