تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 15 للأنبا غريغوريوس

الفصل الخامس عشر

لو15: 1-10 مثل الخروف الضال والدرهم المفقود :

وكان الفريسيون والكتبة وسائر فقهاء اليهود ومعلميهم الدينيين كارهين لمخلصنا، بسبب غيرتهم منه وحسدهم له وحقدهم عليه لأنه اجتذب إليه الشعب اليهودي فالتفوا حوله وأحبوه واحترموه وأكرموه، في حين أن أولئك الحاسدين الحاقدين من رجال الدين كانوا يريدون أن يحتكروا حب الشعب لهم وإحترامه وإكرامه إياهم، فكانوا لا يفتأون يترصدون له متربصين به الدوائر ليجدوا تهمة يلصقونها به ليهلكوه وفقاً لشريعتهم. وقد طالما نددوا بمخلصنا لأنه كان يصنع معجزات الشفاء في يوم السبت، ولأنه لم يكن يبالي بتقاليد الاغتسال الشكلي الظاهري التي ابتدعوها وفرضوها على الناس في صرامة وتزمت ولكنه نقض هاتين التهمتين بما أفحمهم والجمهم. إلا أنهم مع ذلك يترقبون فرصة أخرى يقوم فيها بعمل آخر يتضمن في إعتقادهم تهمة يوجهونها إليه. وقد واتتهم هذه الفرصة، إذ حدث أن جميع العشارين والخطاة كانوا يدنون منه ليسمعوا تعاليمه السمحة السامية التي كانوا يجدون فيها مرفأ يحتمون به من حيرة نفوسهم وزوابع القدم التي كانت تضطرم في أعماق ضمائرهم . وقد كان اليهود يقرنون دائما العشارين جباة الضرائب حين يتحدثون عنهم بالخطاة ، كما كانوا يقرنونهم بالزناة (مت 21: 32)، لأنهم كانوا يعاونون الرومان أعداءهم، ومستعبديهم في جباية الضرائب. وكان أغلبهم أشراراً مفترين متجبرين قساة القلوب في مزاولة مهنتهم تلك. ومن ثم وجد الفريسيون والكتبة في ذلك مأخذاً يأخذونه على مخلصنا، لأنه لم يكن يطرد أولئك العشارين والخطاة من حضرته كما كان يفعل سائر اليهود، ولاسيما المتزمتون منهم، وإنما كان على العكس يستقبلهم ويرحب بهم، ويجالسهم ويأكل معهم، ليفتح لهم بتعاليمه باب التوبة، وينقذهم من ضلالهم، ومما كانوا غارقين فيه من شرورهم وآثامهم وسوء أعمالهم، فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين إن هذا يقبل الخطاة ويأكل معهما، ولم يكونوا يهدفون بقولهم هذا إلى إتهام مخلصنا بأنه يقبل الخطاة ويأكل معهم فحسب، وإنما كانوا يهدفون إلى اتخاذ ذلك دليلاً على أنه مادام يفعل هذا مع الخطاة فهو خاطئ مثلهم. بيد أن مخلصنا بمنطقه القوى وحجته الدامغة لم يلبث أن هدم كل إتهام يوجهونه إليه في هذا الشأن، إذ خاطبهم بهذا المثل قائلا لهم «أي رجل منكم يملك مائة خروف، إذا ضاع واحد منها لا يترك التسعة والتسعين في البرية ويذهب وراء ذلك الضال، باحثاً عنه حتى يجده . فإذا وجده يحمله على كتفيه فرحاً ويجيء إلى البيت فيدعو أصدقاءه وجيرانه قائلا لهم: أفرحوا معى فإنى وجدت خروفي الصال؟. إنني أقول لكم إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر مما يكون بتسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة، . وهكذا استشهد مخلصنا بما يفعلونه هم أنفسهم في حياتهم العملية، وقد كان أغلب اليهود رعاة غنم. فلئن كان لأحدهم مائة خروف وحاد واحد منها عن سائر القطيع حتى صل في شعاب البرية، لا يلبث الرجل أن يترك التسعة والتسعين الباقية، ويذهب ليبحث في لهفة عن ذلك الضال، حتى إذا وجده بعد الجهد يحمله على كتفيه إعزازاً له وفرحا بالعثور عليه، ثم إذ يبلغ بيته يدعو أصدقاءه ليشاركوه فرحه . فهكذا يفعل الله بالنسبة للبشر الذين هم جميعاً خليقته ورعيته ومملوكين له إذ يقول بلسان حزقيال النبي «كل النفوس هي لي، (حز 18: 4). ولم يصل ويضيع منهم واحد فقط، وإنما صلوا وضــاعـوا جـمـيـعـاً، إذ يـقـول إشعياء النبي كلـنـا كـغـنـم ضـللنا. مـلنـا كـل واحـد في طريقه، (إش 6:53). وإذ كان الله الآب ـ على مقتضى صـلاحـه المطلق – يحب مع ذلك أولئك الضالين الضائعين جميعاً ويطلب هدايتهم وخلاصهم، أرسل ابنه الوحيد الذي هو واحد معه اليسعى في طلب الذي قد ضاع ويخلصه، (لو 19: 10)، وليفعل ما يفعله كل راع صالح، إذ أنه كما تنبأ عنه إشعياء النبي بذراعه يجمع الحملان وفي حضنه يحملها، (إش 40: 11). ومن ثم كان هذا من أهم أهـداف الرسالة التي أتي مخلصنا من أجلها إلى العالم. فهو لم يأت إلى الأبرار لأنهم لا يحتاجون إلى التوبة، وإنما أتى إلى الخطاة ليفتح لهم أبواب التوبة. وقد صرح هو نفسه بذلك إذ قال ولا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. فما جئت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة، (لوقا 5: 31 و 32). حتى إذا تاب واحد من أولئك الخطاة تفرح به قوات السماء كلها، لأن رب السماء نفسه يفرح به وبتوبته. فكيف يلوم اللائمون مخلصنا على أمر يطلب رب السماء تحقيقه، ويفرح به إذا تحقق ؟

ثم ضرب مخلصنا لمناوئيه مثلا آخر يدعم به ذلك المثل الأول، ويزيد معناه وصوحاً وعمقاً في عقولهم المظلمة وقلوبهم الظالمة، قائلا لهم «أم أية امرأة تملك عشرة دراهم، إذا ضاع واحـد منها، لا توقد سراجاً وتكنس البيت باحثة عنه بإهتمام حتى تجده ، فإذا وجدته تدعو صاحباتها وجاراتها قائلة: أفرحن معى فإني وجدت درهمي الضائع ؟ . إننى أقول لكم إنه هكذا يكون فرح أمام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب». وقد استشهد مخلصنا في هذا المثل أيضاً بما يفعله مناوتوه أنفسهم إذا ضاع من إحدى نسائهم درهم واحد من دراهمها العشرة، وهو لا يساوى أكثر من ثلاثة مايمات، ولكنها مع ذلك توقد سراجاً وتكلس بيتها كله باحثة في إهتمام ولهفة عنه، حتى إذا وجدته كان فرحها به عظيماً. وفي هذا المثل يتضح مدى ما يبذله مخلصنا من جهد وجهاد في البحث عن الضالين الضائعين من البشر لينقذهم من ضلالهم وضياعهم، ويفتح لهم أبواب التوبة لينالوا الخلاص، موقداً في سبيل ذلك سراج تعاليمه، ومفتشا عنهم في كل ركن من أركان الأرض. حتى إذا وجـدهـم يفرح بهم، وهو رب السماء، ومن ثم يفرح بهم معه كل ملائكة السماء ، فكيف يلومه اللائمـون أيضاً على هذا وهو أمر يطلب الله الآب تحقيقه ويفرح به إذا تحقق، كما يطلب الله الإبن تحقيقه، ويفرح به معه ملائكة الله إذا تحقق؟

لو15: 11-32 مثل الابن الضال :

ولكي يوضح مخلصنا للذين يعانونه من الفريسيين والكتبة معنى المثلين السابقين إيضاحاً أكثر بساطة وأكثر عمقاً، ولكي يصحح لهم المعنى الخاطئ الذي فهموه أو زعموا أنهم فهموه من قبوله مخالطة الخطاة والأكل معهم، وأرادوا أن يستنتجوا منه ـ في حقدهم عليه وكيدهم له. إتهامه بأنه مادام يخالط الخطأة ويؤاكلهم فهو خاطئ مثلهم، ضرب لهم مثلاً ثالثاً، فقال لهم كان لرجل إينان، فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني نصيبي الذي يخصلي من المال، فقسم بينهما تركته. وبعد أيام غير كثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء له ورحل إلى بلد بعيد. وهناك بدد كل أمواله عائشة في فجور. حتى إذا أنفق كل ما عنده وقعت في ذلك البلد مجاعة فظيعة فبدأ يحتاج، ومن ثم ذهب والتحق بواحد من أهل ذلك البلد، فأرسله إلى حقله ليرعى الخنازير. وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير فلم يكن يعطيه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أجراء يتوافر لهم من الخبز ما يكفيهم ويفيض عنهم وأنا أموت جوعاً هنا ؟. إنني سأقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي قد أخطأت إلى السماء وأمامك، ولم أعد مستحقا أن أدعى لك إبناً، فاجعلني كأحد أجرائك. ثم قام وجاء إلى أبيه . وإذ كان لا يزال على مسافة شاسعة رأه أبوه فتحنن عليه وركض وألقى بنفسه على عنقه وقبله ، فقال له ابنه : يا أبي قد أخطأت إلى السماء وأمامك، ولم أعـد مـسـتـحـقا أن أدعى لك إينا، وأما الأب فقـال لعبيده : أسرعوا وأخرجوا الحلة الأولى، وألبسوه إياها، وضعوا خاتماً في يده وحذاء في قدميه، وهاتوا العجل المسمن واذبحوه، فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتاً فعاد إلى الحياة، وكان ضالا فوجدناه . فأخذوا يفرحون، وكان ابنه الأكبر في الحقل. فلما جاء واقترب من البيت سمع أصوات غناء ورقص، فاستدعى أحد الغلمان وسأله: ما هذا؟ فقال له: إن أخاك قد جاء فذبح أبوك العجل المسمن، لأنه عاد إليه سالماً. فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه وراح يتوسل إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أناذا أخدمك هذه السنين كلها، ولم أعص لك أمراً قط. ومع ذلك ما أعطيتني في يوم من الأيام جـدياً لأفرح مع أصحابي. ولكنك ما إن جاء ابنك هذا الذي بدد ثروتك على الزانيات، حتى ذبحث له العجل المسمن. فقال له: يا بني، أنت دائماً معى، وكل ما لي فهو لك. إلا أننا كان ينبغي أن نفرح ونبتهج، لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاد إلى الحياة ، وكان ضالا فوجدناه، .

وواضح من هذا المثل الذي ضربه مخلصنا أن الرجل الذي كان له إينان يرمز إلى الله، لأن الله أب لكل البشر، والبشر جميعاً أبناؤه (أع 17: 28). وإبناه في هذا المثل، يرمز الابن الأكبر منهما إلى قوم من البشر التزموا طاعة الله، وإرتضوا البقاء تحت رعايته وسلطانه، ولو في الظاهر، ويرمز الابن الأصغر إلى قوم آخرين من البشر تمردوا على الله وابتعدوا عنه، رافضين سلطانه عليهم ليسلكوا حسب هواهم، منساقين وراء شهوات الدنيا وماذاتها، فأخذوا نصيبهم من أموال هذه الدنيا ومقتنياتها الأرضية الفانية متنازلين عن نصيبهم فيما يضمن لهم البقاء مع أبيهم السماوي من بركات روحية خالدة. مما يدل على نزقهم وطيشهم وتهورهم واستهتارهم. وكان ممالابد منه أن هذا النزق والطيش والتهور والاستهتار يدفع بهم إلى الإسراف في الشهوات الجسدية، والانصراف إلى الملذات الدنيوية التي سرعان ما تستنفذ كل ما يملكون من مقتنيات مادية ومواهب روحـيـة ومن ثم سرعان ما يجدون أنفسهم صفر اليدين من كل شيء مادي وروحي على السواء، فلا يجدون أمامهم من سبيل إلا أن يبيعوا أنفسهم للشيطان الذي يجد فيهم فريسة سهلة، فيشتريهم بأبخس الأثمان ويستعبدهم إستعباد القوي للضعيف، والقرى الشرير للمحتاج البائس، فكما أن ذلك الرجل الذي لجأ إليه الابن الأصغر بعد أن بدد أمواله وأنفق كل ما عنده في الشرور والفجور، لم يستخدمه راعياً للغنم التي هي مهنة كريمة، وإنما استخدمه راعياً للخنازير التي هي أحقر الحيوانات وأقذرها، هكذا يفعل الشيطان بالذين يلجأون إليه ويبيعون أنفسهم له، إذ يمرغهم في الأوحال. ويسوقهم إلى أحقر وأقذر الأعمال. وكما أن ذلك الرجل الذي لجأ إليه الابن الأصغر من عليه ولو ببقايا الطعام الذي يأكله هو أو يأكله حتى عبيده ليقتات به. وإنما تركه جائعاً حتى يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت تأكله الخنازير، وهو ثمر شجرة تنبت في بلاد الشرق ويستخدمه رعاة الخنازير في تسمينها، فلم يكن أحد يعطيه حتى من هذا الطعام الحـقـير الذي لا تأكله إلا الخنازير. هكذا يفعل الشيطان بمن يقعون تحت رحمته، إذ يتلذذ بتعذيبهم وإذلالهم، كما يتلذذ بتعذيب وإذلال كل بشر من أبناء الله الذي أسقطه وحكم بالهلاك عليه فيضن عليهم بعد أن وقعوا في قبضته بأي شيء فيه راحتهم أو كرامتهم. وعندئذ يبدأون ـ كما فعل ذلك الابن الأصغر. يفيقون من سكرتهم، ويرجعون إلى نفوسهم، ويندمون على ما فعلوا إذ تمردوا على أبيهم السماوي وابتعدوا عن رعايته ومحبته وحنانه. وكما قال ذلك الابن في لحظة ندمه كم لأبي من أجراء يتوافر لهم من الخبز ما يكفيهم ويفيض عنهم وأنا أموت جوعاً هناه، يقولون هم أيضاً في أنفسهم كم لأبيهم السماوي من خدام يرتعون في ظل محبته التي لا تنتهي، ويشبعون من فيض نعمته التي لا تنفذ، بل تكفى الجميع وتفيض عنهم. وعند استشعار الندم يبدأ العزم في طلب المغفرة، ويحل التواضع محل الكبرياء، فكما قال ذلك الابن «إنني سأقوم وأذهب إلى أبي وأقول له: يا أبي أخطات إلى السماء وأمامك، ولم أعد مستحقاً أن أدعى لك إبناً، فاجعلني كأحد أجرائك،، يقرر أولئك النادمون هم أيضاً أن يعودوا إلى أبيهم السماوي، معترفين بخطئهم إليه، ويعدم إستحقاقهم – بسبب عقوقهم ـ أن يكونوا أبناء له مرتضين أن يعاملهم كما يعامل السيد عبيده ، لا كما يعامل الأب أبناءه . بيد أنهم إذ يفكرون على هذا النحو لا يعلمون مدى صلاح الله أو إستعداده لقبول التوبة ومنح الغفران. لأنه كما أن أبا ذلك الابن الضال رآه وهو آت من بعيد، فتحنن عليه وركض وألقى بنفسه في عطف وفرح على عنقه وقبله، هكذا يفعل الله بالذين يندمون ويتوبون عن خطاياهم ويأتون إليه ليطلبوا غفرانه، إذ يراهم وهم أتون من بعيد، فيتحنن عليهم ويفرح بهم ويسارع إلى معانقتهم وتقبيلهم حتى قبل أن يفضوا إليـه بندمهم وتوبتهم، إذ يقول بلسان إشعياء النبي إني قـبـلـمـا يدعـون أنـا أجـيب (إش 65: 24) . وهـو يـغـفـر لهم خطاياهم حـتـى قبل أن يطلبوا ذلك لأنه عالم بما في نفوسهم، إذ يقول بلسان حزقيال النبي «فإذا رجع شرير عن جميع خطاياه التي فعلها، وحفظ كل فرائضى، وفعل حقا وعدلاً، فحياة يحيا. لا يموت. كل معاصيه التي فعلها لا تذكر له، (حز 18: 21 و 22). ومن ثم فإنهم ـ ولو قالوا كما قال الابن الضال في تواضع ولم أعد مستحقاً أن أدعى لك إبناء ، يعيد إليهم اعتبارهم ويرد إليهم صفة بنوتهم له كاملة، مقرراً إستحقاقهم لهذه البنوة ماداموا قد ندموا واستغفروا وعادوا إلى طاعته وارتضوا أن يعيشوا تحت رعايته. بل إنه لفرحه بعودتهم إليه يحتفل بهم إحتفال ذلك الأب بإبنه الضال فكما قال ذلك الأب لعبيده أسرعوا وأخرجوا الحلة الأولى وألبسوه إياها، يلبسهم الله الحلة الأولى التي كانوا يلبسونها حين كانوا أبراراً قبل تمردهم وضلالهم، وهي أفضل حلة وأفخرها وأكثرها بهاء وضياء، وأجدرها بالفرح والبهجة، لأنها ثوب الخلاص ورداء البر الذي حين يلبسه إنسان لا يسعه إلا أن يهتف مع إشعياء النبي قائلاً «فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي، لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص، كساني رداء البر، مثل عريس يتزين بعمامة، ومثل عروس تتزين بحليها، (إش 10:61). 

وكـمـا وضـع أبو الابن الضال خاتماً في يده تكريماً له وإقرارا ببنوته ويعـودة ما يملك من سلطان في بيت أبيه، هكذا يكرم الله التائبين العائدين إليه ويعطيهم سلطاناً كأبناء في بيته، كما فعل فرعون حـين أراد أن يمنح السلطان ليوسف، إذ قال له كما جاء في سفر التكوين “قد جعلتك على كل أرض مـصـر، وخلع فـرعـون خـاتمـه مـن يـده وجعله في يد يوسف” (تك 41: 41 ، 42).

وكما وضع أبو الابن الضال حذاء في قدميه بعد أن جاءه حافياً، فأعاد بذلك كرامته ومكانته كإنسان حر، بعد أن كان عبداً حافي القدمين، هكذا يعيد الله للنادمين التائبين كرامتهم ومكانتهم بحكم ما ينبغي لهم من مكانة وكرامة كأبناء لله .

وكما ذبح أبو الابن الضال العجل المسمن ليأكل مع أهل بيته، إحتفالاً بعودة إبنه إليه، وإظهارا لفرحه، قائلاً إن إبنه هذا كان ميتا فعاد إلى الحياة، وكان صالاً فوجدناه، هكذا يفرح الله بالنادمين التائبين العائدين إليه، لأنهم كانوا . وهم في حالة تمردهم عليه وعنادهم له وإبتعادهم عنه وإنقيادهم الشيطان ـ في حكم الأموات، بل كانوا أمواتا بالفعل، حتى إذ ندموا وعادوا إلى الحياة وفقاً لقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس وأنتم كنتم أمواتا بالذنوب والخطايا التي ستكلم فيها قبلاً حسب دهر هذا العالم، حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية، الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا، عاملين مشيئات الجسد والأفكار، وكنا بالطبيعة أبناء الغضب الباقين أيضاً. الله الذي هو على في الرحمة من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح. (أف 2: 1-5). ولأنهم كانوا ضالين عن طريق الله، هائمين في الظلام خارج أسوار ملكوته النوراني فعادوا واهتدوا إلى باب ذلك الملكوت وطرقوه، ففتحه الله لهم، فرحاً بهم، غافراً كل ذنوبهم منتقلاً بهم من الموت إلى الحياة ومن النقمة إلى النعمة، ومن الظلام إلى النور. وقد أعد لهم وليمة فاخرة زاخرة، لا بلحوم العجول المسمنة، وإنما بأطايب البركات السماوية التي هي أشهى وأبهى من كل مسمنات الأرض، والتي يفرح ويبتهج بها كل من يحظى بها، وينسى كل ما تكبد في العالم الشرير من آلام، وما سفك من دموع، وما عانى من ذل وعار، إذ قال إشعياء النبي يصنع رب الجنود. وليمة سمائن.. ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجـوه ، وينزع عار شعبه عن كل الأرض، (إش 25: 6 – 8) . وهكذا يعم السماء كلها فرح بعودة أولئك الأشرار الضالين إلى أبيهم السماوي، نادمين تائبين مستغفرين.

بيد أن الفريق الآخر من أبناء الله الذين يرمز إليهم الابن الأكبر لذلك الأب الذي ذكره مخلصنا في المثل الذي ضربه، والذين ظلوا ـ ولو في الظاهر – مبدين له الخضوع، والخشوع، ولا سيما الفريسيون والكتبة وأمثالهم من فقهاء الدين اليهودي، إذ لا يدركون مدى صلاح الله ورحمته ومحبته للبشر جميعاً، لا يلبثون أن تأكل الغيرة قلوبهم، فيفعلون ما فعله ذلك الابن الأكبر حين عاد من الحقل وسمع أصوات الغناء والرقص في بيت أبيه، وعلم بعودة أخيه وبما غمره به أبوه من حفاوة وتكريم. إذ أنهم سيغضبون كما غضب ذلك الابن، ويرفضون أن يجمعهم مكان واحد بأولئك الذين كانوا يعتبرونهم أشراراً أثمين من العشارين وأمثالهم، فكانوا یزدرونهم ويحتقرونهم ويتجنبون مـخـاطبـتـهـم أو مخالطتهم، متعالين عليهم، مقررين أنهم ملعـونـون من الله، ومـفـاخـرين بأنهم هم وحـدهـم مـوضع رضى الله وورثة ملكوته، بل إنهم يروحون يتفاخرون على الله نفسه، وينكرون فضله عليهم، كما تفاخر ذلك الابن على أبيه وأنكر فضله عليه، إذ قال له وها أناذا أخدمك هذه السنين كلها، ولم أعص لك أمراً قط، ومع ذلك ما أعطيتني في يوم من الأيام جـدياً لأفرح مع أصحابي،، وكأنما كانت خدمتهم له وطاعتهم له فضلاً أسدوه إليه، وليست واجباً عليهم إزاءه، وكانت كل البركات التي أغدقها عليهم في رعايته لهم لا تساوى جدياً يعيرونه بأنه لم يعطه إياهم ليفرحوا مع أصدقائهم، فرحاً جسدياً أرضيا، لا فرحاً روحياً سماوياً، مما يدل على أن خدمتهم لله إنما كانت عن نفاق، وأن طاعتهم له إنما كانت عن رياء، وأن صلاحهم الذي يتظاهرون به إنما ينطوي على أقبح صفات ينصف بها البشر، وهي الحقد والحسد والغيرة من إخوتهم النادمين التائبين الذين شملهم برضاه وغفرانه، إذ أنهم كما فعل ذلك الابن الأكبر إذ قال لأبيه ولكنك ما إن جاء ابنك هذا الذي بدد ثروتك على الزانيات، حتى ذبحت له العجل المسمن، ، يفعلون هم إذ يلومـون الله لأنه ساوى بينهم – وهم الذين يعتبرون أنفسهم أبراراً أطهاراً. وبين أولئك الذين يعتبرونهم أشراراً فجاراً، مهما ندموا وتابوا. بيد أن الله في صلاحه وحكمته ورحمته وحلمه وعلمه بضعف البشر، لا يقابل بغضبه غضب أولئك الذين يتفاخرون عليه وينكرون فضله، بل يلومونه، وإنما يتأنى عليهم ويترفق بهم، ويوضح لهم حكمته فيما يعمل، ويصحح لهم فهمهم الخاطئ لمعاملته الكريمة الرحيمة لإخوتهم الذين مهما كانوا قد تصرفوا من قبل في شر وفجور، فإن ندمهم وتوبتهم يطهرانهم من كل شر ارتكبوه، ومن كل فجور اقترفوه ، ويجعلانهم أهلا لعفوه وغفرانه اللذين لا حدود لهما ولا قيود عليهما. بل يجعلانهم مستحقين لأن يفرح ويبتهج بعودتهم إليه وخضوعهم . له خضوع الأبناء لأبيهم، وهذا هو الذي يرمز إليه ما فعله الأب مع إبنه الأكبر في المثل الذي ضربه مخلصنا حين غضب ورفض أن يدخل البيت حقداً على أخيه العائد وحسداً له، إذ خرج وراح يتوسل إليه، قائلاً له ، يا بني أنت دائما معى، وكل ما لي فهو لك، إلا أننا كان ينبغي أن نفرح ونبتهج، لأن أخاك هذا كان ميتا فعاد إلى الحياة، وكان صالا فوجدناه، . وذلك لأن الله كـمـا يفرح بعودة أبنائه المتمردين حين يعودون إلى طاعته، يحزن من تمرد أبنائه المطيعين حين يتمردون عليه، ويبذل كل جهد في استرضائهم وإستبقائهم تحت رعايته، مشمولين بعنايته ونعمته وبركته، ومتمتعين بالسلطان الذي منحهم إياه حين كانوا دائماً معه بإعتباره أباهم وبإعتبارهم أبناءه ، ذلك السلطان الذي يجعل كل ما للأب مملوكا للابن تحت تصرفه. لأنه إلى هذا المدى يبلغ حب الآب السماوي لأبنائه من البشر، حتى إنه ليحتمل في محبته تلك تذمرهم عليه، كما يحتمل، كثيراً من صور حماقتهم وغباوتهم، وقصورهم في تفكيرهم، وتهورهم في شعورهم، ويعمل بمقتضى رحمته على إصلاح تلك المساوئ والنقائص فيهم. مـسـتـخـدماً في ذلك كل وسيلة وسالكاً كل سبيل، حتى لا يعود ثمة من وسيلة أو سبيل لإصلاحهم، فيغضب عندئذ عليهم، ويقضى بمقتضى عدالته بهلاكهم.

ولئن كان هذا المثل الذي ضربه مخلصنا ينطبق على الفريسيين والكتبة الذين كانوا يدعون لأنفسهم الصلاح وطاعة الله، والذين لاموه على قبوله العشارين والخطاة من اليهود الذين كانوا يعتبرونهم أشراراً ملعونين من الله، والذين كانوا يجيثون إليه باحثين لديه عن التوبة والخلاص، إنه ينطبق بصورة أعم على الأمة اليهودية كلها التي كانت تعتبر نفسها الشعب المختار من الله والمستحقة لملكوته السماوي وحدها دون سائر الأمم الوثنية التي إن كانت غارقة في الشرور والآثام فإنها كانت مستعدة ، مع ذلك للتوبة وقبول الخلاص.

كما أن هذا المثل ينطبق بصورة أكثر عموماً على كل البشر الذين هم جميعاً في الأصل أبناء الله، والذين توجد منهم فلة بارة أو تدعى البر وتريد أن تحتكر لنفسها نعمة الله ونعيمه كما توجد منهم فئة أخرى أوغلت في الشر وأسرفت في الضلال، بيد أنها إن ندمت وثابت وعادت إلى الله طالبة غفرانه، فإنه يفرح بندمها ويقبل توبتها، ويمنحها ما طلبت من غفران. وفي هذه الحالة يكون «الابن الضال، هو كل إنسان شارد عن طريق الخلاص، ورجوعه إلى نفسه معناه أن الخاطئ ـ كل خاطئ – يكون بشروره قد تاه هارياً حتى من نفسه، فإذا رجع إلى نفسه، ثاب إلى رشده ، والرجوع إلى النفس يقود النفس إلى خير عظيم، لأنه يمهد لها الطريق إلى مقام المراجعة والمحاسبة والفحص أمام محكمة الضمير. وحكم الضمير حاسم وصارم على النفس إذا ملكها. فإنه يحكم عليها أولاً باللوم، فتندم وتنسحق بالأسى أمام الله، وتذوب إتصناعاً ومسكنة وخشوعاً وخوفاً ورعبا وجزعاً، فتحتقر ذاتها، وتذرف الدمع جزعاً على ما صنعت، و له، وأسفاً على ما فقدت وخسرت، وهذا هو معنى قول مخلصنا في المثل الذي ضربه عن الابن الضال «فرجع إلى نفسه وقال: كم لأبي من أجراء يتوافر لهم من الخبز ما يكفيهم ويفيض عنهم، وأنا أموت جوعاً هناء . والضمير يحكم على النفس ثانياً بالتوبة، أي بالرجوع عن الخطأ والعزم على تجديد السيرة، إذ يقـول الابن الضال إننى سأقوم وأذهب إلى أبي، وأقول له : يا أبي قد أخطأت إلى السمـاء وأمامك، ولم أعد مستحقاً أن أدعى لك إبناً، فأجعلني كأحد أجرائك، . والضمير يحكم على النفس ثالثاً بإصلاح الخطأ والعمل فوراً على ذلك، بالإعتراف الصريح الطني بالخطأ وتحمل نتائج الخطأ في رضا كما فعل الابن الضال في المثل إذ قام وجاء إلى أبيه.. فقال له.. يا أبي قد أخطات إلى السماء وأمامك، ولم أعد مستحقاً أن أدعى لك إبناً” .

وليس الإعتراف الصحيح بالخطأ هو الإعتراف لله فقط. بل أيضاً إلى من أساء إليهم المخطئ بخطئه وخطيئته، ومن بينهم الكاهن حارس الشريعة التي اعتدى عليها الخاطئ وتجاوزها. ولذلك قال يشوع بن نون لعاخان بن كرمي الذي اقترف جريمة سرقة فتسببت في الهزيمة في الحرب لبني إسرائيل ، يا ابني أعط الآن مجدا للرب إله إسرائيل واعترف له وأخبرني الآن ماذا عملت. لا تخف عنى، (يش 7: 19).

فلمـا عـاد الابن الضال نادماً تائباً معترفاً بخطاياه ، مستعداً لأن يتحمل نتائج ضلاله، والعقوبة التي يفرضها أبوه عليه وأن يجعله كأحد أجرانه،، لم يطرده أبوه خارجاً، وهذا يتفق مع قول فادينا ومن يقبل إلى لا أخرجه خارجاً، (يو 6: 37)، بـل فـتـح لـه خـزائـن مـراحـمـه، وأمـر له بالحلة الأولى ، والحلة الأولى هي المعمودية، وهو السر الأول من أسـرار الـروح القدس للخـاطئ التائب، لأنه بها ، يلبس المسيح، (غل 3: 27) بعد أن يخلق والخليقة الجديدة، (غل 6: 15). كما أمر له بخاتم البنوة، الذي يثبت حقه في البنوة التي استردها من جديد. وخاتم التثبيت، في التوبة هو سر المسحة المقدسة أو الميرون، المسمى بسر التثبيت، الذي ينال به المعمد فيضـا جـديداً من مواهب الروح القدس لتثبيته في نعمة البنوة التي حصل عليها بالمعمودية . ولذلك يستخدم الكاهن عند مسح أعضاء المعمد بالميرون تعبير اختم موهبة الروح القدس، . وأمر له بالعجل المسمن الذي به يغتذي الابن الضال الذي رجع إلى بيت أبيه جائعاً بعد أن ذاق من خرنوب الخنازير. وهذا يشير إلى الخبز السماوي الذي يناله المعمدون بعد مسحهم بالميرون، وهو سر التناول، والقربان المقدس خبز الحياة الذي لا يموت من يأكله بل يحيا إلى الأبد (يو 6: 50 و 51)، إذ قال الرب يسوع إن «الخبز الذي أنا أعطى هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم، (يو 51:6).

وهكذا هدم مخلصنا بتلك الأمثال الثلاثة التي ضريها للفريسيين والكتبة، الاتهام الذي وجهوه إليه، ليكيدوا له ويسعوا إلى هلاكه، فأخرسهم وأخجلهم.

زر الذهاب إلى الأعلى