الروح القدس وانسكاب المحبة

حينما يبلغ إنكار الذات إلى الحدِّ الفاصل بين الذات الطامحة وبين تمجيد الله, وحين يطوِّح الإنسان بكل علاقاته العاطفية وتعلُّقاته الدنيوية ويثبِّت وجهه نحو الله في شجاعة الإيمان وطاعة البذل وكرامة الخدمة؛ تنسكب محبة الله في القلب بواسطة الروح القدس بسرٍّ إلهي يفوق الوصف.

الروح القدس, فوق عمله في الأسرار, فهو يعمل كذلك من خلال العمل الصالح كالصلاة مثلاً, حينما يبلغ العمل درجة الصفاء في تمجيد الله!

انسكاب الحب الإلهي بواسطة الروح القدس هنا هو عمل جديد في الطبيعة البشرية, وهو متمِّم للفداء والتقديس بالدم الإلهي. فالحب الإلهي المُعطَى لنا هو ثمرة من ثمرات الصليب!

الحب الإلهي حينما يشتعل في القلب, يكون أول علامة حيَّة ساخنة من علامات الاقتراب الشديد من الله الذي يمهِّد للاتحاد, لأن «الله محبة» (1يو 4: 16)!

المحبة الإلهية شيء آخر غير المحبة البشرية أو المحبة الطبيعية. محبة الله أقرب إلى النار في طبيعتها منها إلى أي شيء آخر نعرفه, هي ليست صفة بل طبيعة إلهية ذات فاعلية عميقة وتأثير شديد كالنار على كل كيان الإنسان. حينما تنسكب فيه تُغيِّر كل شيء فيه!! تغيِّر من طبيعته ذاتـها, فتخلق فيه إمكانيات وتحمُّلات وطاقات وإدراكات جديدة, وتلغي منه ضعفات وتعثرات واضطرارات كان ميئوساً منها, لأن الحب قوة مصحِّحة مؤدِّبة بسلطان وسيادة لا حدود لجبروتها, غايتها في الإنسان أن تجعله أكثر ملاءمة للحياة مع الله متناغماً مع إرادته المقدسة، متوافقاً مع غاياته.

وما يصنعه الحب في الواحد يصنعه في الآخر, كلٌّ حسب احتياجه, حتى يصير كل إنسان قريباً من أخيه الإنسان. فالحب الإلهي عامل اتحاد لا يُجارَى, يعمل بإقناع وبسيطرة وبسرٍّ يفوق الوصف. هو أثمن ما يقتني الإنسان في حياته على الأرض, هو رباط الشركة, الشركة مع الله ومع القديسين، لا شركة بدون حب, ولا حب بدون الروح القدس.

في البداية ينسكب الحب من الله في القلب سكيباً بسرِّ الروح القدس, ولذلك عندما يبلغ الإنسان درجة إنكار الذات, فتتم الشركة مع الله. بعد ذلك يفيض الحب الإلهي من الإنسان على الآخرين بفعل الروح القدس الساكن في القلب بعدما ينجح الروح القدس في تحطيم كبرياء الإنسان وتنظيف وساخات قلبه.

انسكاب الحب الإلهي في القلب لا يمكن أن يتم إلا بالروح القدس. لا يوجد فاصل زمني ولا فارق كياني يفصل أو يفرِّق بين الحب والروح القدس, فحالما يوجد الروح القدس تنسكب المحبة الإلهية في القلب المتعطش لله.

وطالما الروح القدس ساكن في القلب, فالمحبة تفيض بلا مانع بل وبسرور شديد كأنهار ماء حي تروي أينما تجري!

لا يمكن أن نفصل بين الحب الإلهي والروح القدس. ولكن تعوُّق انسكاب الحب في القلب ليس معناه غياب الروح القدس, ولكن يكون سببه انشغال الروح القدس بتأديب الإنسان وتنظيف وساخاته أولاً. الروح القدس لا يكل ولا يمل من التأديب والتوبيخ, فهو لا يطيق أي خطية مهما كانت صغيرة لأنها تعيق انسكاب الحب وتعيق سكناه!! وتأديب الروح القدس وتوبيخه المستمر للقلب هو هو الحب في أعمق درجاته العملية!!

الحب الإلهي لا ينسكب من الله في القلب إلا بعد أن ينجح الروح القدس في تطهير القلب من أي حب آخر, وأصعب معوِّقات انسكاب الحب الإلهي هو حب الذات, وهو جذر سام ضارب في أرض الشهوة, ثمراته كلها مُرَّة: طمع, حسد, حقد, كرامة, عظمة, بغضة, عداوة, وأخطرها الطمع وقد سمَّاه بولس الرسول «عبادة الأوثان» (كو 3: 5), لأن الطمع يجعل النفس, بدل أن تكون هيكلاً للروح القدس تُقدِّم بواسطته ذبائح الحب, تصير هيكلاً لروح الخبث تُضحِّى فيه للشيطان ضحايا شهواتها.

علامة سكنى الروح القدس في القلب هي وجود المحبة. أما علامة نجاح الروح القدس وتملُّكه على القلب فهي فيضان المحبة أو انسكابها على الآخرين بلا حساب ولا حذر.

فيضان المحبة يثبت وجود الروح القدس داخل القلب, ويكشف عن نشاطه وفرحه. الروح القدس يبلغ منتهى نشاطه وفرحه داخل قلب الإنسان حينما ينجح بإقناع المحبة في جمع شمل أولاد الله في وحدانية صادقة، أي شركة الإيمان والعبادة والصلح والسلام. لأن هذا هو جسد المسيح: «محتملين بعضكم بعضاً في المحبة, مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام, جسدٌ واحدٌ وروحٌ واحدٌ» (أف 4: 2-4).

أي أن محبة الله المنسكبة في القلب بواسطة الروح القدس هي أصلاً وأساساً لتكوين شركة جسد المسيح, أي كنيسة الحب والبذل, أهل بيت الله – رعية القديسين. الروح القدس هو الصانع لهذه الوحدانية «وحدانية الروح» – بيت المحبة. ولكن حفظ هذه الوحدانية قائم ودائم, يحتاج إلى جهد من الإنسان ومن الروح القدس لا يكل ولا يمل, جهد احتمال: «محتملين بعضكم بعضاً», وجهد حفظ الصلح: «تحفظوا وحدانية الروح برباط الصلح». وهذه هي علامة المحبة الصادقة والطاهرة بشدة كما يقول بطرس الرسول: «المحبة الأخوية عديمة الرياء», «من قلب طاهر بشدة» (1بط 1: 22), أي أن يكون لها ”جهد احتمال“ دائم لا يكل حتى إلى الموت, لأن المحبة أقوى من الموت, وجهد حفظ رباط الصلح مع الإخوة قائم لا ينقطع مهما كانت التكلفة.

انقطاع المحبة وتوقُّف الصلح لا يلغي وجود الروح القدس, ولكن يكشف عن حرج موقفه, فهو يصير في حالة ”حزن“ وينحجب نوره الساطع فجأة وكأنه قد ”انطفأ“. وهذا معناه أن الخطية قد استعادت قوتها ورفعت قرنها البشع, ونجحت بشراستها – ولو إلى حين – في اقتحام قلب الإنسان وإفساد هيكل الروح القدس, وأخمدت حركة الحب. وإذ بالحبيب يُجرح في بيت أحبائه. وفي لحظة يظهر وكأنما ”المعزِّي“ صار حزيناً يحتاج إلى عزاء!! وبات الروح ومصباحه منطفئاً في القلب ودنيا الإنسان كلها ظلاماً!

يا لرقة الروح القدس ولطفه وحنانه وتودُّده للإنسان! فهو إذا لم ينجح في أن يجعل الحب الإلهي مسرة القلب وشغل الفكر الشاغل, ينحصر داخل النفس ويحزن ويكتئب ويصير في غمٍّ شديد, وكأنه يسترجع مواقف الرب حينما وقف يتوجع إزاء جحود الإنسان: «نفسي حزينة جداً حتى الموت!!» (مت 26: 38), أو إزاء فقدان الرجاء في الطريق إلى قبر لعازر: «بكى يسوع» (يو 11: 35).

هكذا أيضاً يحذرنا بولس الرسول: «لا تُحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء!!» (أف 4: 30). ولأن المسيح نور العالم، لما صلبوه انحجب نوره فصار العالم كله في ظلمة!! هكذا أيضاً الروح القدس نور الضمير وناره الوهَّاجة, إذا أُهينت المحبة أو خُذلت القداسة أو افتُضح العقل وامتُهنت الرزانة؛ خبا نوره وانحجبت ناره عن الإنسان, لأن في طاعته ينتقل الإنسان في حرارة الحب كل يوم «من مجدٍ إلى مجدٍ كما من الرب الروح» (2كو 3: 18), وفي جحوده وعناده ينطفئ لهيبه فجأة ويصير الإنسان في ظلام وبرودة وعداوة لا يعرف إلى أين يسير!! «لا تطفئوا الروح» (1تس 5: 19).

الروح القدس وإنكار الذات  كتب القمص متى المسكين لا تحزنوا روح الله القدوس 
كتاب مع الروح القدس في جهادنا اليومي
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى