تفسير سفر أعمال الرسل أصحاح 1 الأب متى المسكين


التمهيد ثم صعود الرب ١:١ -١١


أ ـ التمهيد (١: ١- ٥)

١:١ ««الكلام الأول أنشاته يا ثاوفيلس عن جميع ما ابتدا يسوع يفعله ويُعلم به».

نحن نتمسك أشد التمسك بقول القديس بطرس : “عالمين هذا أولا أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس” (٢ بط ١: ٢٠ و٢١). فإن كان هذا هو أمر النبوة في العهد القديم، فما بالك بإنجيل الله !

لذلك ينبغي أن ينتبه الذهن أننا هنا أمام الإنجيل المقدس، والمكتوب هنا هو بقيادة الروح القدس، وقد كتب حسب المشورة الإلهية، فهو يختص بعمل المسيح وتعليمه.

وسوف يتضح لنا من تحليل الكلمات في مفهومها اليوناني أن الكلام الأول هو الإنجيل للقديس لوقا، وأن ما يقدمه ق . لوقا هنا هو المحسوب أنه الكلام الثاني أو اللاحق أو المكمل وهو سفر “الأعمال”. وأن الاثنين عمل واحد، وهو ما ابتدأ الرب يسوع يعمله ويعلم به أثناء وجوده مع تلاميذه في مدة حياته على الأرض . ثم ما انتهى به الرب الروح من السماء من العمل والتعليم بواسطة تلاميذه بقيادة الروح القدس.
أما عن شخصية ثاوفيلس هذا، فذلك لا يهمنا في شيء مهما كان هذا الإنسان عزيزاً، ففي الحقيقة لم يكتب الإنجيل بوحي الروح القدس وتدبيره من أجل عزيز من الناس أو الأعزاء فقط، بل في الحقيقة كتب لجميع المتعبين والمذلين والثقيلي الأحمال الطالبين راحة لأنفسهم، ولخطاة الأرض الذين يطلبون منه التوبة والنجاة ويتلمسون فيه نور الحياة . وإن كان ولابد من ثاوفيلس فهو ثاوفيلس كل إنسان، الذي يعني «محب الاله» فهذا جيد وحق . ولمثل هؤلاء وحدهم يلزم الإنجيل!

«الكلام الأول»: 
«الكلام»: 
الكلام هنا لا يعني مجرد كلام، بل في اليونانية يعني “كتاب” أو “درج مكتوب (ملف)” ويقاس لا بعدد صفحاته بل بطول شريط الرق الذي يفرد ويطوى : «ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وجلس» (لو ٢٠:٤). وكلمة «الكلام» تفيد أكثر من درج، لذلك فكلمة “لوجون” تعني مقالة من ملفين، أي درجين، الأول الإنجيل والثاني الأعمال وهو أكبر عمل في أسفار العهد الجديد .

«الأول»: 
ويعني باليونانية “السالف” في حالة وجود اثنين فقط، وهكذا فإن هذه الكلمة تعطي الانطباع في الحال أن بعد الأول ثان . وهكذا فإن ق. لوقا يتكلم هنا عن إنجيله الذي أكمله وأرسله بصفته الكتاب الأول الذي يحمل أعمال «يسوع» وتعليمه بين تلاميذه أثناء حياته على الأرض، وها هو أنشأ يكتب الثاني الذي يكمل أعمال وتعاليم المسيح الرب من السماء بواسطة التلاميذ بقيادة الروح القدس وتدبيره . فهما عمل واحد في جزئين أو كتابين.

«أنشأته»: 
تفيد العمل أو الإنشاء أو التعامل .
«يا ثاوفيلس»:
أتت هنا بدون اللقب الذي خاطبه به في بداية إنجيله «العزيز ثاوفيلس)». وإذ يرفع ق. لوقا هنا التكلف ويخاطبه باسمه المجرد من اللقب فذلك يهمنا في أمر واحد وهو أن العمل هنا ملحق بالعمل الأول، أي الإنجيل، باعتبار هما عملا واحداً.
«جميع ما ابتدأ»:
«جميع»:
هنا ليس القصد كل ما عمل وعلم به الرب، وإلآ استحال تسجيله في كتب، وإذا تسجل فالعالم لا يسع المكتوب كقول يوحنا الرسول بالحق (يو ٢٥:٢١). ولكن القصد هنا هو الجمع.
وليس الجميع، أي جمع ما ابتدا يعمله مع تلاميذه وهو على الأرض مع ما ظل يعمله بواسطة تلاميذه وهو في السماء.
«ابتدأ»: 
هنا يتكلم ق. لوقا عن الإنجيل أنه يختص بما «ابتدأ»» يسوع يعمل ويعلم، وبالتالي يكون ما سيجيء في الأعمال هو ما استمر الرب يسوع من السماء يعمله ويعلمه بواسطة تلاميذه بقيادة الروح القدس وتدبيره . ولنا في إنجيل ق . مرقس تطبيق جيد إذ يبتدىء إنجيله بقوله: «بدء  إنجيل يسوع المسيح ابن الله» (مر ١:١) معتبراً أن هذا البدء إنما يحصر التاريخ بين تعليم المعمدان حتى القيامة.

ويلزم أن ينتبه القارىء أن كلمة “يبتدىء” هنا ذات توجيه معين، وهو يتناسب مع قول ق. لوقا: «كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداما للكملة» (لو٢:١)، كذلك قوله: «رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق» (لو ٣:١). وهذا لكي يفهم القارىء أن متابعة ق . لوقا في كتابته ليس أمراً هيناً، فهو فعلا دقيق فوق العادة، كذلك أعطى التزاما لنفسه أن لا يترك شيئا قط إلا ويسجله من أجلك أيها القارىء العزيز.

«يفعله ويعلم به»: 
بالنسبة لكرازة المسيح نجد تقدم العمل على التعليم، لأنه بالعمل استعلن ذاته أنه المسيا وابن الله، ثم بالتعليم كما جاء في (يو ٣٨:١٠): «ولكن إن كنت أعمل فإن لم تومنوا بي فامنوا بالأعمال»، وفي (أع ٣٨:١٠): «يسوع الذي من الناصرة كيف مسحه الله بالروح القدس والقوة، الذي جال يصنع خيراً ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس لأن الله كان معه».
والتعبير «يفعله ويعلم به» تعبير متقن للقديس لوقا، فهو إنجيلي بحق لأن الإنجيل هو تعليم وعمل معاً وبأن واحد. فيستحيل أن يكون الروح بدون عمل إلهي ولا عمل إلهي بدون روح: “طوبى لمن عمل وعلم».
+ «كونوا عاملين بالكلمة لا سامعين فقط خادعين أنفسكم.)» (يع ٢٢:١)
+ «وأما من عمل وعلم فهذا يدعى عظيماً في ملكوت السموات.» (مت ١٩:٥)
وهذا في الحقيقة سر من أسرار التعامل مع الروح القدس، إذ يستحيل على إنسان أن ينال معرفة روحية من الله ويبقى بدون أن يعبر عنها تعبيرا فعالا ينقل فيه قوة الروح القدس التي نالها في هيئة معرفة ليقدمها للاخرين خدمة أو بذلاً أو حباً أو كرازة. لأن الروح القدس لا يُحصر إذ لابد أن يعبر عن طبيعة الله التي فيه. فالإنجيل نور وحياة والكلمة فيه مضيئة وفعالة.
هنا يتكشف لنا خطأ غير مقصود في تسمية سفر الأعمال «بأعمال الرسل»؛ وهو في الحقيقة وبحسب النص المقصود والواضح الذي أورده ق . لوقا يكون هو أعمال المسيح من السماء أو الجزء الثاني من الإنجيل ! أو أعمال الروح القدس. أما التلاميذ فكانوا عاملين بالروح وبدون الروح القدس ما كان ولن يكون لهم عمل يتمم إنجيلا!!! (راجع صفحة ٥٤ في المقدمة).

٢:١ «إلى اليوم الذي ارتفع فيه بعدما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم».

وهكذا يُدرج ق. لوقا في الكلام الأول الذي أنشأه أي الإنجيل المدة من أحد القيامة حتى يوم الصعود. وهكذا أدخل الأربعين يوماً بعد القيامة ضمن خدمة المسيح وهو حي على الأرض، وبالتالي يكون قد أكد أن المسيح كان حياً فيها وكان عاملاً معلماً تماماً على مستوى ما قبل الصليب. وهذه الشهادة المؤكدة لها وزنها العالي.

أما الذي يتميز به سفر الأعمال عن تسجيل ق . لوقا في إنجيله لهذا اليوم الأخير، أي يوم الصعود، فهو الوصية التي أوصى بها الرب تلاميذه وقد اعتبرهم هنا رسلاً . وأعطاهم وصية خاصة بالروح القدس، وبأن واحد أوصاهم، وكأن الوصية كانت بالروح القدس أيضا، إذ يصعب فصل المعنيين بعضهما عن بعض . ويقول العالم هـ. أ. و. ماير إن النسخة المخطوطة المسماة “بيزا”، جاء فيها بوضوح أن المسيح أوصى تلاميذه بالروح القدس الذي فيه : «أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا
من الروح القدس» (لو ١:٤)، «ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس»
(يو ٢٢٠٢٠)
وهذا اليوم جاء تسجيله كاملا في الإنجيل هكذا:
( أ ) «وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث.
(ب) وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من أورشليم وأنتم شهود لذلك.
(ج) وها أنا أرسل إليكم موعد أبي. فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تُلبسوا قوة من الأعالي.
وأخرجهم خارجا إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم.
وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأصعد إلى السماء.» (لو ٢٤: ٤٦-٥١ )
واضح هنا أن الآية (أ) تحمل مضمون الإنجيل أو صيغة الكرازة،
الاية (ب) العمل الذي أوكله للرسل لبدء الخدمة والشهادة من أورشليم ثم الأمم،
الآية (ج) الوعد بإرسال الروح القدس، والوصية بانتظار الروح القدس.
هذه الايات الثلاث اختتم بها المسيح عمله وتعليمه على الأرض وأصعد إلى السمإء
وبهذا دخلت الآية (ب)، (ج) في صميم سفر الأعمال. ثم عاد ق. لوقا واختصر هذه الآيات في آية واحدة وذلك كمطلع لسفر الأعمال هكذا:
+ «إلى اليوم الذي ارتفع فيه بعدما أوصى بالروح القدس الرسل الذين اختارهم.)» (أع ٢:١)
ثم عاد وكررها أيضا هكذا:
«وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الاب الذي سمعتموه مني.» (أع ٤:١)
ثم عاد مرة أخرى ليوضح هذا الأمر بتفصيل ويبين رد الرب على أسئلة التلاميذ (١: ٦-٨).
وبهذا التكرار المقصود يتضح أن المسيح سلم الكنيسة بنفسه وهو على الأرض بداية خدمتها بعد أن أخرجها إلى الوجود من بطن الأزلية، في عملية ميلاد رفيع المستوى بواسطة الروح القدس، لتأخذ بدء حياتها على الأرض وتخط أول يوم من أيامها الخالدة السماوية.
والقارىء اللبيب لن يغيب عنه اللغة السرية التي يتكلم بها المسيح والتي تكشف بالحق نوع هذا الميلاد العذري للكنيسة، فهي أم وهي عذراء بآن واحد، فانظر وتمعن:
+” فقالت مريم للملاك كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلا؟
فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله.» (لو ١: ٣٤و٣٥)
وهو نفس ما قاله المسيح لتلاميذه ورسله القديسين هكذا:
 «لكنكم ستنالون قوة، متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا .»
(أع ٨:١).
فحلول الروح القدس تتبعه حتما قوة تظلل ليولد المسيح من بطن عذراء فيكون الإنجيل.
وهو بعينه الروح القدس الذي تتبعه قوة لتولد الكنيسة من بطن عذراء عفيفة مخطوبة لرجل واحد فيكون الإنجيل.
إنه إبداع في التصوير والطباق لا يلحظه الزمن، ولكن ق . لوقا هو الذي نطق بهذه الأحجية في بدء الإنجيل وبدء الأعمال تماماً على طباق واحد ومساواة، وبسرية ملفوفة بالروح القدس!
فالمولود الأول، ابن الله، دُعي قدوس الله لأنه مولود من الروح القدس وبقوة من الأعالي.
والمولود الثاني، الكنيسة ، دعيت مقدسة لأنها من الروح القدس ولدت وبقوة من الأعالي.
المولود الأول، مسيح الله، ولد من بشر – العذراء مريم – بعد أن تقدس وتقوى بقوى السماء.
والمولود الثاني، كنيسة الله الحي، ولدت في بشر -رسل – بعد أن تقدسوا وتقووا بقوى السماء.
ولم تزل العلامات تسير في تطابق.
ففي الأول – الطفل يسوع – كان بالأيام ينمو ويتقوى بالروح : «وكان الصبي ينمو ويتقوى بالروح ممتلئا حكمة وكانت نعمة الله عليه.» (لو ٤٠:٢)
وفي الثاني – الكنيسة في المهد – كانت بالأيام تنمو وتتقوى بالروح:
+«فكان لها سلام وكانت تبنى وتسير في خوف الرب وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر.» (أع ٣١:٩)
+«مُسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب.)» (أع ٤٧:٢)
كان ق. لوقا يكتب هذا وهو يدري مدى القوة السرية التي تربط المسيح بكنيسته، وكأنه يرى رؤيا في مرآة الزمن الذي لم يكن قد أتى بعد . في الأول يرى الكنيسة في المسيح، وفي الأعمال رأى المسيح في الكنيسة.
ونتمنى أن لا يفوت على القارىء لمسات ق . لوقا الخفيفة التي يلفها السر وتنبثق منها معاني عميقة وكثيرة. ففي كل “ما أنشأه في الأول ليخبر به ثاوفيلس” كان لقب تابعيه الذين اختارهم اثني عشر، وكانوا يدعون بالتلاميذ، حيث التلميذ يتبع معلمه خطوة بخطوة. ولكن لما نوى المعلم أن ينطلق ليصير الرب الروح من السماء دعا تلاميذه وأرسلهم، فدعوا من هذه اللحظة رسلاً، وودعوا التلمذة بذكرياتها الخالدة، وحملوا نير الرسالة والعمل والتعليم فصاروا رسلا ومعلمين ليتلمذوا بدورهم الأمم : «فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم …)» (مت 28: 19)

فلما كانوا تلاميذا كانوا في حضن الرب المعلم، فلا ضير أن يكون فيهم واحد شيطانا، لأن الرب وحده هو الذي سيتلقى السهم المسموم عنهم وهو له على استعداد، بل واستطاع أن يحوله إلى سهم من النور والحياة. ولكن أن يكون في وسط الرسل شيطان فهذا محال، فقد أسقطه من السماء ومن وسطهم قبل أن يرسلهم: «ظافرا بهم فيه (الصليب)»» (كو ١٥:٢). فلم يعد له بين الرسل مكان.
والذي حل محل يهوذا، يذكره سفر الأعمال أنه متياس (١: ١٥-٢٦). كما يذكر أيضا بولس وبرنابا (١٤:١٤) والاثنان من اختيار الروح القدس (٢:١٣). ولكن عاد المسيح نفسه واختار بولس إناء مختارا وأرسله تحت قيادته (٢١:٢٢)! فبولس الرسول رسول (١كو ١:٩) على قدم المساواة مع بطرس الرسول قامة بقامة وإنجيلا بإنجيل:

+ «إذ رأوا (الرسل) أني اؤتمنت على إنجيل الغرلة، كما بطرس على إنجيل الختان. فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان، عمل في أيضا للأمم» (غل 2: 7و8).


٣:١ ««الذين أراهم أيضاً نفسه حياً ببراهين كثيرة بعدما تألم وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلم عن الامور المختصة بملكوت الله».

«الذين أراهم أيضا نفسه حياً ببراهين كثيرة»:
فعلا فإن ق . لوقا على حق، فلو جمعنا عدد الظهورات التي أعلن فيها المسيح نفسه حياً لتلاميذه، سواء من الأناجيل أو من رسالة كورنثوس الأولى (١٥: ٥-٩)
لوجدناها أكثر من العشر مرات تمت في اليهودية وفي الجليل . أما المرات التي يذكرها بولس الرسول: «وإنه ظهر لصفا (بطرس)، ثم للاثني عشر، وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باق إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا، وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل أجمعين، وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر الرسل …» (١ كو ١٥: ٥-٩). ولكن ق. بولس أسقط ظهور الرب لمريم المجدلية وللمريمات مرة أخرى، وظهوره لتلميذي عمواس وللتلاميذ مرة أخرى في الثامن (الأحد الثاني بعد القيامة )، وظهوره للتلاميذ مرة أخرى على بحيرة طبرية.

وواضح أن ظهوره حياً بعد الآلام، أي الصلب والتعذيب والموت، كان تثبيتاً للقيامة وقوتها ومجدها، وإظهارا لسلطانه على إقامة نفسه من الموت حسب قوله :
«لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضا)» (يو ١٨:١٠)، وبالتالي سلطانه على الإقامة من الأموات بالنسبة للذين يؤمنون به ويرقدون على رجاء القيامة، بل وتحقيقا لقوله : “أنا هو القيامة والحياة. من أمن بي ولو مات فسيحيا. ومن كان حيا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد» (يو ١١: ٢٥ و٢٦). بل وتوضيحا ما بعده توضيح لنوع الجسد الذي سنلبس مثله في القيامة: «الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده” (في ٢١:٣)، ممكن أن يرى وممكن أن لا يرى، يعبر خلال الأبواب المغلقة، ويحمل آثار تعذيبه وجروحه، يصعد به إلى السماء بلا صعوبة أو عناء كونه أخف من السحابة التي تحمله؛ ويطل علينا من السماء . ثم تثبيتا لإيماننا أننا نعبد إلها حيا في السماء، وتوثيقا لقوله : «أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر » (مت ٢٠:٢٨)، ثم تحقيقا لقوله: ««إني أنا حي فأنتم ستحيون» (يو ١٩:١٤)، وتصديقا لقوله: «بعد قليل لا يراني العالم أيضا وأما أنتم فترونني » (يو ١٨:١٤)، «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع» (يو ٣٢:١٢)، «بعد قليل لا تبصرونني ثم بعد قليل أيضا ترونني لأني ذاهب إلى الآب.»» (ي ١٦:١٦).

وفي الحقيقة إن ظهورات الرب على مدى الأربعين يوما كانت بحد ذاتها كرازة محققة ومؤكدة لكل ما قال ونادى به المسيح على مدى خدمته كلها. كذلك كانت كرازة من نوع جديد، فهي كرازة الرب الروح مخاطباً نفوس وأرواح التلاميذ القديسين – وكما سيأتي – انحصرت في الكرازة بملكوت الله. وهكذا لم يعد الكلام
عن ملكوت الله مجرد كلام يحتاج إلى توضيح أو إثبات، فهو كان في ملء ملكوته متحدثا من فوق نصرته على العالم والموت والشيطان . لأن الموت . بعد أن قام لن يسوده بعد لأنه طواه تحت قدميه هو ومن له سلطان الموت وذلك لحظة أن قام من بين الأموات.

«ببراهين كثيرة»:
هذه الكلمة تترجم بحسب اليوناني الصحيح «علامة ملزمة»، وهكذا تكون «بعلامات ملزمة » وهي أوقع من كلمة «براهين» فقط. فالأفضل أن تكون «ببراهين لا تقاوم». وهذا حقيقي، فسوف نرى أن من ضمن هذه البراهين وضع توما إصبعه في جنب الرب، وأكل المسيح القائم من بين الأموات وشربه مع
التلاميذ.

إذاً فقول ق . لوقا هنا «ببراهين كثيرة» يقصد ما صنعه مع القديس توما التلميذ والرسول بعد ذلك كاشفاً له جروحه برؤيا واضحة وبحالة استعلان، إذ رأى الجروح ومجد المجروح معاً وبآن واحد، ففزع توما وصرخ «ربي وإلهي». ثم لمَّا وجد التلاميذ خائفين وجزعين ظانين أنه روح، أكل معهم وشرب، فكانت قمة التأكيدات التي أخذت بلُبِّ بطرس الرسول وظل يذكرها ويؤكد عليها أنه قام حياً ورأيناه وأكلنا
معه: «هذا أقامه االله في اليوم الثالث وأَعْطَى أن يصير ظاهراً ليس لجميع الشعب
بل لشهود سبق االله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات.» (أع ٤٠ :١٠و٤١) 

ويذكر القديس يوحنا الرسول ظهوره المفاجىء على بحيرة طبرية بعد رحلة صيد فاشلة أمضي فيها التلاميذ الليل كله في طرح الشباك وجمعها بلا طائل حتى ولا سمكة واحدة، ولمَّا أتوا قرب الشاطىء رأوه وهم في منتهى خجلهم إذ ضبطهم وهم يصطادون سمكاً، بعد أن كان قد قال لهم «هلموا لأجعلكم صيادي الناس »، ولكنه تحنَّن كطبعه وقال لهم أن يرموا الشباك، فرموها فاصطادوا، وكانت هذه أيضاً أحد البراهين التي أراهم نفسه بها، لكي يعلموا أنه لا يزال ولن يزال يتابعهم من وراء حجاب العالم ويؤازرهم في ليالي أحزانهم التي تنتظرهم.

«بعدما تألم»:
ذكرها ق. لوقا في (أع ٣:١٧)، (أع ٢٣:٢٦) ولكن أول مَنْ ذكرها كان هو الرب معبراً بها عن صلبه والتعاذيب التي عاناها كما جاء في إنجيل ق . لوقا وهو يخاطب تلميذي عمواس : «أمَا كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده» (لو ٢٦:٢٤). وارتباط “الألم” “بالمجد” هنا ذو رنين قوي في قلب القديس بولس : «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه » (رو ١٧:٨). وهكذا ارتبطت الآلام بالمجد في التعاليم الرسولية، وأول مَنْ نادى بها هو بولس الرسول . وكلمة «ينبغي» هنا معناها الحرفي «يتحتم» must. فكأن الآلام في الإيمان المسيحي تحتِّم باستحقاق المجد إن كانت حقاً على مستوى آلام المسيح.

والآلام عند القديس بطرس ذات دلالة عالية القيمة، فهي على مستوى ما قاله المسيح وما نادى به ق . بولس: «باحثين أي وقت أو ما (حال) الوقت الذي كان يدل عليه روح المسيح الذي فيهم (الأنبياء) إذ سبق فشهد بالآلام التي للمسيح والأمجاد التي بعدها» (١بط ١١:١)، ثم عاد وطبَّق مثل بولس الرسول:
+ «كما اشتركتم في آلام المسيح افرحوا لكي تفرحوا في استعلان مجده أيضاً مبتهجين«  (١بط ١٣:٤) .

+ «إن عُـيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم لأن روح المجد واالله يحل عليكم » (١بط١٤:٤)
+ «فإن الذين يتألمون بحسب مشيئة االله فليستودعوا أنفسهم كما لخالق أمين في عمل الخير.» (١بط ١٩:٤)
+ «أنا الشيخ رفيقهم والشاهد لآلام المسيح وشريك المجد العتيد أن يُعلن.» (١بط١:٥)

«وهو يظهر لهم أربعين يوماً ويتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت االله

هذا نص غاية في الأهمية، فهو النص الوحيد في جميع الأسفار الذي يوضح أن الصعود تمَّ بعد القيامة بفاصل زمني محدد بأربعين يوماً. ولقد كانت هذه الفترة الزمنية وغير الزمنية بآن واحد فرصة عجيبة وفريدة لن تتكرر في حياة الإنسان . لأن ظهور الرب وهو في حالة قيامة ليعلِّمهم ما هي القيامة أمر مدهش حقاً، فهو تعليم على الواقع. أمَّا لماذا هذا التأكيد فلأن التلاميذ أصبحوا رسلاً وقد وضع الرب على عاتقهم أن يبشِّروا بقيامته . وليس فقط بظهوره قائماً من الموت يصير البرهان الذي لا يقاوم لدى الرسل المبشرين بالقيامة، بل وبما سلَّمهم من كل ما يمت للقيامة من تعاليم أودعوها في الأناجيل وسلَّموها شفاهاً، التي جاءت في تعليم الرسل.

وليست القيامة فقط هي التي تحققت بهذه الظهورات، بل والآلام والصلب والموت لأنه ظهر بجروحه المميتة. إذاً فبرهان الصلب قائم مع برهان الموت حتماً.
وبهذا التعليم القائم على الرؤيا واللمس والنظر، والرب واقف أمامهم ميتاً وحيَّا بآن واحد: «أنا هو الأول والآخر والحي وكنت ميتاً وها أنا حي إلى أبد الآبدين » (رؤ ١٧:١و١٨) يكون الدرس الأساسي في التعبير عن ملكوت االله . وهو الإيمان بموت الرب وقيامته المنظورَيْن والمشاهدَيْن بالعين والإيمان معاً، لأن الرب نفسه هو الذي يتكلَّم عن موته الذي مات وعن قيامته وهو قائم . هنا قمة البرهان والتأكيد الذي صار لحساب الإيمان. هذه هي الأمور المختصة بملكوت االله، بل هي الأخبار السارة، وهي الإنجيل بعينه!
هذا يعني أن التلاميذ استلموا عقيدة القيامة على الواقع المنظور بل والمشروح بكل دقائقه من فم الرب وهو قائم من الموت . بهذا صار الإنجيل والبشارة بالأخبار المفرحة بالنسبة للتلاميذ خبرة حيَّة . وليس مجرد تعليم أو مبادىء مكتسبة بالفكر . هذه الخبرة الحية بالقيامة كما استلموها من القائم من الأموات بنفسه، دخلتهم كقوة، فذاقوا القيامة قبل أن يبشروا بها، وأدركوا ماهية ملكوت االله بأفراحه قبل أن يسلِّموه للآخرين . وهذا كان قصد الرب من الظهور لهم أربعين يوماً يتكلَّم عن الأمور المختصة بملكوت االله لأنهم رسله وقد حمَّلهم المناداة بالملكوت الذي عاينوه وذاقوه . بهذا صار الإنجيل في أفواه التلاميذ قوة تحمل فعلها وتأثيرها في كل من يسمعه، لأنهم كانوا يبشرون بما رأوه وسمعوه بل وذاقوه بل وتقووا بقوته: «فدعوهما (بطرس ويوحنا) وأوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يُعلِّما باسم يسوع. فأجابهم بطرس ويوحنا وقالا: إن كان حقاً أمام االله أن نسمع لكم أكثر من االله فاحكموا . لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلَّم بما رأينا وسمعنا «. ( أع ٤: ١٨ -٢٠) .

«ملكوت الله»
حينما بدأ المسيح خدمته نادى قائلاً : «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات » (مت ١٧:٤). وملكوت االله هو ملكوت السموات، ولكن في التقليد الأرامي كان يحذر النطق بكلمة االله بlâhâ مع كلمة «ملكوت»، فكانوا يضعون بدلها ما يعبِّر عن سمو الكلمة فقط فجعلوها ملكوت السموات Shêmayya وهي المكان الذي فيه االله تجنباً من ذكر اسمه.
وواضح أن في كرازة المسيح بملكوت االله أن الملكوت قد اقترب فقط، لأنه كان ما يزال هناك مسافة طويلة حتى يبلغ الصليب والقيامة، ولكن الآن وهو قائم من الأموات فقد صار ملكوت االله منظوراً وملموساً وكائناً به وفيه وهو في حالة مجد القيامة. فهو كان يكلِّمهم عن نفسه، عن قوة موته الذي مات وقوة قيامته التي هو
فيها قائم. فهو كان في الحقيقة يسلِّمهم قيامته وكأنه يُدخلهم ملكوته ليبشِّروا بما رأوه وبما سمعوه.
لذلك نسمع في نهاية هذا السفر المبارك أن ق . لوقا يجمع الأمور الخاصة بملكوت االله، والأمور الخاصة بالرب يسوع وكأن الثانية تشرح الأُولى وذلك في آية واحدة: «كارزاً بملكوت االله ومعلِّماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة » (أع ٣١:٢٨). كذلك في مكان آخر : «ولكن لمَّا صدَّقوا فيلبس وهو يبشر بالأمور
المختصة بملكوت االله وباسم يسوع المسيح اعتمدوا رجالاً ونساءً .» (أع ١٢:٨).

والقارىء اللبيب لا يغيب عن ذهنه ما اختبره القديس بولس أيضاً، فقد رأى المسيح الرب الروح من السماء رؤيا العين فعاين القيامة عياناً بياناً، فاحتوته واحتواها فصار إناءً مختاراً حاملاً اسم الرب، أي أقنومه، يكرز به قائماً من الأموات صاعداً ومستقراً في مقر ملكه : «فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ (كإناء).» (غل ٢٠:٢)
بهذا نفهم أن تعاليم المسيح خلال الأربعين المقدَّسة قبل الصعود كانت تتركز بشدة في الربط بين المسيح والملكوت، أي أمور المسيح الخاصة بموته وقيامته، وأمور الملكوت الخاصة بالإيمان بموته وقيامته. لأن البشارة بموت المسيح وقيامته هي جوهر الإيمان بالمسيح، وعملياً هي الاتحاد بالمسيح في موته وقيامته، إنْ
بالمعمودية أو بالإفخارستيا، وهذا هو التأهيل لملكوت االله . هذا التعليم بالذات نحن أخذناه من الرسل، من الإنجيل، ومن الرسائل وهو هو بعينه الذي استلمه الرسل من المسيح رأساً.

ولا شك أننا نجد في هذا التعليم نوعاً من السمو في فهم المسيح وتعليمه، وهذا بعينه هو سبب ما قاله المسيح قبل الصلب مباشرة: «إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن » (يو ١٢:١٦). وهذه هي بعينها الأمور المختصة بملكوت االله !! وقبل الموت والقيامة كان من الصعب جداً أن يفهمها التلاميذ أو يحتملوها: «إن هذا الكلام صعب مَنْ يقدر أن يسمعه» (يو ٦٠:٦). ولكن الآن، والمسيح قد جاز الموت بجدارة وقام بمجد عظيم، قد صار الكلام عن الأمور المختصة بملكوت االله، التي هي بعينها المختصة به هو في موته وقيامته، أموراً واقعة تشرح نفسها. إذاً فالمسيح قبل الصليب احتجز كل المعرفة العالية والتي تسمو على الذهن والنفس التي لم تعاين القيامة لكي يقدمها لهم في الزمان المناسب .

وفي الحقيقة واضح أمامنا الآن أن في هذه الأربعين يوماً بعد القيامة لم يستخدم
الرب طريق تعاليمه التي درج عليها تلاميذه وكانوا معوقين في الفهم وأغاظوه
مرات كثيرة حتى قال لهم: «أحتى الآن لا تفهمون… كيف لا تفهمون…» (مت ١٦:
٩و١١). ولكن في مدة الأربعين عمل الرب عملاً جديداً وعظيماً في التلاميذ إذ «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث . وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أُورشليم. وأنتم شهود لذلك. وها أنا أرسل إليكم موعد أبي…» (لو ٤٥:٢٤-٤٩). هذا بعينه ما تم في الأربعين : فتح ذهنهم وأخذ يعلِّمهم معنى موته ومعنى قيامته، وكيف أن هذه ستكون هي موضوع بشارتهم للأمم.
ويلاحِظ القارىء أن عقيدة التوبة ومغفرة الخطايا والكرازة للأمم هذه كلها مسلَّمات الأربعين يوماً التي دخلت في صميم لاهوت الكنيسة وليتورجيتها كأساس الإيمان ودعائم ملكوت االله. وبطرس الرسول يشرحها كما استلمها من المسيح رأساً هكذا : «هذاأقامه االله في اليوم الثالث . وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق االله فانتخبهم. لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات . وأوصانا أن نكرز للشعب ونشهد بأن هذا هو المعيَّن من االله دياناً للأحياء والأموات … إن كلمَنْ يؤمن به ينال باسمه غفران الخطايا.» (أع ٤٠:١٠-٤٣).

وإن كان بقيامة الرب من بين الأموات أعلن مجيء الملكوت ليكون موضوع البشارة في العالم، فبمجيء الرب الثاني يُستَعْلَن الملكوت ليكون موضوع الحياة الأبدية ونهاية العالم.
فالآن تحققت لدينا الحياة الأخرى لنعيشها بالإيمان والرجاء، وبمجيء المسيح الثاني نعيش ما تحققناه ونحقق إيماننا ورجاءنا !!

٤:١ «وفيما هو مجتمعٌ معهم أَوصاهُم أن لا يَبْرَحُوا من أُورشليمَ بل يَنتظِرُوا مَوْعِدَ الآبِ الذي سَمِعْتُمُوه منِّي».

يبدو هنا واضحاً أنه كان ظهوراً خاصاً تعيَّن لإعطاء هذه الوصية.
«مجتمع معهم»: 
الكلمة اليونانية في معناها المعتاد تعني «مجتمع معهم».
ولكن كثيراً من الشرَّاح القدامى والمحدثين أخذوها بمعنى خاص على اعتبار أنها مشتقة من كلمة lj¤ = ملح فيكون معناها «فيما كان يأكل ملحاً معهم » ويؤيد ذلك أنها جاءت في الترجمة السريانية الهرقلية mith mallah أي «يأكل ملحاً معاً » وفي الترجمة السريانية البشيتا “ekhal amhun lahma” أي يأكل خبزاً معاً . وكثير من الآباء أخذوها بهذا المعنى ومنهم القديس يوحنا ذهبي الفم الذي يقول : [من أجل هذا بقي معهم أربعين يوماً على الأرض متخذاً من طول المدة إعطاءهم فرصة للتأكد من رؤيته في شكله العادي حتى لا يتوهموا أن الذي يرونه خيالٌ . بل ولم يكتف بهذا بل أضاف البرهان الآخر وهو الأكل معهم على مائدتهم وهذا يشير إليه الكاتب (ق. لوقا) بقوله: «وبينما هو على المائدة معهم أوصاهم » وهذا اتخذه الرسل على أنه برهان معصوم عن الخطأ لصحة القيامة حتى قالوا : «نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته[( أع٤١:١٠) 
وكانت هذه القراءة معروفة عند الآباء.

ونحن نرى أن هذه القراءة تمتُّ بصلة للتصريح التقليدي الذي قال به القديس بطرس: «نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات .» (أع ١٠: ٤١و٤٠) (لو٤٢:٢٤).

وهنا نستحضر إلى ذهننا المواقف الكبرى التي أبرم االله فيها المواعيد مع الإنسان: فإبراهيم أبرم االله معه ميثاقه على ذبائحه (تك ٩:١٥-١١)، ثم في وليمة مع الثلاثة الملائكة (تك ١:١٨-٨)، ثم مع إبراهيم في ذبيحة ابنه التي تحولت إلى الخروف الممسوك بقرنيه (تك ٩:٢٢-١٤)، ، ثم بركة إسحق ويعقوب على ذبيحة (تك ١:٢٧-٢٩)، ثم الخروج من مصر على ذبيحة فصح (خر ٢١:١٢-٢٩)، ثم الإنجيل على ذبيحة ابنه (يو ١٦:٣)، وهكذا وعدُ الروح القدس مع تلاميذه لاق به فعلاً أن يكون على وليمة أكل غير دموية!!
وأخيراً وأعظم من الكل نوال الروح القدس من داخل ذبيحة ابنه، ذبيحة الشكر، جسده المقدَّس الذي يُقدَّم على الدوام.

ثم لماذا الأكل دائماً كمصدر للنعمة والتقديس والشركة والحياة؟ نعم لأنه بالأكل سقط آدم وتلوثت جبلته، ومن خلال الأكل قَبِلَ اللعنة والموت فكان يتحتم أن بالأكل تدخل النعمة وتتقدس الجبلة ويدخل الروح ويحيا الإنسان .
ويبدو لنا أنه كان الاجتماع الأخير، لأن الرب أعطاهم فيه الوصية الأخيرة للملكوت في أُورشليم.
والسؤال: وماذا بالنسبة للروح القدس الذي نفخه في تلاميذه بعد القيامة وقال لهم :
«اقبلوا الروح القدس» (يو ٢٢:٢٠)؟
. يقول في ذلك العالم ماير إن هذا العطاء كان جزئياً ونحن نرى أن الروح لايُعْطَى بتجزُّؤ، والمعمدان قالها بوضوح إنه «ليس بكيل يعطي االله الروح » (يو ٢٠:٣). وإنما التلاميذ أخذوا بنفخة الرب القائم من الأموات روح القيامة كقوة تجديد شخصي، أمَّا يوم الخمسين فقد حلَّ عليهم الروح القدس أقنومياً، ليس لعمل شخصي بل لعمل جماعي، وحَّدهم معاً ككنيسة لتولد بهم وفيهم الكنيسة مجتمعين : «لأني خطبتكم
لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح » (٢كو ٢:١١). لاحظ أنهم كجماعة صاروا كعذراء واحدة عفيفة أخصبها المسيح بالروح لتلد الكنيسة جسده، كنيسة واحدة وحيدة لأن الجسد واحد وحيد.

«ينتظروا موعد الآب»:
هذه وصية قائمة بذاتها، أي يكونون في حالة صلاة وانتظار، أي ترقُّب حلول الروح القدس. بمعنى أن لا يباغتهم الروح بل يكونوا على استعداد لاستقباله، لأن هذا الوضع بالذات يجعلهم مهيئين أكثر لقبوله . وواضح أن الرب لم يحدد لهم ميعاد حلوله، لأن المعروف في طبيعة عمل االله والروح القدس أنه لا يمكن تحديد مواعيد تحرك النعمة والروح . فالروح يهب حيث يشاء وملكوت االله لا يأتي بمراقبة . فالمطلوب فقط أن لا يكونوا غير مستعدين، بل في حالة صلاة واستعداد.
والملاحَظ أن كلمة «موعد» لم يستخدمها إلاَّ ق. بولس لأن ق. يوحنا حينما ذكر مجيء الروح القدس أثناء حديثه بعد العشاء لم يذكر كلمة «الموعد». وينبغي أن لا يفوت على القارىء أن هذا «الموعد» أي حلول الروح القدس كشف عنه ق . لوقا أنه هو «العماد بالروح القدس» بالنسبة لتلاميذ الرب.

«الذي سمعتموه مني»:
الحديث هنا يتغيَّر من المخاطب الغائب للمخاطب الحاضر، وهذا أسلوب واقعي درامي ينقله ق . لوقا بحاله الذي سمعه، وهذا يعطي لرؤية ق . لوقا هنا الأصالة والدقة والأمانة في النقل والتبليغ.
ولكن السؤال هنا، متى سمعوا منه عن هذا الموعد؟ هنا تبرز أهمية إنجيل ق . يوحنا، فهو الوحيد الذي يذكر وعد الرب بحلول الروح القدس بعد انطلاقه وذلك في حديث ما بعد العشاء الأخير في خمسة مواضع (يو ١٤-١٦)، وهي التي تمت بالفعل في سفر الأعمال واستعلن حلوله وأعماله (أع١- ١٥) بهذا نرى أن حلول الروح القدس دُعي بموعد الآب، وبذلك تم الربط بين العهد القديم الذي جاء فيه الوعد واضحاً في سفر إشعياء النبي (١٥:٣٢؛ ٣:٤٤) وفي سفر يوئيل النبي (٢٨:٢-٣٢)، وبين العهد الجديد. ثم إن وعد المسيح بإرسال الروح القدس من عند الآب كان هو الرباط بين الإنجيل والأعمال . والجميل أن وعد الآب بالأنبياء تحقق في الإنجيل بحلول الروح القدس على العذراء وميلاد المسيح، ووعد المسيح بالإنجيل تحقق بحلول الروح القدس على التلاميذ بميلاد الكنيسة . وهكذا تثبتت «مواعيد االله الحقيقية غير الكاذبة »!! وهذه كلها تأخذ أصولها وبدايتها هناك، هناك في إبراهيم الذي بإيمانه نال المواعيد التي تحققت في نسله (بالمفرد) ونسله هو المسيح!! وهكذا عاش الإنسان تحت مظلة من مواعيد االله التي تركزت واستقرت بالنهاية في الكنيسة التي هي من صنع الروح القدس

٥:١ «لأن يوحنا عمَّدَ بالماءِ أمَّا أنتم فستَتَعمَّدون بالروحِ القدسِ ليس بعدَ هذه الأيامِ بكثيرٍ».
نفس الكلمات التي سجَّلها الإنجيليون الأربعة من فم المعمدان نفسه:
يوحنا المعمدان يتكلَّم بنفسه:
+ «أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه. هو سيعمدكم بالروح القدس ونار.» (مت ١١:٣)
ولكن هنا المسيح لا يذكر كلمة «النار»، كما أنها غابت عن تسجيل القديس مرقس .(٨:١).
والقديس بطرس يتذكر قول المسيح الذي قاله في الأربعين بعد قيامته ويعيده بالنص في قصة حلول الروح القدس على كرنيليوس وأهل بيته حتى قبل العماد، مما يفيد أن العماد تمَّ بالفعل بالروح القدس قبل العماد بالماء : «فلما ابتدأت أتكلَّم حل الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداءة . فتذكرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمَّد بماء وأمَّا أنتم فستَتَعمَّدُونَ بالروح القدس . فإن كان االله قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضاً بالسوية مؤمنين بالرب يسو ع المسيح فمن أنا . أقادر أن أمنع الله« (أع ١٥:١١- ١٧)

وعاد وكررها بولس الرسول أيضاً:
+ «فإذ وجد تلاميذ قال لهم هل قبلتم الروح القدس لمَّا آمنتم، قالوا له ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس . فقال لهم فبماذا اعتمدتم، فقالوا بمعمودية يوحنا، فقال بولس إن يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة قائلاً للشعب أن يؤمنوا بالذي يأتي بعده أي بالمسيح يسوع . فلمَّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع ولمَّا وضع بولس يديه عليهم حلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبأون .» (أع ١:١٩-٦).

أمَّا معمودية يوحنا فكانت للتوبة، والتوبة كانت إعداداً لقرب ملكوت االله : «من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات » (مت ١٧:٤)، ولإعادة قلوب الآباء على الأبناء وقلوب الأبناء على الآباء وهذه هي آخر كلمة تسجَّلت بفم ملاخي النبي لكل أسفار العهد القديم:
+ «ها أنذا أرسل إليكم إيليا النبي (يوحنا المعمدان بروح إيليا ) قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن.» (مل  ٥:٤و٦).

وفي ذلك يقول ذهبي الفم:
[حينما قال الرب : «الحق الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان . ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه » (مت ١١:١١)؛ ولكن الآن يقول الرب علانية: «أن يوحنا عمَّد بالماء أمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس »، فالآن لا يستخدم الرب استشهادات ولكن يرجع إلى شخصية يوحنا نفسه مُذكِّراً التلاميذ بما سبق وقاله موضحاً لهم أنهم هم الآن صاروا أعظم من يوحنا، إذ إنهم هم أيضاً سيتعمَّدون بالروح القدس .
وأيضاً لم يقل إني أنا أعمدكم بالروح القدس، بل أنتم ستتعمَّدون بالروح القدس ونار (لو ١٦:٣) … ولكن لماذا قال الرب : «إنكم ستتعمَّدون» علماً بأنه لا يوجد بالعلية ماء؟ نعم لأن الجزء الأهم في العماد هو الروح، الذي بواسطته حقاً يأخذ الماء فعاليته، وعلى نفس المستوى قيل أن الرب مُسح، علماً بأنه لم يُمسح قط بالزيت ولكن لأنه قَبِلَ فقط الروح . هكذا نحن نراهم في الحقيقة قد قبلوا معمودية الماء سابقاً ثم ها هم يقبلون معمودية الروح ولكن في وقتين متعاقبين . أمَّا نحن فنأخذهما كفعل أو كعمل واحد، ولكن هم أخذوا (المعمودية) على دفعتين لأنهم في البداية عُمِّدوا بواسطة يوحنا.]

لقد كانت معمودية يوحنا بالماء إعداداً لقبول الإنجيل، أمَّا معمودية الروح القدس فكانت إعداداً لقبول الملكوت. 

ب – صعود الرب العلني (١١-٦:١)

٦:١و ٧ «أمَّا هم المجْتَمِعُونَ فسألوه قائلينَ : يا ربُّ هل في هذا الوقتِ تَرُدُّ المُلْكَ إلى إسرائيلَ؟ فقال لهم: ليس لكم أن تعرفوا الأَزمنةَ والأوقاتَ التي جَعَلَهَا الآبُ في سلطانهِ .»


هذه الفقرة ( ٦و٧ ) تمثـِّل آخر لقاء وآخر حديث مع الرب يسوع، وبعدها صعد أمام عيونهم، كما تمثـِّل آخر تعلُّق للتلاميذ بوطنهم الأرضي الذي انتهى إلى الأبد بعد حلول الروح القدس ليحل محله التعلُّق بالوطن السمائي .
هنا من العدد (٦) يتحول الحديث إلى المستقبل بسبب قوله : «ليس بعد هذه الأيام بكثير». فالمسيح فتح أمامهم التطلُّع إلى المستقبل، ولكن المستقبل دائماً دائماً هو للروح وليس للجسد. وهكذا يدخل حتماً في الصعود وما بعد الصعود، غير أن هذه الآية لا تمتُّ مباشرة إلى الصعود . فتسجيل ق . لوقا للحديث هنا ليس محوره الصعود إنما ما تم قبل الصعود إعداداً للتلاميذ لحلول الروح القدس وبالتالي البدء بتنفيذ استعلان ملكوت االله والكرازة به.

ولكن بمجرد أن شعر التلاميذ أن اختفاء الرب صار وشيكاً جداً حينما قال لهم إنهم سيعمَّدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير، شعروا بمسئوليتهم الضخمة الملقاة عليهم فأرادوا أن يستفسروا عن م وقفهم بالنسبة لوطنهم إسرائيل، خاصة أن التلاميذ يدركون جيداً أن حلول الروح القدس بالوصف الذي وصفه
المسيح يمتُّ مباشرة لنبوة يوئيل الذي يصف فيها علامة الملكوت الماسيَّاني بحلول الروح القدس . فهنا صلة الملكوت الماسيَّاني بعودة الملك لإسرائيل واردة !!! كذلك بالنسبة للملكوت الجديد المعد وعلاقته بإسرائيل . إنه سؤال يفصح بشدة عن الإحساس بالمسئولية مع الحيرة لانعدام الرؤية بسبب غياب الروح القدس الذي لم يكن قد حلَّ عليهم بعد.
منظر مؤثر للغاية وحزين وتطلُّع إلى الوراء !! وكأنما إنسان مدعو لسفر سعيد لوطن آخر لا يعلم عن ه شيئاً وقف يودِّع وطنه ويسأل رفيق سفره وقائد رحلته الخطرة والمباركة بآن واحد، يا سيدي هل سنعود مرة أخرى لوطننا هذا؟ ومتى يكون؟ فيشفق السيد على عواطفهم ويرد : لقد حان موعد السفر، هيا، لا تنظروا إلى الوراء إنما نحن تحت قيادة أعلى!!

هو حنين إلى الوطن فترجَّوه بنظرة تطلعية نحو الملكوت الذي سمعوه أو سمعوا عنه، لعلَّ هذا الملكوت يكون هو ملكوت إسرائيل؟ أيجلس المسيح على كرسي موسى؟ أو على كرسي الحاكم عوض حكام روما؟ هل يعود مجد إسرائيل التي تسود على الأمم؟ فتخرج الشريعة الجديدة من أُورشليم؟ لقد اختلط عليهم الأمر،
والزمن، والغاية، والنهاية، والروح مع الجسد، ومفهوم ملكوت المسيَّا !! ومُلْك إسرائيل، ثم هل سنجلس معه عن يمينه وعن يساره؟ كان هذا السؤال هو آخر فتيلة مدخنة في رجاء عظمة إسرائيل وهو يخبو.
أمَّا رد الرب على سؤالهم فكان عملية اجتذاذ لكل الآمال الجسدية للعهد القديم وتطلعات الإنسان من داخل الزمن. وكأن المسيح يرد عليهم: يا بني الملكوت اطلبوا ما فوق وليس ما على الأرض، إسرائيل اتسعت تخومها نحو السماء ولم يعد لها على الأرض حدود ومدن ومُلْكٍ وإقامة. أُورشليم رحلت لتتجلَّى في السماء وتؤسس لنفسها الأساسات . زمن الخلاص استسل م للروح وسلَّم مفاتيح الأيام والشهور والسنين الله ليقيس وجود الإنسان بإيمانه، وطول حياته على الأرض بتوبته، ويتحدد انتهاء رسالته بمقدار الزيت الذي جمعه في مصباحه! 

وإجابة المسيح تنقسم إلى قسمين:
أولا «والأوقات الأزمنة» :ً 
الأزمنة:  تشير إلى الزمن الذي يلزم أن ينقضي حتى يكمل تأسيس ملكوت االله.
الأوقات: ويشير إلى الحوادث الزمنية التي ستصاحب هذا التكميل.
وقد تكلَّم عنها ق. بولس بنفس هذا الترتيب والمعنى: «وأمَّا الأزمنة والأوقات فلا حاجة لكم أيها الإخوة أن أكتب إليكم عنها لأنكم أنتم تعلمون بالتحقيق أن يوم الرب كلص في الليل هكذا يجيء (انتهاء الأزمنة وبلوغ يوم الرب الأخير ).» (١تس ٥: ١و٢)
إن الأزمنة والأوقات ليس لهم أن ينشغلوا بها فهي في سلطان الآب، ويلزم أن ينحصروا في عملهم الذي هو الشهادة للمسيح من أُورشليم لأقصى الأرض، علماً بأن عملهم يتوقف عليه انتشار الملكوت سواء في إسرائيل أو إلى أقصى الأرض، فهم بحد ذاتهم جزء من الإجابة.
ثانياً: سوف يعلن لهم الملاك أن انطلاق المسيح هو مقدِّمة لمجيئه الثاني الذي سوف يكون بنفس الشكل الذي يتم به أخذه إلى السماء في السحاب، حينما يبدأ ختام تمام است علان ملكوت االله وعمله، ويتم قصد االله وتأخذ الكنيسة منتهى استعلانها.
وإجابة المسيح يتضح فيها رغبة االله في عدم تسرُّع الإنسان في الأحكام وضبط انشغاله بالمستقبل الذي هو من عمل االله وحده . فتحديد الزمن أو كشف مستقبله ليس من عمل الإنسان قط . كما يُستشف من رد المسيح أنه أراد أن يهدىء من روع تلاميذه واضطرابهم بسبب صعوده واختفائه، إذ قد أعدَّ المعزي الآخر الذي سيبدأ عمله سريعاً فيكونوا تحت قيادته وحكمته . وهذا تحققه التلاميذ تماماً بعد حلول الروح القدس مباشرة:
+ «وإذ ارتفع بيمين االله وأخذ موعد الروح القدس من الآب سكب هذا الذي أنتم ترونه وتسمعونه.» (أع ٣٣:٢) 

وهنا يصف ق. لوقا الصعود بصورته المنظورة، وهو الوحيد الذي أتى على هذا الحدث الفريد. ولو أن ق. بطرس ذكره عبوراً: «الذي هو في يمين االله إذ قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مُخْضَعَة له.» (١بط ٢٢:٣)
وفي حقيقة الصعود نلمس وضعاً لاهوتياً جديراً بالانتباه، فغياب المسيح بالجسد حلَّ محله حضور المسيح بالروح الذي أسماه ق . بولس: «الرب الروح من السماء»
(١كو ٤٥:١٥و٤٧ ،٢كو ١٧:٣)، الذي تعامل معه ق . بولس عياناً بياناً سمعاً ورؤية، وهذا أيضاً هو القصد الأساسي من الصعود، حتى نتعامل مع الرب بالإيمان عوض أن كنا نتعامل معه بالعيان.


٨:١ «لكنَّكم ستَنَالونَ قوَّةً متى حلَّ الرُّوح القدس عليكم وتكونونَ لي شُهوداً في أُورشليم وفي كلِّ اليهوديةِ والسَّامرةِ وإلى أقصى الأرضِ .»

«لكنكم»: 

استطراد للتصحيح، الرد هنا على لهفة التلاميذ بخصوص معرفة المستقبل بالنسبة لإسرائيل ونصيبها من مجيء الملكوت الذي دُعُوا لخدمته . فهو هنا يرد أنَّ معرفة ما سيكون هو من شأن الآب وحده أمَّا شأنكم أنتم فهي الشهادة، دُعيتم إليها وإليها تُرسلون.

«ستنالون قوة»

هذه القوة هي طاقة فوق الطبيعة، فعَّالة في الطبيعة لتصحِّح وتغيِّر وتصنع المعجزات، حيث المعجزات نفسها هي «قوات» سواء في الطبيعة أو الأجساد أو حتى في الشهادة نفسها أو الوعظ، فإنها تكون مشبَّعة بقوة إلهية تكون ذات تأثير على النفوس والقلوب والأفكار لِتردَّها إلى طاعة االله ومحبته . هذه القوة هي من طبيعة الروح القدس، والروح يوجِّه قوته للغرض الذي يشاءه االله . فهنا بدأت قوة الروح القدس أول ما بدأت بالشهادة للمسيح لموته وقيامته وربوبيته، الأمر الذي اجتذب القلوب المقفلة والأذهان العنيدة إلى طاعة المسيح بصورة أخَّاذة: 

+ «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم. وقالوا لبطرس ولسائر الرسل . ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة . فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس … فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم (الأول) ثلاثة آلاف نفس.» (أع ٣٧:٢-٤١).

«شهوداً في أُورشليم، وفي كل اليهودية، والسامرة، وإلى أقصى الأرض .»
ليس الكلام هنا مُرْسَلاً جزافاً، إذ بحكمة الروح تحوي هذه الآية جدولاً زمنياً وجغرافياً مطبَّقاً على سفر الأعمال أو العكس، أي أن سفر الأعمال مطبَّق على هذا الفهرس، إذ نجد:

١ – السبعة الإصحاحات الأُولى تُغطِّي الشهادة في أُورشليم.
٢ – من ( ١:٨ -١٨:١١) تُغطِّي الشهادة في كل اليهودية والسامرة.
٣ – الباقي من سفر الأعمال. خارج حدود الأراضي المقدَّسة، تغطي كل الأرض حتى روما.

وبالفحص نجد أن نفس دعوة المسيح لتلاميذه التي ألقاها عليهم قبل صعوده مباشرة سبق وأن سجَّلها ق . لوقا في إنجيله بنفس الكلمات والمعنى، مما يفيد أن ق . لوقا ضمَّن إنجيله نفس المشهد الأخير الذي سجَّله في سفر الأعمال قبل صعوده أوالعكس:
+ «وأن يُكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أُورشليم وأنتم شهود لذلك. وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي.» (لو ٤٩-٤٧ :٢٤)
والسؤال: ولماذا أُورشليم أولاً؟ نعم لأن في هذه المدينة أُدين ابن االله وصُلب وهكذا خرجت منها العثرة، لهذا تحتم أن تكون هي أول ما ينادَي فيها بالقيامة ويُشهد لها، ليتم الصوت القائل بإشعياء النبي : «من صهيون تخرج الشريعة ومن أُورشليم كلمة الرب » (إش ٣:٢) شريعة غلبة الحياة على الموت، والحق على الباطل. وبالأكثر لأن أتقياء االله الذين سمعوا لكرازة المعمدان وانفتحوا على دعوة المسيح كانوا على ميعاد مع الذي تعلَّقت به قلوبهم . لذلك نسمع ما لم نسمعه قط أنه في عظة واحدة آمن ثلاثة آلاف نفس، تابوا واعتمدوا وخلصوا!! وحلَّ عليهم الروح القدس!! 

٩:١ «ولمَّا قالَ هذا ارتفعَ وهُمْ ينظرونَ. وأَخذتهُ سحابةٌ عن أَعينِهِم».

[+ «طأَطأَ السموات ونزل، وضبابٌ تحت
رجليه، ركب على كروب وطار، ورُئيَ
على أجنحة الرياح!» (٢صم ١٠:٢٢و١١)
+ «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب
السماء مثل ابن إنسان،
أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه،
فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً،
لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة،
سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول
وملكوته ما لا ينقرض .» (دا ٧: ١٣و١٤)
+ «الجاعل السحاب مركبته الماشي على
أجنحة الريح.» (مز ٣:١٠٤)]

القديس لوقا هو الوحيد الذي سجَّل للكنيسة تاريخ صعود الرب، وقد أخذت الكنيسة عن سفر الأعمال، أي عن ق . لوقا تحديد تاريخ عيد الصعود بيوم الأربعين بعد القيامة، ويعتقد ذهبي الفم أنه كان يوم السبت.
والقديس لوقا هو الوحيد الذي باعد بين القيامة والصعود بأربعين يوماً وهو أيضاً الوحيد الذي وصف هذا المشهد البديع والمثير والواقعي لارتفاع الرب «وأخذته سحابة عن أعينهم».
والسحابة بالنسبة الله والمسيح إعلان عن حضرة االله، وهي مجال المجد الذي يخفي اللاهوت والذي يعمي العينين فلا يُرى سوى ضباب أو سحاب . وذهبي الفم يسمِّى هذه السحابة بالمركبة الملوكية. وقد رآها دانيال بالرؤيا (دا ١٣:٧). والقديس بولس له خبرة في ذلك إذ لمَّا حدَّق في نور وجه المسيح المشرق من السماء والأكثر لمعاناً من الشمس وكان وقت الظهيرة، انعمت عيناه ولم يعد يبصر، تأكيداً أنه رأى الرب : «أَما رأيت يسوع المسيح ربنا؟» (١كو ١:٩). وبعد أن أدَّى الشهادة نزلت من عينيه قشور هي قشور الجحود السابق،
فأبصر. 

«ارتفع»:

هي قوة الجذب الإلهي التي تلغي جاذبية الأرض وكل ما هو أرضي : «وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع » (يو ٣٢:١٢). ليس من السهل ولا هو من طبيعة الإنسان أن يلمح الجسم السمائي وهو يرتفع، لأن المسيح آنئذ وإن كان يظهر بجسد ملموس ومنظور فهي قدرة إلهية لخفض مجاله الإلهي ليدخل ظله في العين البشرية أو العكس لرفع مجال الرؤيا البشرية حتى تتساوى في مستواها قدرة الإبصار لما هو إلهي . فهو إن شاء ظهر وإن شاء اختفى، وإن شاء أن يراه أحد يرفع من مستواه لرؤيته وإلاَّ يبقى غير منظور من كل أحد . لأنه بعد قيامته تسربل جسده بالمجد وكأنه التحف بالنور أو بالغمام، فالعين البشرية لا تقوى على ملاحقة رؤيا مجده أو نور لاهوته . فعين الإنسان لا يسقط عليها شعاع اللاهوت وإلاَّ تحترق:

+ «لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش . وقال الرب هوذا عندي مكان، فتقف على الصخرة ويكون متى اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأمَّا وجهي فلا يُرى.» (خر٢٠:٣٣-٢٣)
المسيح قصد قصداً وعمل في ذاته عملاً ورفع من طاقة عيون تلاميذه حتى يروه صاعداً، فرأوه حتى يشهدوا بصعوده مع أن صعوده لا يُرى . فالذي استطاع أن يخلي ذاته وينزل إلى مجال البشر ليأخذ منهم جسداً، استطاع أن يستعيد ما أخلاه ويرتفع إلى مجاله كما كان ويحتفظ بإخلا ئه لحظة حتى يراه الشهود الذين تعيَّنوا للشهادة وحينئذ أخذته سحابة عن أعينهم، وبتعبيره هو: «دخل إلى مجده».
ولكن قدَّم لنا ق. لوقا مشهداً للصعود في إنجيله : «أخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم. وفيما هو يباركهم انفرد عنهم وأُصعد إلى السماء . فسجدوا له ورجعوا إلى أُورشليم بفرح عظيم.» (لو٥٠:٢٤-٥٢)
ولكن الأمر الذي حيَّر الشراح والمفسرين هو أن كلاً من ق . متى وق. يوحنا لم يأتِ على ذكر الصعود في مكانه، والذي انفرد بذكره هما ق . مرقس وق. لوقا فقط حيث يقول ق . مرقس: «ثم إن الرب بعد ما كلَّمهم ارتفع إلى السماء وجلس عن يمين االله.» (مر ١٩:١٦).

ولكن معروف أن ق . مرقس إنما يكتب عن معاينة ق . بطرس، وق. يوحنا أتى على ذكر الصعود بوضوح للمجدلية غير أنه لم يضعه في مكانه : «قال لها يسوع لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد إلى أبي . ولكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم إني أصعد
إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.» (يو ١٧:٢٠و١٨).

ولكن أولاً وقبل كل شيء معروف أن القيامة من الأموات تمَّت بذات جسده الذي صُلب به وظهر لتلاميذه وعليه جروحه . فهنا يتحتم حدوث الصعود. ثم أن الصعود ويرافقه السحاب هو التعبير التقليدي عن ظهور مجده منذ دانيال النبي وعن رؤية ابن الإنسان أو ابن االله؛ بل ومنذ العهد القديم . فحينما كان يحل االله على خيمة الاجتماع كان ذلك على هيئة سحابة منيرة يُطلَق عليها “الشاكيناه” ومعناها السكنى أو حلول االله في مكان معين، سواء فوق خيمة الاجتماع أو فوق غطاء التابوت “الإيلاستريون”.
فإذا كان صعود الرب يرافقه مجده، هنا أصبحت رؤية الصعود وتحديد حركة ارتفاعه أمراً يتعلَّق بقدرة التلاميذ على الرؤيا والوصف الذي يستحيل أن يكون مطابقاً الواحد على الآخر . لأن سحابة النور التي هي بعينها هالة المجد المحيطة بالرب لا يمكن تحديدها بالنظر كما نحدد الأمور أو الأجساد الم ادية، إذ ليس للمجد محدودية. من هنا لا ننتظر أن نحصل على روايات متطابقة للصعود. ولنا في وصف الرب نفسه لكيفية مجيئه ما نستشف منه كيفية وحال صعوده :

+ «حينئذ ينظرون ابن الإنسان آتياً في سحاب بقوة كثيرة ومجد.» (مر ٢٦:١٣).


١٠:١و١١ «وفيما كانوا يَشْخَصُونَ إلى السماءِ وهو مُنطلِقٌ إذا رَجُلانِ قد وَقَفَا بِهِم بِلِبَاسٍ أبيضَ وقالا أيُّها الرجالُ الجليليُّونَ ما بالُكُم واقفينَ تنظرونَ إلى السماءِ. إنَّ يسُوعَ هذا الذي ارتفعَ عنكم إلى السماءِ سيأتي هكذا كما رأيتمُوهُ مُنطلقاً إلى السماءِ».

كان الربُّ في العهد القد يم يُدعى ربنُّا، ربَّ الجنود السمائية أي رب الصباؤوت أو رئيس جند الرب . ويخاطبه المزمور أيها الرب ربنا ما أعجب اسمك على الأرض كلها . هؤلاء الملائكة وهم خدامه رافقوه في ميلاده وعماده وصومه وتجربته وصلاته عند صلبوته وفي قيامته، وها هنا أيضاً في صعوده . والملاكان هنا هم شاهدان مكلَّفان بإعلان «صعوده»، وهما اللذان أعلنا عن قيامته للمجدلية وخاطباها لكي تعلن هذا لتلاميذه . والملابس البيضاء هي التحاف بالنور بقدر ما أُعطيا من نور، لا لكي تستر جسديهما كبني البشر بل لتعلن للعين البشرية عن قداستهما وطبيعتهما السمائية. فكل الخلائق السمائية منيرة إذا رؤيت بالعين الطاهرة المفتوحة.
أمَّا في مراجعتهما للتلاميذ كونهما يحدِّقان في السماء باهتمام بالغ وبلا طائل، فهو لكي يكفُّوا عن البحث عمَّن لا يُبحث عنه بالعين ولا يُستقصي عنه من أين جاء وإلى أين ذهب، فسماؤه غير سمائنا، لا العلو المكاني يحدّها ولا السماء تكفي لتعبِّر عن علّوه لأنه أعلى من السموات. إنهما (الملاكان) يراجعانهم فيما راجعا به سابقاً المريمات :
«لماذا تطلبن الحي بين الأموات، ليس هو ههنا لكنه قام » (لو ٦:٢٤)، إذهبا وخبِّرا، إنه ليس بين النجوم والأقمار بل هو جالس عن يمين الآب، اذهبا بشِّرا.
والزمن عند الملائكة لا يُقاس بزماننا، فالسنين عندهم ثوانٍ والثواني دهور . فتبرَّعا ليخبرا التلاميذ عن مجيئه الأزلي وكأنه باكر أو بعد باكر، ولكن حينما تنتهي البشارة إلى أقصى الأرض، سيأتي كما رأيتموه هكذا صاعداً، محمولاً على السحاب، مركبته الإلهية، وها ألفان من السنين مضت ونحن في انتظاره، عيوننا إلى فوق حيث هو جالس وسط تسبيحات أُورشليم: 

بنات صهيـــــــون خبرنني هل ∴ رأيتنَّ نجم إســـــــرائيل؟
هل بين الخيــــام كان ورحل؟ ∴ وأين إليه الســـــــــبيل؟
 إن يشرف ألـوف الأملاك تسجد ∴ والآلاف الأُخــرى تعبُد
إن يقل يردد صـــــداه الأبــد ∴ بتســبيح شـــكر يــدوم
 راعيَّ العـــزيز نفســي تتبـعك ∴ ما أعـذب صــــوتك لي
دربني أرشــدني أنت الكـل لي ∴ يــا نفســــي لـــه هلِّلي
حبيبي فتـى مثـــل أرز لبنــــان ∴ سـاقاه عمــــودا رخــام
بديع الجمال وحلو اللســـان ∴ ويدعى رئيس الســــلام
في ظل حبيبي اشتهيت ∴ وإليــــه حـنَّ الفـــــــــؤاد الجلوس
مريح التعابى معـــزي النفـوس ∴ ويرثي لضعـــف العبــــــاد
 متى يتحقق هــــــــذا الأمــل ∴ ويأتي أوان الزفــــــــــاف
وتنظر عينــاي مجـــد الحمـــل ∴ وأسمع صــــــوت الهتـــاف 

ترقُّب الروح القدس بالصلاة والصوم والرسل مجتمعون في العلية [١٢:١-١٤]


١٢:١ «حينئذٍ رَجَعُوا إلى أُورشليمَ مِنَ الجبلِ الذي يُدعَى جَبَلَ الزيتونِ الذي هو بالقُربِ من أُورشليمَ على سَفَرِ سبتٍ .»
في إنجيل ق . لوقا تجيء هذه المعلومة هكذا : «وأخرجهم خارجاً إلى بيت عنيا ورفع يديه وباركهم » (لو ٥٠:٢٤). وبيت عنيا متاخمة لجبل الزيتون من شرق، وتقدَّر بخمسة عشر ستاديوم ، أمَّا المسافة بين جبل الزيتون وأُورشليم فتقدَّر بسفر سبت أي المسافة المسموح بها للسفر في يوم السبت وهي ٦ ستاديوم وتقدَّر بحوالي كيلو متر واحد، وتسمَّى هذه المسافة باللغة العبرية Tehum ha Shabbath “ تخوم السبت” أي حدود السبت.
ويُكَمِّل في الإنجيل قائلاً : «فسجدوا له ورجعوا إلى أُورشليم بفرح عظيم .» (لو ٥٢:٢٤) أمَّا لماذا اعتنى ق. لوقا بتحديد هذه المسافة دون زيادة فذلك لأن اليوم الذي صعد فيه الرب هو اليوم الأربعين من قيامته (بحسب اعتقاد القديس يوحنا ذهبي الفم فإنه وقع يوم السبت)، إذاً فالمسافة إجبارية حسب تقليد الناموس.

أمَّا سر فرح التلاميذ أثناء عودتهم بعد أن استودعوا الرب إلى السماء فهو أمر غير طبيعي بالمرة، لأننا كنا نظن أنهم عادوا مثقلين حزانى مهمومين إذ أُخذ منهم مصدر عزائهم، بل رجا ئهم بل حياتهم. فماذا لهم بعد صعوده؟ ولكن كان االله عالماً بطبيعة الإنسان، فسبق وأوحى للملاك أن يؤكد لهم أنهم كما رأوه صاعداً هكذا، سيرونه حتماً آتياً بمجد عظيم . لذلك فسرُّ عودتهم فرحين هو تطلُّعهم نحو مجيء الرب. ولا يخفى عليك، عزيزي القارىء، أن الإيمان بمجيء الرب والتصاق الفكر والقلب بمجيئه هو بحد ذاته سرُّ قوة وفرح وعزاء لا يُحدُّ . وإن أردت برهاناً حيَّا فاسمع ق. بطرس وهو يتغنَّى ويتمنَّى بصلاة وطلبة : «منتظرين وطالبين سرعة مجيء يوم الرب» (٢بط ١٢:٣). فهما شهوتان يشتهيهما القديسون : إمَّا «سرعة مجيئه» أو «لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً » (في ٢٣:١). إنها شهوة لُقْيا وجه الرب !
إنها شهوة أرواح الأنبياء وشهوة عاشقي رؤيا المسيح

+ «إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النفس، بنفسي اشتهيتُك في الليل، أيضاً بروحي في داخلي إليك أبتكر.» (إش ٢٦: ٨و٩ )

الرسل يجتمعون في العلية للصلاة بانتظار حلول الروح القدس [١٣:١و١٤] 

١٣:١ «ولمَّا دخلوا صَعِدُوا إلى العليَّة التي كانوا يُقِيمُونَ فيها، بُطرسُ ويعقُوبُ ويوحنَّا وأَندَرَاوُسُ وفِيلُبُّسُ وتُوما وبَرْثُولمَاوُسُ ومَتَّى ويَعْقُوبُ بْنُ حَلْفَى وسِمعَانُ الغَيُورُ ويَهُوذا أخُو يعقُوبَ».
«ولمَّا دخلوا صعدوا إلى العلية :»
كانت هذه العلية بحسب التقليد هي التي أقام فيها الرب عشاءه الأخير فدشَّنها الرب بدمه في كأس الإفخارستيا، وهكذا حُسبت أول كنيسة في العالم . وكان يجتمع فيها التلاميذ للصلاة، وهي التي دخلها الرب بعد القيامة والأبواب مغلقة، وكانت
مغلقة بسبب خوف التلاميذ بعد أن مات الرب على الصليب ودفنوه، فارتاع التلاميذ وحسبوها النهاية : «وفيما هما (تلميذا عمواس ) يتكلَّمان ويتحاوران اقترب إليهما يسوع نفسه وكان يمشي معهما، ولكن أُمسك ت أعينهما عن معرفته . فقال لهما: ما هذا الكلام الذي تتطارحان به وأنتما ماشيان عابسين . فأجاب أحدهما الذي اسمه كليوباس وقال له: هل أنت متغرب وحدك في أُورشليم ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها في هذه الأيام؟ فقال لهما : وما هي؟ فقالا المختصة بيسوع الناصري الذي كان إنساناً نبياً مقتدراً في الفعل والقول أمام االله وجميع الشعب، كيف أسلمه رؤساء الكهنة وحكامنا لقضاء الموت وصلبوه، ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل. ولكن مع هذا كله، اليوم له ثلاثة أيام منذ حدث ذلك!!» (لو ١٥ :٢٤-٢١)

ويبدو واضحاً أن العلية كانت في غاية الاتساع إذ يقول ق . لوقا: أنهم «كانوا يقيمون فيها»!! ويضيف أن بقية المجتمعين معهم كانوا كثرة أيضاً ومنهم نسوة .
ولكن يُعْتَقَدُ أن الأغلبية كانت مقيمة داخل البيت أسفل وخاصة النساء، لأنه لمَّا حلّ الروح القدس يقول إنه كان كريح عصفت بالبيت كله وملأته حيث كانوا جالسين، الرسل في العلية والبقية أسفل في البيت.
أمَّا البيت فكان بيت مريم أم ق . يوحنا مرقس كاروز الديار المصرية. أي لنا في العليَّةِ نسبة ونصيب ! وفاضت علينا من بعيد ومن قريب . ولا نعلم ربما جاءت أمّه معه إلى مصر واستوطنت بلادنا، بل ويقولون أيضاً أن ق . بطرس جاء بزوجته ومكثا في منطقة بابلون – وهي مصر القديمة – ومن هناك كتب إلى كنائس بنتس وغلاطية وكبادوكية وأسِيَّا وبثينية المختارين يقول : «تسلِّم عليكم التي في بابل المختارة (زوجته) معكم ومرقس ابني …» (١بط ١٣:٥) وأرسل الرسالة بيد برنابا
خال مرقس أي أخي أمه . وهكذا كان هؤلاء في زيارة لمصر، مرقس وأمه وخاله وبطرس، وربما زوجته!!!
والمهم عندنا أن هؤلاء جميعاً، الرسل ومعهم أم الرب كانوا يصلِّون.

١٤:١ «هؤُلاءِ كلُّهُم كانوا يواظِبُونَ بِنَفْسٍ واحدةٍ على الصَّلاةِ والطلبةِ مع النِّساءِ ومريمَ أُمِّ يسُوعَ ومع إخوتهِ .»
«يواظبون»: 
تفيد في اليونانية أكثر من المواظبة، فهي بمعنى إصرار على المواظبة، وهنا في الحال تأخذ كلمة “المواظبة” صفة الحرارة واللجاجة والغيرة المتقدة. والكلمة شديدة التعبير فهي تفيد بحسب القاموس : يداوم بعناد = persist obstinately، يلتصق بشدة = adhere firmly، يكون أميناً نحو . ونحن لسنا بصدد حصة في تعليم اللغة اليونانية، ولكن في الحقيقة أخذتُ بهذه المعاني لوصف الصلاة !! ما أبدعها مواصفات وما أعظمها صلاة وما أحلاها عشرة إخوة وهبوا أنفسهم للصلاة ووهبوا
وقتهم وحياتهم ومسرَّتهم !! نعم يا رب فهي تستحق أن يرتاح عليها الروح القدس ليزيدها ناراً على نار ويشعلها بشارة للإنجيل تملأ القلوب والبلاد والقارات وإلى أقصى الأرض. فهي بهذه اللجاجة وبهذا الروح الناري لا تزال تضرم دائرة الكون
كله، لم تبرد ولن تخمد حتى يأتي الرب ويجني كل ثمارها .

«بنفس واحدة»: 
هذه الكلمة يلزم أن يكون معها كلمة “الجميع ” p£ntej كما جاءت أصلاً في اليونانية، لأنها تفيد الارتباط المتناسق المتَّحد بالفكر والقلب . وهو لا يأتي إلاَّ مع الكثرة. وهكذا إذا وضعنا أوصاف المواظبة مع أوصاف النفس الواحدة بمفهومها اليوناني الخصب، يكون المعنى بل يكون الرد هو حلول الروح القدس.
«على الصلاة والطلبة :»
هنا تأخذ الصلاة المعنى الطقسي، إذ يُفهم أنها صلاة السواعي مع طلباتها الثماني عشرة المسماه في الطقس العبري بالبراكوت، حيث ترتفع بسبب هذه الحرارة والاتحاد الروحي لتأخذ معاني أكثر من المألوف في الطقس ويكون لها استجابة
حتمية.
وسوف نقابل هذه المواظبة على الصلاة والطلبة والتعليم كثيراً في هذا السِفْر، وقد وردت حوالي عشر مرات في مواقف تستدعي الصلاة القوية . وعلى القارىء العزيز أن يدرك أن سفر الأعمال هو في الحقيقة سفر الصلاة التي استجابت لها
السماء بصورة فورية وملموسة.

«مع النساء ومريم أم يسوع»:
وقوله “النساء” دون تخصيص، فيكنَّ هن اللواتي تبعْنَه من الجليل : «وعلى أثر ذلك كان يسير في مدينة وقرية يكرز ويبشر بملكوت االله ومعه الاثنا عشر وبعض النساء كنَّ قد شُفين من أرواح شريرة وأمراض (حفظوا الجميل وتبعوه ). مريم التي تُدعى
المجدلية التي خرج منها سبعة شياطين، ويونَّا (حنينة) امرأة خوزي وكيل هيرودس وسوسنة وأُخَرُ كثيرات كُنَّ يخدِمْنَه من أموالهن !!» (لو ١:٨-٣). والأخريات اللاتي كُنَّ معه عند الصليب وعند القبر : «وكانت هناك نساء كثيرات ينظرن من
بعيد وهن كنَّ قد تَبِعْنَ يسوع من الجليل يخدمنه وبينهن مريم المجدلية ومريم أم يعقوب ويوسي وأم ابني زبدي.» (مت ٥٥:٢٧و٥٦) ويذكر إنجيل ق . مرقس نفس هاته النسوة ويضيف : «… وأُخَر كثيرات اللواتي صعدن معه إلى أُورشليم ». ( مر ٤١:١٥)
«ومريم أم يسوع»: 

وكان اسم «مريم» في العهد القديم يُنطق «ميريام» ونطقها يوسيفوس «ميريامين .» هذه هي آخر مرة تظهر فيها القديسة مريم في الكتاب المقدَّس . فهي وإن كان قد تمَّ فيها ما قيل بنبوة سمعان الشيخ عند الصليب إذ جاز في نفسها سيف،
وأي سيف! يُذبح ابنها أمام عينيها ويستودع الروح، ولكن هوذا الروح القدس انحدر ومعه إكليل مجد الأمومة التي وهب االله العالم من أحشائها ابناً والرئاسة على كتفيه، إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام ويُدعى اسمه عجيباً !! وقد ارتاح في أحشائها
المعزِّي عِوَض المخلِّص فأراحها . وهوذا الأجيال كلها تطوِّبها . ويا لسعادة آذاننا حينما نسمع الكنيسة كلها ومن فم واحد تطوِّبها.

«ومع إخوته»:
لقد ذكرهم بولس الرسول كما رآهم في أيامه وهم يخدمون الإنجيل وكل واحد معه زوجته هكذا:
+ «ألعلنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجة كباقي الرسل وإخوة الربوصفا.»
(١كو٥:٩ )
وأسماؤهم بحسب ما ذكرهم ق . متى في إنجيله (٥٥:١٣) وق. مرقس (٣:٦) يعقوب ويوسي (يوسف) وسمعان ويهوذا . ومعروف أنهم لم يكونوا من المؤمنين بالرب من البداية حتى موته (يو ٥:٧). ولكنهم آمنوا بالقيامة إذ اقتنعوا بها، ورفعت
عنهم عار جحودهم. ومعروف بحسب بولس الرسول أن يعقوب حصل بعد القيامة على مقابلة خاصة مع الرب (١كو ٧:١٥)، وقد ذكره ق . لوقا مراراً في سفر الأعمال:(١٧:١٢).، (١٣:١٥)، (١٨:٢١). أمَّا يهوذا فهو بحسب ظن الباحثين هو صاحب الرسالة التي وردت باسمه (يهوذا: ١). 

وفي القرن الرابع بلغنا تحقيقٌ أجراه القديس إبيفانيوس أن إخوة يسوع هؤلاء هم أولاد يوسف خطيب مريم من زوجة سابقة، وقد استلمها ممن سبقوه كتقليد تأصَّل في الكنيسة.

وأول مَنْ عارض هذا التقليد هو ترتليانوس المعروف أنه حُسب خارج الإيمان الصحيح، وقام القديس جيروم وهدم هذه الظنون المخالفة للتقليد وكتب دفاعاً عن  الرأي التقليدي للكنيسة، موضحاً رأياً آخر أن هؤلاء الإخوة هم أولاد خوؤلة وهم أولاد حلفاؤس من مريم زوجة كلوبا، أخت مريم العذراء . وعن هذه الزوجة التي لكلوبا نحن متأكدون أن لها ابنين يعقوب الصغير ويوسي (يوسف): (مر ٤٠:١٥). ولكن يظن أن يعقوب الصغير ليس هو أخا الرب، وسمِّي بالصغير بالنسبة ليعقوب أخي الرب.
ولكن الذي يهمنا من أمرهم أن دخولهم الإيمان الصحيح واعتلاء واحد منهم رئاسة كنيسة أُورشليم، وهو الذي دُعي بالبار بسبب نسكه الشديد وتقواه التي شُهد له بها وذلك بعد عدم إيمانهم بالرب طول مدة حياة الرب معهم، يوضح لنا بقوةٍ
سلطانَ قيامة الرب الغالبة التي سلبت لبَّهم، بل سلبت جحودهم ووهبتهم هذه الرفعة مرة واحدة لينضموا مع الرسل على قدم المساواة . هذا ملفت للنظر حقاً : والآخِرون أولون!!!

ويقال أنه بسبب قتل اليهود ليعقوب البار أخي الرب – إذ رموه من على جناح الهيكل فسقط على الأرض وترضَّض ومات – أن قامت بعد ذلك الحرب وخُرِّب الهيكل والمدينة ونُفي الشعب . ولكن ليس بسبب موت يعقوب البار بل بسبب موت روح التقوى ومخافة االله التي بلغت أَوَجَها بصلب المسيح : «هوذا بيتكم يُترك لكم خراباً.» (مت ٣٨:٢٣)

اختيار الرسول الثاني عشر [١٥:١-٢٦]

+ «ليأخذ وظيفته آخر.» (أع ٢٠:١)
+ [تعيين متياس تلميذاً بالقرعة ليحل محل
يهوذا الإسخريوطي وهي آخر قرعة في
الأسفار المقدَّسة التي أُلغيت بحلول
الروح القدس. لأن القرعة الهيكلية هي
نظام العهد القديم].

١٥:١-١٧ «وفي تلك الأيامِ قامَ بطرسُ في وسْطِ التلاميذِ. وكان عِدَّةُ أسماءٍ معاً نحوَ  مائةٍ وعشرينَ فقال : أيُّها الرجالُ الإخوةُ، كان ينبغي أن يتمَّ هذا المكتوبُ الذي سَبَقَ الرُّوحُ القدُسُ فَقَالَهُ بفَمِ داودَ عن يهوذا الذي صَارَ دليلاً للذين قَبَضُوا على يَسُوعَ . إذْ كان معدُوداً بينَنَا وصارَ لهُ نصيبٌ في هذهِ الخدمةِ .»

حينما عدَّ بطرس تلاميذ الرب الذين تبعوه واجتمعوا معاً في أُورشليم وجد عددهم مائة وعشرين تلميذاً . وأضاف على الرقم حرف وj أو وsei ويعني “نحو”.
هؤلاء غير الذين بقوا في الجليل وذلك حسبما قال ق . بولس في (١كو ٦:١٥):
«وبعد ذلك ظهر دفعة واحدة لأكثر من خمسمائة أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن و لكن بعضهم قد رقد »، وهذا الظهور يُحسب أنه تم في الجليل . وق. متى يلمِّح إلى ذلك بوضوح: «وأمَّا الأحد عشر تلميذاً فانطلقوا إلى الجليل إلى الجبل حيث أمرهم
يسوع. ولمَّا رأوه سجدوا له ولكن بعضهم شكُّوا.» (مت ١٦:٢٨و١٧).

هؤلاء المائة والعشرون يدعوهم هنا بكلمة “إخوة” وهي تسمية أوسع من كلمة “تلميذ”، وهو التعبير الذي شاع في الكنيسة الأُولى . ولكن قوله «أيها الرجال الإخوة» هو أكثر احتراماً وجدّية من قوله «أيها الإخوة» مباشرة. أمَّا لماذا تحدَّد هذا
الرقم (١٢٠) بالذات، لأنه كان ممكناً أن يُقال “عدَّة تلاميذ” وحسب، ولكن تحديده يرجع إلى تقليد يهودي وهو أن أصغر رقم لابد أن يتوفر لأي جماعة يهودية لتأخذ صفتها الجماعية ويكون لها الحق في تدبير ذاتها بذاتها هو ١٢٠ أخاً.

ودفاع بطرس الرسول هنا الذي يشير إلى النبوات وحتمية تتميمها بالنسبة ليهوذا الإسخريوطي، هو لكي يوضح أن خيانته وقطعه وموته لم يكن مجرد حَدَثٍ حَدَثَ في زمانه، ولكنه قصة لها جذورها العميقة في الشخص وفي التاريخ وفي مشورة
االله بآن واحد.
وواضح هنا أن ق. بطرس يأخذ دور القيادة، وهكذا كان دائماً مركزه طالما ذُكر اسمه في الإنجيل . وكان هو جديراً بهذه الزعامة . وهو هنا يتزع م حركة انتخاب تلميذ عوضاً عن يهوذا الإسخريوطي، معلِّلاً ضرورة ذلك باستكمال نبوة العهد القديم على فم داود النبي في سفر المزامير.

«إذ كان معدوداً بيننا وصار له نصيبٌ في هذه الخدمة»:

الكلام هنا كما يقول العالِم ماير مطابق لصيغة تقسيم أرض الميعاد على الأسباط بيد يشوع، فهو تدبير فوق مستوى التدبير العادي الجسدي، بل هو تسليم أنصبة يُسأل أصحابها عنها كوكلاء عن الذي اختارهم وعيَّنهم وسلَّمهم . هنا يقصد بطرس
الرسول أن يفصح عن خطورة العمل الذي عمله يهوذا . ونحن نرى أن هناك صلة مرعبة وخطيرة بين الوظيفة التي أخذها يهوذا و بين إمكانية تسليمه المسيح ليد رؤساء الكهنة، لأنه من خلال صلته الوثيقة بالمسيح كتلميذ مقرَّب للرب أخذ فرصة
أكبر وتخطيطاً أخطر من رؤساء الكهنة، فلو لم يكن تلميذاً ما استمعوا إليه وما استخدموه بكل اهتمام. هذا هو قصد ق. بطرس من قوله: «صار له نصيب في هذه الخدمة» التي أخذها واستخدمها ضد من اختاره ولحساب أعدائه!!
استخدام الشهادات من العهد القديم:
كان استخدام آيات ونبوات العهد القديم كشواهد أو شهادات للأحداث والوقائع التي حدثت في العهد الجديد ذات قيمة كبرى جداً منذ البدء . والذي ابتدأ هذا الاستخدام بالفعل هو الرب يسوع نفسه هكذا:
+ «فقال لهما (لتلميذي عمواس) أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلَّم به الأنبياء . أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده . ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسِّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب«.(لو٢٥:٢٤-٢٧) 
+ «هذا هو الكلام الذي كلَّمتكم به وأنا بعد معكم، أنه لا بدَّ أن يتمَّ جميع ما هو
مكتوب عني في ناموس موسى والأنبياء والمزامير . حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب، وقال لهم هكذا هو مكتوب وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث وأن يُكر ز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأً من أُورشليم.» (لو ٤٤:٢٤-٤٧).

وكان هذا هو الدافع الأول لانشغال الكنيسة منذ البدء بجميع النبوات الخاصة بكل حوادث ووقائع المسيح وجعلها في متناول الكارزين والمعلمين . ولكن تاريخ استخدام النبوات لكشف عهد المسيَّا وظروف عمله تبدأ قديماً من العهد القديم نفسه
وخاصة في المزامير وبالأخص المزامير المدعوة “مزامير الملك”، فكلها شُرحت في العهد القديم باعتبارها للمسيَّا . وكلمة «الرب» هي التي كانت تُفهم أنها للمسيَّا مثلما جاء في (مز ١:١١٠) الذي شرحه الرب على نفسه إنما بصور ة غير مباشرة:
«قال الرب لربي.» (مر ٣٦:١٢)
ولقد ابتدأ بطرس الرسول في هذا السفر – سفر الأعمال – يستخدم النبوات وخاصة المزامير لشرح وتثبيت حقيقة موت الرب وقيامته في (أع ٢٥:٢ إلخ، ٣٤ إلخ). واعتبر أن أعداء صاحب المزامير هم في الحقيقة أعداء المسيَّا، باعتبار أن صاحب المزامير كان يتكلَّم عن المسيَّا الآتي بصفته المتكلِّم بالروح في شخصه كما جاء في (أع ٢٥:٤و٢٦): «القائل بفم داود فتاك لماذا ارتجت الأمم وتفكَّر الشعوببالباطل، قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء معاً على الرب (مسيَّا) وعلى مسيحه (داود ») . ثم شرحها بطرس ويوحنا: «لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته هيرودس وبيلاطس البنطي …» (أع ٢٧:٤)

ويلاحِظ القارىء هنا أن الرسل هم أول مَنْ أطلقوا على المسيح لقب فتاك (عبدك) نقلاً حرفياً من المزمور أعلاه الذي جاءت النبوَّة فيه على داود بفم داود :
«داود فتاك (عبدك ») . فأخذوا هذا اللقب كما هو باعتباره منطوقاً بالروح القدس، ولكنهم استبدلوا كلمة “عبدك” بكلمة «فتاك». وقد اعتبر ق. بولس أن هذا من واقع عمل الإخلاء الذي صنعه ابن االله في نفسه: «أخلى نفسه آخذاً صورة عبد.» (في٧:٢)
وقد اعتبر الرسل أن من ضمن الأعداء يهوذا الإ سخريوطي، التلميذ الذي نقل تلمذته بإرادته من تحت المسيح لتكون للشيطان : «واحد منكم شيطان» (يو ٧٠:٦).
وقد استخدم ق. متى أسفار الأنبياء لتوضيح عداوة يهوذا من جميع ما جاء في سفر زكريا النبي مع ما جاء في سفر إرميا النبي . ولكن أوضح وأخطر تعريف لعداوة يهوذا للمسيح جاء في صلاة الرب في إنجيل ق. يوحنا الأصحاح السابع عشر: «ولم
يهلك منهم أحد إلاَّ ابن الهلاك ليتم الكتاب » (يو ١٢:١٧). كذلك النبوة التي جاءت في (مز ٤١ :٩و١٠ ): «أيضاً رجل سلامتي الذي وثقت به آكل خبزي (جسدي ) رفع عليَّ عقبه، أمَّا أنت يا رب فارحمني وأقمني فأجازيهم» « = لست أقول عن
جميعكم، أنا أعلم الذين اخترتهم . لكن ليتم الكتاب الذي يأكل معي الخبز رفع عليَّ عقبه.» (يو١٨:١٣ )

وبطرس الرسول كان واثقاً أن داود النبي إنما كان يتكلَّم بالروح عن المسيح حينما تكلَّم عن الموت والقيامة (« داود) سبق فرأى وتكلَّم عن قيامة المسيح أنه لم تُترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً . فيسوع هذا أقامه االله ونحن جميعاً
شهود لذلك.» (أع ٣١:٢-٣٢)
ولكن ق. بطرس نفسه لا يرى في شهادته ما للنبوات ذاتها من الأهمية بالنسبة لإيماننا، فهو يتكلَّم عن النبوات هكذا:
+ «ونحن سمعنا هذا الصوت (أنت ابني الحبيب الذي به سررت ) مُقبِلاً من السماء إذ كنَّا معه في الجبل (التجلي) المقدَّس. وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم، عالمين هذا أولاً أن كل نبوة الكتاب ليست من تفسير خاص، لأنه لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان بل تكلَّم أُناس االله القديسون مسوقين من الروح القدس.» (٢بط ١٨:١-٢١).

١٨:١و١٩ «فإن هذا اقْتَنَى حقلاً من أُجرةِ الظُّلمِ وإذْ سَقَطَ على وجهِه انشقَّ من الوسَطِ فانسكبت أحشاؤُهُ كُلُّهَا . وصار ذلك معلُوماً عند جميعِ سكَّانِ أُورشليمَ حتى دُعِيَ ذلك الحقلُ في لُغَتِهِم حَقَلْ دَمَا أي حَقْلَ دَمٍ».
«فإن هذا اقتنى حقلاً من أجرة الظلم»:
هذا التعبير يحمل تورية مؤلمة للغاية، لأن يهوذا لم يكن عنده الوقت ليشتري حقلاً بل لمَّا أحسّ بالكارثة وأنه أَسلَمَ معلِّمه وسفك دماً بريئاً تقول القصة في إنجيل ق. متى هكذا:
+ «حينئذ لمَّا رأى يهوذا الذي أسلمه أنه (المسيح) قد دين ندم (كندم عيسو بعد الأوان) وردَّ الثلاثين من الفضة إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلاً قد أخطأت إذ سَلَّمْتُ دماً بريئاً . فقالوا ماذا علينا أنت أبْصر، فطرح الفضة في الهيكل وانصرف ثم مضى وخنق نفسه. فأخذ رؤساء الكهنة الفضة وقالوا لا يحل أن نلقيها في الخزانة لأنها ثمن دم . فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء لهذا سُمي ذلك الحقل حقل الدم إلى هذا اليوم . حينئذ تمَّ ما قيل بإرميا النبي القائل وأخذوا الثلاثين من الفضة ثمن المثمَّن الذي ثمنوه من بني إسرائيل وأعطوها عن حقل الفخاري كما أمرني الرب .» (مت٣:٢٧-١٠) وهكذا ركَّب ق . بطرس شراء الحقل فوق رأس يهوذا واعتبره توريةً أنه هو الذي اشتراه!! وهي قصة مُفجعة حقاً لا يطيق سماعها الإنسان!!
ولكن في النسخة اليونانية الدقيقة للعالِم “وستكوت وهورت ” وضعوا هذه المعلومة بين قوسين باعتبارها ليست واردة عن ق. بطرس، بل وضعها ق. لوقا من عنده للتوضيح. أمَّا هذا الاختلاف الشديد بين النص كما جاء في إنجيل ق. متى وهذا النص في سفر الأعمال للقديس لوقا فيرجع إلى أن ق . لوقا يكتب بعد هذه الحادثة بما يقرب من ثلاثين سنة مع أن هذا التسجيل موضعه يوم الأربعين أي بعد الحادثة بستة أسابيع فقط . وهو يضعها هنا من عنده ليوضح لثاوفيلس أحداث ثلاثين سنة مضت. لذلك يلزم فهم المفارقة في ذلك بين ما تم بالفعل في وقته، حيث يزيد ق . لوقا – أن هذا صار معلوماً عند سكان أُورشليم – آنئذ! وليس بعد ثلاثين سنة . علماً بأن ما جاء على لسان بطرس الرسول هنا مخاطباً سامعيه كان يوم الأربعين، أي كان سامعوه يعرفون أيضاً هذه الحقيقة، لأنه لم يكن قد فات عليها أكثر من ستة أسابيع. 

كذلك على القارىء أن يدرك قصور رواية ق . لوقا هنا التي يوضح فيها أنه لم يكن معاصراً لها فمثلاً:
١ – يهوذا أَلقى الثلاثين من الفضة في الهيكل ومضى . فمَنْ الذي اشترى الحقل؟ (الحقيقة أنهم رؤساء الكهنة).
٢ – وكيف ولماذا «سقط على وجهه وانشق من الوسط »؟ ( الحقيقة أنه شنق نفسه).
٣ – لماذا دُعي في أُورشليم ذلك الحقل بحقل الدم؟ (لأنها أجرة تسليم دم للموت).
هذه الأسئلة أوضحت أن رواية ق. لوقا لم تكن لشاهد عيان زمني أي معاصر.
وقد جرت محاولات للتوفيق بين النصَّين للقديس متى والقديس لوقا . ولا داعي
للدخول في تفاصيل لُغَوِيَّة دقيقة ومتعبة، خاصة بأن القصة بجملتها مُقرفة.

٢٠:١ «لأنه مكتوبٌ في سِفْرِ المزاميرِ لتَصِرْ دَارُهُ خَرَاباً ولا يكُن فيها سَاكنٌ وليأخُذ وظيفتَهُ آخرُ».
«لتصر داره خراباً ولا يكن فيها ساكن»:
هي من المزمور (٢٥:٦٩) وأتت هكذا: «لتصر دارهم خراباً وفي خيامهم لا يكن ساكنٌ » وكمالتها أيضاً تدخل في الاعت بار: «ليمحوا من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا.» (مز ٢٨:٦٩)

«ليأخذ وظيفتَهُ آخر»:
وهي من المزمور (٨:١٠٩) وأتت هكذا : «لتكن أيامه قليلة ووظيفته ليأخذها آخر». وكمالتها أيضاً منطبقة «من أجل أنه لم يذكر أن يصنع رحمة بل طرد إنساناً مسكيناً فقيراً والمنسحق القلب ليميته . وأحب اللعنة فأتته ولم يُسَرَّ بالبركة فتباعدت عنه.» (مز ١٦:١٠٩و١٧)
هنا القديس بطرس مشغول بالمنصب الذي أُفرغ من شاغله أكثر من العقاب الذي حلَّ بيهوذا . فالكلام هنا لا يأتي من باب الشماتة أو الدينونة، ولكن من باب المسئولية التي شعر بها ق . بطرس كونه المسئول عن جماعة الرسل الاثني عشر :
«وأنت متى رجعت ثبِّت إخوتك» (لو ٣٢:٢٢). إذ اعتبر أن عدد الرسل الذي حدَّده الرب ليس جزافاً بل على مقابل عدد الأسباط : «وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتاً. لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (لو ٢٩:٢٢و٣٠). والملاحَظ أن إنجيل ق . لوقا هو الوحيد الذي ذكر هذه الآية . فالآن بسقوط يهوذا من دائرة الرسولية التي تخصُّه يكون وكأنه تعطَّل سِبْطٌ من أن يكون له ممثل في ملكوت المسيح . ثم بدخول النبوَّة المشيرة إلى سقوط يهوذا وفراغ ك رسيه (٨:١٠٩) برزت ضرورة القيام بعملية ملء وظيفته بحسب اتجاه المزمور : «ووظيفته ليأخذها آخر » التي جاءت بصيغة الأمر، فاعتبرها ق . بطرس أنها التزام، وعليه أن يختار مَنْ هو أهل ليملأ وظيفته على قياس مؤهلات التلاميذ.

وإن كانت النبوة الأُولى (٢٥:٦٩) جاءت في الأصل بالجمع، فمعروف أن يهوذا لم يكن في الحقيقة يمثل نفسه أو رسوليته لمّا أتى هذا الإثم الشنيع، إنما هم رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب . لذلك فالمفرد هنا تمثيلي إذ يمثل الجمع، أي رؤساء الكهنة،
وهذا ما تمَّ بالفعل إذ أُوقف الكهنوت بعد أن قُتل وذُبح وأُحرق كهنة المذبح مع رؤسائهم على يد تيطس، وأُفرغ الهيكل من رؤسائه وساكنيه، وتمَّت النبوة باللعنة :
«لِتَصِرْ دارهم خراباً (دار رؤساء الكهنة والكهنة أي رواقهم ) وفي خيامهم (أي مساكنهم الخاصة داخل الهيكل ) لا يكن ساكن ». وهذا صار معروفاً على مستوى التاريخ والواقع حتى هذا اليوم!!
كلمة «وظيفته» كأنها مجرَّد خدمة  إلى كلمة «أسقفية» أي نظارة عليا، فإن هذه الكلمة الجديدة هي أشد انطباقاً على رؤساء الكهنة أو رئيس الكهنة بالمفرد الذي حكم حكمه من واقع وبناءً على خيانة يهوذا. فاللعنة للخائن جاءت بمنطوق المفرد قولاً ولكنها أصابت الطغمة التي نفَّذت الخيانة . وبشيء من التأمل نجد أن جزاء يهوذا باللعنة والخراب والسقوط من الأسقفية، أي الرسولية، لا قيمة له على الإطلاق بالنسبة لمسار التاريخ والواقع الحي بل والمسيحية بأكملها، ولكن الجزاء الذي وقع على رؤساء الكهنة وخدمتهم أو أسقفيتهم بالخراب والدمار، وتوقُّف عملهم كسكان في بيت االله، هو الذي صنع التغيير الجوهري في الديانة اليهودية وأصابها إصابة مباشرة لتحل محلَّها الديانة المسيحية والكنيسة . 

٢١:١و٢٢ «فينبغي أن الرجالَ الذينَ اجتَمَعُوا مَعَنَا كُلَّ الزمانِ الذي فيهِ دَخَلَ إلينا الربُّ يسوعُ وخَرَجَ، مُنذُ معموديَّةِ يُوحَنَّا إلى اليومِ الذي ارتفعَ فيهِ عنَّا، يصيرُ واحدٌ مِنهُم شاهِداً معنا بقيامَتِهِ».
هنا نستخلص من حدود أوصاف الشخصية التي تؤتمَن على البشارة بالإنجيل
والشهادة بالقيامة مؤهلات الإنجيلي التي تؤهله لذلك :
أولاً: يلزم أن يكون قد عاصر الرب ولازمه وسمعه واستمع إليه وفهم قوله واستنار بتعليمه، حضر معموديته وشاهد بداية مناداته بالملكوت ولازمه في آلامه وصلبه وموته حتى قيامته التي يشهد لها شهادة رؤيا العين وإيمان الخبر بآن واحد.
ثانياً: أن يكون قد اجتم ع مع الرسل « – معنا» – وتعرَّف عليهم كاثني عشر مختارين من المختارين، ويكون من الذين تعبوا مع الذين تعبوا في التجديد، ليؤهَّل للجلوس مع الذين سيجلسون على مائدته في ملكوته، شهد معهم في كل ما شاهدوه وشهدوا له . ليكون واحداً من الاثني عشر، لا عدداً أو اسماً بل عن تأهيل لهذه الوظيفة.
ونعتقد أنه لكي يكون حائزاً على هذه المؤهلات، ينبغي أن يكون واحداً من السبعين الذين اختارهم المسيح ومنحهم قوة روحه القدوس، الذين خدموا وشهدوا وعملوا آيات ومعجزات وكُتِبَتْ أسماؤهم في ملكوت االله حسب إعلان الرب : «بل افرحوا بالحري أن أسماءَكم كُتبت في السموات.» (لو ٢٠:١٠).

فلو أردنا أن نعرف ما في قلب ق . بطرس من جهة أهم المؤهلات التي يتطلبها بالروح، فإننا ندرك ذلك من شهادته لنفسه ولإخوته : «مبارك االله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات» (١بط ٣:١). هذه الخبرة الروحية التي ملأت كيان ق . بطرس والتي جدَّدته وغيَّرته وولدته من جديد هي الحد الأدنى الذي يتطلبه من زميل رسوليته الجديد . وهذا هو معنى قوله «شاهداً معنا بقيامته »، أي ليست شهادة نُطْقٍ محفوظ أو مُلقَّن أو مفهوم أو مدروس، بل شهادة الإنسان الجديد بالروح عديم الغش والرياء، شهادة من واقع الحياة والرؤيا !!
حيث تأتي شهادته للرب يسوع على نفس المستوى من الرؤيا والتصديق والبرهان القلبي: «أيها الرجال الإسرائيليون اسمعوا هذه الأقوال، يسوع الناصري رجل قد تبرهن (لي و لكم ) من قِبَلِ االله بقوات وعجائب وآيات صنعها االله بيده في وسطكم
كما أنتم أيضاً تعلمون.» (أع ٢٢:٢)
إذاً، فهو يبحث عن ويطلب رسولاً له دراية رسوليته هو، ويشهد هكذا:
+ «ورئيس الحياة قتلتموه الذي أقامه االله من الأموات ونحن شهود لذلك .» (أع
(١٥:٣)
فالرسولية عند ق. بطرس لها هذه السمة الأساسية:
+ «بقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع ونعمة عظيمة
كانت على جميعهم.» (أع ٣٣:٤) 

٢٣:١ «فأَقَامُوا اثنينِ يُوسُفَ الذي يُدعَى بَارْسَابَا الملقَّبَ يُوستُسَ ومَتِّياسَ».

«بارسابا»:
فالاسم أعطاه ق . بطرس وكان اسمه سابقاً يوسف، أمَّا بارسابا فترجمتها ابن الشايب أو ابن السبت، أي المولود يوم السبت Barshabba. ويوستس من أصل Just وهو روماني، والمقابل العبري «البار» hatzaddiq. ويشهد المؤرخ يوسابيوس القيصري عن فيلبس الذي من صيدا، أن بابياس يقول عن رواية استقاها من بنات فيلبس العذارى النبيات (أع ٩:٢١ ) أن يوستس شرب سم ثعبان باسم الرب يسوع ولم يحصل له أي سوء، وذلك تحدِّياً لأشخاص جاحدي الإيمان معتمداً بذلك على قول المسيح: «وإن شربوا سماً مميتاً لا يضرهم.» (مر ١٨:١٦)

«متياس»:
هو اسم مختصر من الاسم Mattithiah ويعني عطية يهوه. وبحسب تاريخ يوسابيوس المعروف في التقليد الكنسي أنه بشَّر بلاد الحبشة – أثيوبيا – ومعروف أن المسيحية في أثيوبيا قويمة الأركان.
٢٤:١ «وصلَّوا قائِلِين أيُّها الربُّ العارفُ قلوبَ الجميعِ عيِّن أنت مِنْ هذَيْنِ الاثنينِ أيَّا اخترتَهُ».
«وصلُّوا قائلين »
الترجمة العربية صحيحة تماماً على الوضع اليوناني، فالمعنى هنا أنهم رفعوا الصلاة وفيها قالوا . وجاءت في الترجمة الإنجليزية بتوضيح أكثر، “صلوا وقالوا prayed and said”، والمعنى أنهم رفعوا طلبهم إلى المسيح كصلاة، وهذا يفيد أنهم كانوا في حالة خشوع وتوسُّل.

«العارف قلوب الجميع»:
ومنها صلاة الليتورجيا التي تأتي : «أيها العارف القلوب» ( أع ٨:١٥)

«عيِّن أنت من هذين الاثنين أيَّا اخترته»: 

يقول العالِم بروس:
[ينبغي أن نلاحظ أنهم لم يلقوا القرعة بلا تمييز أيَّا كان، فهم اختاروا أولاً رجلين حكموا بأنهما الأحق لملء هذه الوظيفة (ويقول في الهامش أن رجال الحكم في أثينا أيام نظام سولون كانوا يلقون القرعة بين مرشحين يكونون قد سبق اختيارهم على قواعد أكثر منطقية )، لأنه لم يكن قد تبقَّى شيء يمكن أن يميِّز الواحد منهما عن الآخر، وفي هذه الحالة يكون إلقاء القرعة عملاً حكيماً لاختيار أيٍّ منهما، خصوصاً أنهم التجأوا إلى االله ليتدخل . وكانت القرعة في العهد القديم ذات مكانة محترمة سابقاً في التاريخ المقدَّس . ولكن من المؤكد أنه بعد حلول الروح القدس يوم الخمسين لم يتم أي إجراء مثل هذا . وهذه الحقيقة قد تكون هامة وخطيرة أو لا تكون.] وهو يقصد بذلك أنها قد تكون هامة وخطيرة عند الذين يتمسكون بعمل الروح القدس باعتباره الذي “يُعلِّمكم كل شيء … ويُخبركم بأمور آتية ” (يو ٢٦:١٤، ١٣:١٦) وهو «روح الحق “الذي” يرشدكم إلى جميع الحق.» (يو ١٣:١٦)
وواضح من هذه الصلاة أنها ذات رنين ليتورجي له روح الصلاة وإحساس الحضرة الإلهية، ولا  تزال مقاطع من هذه الصلاة مستخدمة للآن في الكنيسة خاصة صلاة : «أيها الرب العارف قلوب الجميع ». أما تدخُّل الروح القدس بصورة واضحة قوية مباشرة في العهد الجديد لمعرفة مشورة االله فنسمعها في سفر الأعمال:
+ «وبينما هم يخدمون الرب ويصومون، قال الروح القدس أفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه، فصاموا حينئذٍ (ثانية) وصلوا ووضعوا عليهما الأيادي (للتكريس) ثم أطلقوهما.» (أع ٢:١٣و ٣)

٢٥:١ «ليأخُذَ قُرْعَةَ هذه الخدمةِ والرسالةِ التي تعدَّاها يهوذا ليذهبَ إلى مكانِهِ».

هذه قرعة للمجد، وتلك قرعة للهلاك . هذا يدخل على وظيفة تؤدي إلى مجد، وذاك تخلَّى عنها بمشورة الشيطان ليذهب للهلاك . هنا قول االله لكل نفس في كل زمان ومكان:
+ «قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة واللعنة، فاختر الحي اة لكي تحيا .» (تث١٩:٣٠ )
واضح منذ أن تشاجر الرسل فيما بينهم فيمن هو الأعظم فيهم، وكانت المشاجرة واضحة بين يهوذا وبطرس، مَنْ منهما يجلس عن يمين الرب، فهذا هو الطقس، لأن الأصغر هو يوحنا جلس على الشمال فكان الأقرب لقلب الرب، والجلوس عن اليمين يؤهل صاحبه أن يحتل مكانة المسيح من بعده . لقد تشاجر يهوذا من أجل النصيب الأكبر بل وطمح طموحاً أن يكون موضع المسيح بعد المسيح فكانت هي خطية الشيطان التي زرعها في قلب آدم: 

+ «فقالت الحية للمرأة لن تموتا (واالله قال موتاً تموت ) بل االله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كاالله، عارفين الخير والشر!!» (تك ٤:٣) وقد علمونا في الأدب الرهباني أن هناك شيطاناً يسمَّى شيطان النصيب الأكبر، يا ويل مَنْ ينخدع لإلحاحه ويجري وراء النصيب الأكبر، فإنه ينتهي به إلى فقدان الأكبر والأصغر !! هذا يهوذا الذي انتهى إلى أن فقد نصيبه ليذهب إلى مكانه، ومكانه معروف، ولكن بسبب تحشُّم ق. بطرس أمسك عن ذكره.

٢٦:١ «ثم ألقَوْا قُرْعَتَهُم فوقعَت القُرْعَةُ على مَتِّياسَ فحُسِبَ مع الأحَدَ عَشَرَ رَسُولاً».

يُلاحَظ هنا أن ليس موت يهوذا الإسخريوطي هو الذي أنشأ الحاجة لملء وظيفته الرسولية، لأنه لمَّا استشهد يعقوب أخو يوحنا بسيف هيرودس لم يجتمع التلاميذ لانتخاب خليفة لكرسيه أو رسوليته، فكرسيه دائم في السموات في ملكوت المسيح، وعليه هو جلس بأفضل مما كان على الأرض . ولكن هو سقوط يهوذا من دون كرسيه ومن دون رسوليته لسببٍ جدّ قبيح، وهو خيانة أمانة هذه الوظيفة وخيانة الذي اختاره ليكون رفيق مسرته، هو الذي أنشأ الحاجة لملء وظيفته الرسولية . لقد عرَّى وظيفته وظهر كرسيه فارغاً في السموات يطلب الملء، والسبط الذي سقط من دونه احتاج لمَنْ يمثله. 

وقفة قصيرة

لنتأمل الآن معاً كيف مُنيت الكنيسة في يهوذا بتصدُّع ركن من أركانه ا الاثني عشر، ثم كيف حزمت أمرها بغاية السرعة والانضباط واجتمعت اجتماعاً من أهم وأخطر اجتماعاتها لتنتخب الذي يصلح لهذه الوظيفة، كيف بحثت في صدق وأمانة
عن اللائق والمناسب، ثم كيف قدَّمته أمام االله في يقين وثقة لتدخُّل االله الأخير، واستمدت ثقتها ويقينها من طهارة تصرفها وصدق تدبيرها ونقاوة ضمائر الذين فحصوا وبحثوا وقرروا وانتخبوا . لا رشوة ولا غرض ولا اعوجاج في الفكر أو العمل، ولا اختلاف وخلاف، ولا تضارب في الرأي أو بالكلام أو اليد . في هدوء القديسين مهَّدوا لحلول الروح واختيار النعمة، فكان كما أرادوا وأكثر مما أ رادوا. هذا هو حال الكنيسة منذ ألفي سنة قبل أن تولد المدنيات الحديثة وقبل أن يفتخر الإنسان بديمقراطياته وأحكامه وقبل أن تنفتح عيناه على نور علمه الكاذب ومُثُله ومبادئه وحرياته.

وهكذا صارت معادلته التي لم تُخلَّ : بقدر الروح يكون الصدق، وبقدر التقوى تكون العدالة، وبقدر النعمة يكون الهدوء ويكون الانضباط ويكون النجاح . وهذا وقبل كل شيء وبعد كل شيء لم يكن قد حلَّ عليهم الروح القدس بعد ولا استضاءت قلوبهم بالحق الإلهي على أعلى مداه.

عودة على ذي بدء:
يحتج بعض العلماء، وربما ضمير القارىء، أنه لو لم يتسرع ق . بطرس ليختار متياس لكان بولس هو أحق من يمثل الرسول الثاني عشر . ولكن قول العلماء هنا على غير صواب وصوت الضمير هو الذي يحتسب أنه متسرع بالحكم، والحكم باطل من أساسه . لأن بولس لا يحمل المؤهلات التي تجعله بين الاثني عشر، فلا هو عاصر الرب في خدمته، ولا هو عاصر موته ولا قيامته، فبأي إنجيل يبشِّر وعلى أي مؤهلات شخصية يُسمع له؟ 

ولكن بولس تعيَّن رسولاً بما لم يتعيَّن به أي رسول، تعيَّن من فوق من فم الرب الروح من السماء، لا عن مؤهلات بل عن غير مؤهلات بالمرة، بل عن إيذاء لأولاده وبناته وتمزيق للكنيسة بإفراط وتفريط، من قتل وتشريد وسجن وتعذيبرلقديسيه ومُتّقيه. هذه هي المؤهلات، فأي رسول يكون؟ وبين أي رسل يُحسب بولس رسول على مستوى الرسل مجتمعين، فهو لا يُحسب واحداً من الاثني عشر؟ لأنه أثبت – كما يقول هو – أنه أفضل من جميعهم، في تعذيب وضرب وجلد وسجن ورجم وميتات كثيرة . فرسوليته مستمدَّة من رسولية المسيح، إن جاز هذا التعبير، لأنه كما قال هو : «أُكمِّل نقائص شدائد المسيح في جسمي » (كو ٢٤:١). والرسل الاثنا عشر كرزوا لأُورشليم وما حولها وحملوا همّ الختان، أما هو فحمل وسخ العالم الأُممي بكل أممه وشعوبه وعزلته، حمله على كتفيه وعبر به البحار والأ هوال حتى أرساه على نعمة المسيح على قدم المساواة وأكثر مع أهل الختان وأصحاب الموعد!!

فبولس هو رسول العالم كله بلا منازع، وكرسيه آخر الكل وأعلى من الكل بكل يقين، محسوب أصغر الرسل وبين القديسين سقط، ولكنه معروف في السموات أنه صاحب إكليل البر الذي وضعه عليه الرب بيده، وسمات الرب وجروحه أوسمة تتلألأ على جسده، تمشي وراءه ألوف وملايين تعترف بفضله وتهتف باسمه.

زر الذهاب إلى الأعلى