تفسير المزمور 14 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور الثالث عشر (بحسب السبعينية)
الشتائم

هنا، كلّ نفس تكتئب عندما تُدوّي في أذنيها تلك الشتائم التي يتقيأها المنافق ضدّ الله . ترتعب لرؤية الجور يطغى؛ وتستنجد بالله ليطلع من صهيون خلاص إسرائيل، ويُنبت قديسين.

للغاية، مزمور لداود 

١ – من النافل أن نُعيد في كلّ مرّة معنى عبارة: «للغاية»، إذ أنّ الرسول يقول لنا : «إنّ المسيح هو غاية الشريعة ليُبرّر كل الذين يؤمنون» (رو 10: 4) ونؤمن به ساعة نبدأ بسلوك الصراط القويم، وسنراه في نهاية تلك الطريق لأنه هو الغاية.

«قال الجاهل في قلبه : ليس إله» (14: 1). حتى الفلاسفة الذين ينفر منهم الناس ويمقتونهم لأجل كفرهم وأفكارهم النجسة الفاسدة في الألوهة، لا يتجرّأون أن يقولوا : «لا إله». إنّ هذا الكلام لا يُقالُ إلا في القلب، لأنّ الذي يُفكّر فيه لا يجرؤ على النطق به. فسدوا ورجسوا بأفكارهم، أي لأنّهم أحبوا العالم دون الله. فالأفكار هي التي تُفسِد النفس وتعميها فيقول الجاهل في قلبه: «لا إله». وبما أنّهم لم يستفيدوا من معرفة الله، أسلمهم الربّ إلى رأي م ذول» (رو 1: 28) وليس فيهم واحد يصنع الصلاح، لا ولا حتى واحد» (14: 1). إن عبارة «ولا حتى واحد» يمكن أن تعني إمّا استثناء لكل إنسان، أو تخصيصا ليسوع المسيح. فهكذا نقول عن ميدان إنّه يمتد حتى البحر، من دون أن يكون البحر نفسه ضمن الميدان. فالأفضل أن نفهم بالجملة، أنه ما أحدٍ صنع الصلاح، إلى أن أتى يسوع المسيح، لأنّه ما من إنسان يستطيع أن يصنع الصلاح، إن لم يتعلم من يسوع نفسه، من حيث أن هذا الصلاح ممتنع عليه من دون معرفة الله

3- «ألقى الله نظره من أعالي السماء على بني البشر ليرى هل أنّ فيهِم فَهم ملتمس الله» (14: 2) يُمكن أن يُفسّر هذا القول على أنه يعني اليهود الذين يدعوهم النبي بني البشر، لأنهم لم يكونوا يعبدون غير إله واحد، ما جعلهم أسمى من الأمم الذين أرى أن النبي قال عنهم: «قال الجاهلُ في قلبه : لا إله . والله يرى عن طريق الأنفس القديسة الموسومة بعلامة «السماء»، إذ أنّ شيئًا لا يغيب عن ناظريه.

4- «زاغوا جميعُهم ففسُدوا معًا » (14: 3). أي أن اليهود صاروا كالوثنيين الجهلة «ليس فيهم من يصنع الصلاح، ولا واحد» (14: 3). والمعنى سبق أن شرحناه أعلاه. «حناجرهم قبور مفتحة» (مز 5: 10). في هذه العبارة نرى فرط الجشع، أو بمعنى رمزي، الخطأة الفاجرين الذين يقتلون ويفترسون من يجرونهم في سُبُلِهم الملتوية. وبمعنى معاكس قيل لبطرس : «إذبح وكُل» (أع 10: 13)، لكي يجتذب الوثنيين إلى إيمانِه وإلى التقاليد المقدّسة. وبألسنتهم يتملّقون (مز 5: 10) الخديعة تُرافق الشراهة وسائر العيوب. «سمّ الصلّ تحت شفاههم» (مز 140: 4). السم يدلّ على المكر والخداع والصلّ يُشير إلى كل الذين يُصمون آذانهم على الدوام عن أحكام الشريعة كما يُصمُّ الصل أذنيه عن صوت الحاوي (مز57: 5،6) «وأفواههم ملؤها اللعنة والمرارة» (10: 7)  إنّه سمّ الصل. «وأقدامُهم تُسرع إلى سفك الدماء» (رو 3: 15)، ما يدلّ على الطبيعة المتأصلة في الشر. وفي مسالكهم دمار وحطم (رو 3: 16،  إش 59: 7) . لأنّ سبيل الشرير بؤس وعناء. والربّ قال : تعالوا إلي يا جميع الرازحين تحت ثقل الألم والعناء وأنا أريحُكم إحملوا نيري عليكم وتعلموا مني، إنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لأنفُسِكم لأنّ نيري لين وحملي خفيف (مت 11: 28-30). لم يعرفوا سبيل السلام» (رو 3: 17 ؛ إش 59: 8)، ذلك السلام الذي يُحدّده الربّ بليونة نيره وخفة حمله. وليست مخافة الله أمام أعينهم» (رو 3: 18 ؛ مز 37: 1)

5- «ألن يفهموا أخيرًا، جميع فاعلي الإثم؟» (14: 4).

يتوعدهم الله بالدينونة، لأنّهم يأكلون شعبي أكل الخبز» (14: 4)، أي كلّ يوم، لأنّ الخبز هو القوت اليومي. أولئك المتسلطون يأكلون الشعب الذي منه مكاسبهم، من دون أن يوظفوا سلطانهم لمجد الله ولخلاص رعاياهم .

6 – «ولم يدعوا الربّ» (14: 4) لأنّ عدم الدعاء يعني ابتغاء ما لا يُرضي الله . «جزعوا حيث لا جزَع» (14: 5) أي لسوء زمني . لأنهم قالوا : «إن تركناه ،هكذا آمن به الجميع، فيأتي الرومان ويقضون علينا وعلى مدينتنا» (يو 11: 48). جزعوا حيث لا جزع، خافوا أن يخسروا مملكة أرضية، فخسروا ملكوت السموات. وهذا ما كان عليهم أن يخافوه. كذاك حال المكاسب الزمنية : يخشى الإنسان خسارتها، فيخسر الخيور الأبدية. 

7- «لأنّ الله يسكن مع جيل الصدّيقين» (14: 6). أي أنه لا يسكن مع الذين يُحبّون العالم. فليس من العدل بشيء أن يُهمل المرء خالق العالم ليتعلّق بالعالم، ويتقي المخلوق دون الخالق (رو 1: 25). تُعيبون مشورة البائس لأنه يتوكَّل على الربّ» (14: 6). أي أنكم تزدرون مجيء المسيح المتواضع ، لأنه لم يبسط أمامكم عظمة الدهر، بل انتزع أولئك الذين دعاهم للتوكل عليه، لا الإعتصام بخيور زائلة.

8 – «من يُعطي من صهيون الخلاص لإسرائيل؟» (14: 7). ومن تراه يكون، غير ذلك الذي از دريتم تواضُعَه؟ لأنه سوف يأتي ببهاء مجده ليدين الأحياء والأموات، ويُشرِك الصديقين في ملكوته؛ حتى إذا كان مجيئه المتواضع الأوّل قد أعمى جانبًا من إسرائيل، ليُفسح المجال للوثنيين للدخول في الكنيسة، ففي مجيئه الثاني سيكون الخلاص لإسرائيل كله، بحسب ما بشّر القديس بولس (رو11: 25-26). إذ أنه لخير اليهود أيضًا يُذكّر الرسول بكلام أشعيا : ويأتي إلى صهيون ذاك الذي يردّ عن المعصية بني يعقوب (إش 59: 20). بهذا المعنى قيل هنا : «من يُعطي من صهيون الخلاص لإسرائيل؟» – «عندما يُحطّم الربّ قيود أسر شعبه، يفرح يعقوب ويبتهج إسرائيل» (14: 7). أرى في الأمر تكرارًا لأنّ فرح يعقوب هو نفسه ابتهاج إسرائيل.

زر الذهاب إلى الأعلى