تفسير رسالة غلاطية 3 – أ/ حلمي القمص يعقوب

تفسير غلاطية – الأصحاح الثالث

 

انتهى بولس الرسول من حديثه مع بطرس وبرنابا ومتنصري اليهود في القسم الأول من الرسالة، وكان من الممكن أن يختم بولس الرسول رسالته هذه بعد انتهاء هذا القسم التاريخي من الرسالة (ص 1، 2)، والذي سطَّر فيه ملخص سيرته، وأكَّد على رسوليته التي استمدها من اللَّه رأسًا، وأثبت بالدليل القاطع أنه يستحيل على الإنسان أن يتبرَّر بأعمال الناموس إنما التبرير فقط بالإيمان بالمسيح يسوع، ولكن بولس الرسول فضَّل أن يستوضح الأمر أكثر فأكثر فدخل للجزء الثاني التعليمي اللاهوتي والذي يستمر حتى (غل 5: 12)، وبدأ هذا الإصحاح بتوبيخ الغلاطيين الذين سبق وبشّرهم بكفاية الإيمان بالمسيح المصلوب، ولكنهم تركوا حق الإنجيل وعادوا للناموس، وسألهم هل نالوا عطية الروح القدس ومواهبه بواسطة الإنجيل أم بواسطة الناموس؟

 وعاد بولس الرسول بالزمن إلى إبراهيم أب الآباء، وكان المتهوّدون يركزون على موسى والناموس، فإذ ببولس الرسول يرجع للخلف مئات السنين قبل موسى ويستشهد بإبراهيم ويؤكد أنه تلقى الوعد الإلهي قبل عهد الختان، وهو في الغرلة، وبينما كان المتهوّدون يفاخرون بأنهم أبناء إبراهيم أوضح بولس الرسول بجلاء أن إبراهيم هو أب الأمم أيضًا، وأنه قد تلقى الوعد الإلهي بأن في نسله تتبارك كل أمم الأرض. إذًا إبراهيم يمثل أب كل البشرية وليس اليهود فقط، وإن كان المتهوّدون قد ركّزوا على عهد الناموس فبولس الرسول ركّز على عهد إبراهيم، وهو أقدم من الناموس بأربعمائة وثلاثين سنة، فالناموس لا ينسخ عهد اللَّه مع إبراهيم، وتطرق إلى لعنة الناموس وأن المسيح حمل لعنة الناموس، كما تحدَّث بولس أيضًا عن أهمية الناموس وغايته.

 ويشمل الأصحاحين الثالث والرابع الجزء التعليمي اللاهوتي، وهو من أقوى كتابات بولس الرسول في التبرّير بالإيمان وليس بأعمال الناموس، وأن الذين تحت الناموس هم تحت اللعنة، وقد كتب بولس الرسول هذا وهو يخوض غمار الحرب ضد المتهوّدين، ثم عاد وشرح هذه الرسالة بصورة أوسع في رسالته إلى أهل رومية، حتى قالوا أن رسالة غلاطية تُعد مسودة لرسالة رومية، وما جاء بالتفصيل في رسالة رومية تجد جذوره العميقة ضاربة في رسالة غلاطية.

 وقد استخدم بولس الرسول ستة أدلة تبرهن على أن التبرير فقط بالإيمان بالرب يسوع، وشمل كل أصحاح من الأصحاحين الثالث والرابع على ثلاثة أدلة من هذه الأدلة الستة وهيَ:

1- الدليل الشخصي (3: 1-5).       4- الدليل التاريخي (4: 1 – 11).

2- الدليل الكتابي (3: 6-14).         5- الدليل الوجداني (4: 12- 18).

3- الدليل المنطقي (3: 15-29).        6- الدليل المجازي (4: 19 – 31).

 ويقول “متى هنري“: هنا نرى الرسول:

 أولًا: يوبِّخ الغلاطيين، بسبب غبائهم، إذ قد سمحوا لأنفسهم بالابتعاد عن إيمان الإنجيل.

 ثانيًا: يقيم الدليل على تعليم التبرير بالإيمان، بدون أعمال الناموس، وذلك:

(1) من مثال تبرير إبراهيم.

(2) من واقع وطبيعة الناموس.

(3) من شهادة العهد القديم الواضحة.

(4) وأخيرًا من عهد اللَّه مع إبراهيم.

ولكن ربما يقول قائل: لماذا الناموس؟ الإجابة:

أ- قد زيد بسبب التعديات.

ب- أنه أُعطي لإقناع العالم بضرورة المخلص.

ج- قُصد به أن يكون حارسًا حتى يحضرنا إلى المسيح.

 ثم ينتهي الأصحاح بتعريفنا بامتيازات المؤمنين(128).

 

 ويمكن تقسيم هذا الإصحاح الثالث من رسالة غلاطية إلى:

أولًا: توبيخ الغلاطيين (غل 3: 1 – 5).

ثانيًا: في إبراهيم تتبارك الأمم (غل 3: 6 – 9).

ثالثًا: المسيح افتدانا من لعنة الناموس (غل 3: 10 – 14).

رابعًا: الناموس لم ينسخ عهد إبراهيم (غل 3: 15 – 18).

خامسًا: أهمية الناموس وهدفه (غل 3: 19 – 29).

أولًا: توبيخ الغلاطيين (غل 3: 1-5):

 أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا. أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هذَا فَقَطْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ. أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ. أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا. فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَ-رِ الإِيمَانِ(غل 3: 1 – 5).

 في هذه الفقرة يتعجب بولس الرسول من تحوُّل أولاده في غلاطية عن إنجيل الحق، وكأن أحد قد سحرهم، ويطرح عليهم بعض الأسئلة التي تنير لهم طريق العودة للصواب:

1 هل أخذتم الروح بخبر الإيمان أم بأعمال الناموس؟

2 هل يصح أن تبدأوا بالروح ثم تكملون بالجسد؟

3 لماذا احتملتم الآلام من أجل المسيح عبثًا؟

4 هل عملتم المعجزات بخبر الإيمان أم بأعمال الناموس؟

 وعندما يجيب الغلاطيون على هذه الأسئلة بأمانة، فأنهم سيصلون للاقتناع التام بأن التبرير بالإيمان فقط وليس بأعمال الناموس.

 

 ويقول “متى هنري“: “يتعامل الرسول هنا مع أُناس قد قبلوا الإيمان بالمسيح، ولكنهم أرادوا التبرير بأعمال الناموس في نفس الوقت، لذلك وبّخهم بسؤاله لهم: “مَنْ رَقَاكُمْ” (ع 1)، إذ حدث لهم هذا نتيجة عدم تمسُّكهم بالتبرير كما أعلنه الإنجيل، الذي علَّمهم به الرسول.. نرى الكثير من الأمور التي دلَّت على غباء أولئك المسيحيين حيث:

1- رُسِم الرب يسوع المسيح أمامهم مصلوبًا، بمعنى أنهم قد حصلوا على التعليم الخاص بالصليب كما بُشِروا به..

2- يستشهد الرسول باختباراتهم التي نالوها في نفوسهم بعمل الروح القدس (ع 2). كما رغب في معرفة كيفية نوالهم تلك الهبات والنعم..

3- يدعوهم الرسول للتأمل في سلوكهم الماضي، كما في الحاضر أيضًا (ع 3، 4). فبعد أن بدأوا بداية حسنة قد تحوَّلوا إلى الناموس متوقعين بأن يُكمّلوا بحفظه وذلك بالإضافة إلى إيمانهم بالمسيح، ليحصلوا على التبرير. وإذ كان ينبغي عليهم أن يتقدّموا في الإنجيل انحرفوا عنه، فابتعدوا عن كمالهم كمسيحيين، وبالتالي فقد باتوا في خطر ابتعادهم عن المسيحية.

4 أعطاهم اللَّه روحه كما صنع بينهم المعجزات، وهذان الأمران هما ما طلب الرسول بولس معرفة كيف حصلوا هم عليهما، أبأعمال الناموس أم بخبر الإيمان؟.. (129).

 

 أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا(غل 3: 1).

 أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ.. استخدم بولس الرسول اللهجة الشديدة والكلمات الصادمة في مواجهة بدعة التهوُّد في كنيسة غلاطية، بينما عالج بعض المشاكل الأخرى في الكنائس الأخرى بصورة هادئة، فمثلًا بالنسبة لمشكلة أنواع الطعام في كنيسة رومية كتب يقول لهم بمنتهى الهدوء: وَمَنْ هُوَ ضَعِيفٌ فِي الإِيمَانِ فَاقْبَلُوهُ لاَ لِمُحَاكَمَةِ الأَفْكَارِ. لاَ يَزْدَرِ مَنْ يَأْكُلُ بِمَنْ لاَ يَأْكُلُ وَلاَ يَدِنْ مَنْ لاَ يَأْكُلُ مَنْ يَأْكُلُ لأَنَّ اللَّهَ قَبِلَهُ” (رو 14: 1، 3)، كما قال لهم: ” فَيَجِبُ عَلَيْنَا نَحْنُ الأَقْوِيَاءَ أَنْ نَحْتَمِلَ أَضْعَافَ الضُّعَفَاءِ وَلاَ نُرْضِيَ أَنْفُسَنَا” (رو 15: 1)، وهكذا عالج مشكلة الطعام وما ذُبِحَ للأوثان في كنيسة كورنثوس (1كو 8)، ومشكلة الانقسام (1كو 3)، أمَّا هنا فيظهر بولس الرسول حادًا وجادًا وقاطعًا لأن مشكلة التهوُّد تعود بالإنسان المسيحي إلى اليهودية، وتحرمه من نعمة المسيح الخلاصية، لذلك اضطر أن يقول لهم: أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ“.

 أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ.. لعل أحد يتساءل كيف يصف بولس الرسول أولاده بالغباء مع أن السيد المسيح قال: مَنْ قَالَ لأَخِيهِ رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ. وَمَنْ قَالَ يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ” (مت 5: 22)، ويجيب “القديس يوحنا ذهبي الفم” قائلًا: “ولا نتعجَّب من وصفه للغلاطيين بالغباء وكأنه قد خالف وصية المسيح: “مَنْ قَالَ يَا أَحْمَقُ..” (مت 5: 22) لأن المسيح أضاف قائلًا: “.. بلا سبب” أو “باطلًا” فأي غباوة أكثر من هذه أن يترك الإنسان نعمة العهد الجديد ليلتصق بفرائض الماضي؟! ولم يستعمل الرسول هذا الأسلوب التوبيخي إلاَّ بعد أن قدَّم البراهين التي صارت فيما بعد قائدة المناقشة، لقد ارتد الغلاطيون عن الإيمان واستهانوا بصليب المسيح فصار نعتهم بالغباوة أقل من استحقاقهم في الواقع(130).

 

 أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ.. هل هذا يعطينا المبرر أن نصف البعض بالغباء؟ كلاَّ:

 1 كلمة الأَغْبِيَاءُ في الأصل اليوناني يمكن ترجمتها إلى “الغافلين”، فقد أغفل الغلاطيون الإنجيل الذي بشرهم به بولس الرسول والذي لم يتعلَّمه من أحد بل من يسوع المسيح رأسًا، وتحوَّلوا إلى فكر آخَر، فأراد أن يوقظهم من غفوتهم لذلك استخدم بعض الكلمات الصادمة فوصفهم بالأغبياء، والغبي هو مَن لا يتفهم حقيقة الأمور ولا يفطن لها، وفي الأدب الهيليني وُصف الغلاطيون بالغباء لأنهم لم يستخدموا عقولهم في التمييز بين الحق والباطل: “لاحظ أن بولس يدعوا مؤمني غلاطية من الغلاطيين الأغبياء”. تعني الكلمة “غبي” anoetai سوء الفهم، والطيش وعدم التفكير. كان الغلاطيون يستمعون إلى تعليم كاذب ويقبلونه باستسلام، لم يفكروا فيما يُعلَّم لهم، ولم يستخدموا عقولهم ليروا إن كان ما يُعلَّم صادقًا أم لا. كانوا “أغبياء” يتصرفون مثل أناس حمقى غير قادرين على التفكير(131).

 2 دعا بولس الرسول الغلاطيين بالأغبياء لأنهم بعد أن بدأوا بداية حسنة بالروح سلكوا بحسب الجسد معتمدين على الختان والأمور الشكلية والأركان الضعيفة، ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “هم أغبياء، لأنهم بدأوا بالروح، بالأمور العليا، وانحدروا إلى أسفل، أي إلى أعمال الناموس الخاصة بالجسد.. عادة يبدأ الإنسان الحكيم ببدايات صغيرة ثم يتقدم إلى الأمور العليا، أما هم ففعلوا العكس. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: { بعدما تتفرّسون في الشمس تطلبون شمعة، بعدما تأكلون طعامًا قويًا تجرون وراء اللبن}(132).

 3 استخدم بولس الرسول هذه الكلمة من منطلق المحبة الأبوية، ليساعدهم على النهوض من كبوّتهم.

 4 كتب بولس الرسول هذا بوحي من الروح القدس، الذي نطق في القديم على لسان إشعياء قائلًا: ” اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ” (إش 1: 3)، وقال بولس الرسول لمن ينكر قيامة الأموات، ” يَا غَبِيُّ. الَّذِي تَزْرَعُهُ لاَ يُحْيَا إِنْ لَمْ يَمُتْ” (1كو 15: 36)، والمقصود بالغباء هنا الغباء الروحي، مثلما قال السيد المسيح لتلميذي عمواس: ” أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِيئَا الْقُلُوبِ فِي الإِيمَانِ” (لو 24: 25)، إذًا بولس الرسول لم يقصد على الإطلاق أن يسيئ إلى أحد أو يشتم أحدًا.

 ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “لأنه بعد ما أظهر أنهم رفضوا الإيمان وحسبوا موت المسيح بلا هدف قام بتوبيخهم الذي مهما بدا عنيفًا فهو أقل مما يستحقون”(133).

 ويقول “القديس أُغسطينوس“: “نحن ندافع عن الرسول الذي دعا الغلاطيين أغبياء، وقد دعاهم أيضًا إخوة، ذلك لأنه لم يقل هذا باطلًا”(134).

 مَنْ رَقَاكُمْ.. مَن أغواكم أو من فتنكم؟.. والفتنة هنا بسبب الإصغاء لصوت الضلال والكذب والخداع والدعوة إلى عبودية الناموس.. مَن سَلَب عقولكم؟.. فبولس الرسول يعرف مدى تأثير المعلمين الكذبة ومدى إلحاحهم: ” بالْكَلاَمِ الطَّيِّبِ وَالأَقْوَالِ الْحَسَنَةِ يَخْدَعُونَ قُلُوبَ السُّلَمَاءِ” (رو 16: 18)، ومن خلفهم تقف الحيَّة القديمة التي خدعت أمناء حواء بمكرها: وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ (2كو 11: 3)، وبولس الرسول هنا لا يريد أن يلقي باللوم كله على الغلاطيين، بل يدين أيضًا الذين أضلُّوهم لذلك سأل: مَنْ رَقَاكُمْ؟” وأكد على هذه الفكرة عندما عاد وقال: يَا لَيْتَ الَّذِينَ يُقْلِقُونَكُمْ يَقْطَعُونَ أَيْضًا(غل 5: 12).

 يقول “الخوري بولس الفغالي“: “يتوجّه بولس مباشرة إلى قرائه فيذكّرهم بحبهم السابق، وكيف أن هذا الحب صار مهدَّدًا، ويلح في كلامه فيصل إلى العقدة التي تجعله يعارضهم: إذًا كان الغلاطيون يشكُّون برسالته، فهذا يعني أنهم يشكون بحقيقة كرازته (غل 4: 16)، ويسميّهم “الأَغْبِيَاءُ” (أنوئيتوس). هم جاهلون ولا معرفة لهم. لا يعرفون أن يميّزوا نقطة أساسية في الحقيقة المسيحية، ويوجّه كلامه بشكل سؤال لا ينتظر عليه جوابًا: “مَن سحركم؟”.

 هذا “السحر” يُلمّح إلى عمل محدَّد أثَّر على الغلاطيين في ماضٍ بعيد أو قريب، وهو الآن يحمل ثمارًا مسمومة. إذًا لسنا أمام تطوُّر روحي أو عقلي عرفته هذه الكنائس، ولا أمام صراع داخلي بين ميول عديدة، فبولس يتحدّث عن كنائس غلاطية وكأنها كنيسة واحدة، ثم يذكر هذا القلق الذي يعمل فيها. هناك أُناس تكلّموا فسحروا هؤلاء المؤمنين، وبالأحرى هناك قوة الكذب الخفية التي جعلت الغلاطيين يتحوَّلون بسرعة (كما بعمل سحري) فلم يعوا الخطر لأن لا فهم لهم.. لسنا فقط أما خفة في العقل، بل أمام خيانة في الإيمان”(135).

 مَنْ رَقَاكُمْ.. والرُقَية من أعمال السحر، فقد أوصى اللَّه شعبه قديمًا: ” لاَ يُوجَدْ فِيكَ مَنْ يُجِيزُ ابْنَهُ أَوِ ابْنَتَهُ فِي النَّارِ وَلاَ مَنْ يَعْرُفُ عِرَافَةً وَلاَ عَائِفٌ وَلاَ مُتَفَائِلٌ وَلاَ سَاحِرٌ. وَلاَ مَنْ يَرْقِي رُقْيَةً وَلاَ مَنْ يَسْأَلُ جَانًا أَوْ تَابِعَةً وَلاَ مَنْ يَسْتَشِيرُ الْمَوْتَى. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الرَّبِّ” (تث 18: 10-12)، فالرُقْيَة عمل شيطاني ومن يفعلها مكروه عند الرب، ولم يقصد بولس الرسول أن هؤلاء المتهوّدين يمارسون السحر فعلًا، ولكن قصد أن تأثيرهم مثل تأثير السحر، وقيل أن “الزن على الأذن أقوى من عمل السحر”.

 ويقول “الأب متى المسكين“: “الرُقْيَة هنا هي السحر، ولكن كما يقول يوحنا ذهبي الفم ليس معناه أن هؤلاء القوم الكذبة المفسدين للإيمان قد عملوا لهم سحرًا حتى لا يذعنوا أي لا يخضعوا للحق وينحرفوا عن الإيمان، بل يتجه المعنى إلى أن هؤلاء الأشرار حسدوهم بالفعل على النعمة التي وصلوا إليها، وفي حقدهم على ضياع يهوديتهم أرادوا أن يزعزعوهم عن الحق الذي آمنوا به”(136).

 مَنْ رَقَاكُمْ.. أي مَن حسدكم؟ ولا سيما أن اللفظ مرتبط بالعين الشريرة، وكان اليونانيون يؤمنون بالحسد ويفزعون من عواقب العين الشريرة، حتى أنهم كانوا ينهون خطاباتهم بتمنياتهم النجاة من العين الشريرة قائلين: “وأهم شيء، أُصلّي أن تكون في تمام الصحة بعيدًا عن أذى العين الشريرة(137).

 ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “أي من حسدكم وغيّركم عن الحالة المجيدة التي كنتم فيها؟ ولكن أينما تقرأ في الإنجيل عن الحسد لا تظن أن نظرة الحاسد لها أدنى تأثير على المحسود، كذلك فإن العين كعضو بريئة من هذه الخطية التي صدرت أساسًا من القلب المنحرف كما أن الحاسد لا ينظر لينقد ويصلح بل ليدمر ويهلك لذلك فكلام الرسول لا يعني أن للحسد قوة في ذاته بل ليكشف الدوافع العميقة في قلوب معلميهم الكذبة”(138).

 مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ.. من سحركم وفتنكم وسلب عقولكم حتى لا تطيعوا الحق حَقِّ الإِنْجِيلِ (غل 2: 14).. إِنْجِيلَ الْمَسِيحِ” (غل 1: 7).. الإِنْجِيلَ الَّذِي بَشَّرْتُ بِهِ (غل 1: 11)؟!.. بولس الرسول لم يخمن ولم يستنتج، إنما هو شاهد عيان، فقال عن بطرس ومَن تبعوه: لَمَّا رَأَيْتُ أَنَّهُمْ لاَ يَسْلُكُونَ بِاسْتِقَامَةٍ حَسَبَ حَقِّ الإِنْجِيلِ (غل 2: 14)، وأيضًا بعد ذلك سيعود بولس الرسول ويعيد نفس السؤال بصورة أخرى، حيث يقول لهم: كُنْتُمْ تَسْعَوْنَ حَسَنًا. فَمَنْ صَدَّكُمْ حَتَّى لاَ تُطَاوِعُوا لِلْحَقِّ (غل 5: 7)، ويق-ول “ماكدونل“: “لقد دلَّت تصرفات الغلاطيين على نقصٍ في الفهم والإدراك فالانتقال من النعمة إلى الناموس هو بمثابة الانخداع برُقي السحر والشعوذة، بحيث يقبل عمل الضلال على أنه الحق دون أن يُدري وعندما يسأل بولس قائلًا: “مَنْ رَقَاكُمْ؟” يستخدم “مَنْ” في المفرد (باليوناني: تيس) وليس في الجمع، وربما كان هذا إشارة إلى أن الشيطان هو مصدر هذا التعليم الخاطئ. لقد بشر بولس نفسه للغلاطيين بالمسيح يسوع مصلوبًا، مشدّدًا على أن الصليب يحرّرهم إلى الأبد من لعنة الناموس وعبوديته. فكيف يرجعون إلى الناموس محتقرين الصليب؟ ألم يسيطر الإنجيل على حياتهم العملية؟(139).

 مَنْ رَقَاكُمْ حَتَّى لاَ تُذْعِنُوا لِلْحَقِّ.. من الذي استطاع إقناعكم بأن العبودية للناموس أفضل من الحرية في المسيح يسوع؟!.. كيف انقلبت المعايير لديكم؟!.. ربما فضّل الغلاطيون أعمال الناموس لأنها تشعرهم بالبر الذاتي، كما كان شعور الفريسي أمام العشار: أنا الذي أفعل وأفعل وأفعل، ولست مثل هذا الخاطئ العشار، ففي ظل أعمال الناموس يتفاخر الإنسان بأصوامه وصلواته وعطاياه وخدماته وأعماله الجسدية رغم أنها خالية من روح الحب الحقيقي، ويصير الإنسان في عيني نفسه قديسًا عظيمًا لا تستحق الأرض وطأة قدميه!

 وربما فضّل الغلاطيون أعمال الناموس المرتبطة بالحواس فصاروا يسلكون بالعيان لا بالإيمان، والحقيقة أن العبادة الحقيقية لا تمنع أبدًا استخدام الحواس، فالعين تكتحل بمنظر المصلوب، ذاك البار القدوس الذي بلا خطية وحده، الذي تعرّى لكي يكسونا، ورُبِط لكي يحلنا من رباطات الخطية.. كان ذاك أروع منظر رأته البشرية على مدار تاريخها الطويل، فمن وسط رائحة الدماء والدموع والأنين والآلام الرهيبة والموت القاسي تنبعث رائحة الحياة والنجاة للبشرية.. أنه أعظم منظر في الوجود كله على مدار الأجيال وإلى منتهى الأيام يشبع العين وينقّيها ويطهّرها، وكم تغنّى أبونا بيشوي كامل بذاك المنظر الخلاَّب؟!!.. كما أن الأُذن تتشنف بسماع كلام اللَّه وترانيم الخلاص، والأنف يتنسَّم رائحة البخور، والفم يتقدَّس بمذاقة جسد المسيح ودمه الكريمين.

 أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا.. في القديم: صَنَعَ مُوسَى حَيَّةً مِنْ نُحَاسٍ وَوَضَعَهَا عَلَى الرَّايَةِ فَكَانَ مَتَى لَدَغَتْ حَيَّةٌ إِنْسَانًا وَنَظَرَ إِلَى حَيَّةِ النُّحَاسِ يَحْيَا(عد 21: 9)، هكذا رُفِعت الحيَّة النحاسية أمام بني إسرائيل وسيلة للنجاة من الموت، وكما رفع موسى الحيَّة في البرية هكذا رُفِع ابن الإنسان على صليب النصرة على الملأ كعلامة للخلاص لا غنى عنها أبدًا للوصول إلى الأبدية، وما أجمل قول بولس الرسول مَصْلُوبًا فلم يذكر الحدث في الماضي كفعل تم وانتهى ولكن ذكره في الحاضر المستمر، فالمصلوب ما زال يُخلّص وسيظل يُخلّص إلى الانقضاء، وقد سبق وتحدّث بولس الرسول مع الغلاطيين عن الحكمة الفائقة في موت المسيح والمحبة العجيبة التي جعلت من الصليب موضع سرور المصلوب، ونجح بولس الرسول في رسم الصورة في أذهانهم وأمام أعينهم.. يا ليت صورة المصلوب لا تفارق أذهاننا، فهكذا عاش آبائنا القديسون الصليب بكل أحداثه العميقة التي طهّرت أعماق نفوسهم.

 أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا.. الأصل اليوناني لفعل رُسِمَ “بروغرافي” Prographein وتعني البروز الواضح سواء بالكتابة أو الرسم أو النقش، كما وردت “بروغرافي” بمعنى “كُتبِ” كما جاء في قول بولس الرسول: لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا(رو 15: 4)، فالمقصود برُسِم هو ما أعلنه بولس الرسول من تعليم شفاهي سماعي عندما كان في غلاطية، وليس من خلال صور فوتوغرافية، وليس من خلال رسم بآلةٍ ولا نقشًا على حجارةٍ، بل هو تعليم شفاهي سماعي عن طريق الكرازة بالإنجيل (راجع الدكتور القس غبريال رزق اللَّه – شرح رسالة غلاطية ص 224)، فقد أعلن بولس الرسول لهم رسالة الصليب بكل مهارة ووضوح حتى صار منظر المصلوب ماثلًا أمام عيونهم، كما أن فعل رُسِمَ يعبّر عن فكرة الإعلانات والملصقات (راجع وليم كلي – تفسير العهد الجديد – رسالتا غلاطية وأفسس ص 45) فهو يعني رسمًا مُعلَنًا للجميع مثل اللوحة الإعلانية الاسترشادية التي تحمل معلومات هامة وخطيرة للمسافر على الطريق، وبدونها يضل المسافر ويتعرَّض للهلاك.

 أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ قَدْ رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا.. قول بولس الرسول أَنْتُمُ الَّذِينَ أَمَامَ عُيُونِكُمْ يُذكّرنا بكلام السامريين للمرأة السامرية بعد أن مكث عندهم السيد المسيح يومين: قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ” (يو 4: 42)، وقد سيطر موضوع الصليب بأبعاده المختلفة على الفكر اللاهوتي للقديس بولس الرسول، فقد وصف أحداث الصيب بدقة بالغة حتى تصوَّر الغلاطيون يسوع المسيح مصلوبًا أمام أعينهم، وقال لأهل كورنثوس: لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا (1كو 2: 2) وهو عين ما ركّز عليه بطرس الرسول منذ عظته الأولى يوم الخمسين فقال عن سيده: هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللَّهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ. وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوه(أع 2: 23)، كما أراد بطرس أن يُرسّخ هذه الصورة في أذهان الأمم منذ كرازته لبيت كرنيليوس قائد المئة الأممي، فقال: وَنَحْنُ شُهُودٌ بِكُلِّ مَا فَعَلَ فِي كُورَةِ الْيَهُودِيَّةِ وَفِي أُورُشَلِيمَ. الَّذِي أَيْضًا قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ(أع 10: 39).

 رُسِمَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ بَيْنَكُمْ مَصْلُوبًا.. ولعل أحد يتساءل: كيف رُسِم يسوع المسيح بينهم مصلوبًا؟!.. هل صُلِب المسيح في غلاطية أم في أورشليم؟!.. ويجيب “القديس يوحنا الذهبي الفم” قائلًا: ” لم يُصلب (السيد المسيح) في غلاطية بل في أورشليم، ومع هذا يقول “بَيْنَكُمْ” ليعلن عن قوة الإيمان في رؤية أحداث تمت على بُعد مسافات (حدث الصليب).. لقد رأوا بعيني الإيمان بأكثر وضوح من بعض الذين كانوا حاضرين ومشاهدين للصلب..

 هذه الكلمات تحمل مديحًا ولومًا، تمدحهم لقبولهم الحق المُطلّق، وتلومهم لأنهم تركوا المسيح الذي شاهدوه عاريًا، مطعونًا، مسمَّرًا على الصليب من أجلهم، ولجأوا إلى الناموس، دون أن يخجلوا من هذه الآلام (التي احتملها عنهم)(140).

 

 ” أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هذَا فَقَطْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ. أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ. أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ” (غل 3: 2، 3).

 أُرِيدُ أَنْ أَتَعَلَّمَ مِنْكُمْ هذَا فَقَطْ.. هذا ليس أسلوبًا ساخرًا من بولس الرسول، إنما اسلوب يوضح مدى اتضاع كاروز الأمم، فهو مستعد أن يتعلَّم من أي أحد.. عجبًا!!.. من يتعلَّم مِن مَن؟!.. هل التلميذ يتعلَّم من المُعلّم، أم أن المُعلّم من التلميذ؟!.. هل مُعلّمنا ومُعلّم المسكونة بولس الرسول الذي عاين رب المجد يسوع، رجل الاستعلانات الإلهيَّة يتعلَّم من الغلاطيين الذين تحوَّلوا عن إنجيل المسيح؟!.. إن قول بولس الرسول هنا يعتبر تأنيب لهم، نابع مما ألمَّ بنفس الرسول من ألم شديد نظرًا لما ألمَّ بالغلاطيين من تراجع وتخازل عن إيمانهم بالمسيح المصلوب، وقولهم بعدم كفاية دمه للتبرير، وتحوُّل نظرهم عن ذبيحة الجلجثة المتقدة بنار العدل الإلهي: “هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا. فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة”(من ثيؤطوكية يوم الأحد)، وعودتهم إلى أعمال الناموس من ختان وحفظ السبت وغيرهما، كل هذا تسبب في ألمٍ شديد للقديس بولس.. انظر إلى قوله “هذَا فَقَطْ“.. ماذا يقصد به؟.. يقصد أن الموضوع في غاية البساطة، ولا يحتاج إلاَّ الإجابة على الأسئلة القادمة فقط.

 

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. المقصود بالناموس ناموس موسى الذي استلمه في برية سيناء على جبل حوريب وسط الرعود والبروق وَكَانَ جَبَلُ سِينَاءَ كُلُّهُ يُدَخِّنُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ نَزَلَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ. وَصَعِدَ دُخَانُهُ كَدُخَانِ الأَتُونِ وَارْتَجَفَ كُلُّ الْجَبَلِ جِدًّا. فَكَانَ صَوْتُ الْبُوقِ يَزْدَادُ اشْتِدَادًا جِدًّا” (خر 19: 18، 19)، حتى استأسر الخوف بموسى النبي نفسه فقال: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ (عب 12: 21). هذا حدث في القديم، أمَّا في يوم الخمسين فقد حلَّ روح اللَّه القدوس في مظاهر نار وريح شديدة، فحلَّ على المجتمعين مثل ألسنة نار ولم يحترق أحد منهم، وشهد بهذا المنظر العجيب بعض الغلاطيّين الذين كانوا في أورشليم حينذاك.. وإن كان الروح القدس قد حلَّ في القديم على الملوك والكهنة والأنبياء إلاَّ أنه كان حلولًا مؤقتًا، لأن طبيعتنا الخاطئة كانت تسود علينا، ولم تتطهر بعد بدم الحمل (يو 7: 38، 39)، أما في العهد الجديد حيث الروح القدس هو موعد الآب للبشرية، وهو عطية الابن لها، فقد حلَّ على الكنيسة وصنع له مسكنًا في قلب كل إنسان مسيحي.

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. كان المتهوّدون يقنعون الغلاطيين بأنهم لن يَخلُصوا ولن يَحصُلوا على بركات الحياة مع المسيح بدون الختان وحفظ الناموس، فإذ ببولس الرسول ينبري لهم عبر طريق مختصر ليدحض دعواهم الباطلة هذه، فلجأ إلى ما اختبروه في حياتهم الشخصية، وذكَّرهم بحياتهم الأولى: كيف بدأت حياتكم مع المسيح، وكيف نلتم عطية الروح القدس؟.. هل أخذتم الروح باجتهادكم وأعمالكم أم أخذتموه كموهبة إلهيَّة وعطية مجانية؟.. هل أخذتم روح اللَّه بالختان وأعمال الناموس أم بالإيمان بالإنجيل؟!.. ” يقبل المؤمن الروح القدس بالإيمان وليس بأعمال الناموس. لاحظ أن كل هذه الفقرة عبارة عن سلسلة من الأسئلة. يثير بولس الغلاطيين ليفكروا. السؤال الحالي ينطلق إلى قلب الإنجيل: كيف بدأت حياتك المسيحية؟ هل قبلت الروح القدس بأعمال الناموس أم بالإيمان بما سمعت؟(141).

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. عطية الروح القدس مرتبطة بالإيمان بالسيد المسيح الذي مات من أجل خطايانا وقام من أجل تبريرنا، وليس بالختان وأعمال الناموس، وقديمًا تنبأ يوئيل النبي قائلًا: ويَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤى. وعَلَى العَبِيدِ أَيْضًا وعَلَى الإِمَاءِ أَسْكُبُ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ(يؤ 2: 28، 29)، وفي العظة الأولى لبطرس الرسول أشار لهذه النبوة (أع 2: 16-18)، وطلب من سامعيه وجميعهم من اليهود العاملين بالناموس أن يؤمنوا بالمسيح ويعتمدوا لكيما يقبلوا عطية الروح القدس (أع 2: 38)، وربما كان هناك بعض اليهود من سكان غلاطية في أورشليم حينذاك. إذًا هم نالوا عطية الروح القدس بالتوبة والإيمان والمعمودية وليس بأعمال الناموس التي كانوا يسلكون فيها قبلًا، وأكد بولس الرسول على نفس الفكرة في ذات الأصحاح عندما قال: لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ (غل 3: 14) كما أكّد على نفس الفكرة في رسالته إلى أهل أفسس: إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ الَّذِي فِيهِ أَيْضًا إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ (أف 1: 13)، وروح الموعد هو عطية الروح القدس التي ينالها الإنسان بالإيمان بالمسيح ويعيش بها: ” أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي ” (عب 10: 38).

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. لقد نلنا مواهب الروح القدس وقوَّاته وعجائبه بالإيمان بابن اللَّه الوحيد، والروح القدس هو الأقنوم الثالث من أقانيم الثالوث القدوس الآب والابن والروح القدس، فهو روح الآب: لَسْتُمْ أَنْتُمُ الْمُتَكَلِّمِينَ بَلْ رُوحُ أَبِيكُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ فِيكُمْ” (مت 10: 20) وهو روح الابن أيضًا: بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ(غل 4: 6).. الروح القدس قد أرسله الابن لنا من عند الآب: وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي” (يو 15: 26) وهوذا بولس الرسول يستدل بالروح القدس الذي يشهد للسيد المسيح، وجاء ذكر الروح القدس في هذه الرسالة نحو ثمانية عشر مرة، فالروح القدس له دور جوهري في خلاص الإنسان الخاطئ، فهو الذي يبكته على خطاياه، ويُعلن له بر المسيح، ويضعه أمام الدينونة الرهيبة: وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ (يو 16: 8)، وشجَّع بولس الرسول أولاده في غلاطية قائلًا: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ(غل 5: 16).. إِنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ(غل 5: 25).

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. أعمال الناموس كانت مؤقتة وتخص الجسد وهي قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ الإِصْلاَحِ(عب 9: 10) ووقت الإصلاح هو وقت البشارة بالإنجيل، والبشارة بالإنجيل حملت خبر الإيمان لجميع الأمم، وهؤلاء الأمم قد أخذوا عطية الروح القدس ومواهبه بخبر الإيمان، وكيف وصل إليهم خبر الإيمان؟.. لقد وصل إليهم عن طريق الإنجيل الذي بشرهم به بولس الرسول، ولهذا قال بولس الرسول لأهل رومية: ” لكِنْ لَيْسَ الْجَمِيعُ قَدْ أَطَاعُوا الإِنْجِيلَ لأَنَّ إِشَعْيَاءَ يَقُولُ يَا رَبُّ مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا. إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللَّهِ” (رو 10: 16، 17) وهذا الخبر خبر مُفرح وهو بشارة الإنجيل قوة اللَّه: ” لأَنَّهُ قُوَّةُ اللَّهِ لِلْخَلاَصِ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ لِلْيَهُودِيِّ أَوَّلًا ثُمَّ لِلْيُونَانِيِّ. لأَنْ فِيهِ مُعْلَنٌ بِرُّ اللَّهِ بِإِيمَانٍ لإِيمَانٍ” (رو 1: 16، 17) وقيل: مَا أَجْمَلَ أَقْدَامَ الْمُبَشِّرِينَ بِالسَّلاَمِ الْمُبَشِّرِينَ بِالْخَيْرَاتِ (رو 10: 15).. التبشير بكلمة اللَّه المدوَّنة في الأسفار المقدَّسة، والتي قال عنها بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ (2تي 3: 15).

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. والخبر يسبق الإيمان، فعندما سمعوا كرازة بولس الرسول آمنوا، فالسمع خطوة جوهرية تسبق الإيمان: ” وَكَيْفَ يُؤْمِنُونَ بِمَنْ لَمْ يَسْمَعُوا بِهِ وَكَيْفَ يَسْمَعُونَ بِلاَ كَارِزٍ” (رو 10: 14).. لقد سمعوا بخبر الإيمان فآمنوا واعتمدوا وحلَّ عليهم روح اللَّه القدوس بوضع بولس الرسول يديه عليهم.. ومن أهم أعمال الروح القدس في حياتنا:

1 أنه يقودنا للإيمان بالمسيحوَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ (1كو 12: 4).

2 يشهد أننا أولاد اللَّه: اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللَّهِ (رو 8: 16).

3 يشفع فينا: لأَنَّنَا لَسْنَا نَعْلَمُ مَا نُصَلِّي لأَجْلِهِ كَمَا يَنْبَغِي وَلكِنَّ الرُّوحَ نَفْسَهُ يَشْفَعُ فِينَا بِأَنَّاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا” (رو 8: 26).

 

4 يعلّمنا كيف نعبد اللَّه: اللَّهُ رُوحٌ وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا” (يو 4: 24).

5 يسكب محبة اللَّه في قلوبنا: لأَنَّ مَحَبَّةَ اللَّهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا (رو 5: 5).

 لقد صوَّر المتهوّدون للغلاطيين أن الروح القدس الذي بدأ معهم الطريق لن يكمّل معهم إن لم يختتنوا ويلتزموا بأعمال الناموس، فهل يمكن أن المسيح الذي صُلِب عنا وقام وأقامنا معه، وسكب علينا روحه القدوس ليمكث معنا إلى الأبد، هل يتركنا هو أو روحه القدوس في منتصف الطريق؟!.. إن الرب يسوع بروحه القدوس: يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ (عب 7: 25).

 

 أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ.. وصفهم بولس الرسول بالغباء لأنهم فقدوا القدرة على تمييز الأمور المتخالفة، وقد صلَّى بولس الرسول من أجل أولاده في فيلبي لكي: يزدادوا في المعرفة والفهم وتمييز الأمور المتخالفة: هذَا أُصَلِّيهِ أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ. حَتَّى تُمَيِّزُوا الأُمُورَ الْمُتَخَالِفَةَ (في 1: 9، 10)، وفي ذات يوم سأل الأنبا أنطونيوس كوكب البرية أولاده: ما هي أهم فضيلة؟.. فقال البعض: المحبة، والآخَر: التواضع، والآخَر: الصلاة.. إلخ، فأجابهم أبوهم الروحي قائلًا: إن أعظم فضيلة هي “التمييز”، لأن بدونها لا يستطيع أن يستكمل الإنسان طريقه للملكوت.

 أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ.. سبق بولس الرسول من قبل ووصف الغلاطيين بالغباء، إذ قال لهم: ” أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ” (غل 3: 1)، وهنا يعيد ما قاله في شكل تساؤل: ” أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ؟ “ليمنحهم فرصة للتمعُّن والتأمل في قوله هذا: هل بعد أن رُسِم بينكم يسوع مصلوبًا واختبرتم حياة القداسة والحرية وتمتعتم بنعمة الخلاص ترتدون على أعقابكم؟! وهل بعد أن يتذوّق الإنسان طعم الحرية يعود ويرتبك بنير العبودية؟.. وهل بعد أن أخذتم الروح بخبر الإيمان هل تعودون إلى أعمال الناموس؟.. وهل بعد أن نلتم الخلاص المجاني بالإيمان بالمسيح الفادي تعودون تلتمسون الخلاص بالختان وأعمال الناموس؟.. وهل بعد أن ابتدأتم الحياة المقدَّسة بالروح القدس تعودون للأركان الجسدية الضعيفة؟!

 أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ.. وما أجملها بداية، حيث ينفصل الإنسان تمامًا عن ماضيه المظلم ويشرق في جنبات حياته شمس البر والشفاء في أجنحتها، ويسكن داخله الروح الوديع الهادئ روح اللَّه القدوس، فيتحوَّل إلى إنسان ملائكي السيرة.. فهل بعد هذا يرتد لماضيه المُظلم؟!

 أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ.. هل بعد أن بدأتم حياتكم الروحية في نور وقوة الروح القدس، وكان ينبغي أن تكونوا الآن أكثر نضجًا، ترتدون إلى الأعمال الجسدية؟!.. كيف تريدون أن تصلوا إلى النضج الروحي عن طريق الجسد؟!.. ما أبعد الفارق بين هذا وذاك، بين الروح وبين الجسد، بين سماء السموات وبين درجات جهنم النار، بين المجد الأبدي والعذاب الأبدي؟!.. من بدأ بالروح وأكمل بالجسد كمن وضع أساسًا قويًا متينًا يتحمل مبنى شاهق الارتفاع ثم شك في متانة هذا الأساس فتركه وراح يُكمِل مبناه على الرمال بعيدًا عن هذا الأساس، فهذا تكميل خاطئ منقوص، فالمبنى مهما ارتفع فحتمًا سينهار يومًا، هكذا من آمنوا بكفاية عمل المسيح الكفاري ثم شكُّوا في هذا وراحوا يبنون حياتهم على أعمال الناموس.

 أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ.. ويُكرّر بولس الرسول نفس المعنى في ذات الرسالة عندما يقول: وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللَّهَ بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللَّهِ فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ” (غل 4: 9)، وفي الآية موضع تأملنا يستخدم بولس الرسول كلمتين متضادتين هما: “الروح” و”الجسد”، والمسيحية ديانة روحية، ومع ذلك فهي ليست ضد الجسد، بل أن الجسد هو موضع رعاية واهتمام الإنسان المسيحي: فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ (أف 5: 29)، ولكن المسيحية ترفض أعمال الجسد الفاسدة وشهواته الرديئة، ولذلك أوصى بولس الرسول أولاده قائلًا: ” وَإِنَّمَا أَقُولُ اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ” (غل 5: 16، 17) ويذكر بولس الرسول أيضًا أعمال الجسد (غل 5: 19-21) التي ينبغي أن يبتعد عنها الإنسان، ثم أجمَلَ القول عندما قال: لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا. وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً (غل 6: 8)، وأوصانا بولس الرسول قائلًا: بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ. وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ (رو 13: 14).

 

” أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا(غل 3: 4).

 أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا.. ليس من الحكمة أن يهدم الإنسان ما سبق أن بناه بجهد وتعب وعرق ودم، وهل بعد أن تعب في طريق الملكوت يتراجع ويُضيّع تعبه هباءً؟!.. لذلك حذّرنا يوحنا الحبيب قائلًا: ” انْظُرُوا إِلَى أَنْفُسِكُمْ لِئَلاَّ نُضَيِّعَ مَا عَمِلْنَاهُ بَلْ نَنَالَ أَجْرًا تَامًا” (2يو 8).. كم قاسى الغلاطيون من أتعاب وعانوا من اضطهادات وضيقات عندما آمنوا بالمصلوب، سواء من اليهود أو المتهوّدين أو الأمم شأنهم شأن جميع المسيحيين؟!.. فكل من يتمسّك بالصليب يضع نفسه في دائرة الضيق والاضطهاد لأن الشيطان وأعوانه لا يطيقون أن يحصل الإنسان على حريته في المسيح: “عندما قَبِلَ الغلاطيون المسيح، تحمّلوا السخرية والإيذاء الجسدي والعزلة والاضطهاد من قِبَل أقربائهم، ومن الواضح أن الاضطهاد استمر لبعض الوقت (أع 14: 1-7، 19، 22). الفكرة هكذا: إذا كان الغلاطيون تحولوا الآن عن المسيح إلى بعض التعليم الكاذب، يكون الألم الذين تحملوه لأجل المسيح قد ضاع عبثًا.. في الواقع أنهم يبدون الآن حمقى إذا تحولوا بعيدًا عن المسيح. مع أنهم تألموا كثيرًا لكي يقبلوه.

 كل مؤمن يتجه إلى المسيح حقًا يكون لديه ألم عليه أن يتحمله.. هناك أنواع آلام:

  • الانعزال عن العالم.
  • إنكار الذات.
  • حمل الصليب والموت عن الذات.
  • تسليم كل ما يملكه الإنسان للمسيح ودعوته (المال، الوقت، الطاقة، الجهد). يمكن أن تمضي القائمة طويلة، ولكن الفكرة واضحة المعالم، إذا كان المسيح يستحق التألم لأجله، فلماذا نتركه ونتحوَّل إلى بعض التعاليم الكاذبة”(142).

 

 ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “لقد احتملتم الكثير من أجل إيمانكم، فهل كان هذا عبثًا؟!.. لقد تألمتم كثيرًا بسبب إيمانكم، فلا تخافوا من هؤلاء المخادعين، لئلا يجردونكم من إكليلكم ويسرقونه منكم”(143).

 أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا.. يقول بولس الرسول لهم أيها الغلاطيون إن كنتم قد رأيتم أن إيمانكم بالمسيح، وما قاسيتموه من أتعاب في سبيل ذلك عملًا عبثيًا لا طائل منه، عملًا بلا داعٍ وبلا هدف، وأنه طيش بلا فائدة.. فلماذا احتملتم كل هذه الآلام؟!.. وهل من الحكمة أن تبيعوا بالرخيص اللؤلؤة الكثيرة الثمن؟!.. كيف ترجعون إلى الأركان الضعيفة وتنسون ما قاسيتموه من أجل المصلوب؟!

 أَهذَا الْمِقْدَارَ احْتَمَلْتُمْ عَبَثًا إِنْ كَانَ عَبَثًا.. قال بولس الرسول لأهل كورنثوس عن الإنجيل الذي بشرهم به: وَبِهِ أَيْضًا تَخْلُصُونَ إِنْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّ كَلاَمٍ بَشَّرْتُكُمْ بِهِ إِلاَّ إِذَا كُنْتُمْ قَدْ آمَنْتُمْ عَبَثًا” (1كو 15: 2)، فبولس الرسول يقول للكورنثوسيين أن خلاصكم يتوقّف على قبولكم الإنجيل الذي بشرتكم به، والعمل بحسب وصاياه، دون أن تحيدوا عنه: إِنْ بَشَّرْنَاكُمْ نَحْنُ أَوْ مَلاَكٌ مِنَ السَّمَاءِ بِغَيْرِ مَا بَشَّرْنَاكُمْ فَلْيَكُنْ أَنَاثِيمَا (غل 1: 8) وإلاَّ ستفقدون خلاصكم، ويصبح إيمانكم عملًا عبثيًا لا قيمة له، فهو إيمان نظري مساوٍ لإيمان الشياطين.

 

 ” فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ (غل 3: 5).

 فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ.. الذي أعطاكم أن تتمتعوا بمواهب الروح.. هل كان هذا بأعمال الناموس أم بخبر الإيمان؟!.. إن عمل الروح القدس وخدمته هو عمل عظيم مجيد: ” فَكَيْفَ لاَ تَكُونُ بِالأَوْلَى خِدْمَةُ الرُّوحِ فِي مَجْدٍ” (2كو 3: 8)، وأنتم قد اختبرتم هذا.

 وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ.. يستشهد بولس الرسول ليس بموقف حدث في الماضي وانتهى، إنما يستشهد بموقف حي معاصر، ما زال يجرى بينهم، وهو عمل القوات والآيات والمعجزات، فالآب يعمل القوات بروحه القدوس الساكن فينا، وبدأ عمل الآيات منذ الكنيسة الأولى: ” شَاهِدًا اللَّهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ حَسَبَ إِرَادَتِهِ” (عب 2: 4). وهو مستمر في الكنيسة على مدى الأيام كقول مخلصنا الصالح: وَهذِهِ الآيَاتُ تَتْبَعُ الْمُؤْمِنِينَ..  (مر 16: 17، 18).

 فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ.. فبعد أن سألهم بولس الرسول كيف أخذوا عطية الروح القدس؟ وهل يصح بعد أن بدأوا بداية حسنة بالروح أن يستكملوا مشوار الملكوت بالجسد؟ وهل احتملوا كل هذه الآلام عبثًا؟ وهنا يأتي السؤال الرابع عمن منحهم عطية الروح القدس ومواهبه وعمل المعجزات والآيات والقوات معهم؟ وبلا شك أن هذا السؤال الذي وجهه بولس الرسول للغلاطيين سؤال بلاغي، لأن بولس الرسول يعرف إجابته جيدًا، ولكن ما يصبوا له أن يثير اهتمام هؤلاء الغلاطيين، ويوقظهم مما هم فيه من ضلال، وينير لهم شمعة على الطريق ليصوّبوا سلوكهم.

 فَالَّذِي يَمْنَحُكُمُ الرُّوحَ وَيَعْمَلُ قُوَّاتٍ فِيكُمْ أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. هذا السؤال الرابع مرتبط جدًا بالسؤال الأول: أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ (غل 3: 2)، فهو إعادة لذات السؤال بصورة مختلفة، في المرة الأولى تكلّم عن الروح القدس مأخوذًا، وفي هذه الآية يتكلّم عنه ممنوحًا، وكلمة “يمنح” هنا في الأصل اليوناني تحمل معنى الفيض والسخاء كقول الرب يسوع: مَنْ آمَنَ بِي كَمَا قَالَ الْكِتَابُ تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ. قَالَ هذَا عَنِ الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ. لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ” (يو 7: 38 – 39)، وقد تُرجمت كلمة “يمنح” في مواضع أخرى إلى “يقدم” كقول بولس الرسول: وَالَّذِي يُقَدِّمُ بِذَارًا لِلزَّارِعِ وَخُبْزًا لِلأَكْلِ سَيُقَدِّمُ وَيُكَثِّرُ بِذَارَكُمْ وَيُنْمِي غَّلاَتِ بِرِّكُمْ (2كو 9: 10)، وكقول بطرس الرسول: لأَنَّهُ هكَذَا يُقَدَّمُ لَكُمْ بِسِعَةٍ دُخُولٌ إِلَى مَلَكُوتِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الأَبَدِيِّ (2بط 1: 11)، فالروح القدس هو منح-ة الآب للبشرية: الآبُ الَّذِي مِنَ السَّمَاءِ يُعْطِي الرُّوحَ الْقُدُسَ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ (لو 11: 13) والابن هو الذي أرسل لنا الروح القدس من عند الآب (يو 15: 26) والروح القدس هو الذي ينقل لنا استحقاقات الفداء، وهو الذي يزيّن النفس البشرية لكيما تصلح للمملكة.

 وفي هذه الأعداد يذكّر بولس الرسول الغلاطيين بالآتي:

1 أنهم أخذوا الروح القدس.

2 أنهم يجب أن يكملوا بالروح لا بالجسد.

3 أن الروح القدس عمل في وسطهم بقوة عجيبة عبر الآيات والقوات والمعجزات.

 أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ.. نفس العبارة ذكرها بولس الرسول في العدد الثاني، فبولس الرسول يريد أن يقول لهم هل بعد أن وهبكم اللَّه عطية الروح القدس وصنع معكم المعجزات بناءً على إيمانكم بالإنجيل تريدون أن تعودوا إلى أعمال الناموس؟!.. إن أعمال الناموس قد عجزت تمامًا عن أن تهبكم الخلاص أو تُسكِن الروح القدس في قلوبكم، أو تجري معكم الآيات والمعجزات، فتأملوا جيدًا، هل هذه البركات من ثمار أعمال الناموس أم من ثمار البشارة بالإنجيل المقدَّس؟!.. إنها من ثمار الإيمان بالإنجيل.. أن تغيُّر حياتكم أيها الغلاطيون من الجهل للحكمة، ومن النجاسة للقداسة، ومن الشراسة للوداعة، لهى أعظم معجزة للروح القدس الذي عمل وما زال يعمل فيكم..

 سأل أحد الملحدين إنسانًا كان سكيرًا وتاب عن سُكره: هل تؤمن حقًا بمعجزات الكتاب المقدَّس؟.. قال له: نعم، فسأله: هل تصدق أن يسوع حوَّل الماء إلى خمر؟ فقال له: نعم، وبكل تأكيد، لأنه قد حوَّل في بيتي الخمر إلى طعام ولُباس وأثاث.

ثانيًا: في إبراهيم تتبارك الأمم (غل 3: 6-9):

 “كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا. اعْلَمُوا إِذًا أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ. وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللَّهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ. إِذًا الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ” (غل 3: 6 – 9).

 في الآيات الخمس السابقة ربط بولس الرسول بين الإيمان وعطية الروح القدس ومواهبه، وفي الآيات الأربع التالية يوضح بولس الرسول تبرير إبراهيم بالإيمان، والتساؤل الذي طرحه بولس الرسول في الآيتين (2، 5) أجاب عليه هنا في الآية (6) بمثل واضح، وهو تبرير إبراهيم الذي يتفاخر به اليهود كأب لهم بدون أعمال الناموس، ويقول “ماكدونل“: “والسؤال في العدد (5) كان: “أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ“، “والجواب الطبيعي كان: “بِخَبَرِ الإِيمَانِ“، ويبدأ العدد (6) من هذه الحقيقة بالذات فيقول: “كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ” فهو تبرير بالطريقة نفسها، أي بخبر الإيمان. ربما كان المعلّمون اليهود يعتبرون إبراهيم بطلًا ومثالًا لهم.. ففي هذه الحال يحاربهم بولس بسلاحهم الخاص. كيف حصل إبراهيم على الخلاص؟ آمن إبراهيم باللَّه”(144).

 ويقول “الأب متى المسكين“: “هنا يُعلق ق. بولس على قوله السابق أن الذي يمنحهم الروح ويعمل القوات هو “بِالإِيمَانِ” وليس بأعمال الناموس. ويوثق قوله بما حدث لإبراهيم حينما آمن باللَّه فحُسب له إيمانه برًّا. فهكذا يقول ق. بولس لهم: إن إبراهيم لم يكن تحت ناموس ولا كان له أعمال للناموس يعملها، ولكن اللَّه عرض خبر الإيمان عليه فآمن فحُسب له برًا(145).

 ففي هذه الفقرة القصيرة يرجع بولس الرسول بنا إلى نحو ألفي سنة قبل الميلاد مستشهدًا بإبراهيم أب الآباء، ومفخرة البشرية، الذي اجتاز أصعب امتحان يجتازه إنسان، وكيف أنه نال التبرير في فجر حياته بالإيمان، وكيف نال الوعد الإلهي أن في نسله تتبارك كل قبائل الأرض (تك 12: 3، 18: 18، 22: 18، أع 3: 25).

 

 ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “يتضمن هذا المقطع (غل 3: 6-15) أقلَّه ستة إيرادات أو تلميحات واضحة إلى الكتاب المقدَّس (تك 15: 6) “آمَنَ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا” في (غل 3: 6)، و(تك 12: 3)، “بكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ” في (غل 3: 8), (تث 27: 26) “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ” (غل 3: 10)، و(حب 2: 4) “الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا” في (غل 3: 11)، و(لا 18: 5)، “مَن يعمل بهذه الوصايا يحيا بها” في (غل 3: 12)، و(تث 12: 23) “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ” في (غل 3: 15). إذًا نحن أمام برهان يستند بصورة خاصة إلى أسفار الشريعة الخمسة..

 ليست الكتب المقدَّسة في نظر بولس مجموعة من الأقوال أو الأمثلة التي تعيش خارج الزمن. إنها تشهد على أحداث تاريخية نجد امتدادها المباشر في حياة الغلاطيين، فالكتاب رأى مُسبقًا، صار الكتاب شخصًا حيًا، ولقد قال الحقيقة. ثم يُشدّد النص على معرفة اللَّه المسبقة، على مبادرته وسلطته في عمل التبرير(146).

 

 كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا. اعْلَمُوا إِذًا أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ (غل 3: 6، 7).

 كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا.. متى آمن إبراهيم باللَّه؟!.. آمن إبراهيم باللَّه عندما دعاه للخروج من أرضه ومن عشيرته لكيما يمضي للأرض التي يريه إياها، فأطاع (تك 12: 1-4)، كما آمن عندما كانت سارة عاقرًا وكاد إبراهيم أن يفقد الأمل في أن يكون له ابنًا، فظهر له الرب في رؤيا يطمئنه ويخبره بأن أجره كثير جدًا، فقال إبراهيم للَّه: ماذا تعطيني وأنا ماضٍ عقيمًا ومالك بيتي هو اليعازر الدمشقي، فلم يوافقه الرب على قوله، بل قال له إن الذي يخرج من أحشائك هو يرثك، وَقَالَ انْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ وَعُدَّ النُّجُومَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَعُدَّهَا. وَقَالَ لَهُ هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ. فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ برًّا (تك 15: 5، 6)، وهذا ما سجَّله موسى النبي، وهذا ما أكده بولس الرسول مرارًا وتكرارًا، وكذلك القديس يعقوب.

 lلأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا” (رو 4: 3).

لأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا (رو 4: 9).

 lآمن إبراهيم وتيقن أن اللَّه سيهبه نسلًا رغم تقدُّم سنه هو وزوجته سارة: لِذلِكَ أَيْضًا حُسِبَ لَهُ بِرًّا (رو 4: 22).

 

l “وَتَمَّ الْكِتَابُ الْقَائِلُ فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا وَدُعِيَ خَلِيلَ اللَّهِ(يع 2: 23).

 ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“إن كان ذاك الذي كان قَبْل النعمة قد تبرر بالإيمان مع أنه كان غنيًا بالأعمال، فبالأولى نحن (نتبرر بالإيمان). لأنه أية خسارة لحقت بإبراهيم بكونه تحت الناموس؟ لا شيء، فإن إيمانه كان كفيلًا للتمتع بالبر”(147).

 كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا.. هل تبرر إبراهيم بأعمال الناموس؟!.. كلاَّ، لأن الناموس لم يكن قد أُعطيَ بعد، وهذا يرد على زعم المتهوّدين بأن الناموس جاء أولًا ثم الإيمان، وقال بولس الرسول: ” فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ” (رو 4: 12).

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: ” ( أ ) بحسب التقليد اليهودي نفسه جاء في عظة مدراشية (“مدراش” تعني تفسيرًا) أن إبراهيم حُسِب بارًا أمام اللَّه بالإيمان (ع 6) وليس بحفظ طقوس ناموسية.. (ج) إعتاد المعلمون الكذبة أن يُربكوا الغلاطيين بقولهم أن الناموس جاء أولًا ثم الإيمان. لهذا يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: {الآن يزيل هذا المفهوم، إظهار أن الإيمان سبق الناموس، كما يتضح من حالة إبراهيم الذي تبرَّر قبْل استلام الناموس}. تبرَّر إبراهيم قبل وضع ناموس الختان بخمسة عشر عامًا(148).

 وفعل “حُسِب” في الأصل اليوناني يحمل معنى “أن يودع في حساب شخصي..” (راجع وارين ويرزبي – كُن حرًّا – دراسة في الرسالة إلى أهل غلاطية ص 53)، فعندما يتوب الخاطئ ويؤمن بالمسيح فإن برَّ اللَّه يودع في حسابه رصيدًا يكفي لتبريره تبريرًا كاملًا، فيصبح إنسانًا مُبرَّرًا.

 

 كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا.. ” آمن إبراهيم باللَّه فحُسِب بارًا. لقد خرج، ترك بيته وخاطر بكل شيء وهو لا يعلم إلى أين يأتي (عب 11: 8). لقد آمن باللَّه تمامًا دون تردُّد، وصدّق الَّله. لاحظ الآن: إن حفظ إبراهيم للناموس ليس هو الذي أسرَّ اللَّه. في الواقع، فإن الناموس لم يكن قد أُعطيَ بعد (غل 3: 17). ما أسرّ اللَّه وما جعله يُبرّر إبراهيم كان إتباع إبراهيم لما قاله اللَّه. آمن إبراهيم ببساطة بوعد اللَّه بأن اللَّه سوف يعطيه حياة جديدة في أمة جديدة مع شعب جديد..

 الدليل على أن إبراهيم آمن حقًا باللَّه كان لأنه فعل ما قاله اللَّه. إيمانه سبق طاعته. لقد آمن باللَّه ثم أطاع اللَّه. لو لم يكن قد آمن باللَّه لما ترك بيته وعمله، لما ترك أيضًا أصدقاءه ومحبيه، لما ترك أيضًا العلاقات التي تعني الكثير بالنسبة له وارتباطاته الشخصية. إن حقيقة أنه عمل تمامًا ما طلبه اللَّه منه، كانت دليلًا على أنه آمن بوعد اللَّه(149).

 كَمَا آمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا.. قد يتساءل أحد كيف يُكلّم بولس الرسول الغلاطيين وهم من أصل أممي عن تبرير إبراهيم؟!.. وهل يدرون شيئًا عن إبراهيم الذي عاش منذ نحو ألفي عام قبل الميلاد في أرض بعيدة عنهم؟!.. لكن بلا شك أن قصة إبراهيم عُرِفت وسط الأمم بطريقة أو بأخرى:

1 كان هناك جاليات يهودية تعيش في مدن غلاطية ونُشِرت ثقافتها إلى حد ما.

2 كان هناك يهود دخلاء، أي من أصل أممي، وهؤلاء عندما تهوَّدوا أطلعوا على تاريخ الآباء والأنبياء.

3 كان هناك مصاهرات بين اليهود والأمم، فمثلًا كانت أم القديس تيموثاوس يهودية بينما كان أبيه أمميًا.

4 كانت العظات في الكنائس الأولى تعتمد أساسًا على قصص العهد القديم بالإضافة إلى تعاليم السيد المسيح.

 إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ.. سواء كانوا من أصل يهودي (أهل الختان) أو من أصل أممي (أهل الغرلة) فجميعهم تبرَّروا بالإيمان، لا فرق بين هذا وذاك: لأَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الْخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالْغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ (رو 3: 30).. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِه (رو 10: 12).

 إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ.. فالذين يؤمنون بإيمان إبراهيم ويعملون أعماله هم بالحقيقة أولاد إبراهيم، فاليهود بالرغم من أنهم من صُلب إبراهيم وتفاخروا بأنهم أبناء إبراهيم، قال لهم الرب يسوع: لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إِبْرَاهِيمَ، لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إِبْرَاهِيمَ (يو 8: 39).. لقد تمسَّك اليهود بأبوة إبراهيم لهم بحسب صلة الدم والتناسل الجسدي، وبذلك ظنوا أنهم سينالون رضى اللَّه لمجرد أنهم أولاد خليل اللَّه، فأوضح لهم الرب يسوع الحقيقة أن أولاد إبراهيم هم من يفعلوا أفعال إبراهيم، ومن لا يعمل أعمال إبراهيم فلا يستحق أن يكون له أبناء حتى لو كان يهوديًا من نسل إبراهيم، وقال يوحنا المعمدان لليهود: لاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ (مت 3: 9).

 فالذي له إيمان إبراهيم ويعمل أعمال إبراهيم هو بالحقيقة ابن لإبراهيم حتى لو كان من الأمم، فقال بولس الرسول عن إبراهيم: الَّذِي كَانَ فِي الْغُرْلَةِ لِيَكُونَ أَبًا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْغُرْلَةِ كَيْ يُحْسَبَ لَهُمْ أَيْضًا الْبِرُّ. وَأَبًا لِلْخِتَانِ لِلَّذِينَ لَيْسُوا مِنَ الْخِتَانِ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا يَسْلُكُونَ فِي خُطُوَاتِ إِيمَانِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ الَّذِي كَانَ وَهُوَ فِي الْغُرْلَةِ(رو 4: 11، 12).

 ويقول “وليم باركلي“: “الانتساب الحقيقي لإبراهيم هو أن يمارس الإنسان في كل يوم وفي كل جيل نفس مجازفة الإيمان التي قام بها إبراهيم. ولذلك فإن مَن يرثون وعد إبراهيم ليسوا من يبحثون عن مكافأة حفظ الناموس، ولكنما أولئك الذين من كل أمة يؤمنون باللَّه كما آمن إبراهيم(150).

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “بالمنطق يليق بأولاد إبراهيم من اليهود أو الأمم أن يتشبهوا به، أي أن يعيشوا بالإيمان فيشاركوه في المواعيد. أبناء إبراهيم الحقيقيون هم فقط الذين يتمثلون بإيمانه. فضيلة الإيمان تأتي بالأمم إلى الالتصاق بإبراهيم أكثر من اليهود نسله حسب الجسد. الذين يتكئون على الإيمان بالمسيح يسوع لتبريرهم سوف يتباركون مع إبراهيم المؤمن(151).

 إنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ.. مقابل البنوة الروحية استهان بولس الرسول بالبنوة الجسدية، وهذا عكس طبيعة شاول الطرسوسي الفريسي ابن الفريسي المتزمّت المعتز ببنوته الجسدية لإبراهيم إذ هو من سبط بنيامين بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم، ولكن هذا ما فعله الإيمان في بولس الرسول إذ عَدَلَ الموازين المقلوبة التي كانت تسيطر عليه، فاقتنع أن البنوة الروحية دائمة، بينما البنوة الجسدية لا طائل منها إلاَّ إذا اندمجت بالبنوة الروحية، وبذلك لم يعد هناك ضرورة مُلحّة للبحث عن النسب، وهي عملية شاقة وطويلة تستلزم حفظ أسماء الآباء والأجداد وأجداد الأجداد حتى يصل الإنسان بنسبه إلى أحد أولاد يعقوب الاثني عشر، وهي عملية مرهقة وعسرة للغاية، وقد يفشل الإنسان في إثبات نسبه الجسدي من إبراهيم، بينما البنوّة الروحية لإبراهيم أمر سهل وسلس ومُتاح لأي إنسان من مشارق الشمس إلى مغاربها، فما دام له إيمان وأعمال إبراهيم فهو ابن لإبراهيم، وقد نال التبرير بالإيمان مثل أبيه إبراهيم.

 

 وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللَّهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ. إِذًا الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ (غل 3: 8، 9).

 وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى.. الْكِتَابُ” معرّفة بالألف واللام فالمقصود به الكتاب المقدَّس، وفي إحدى المرات سأل أحد الأتقياء ابنه أن يعطيه الكتاب من المكتبة، فقال له الابن: أي كتاب تقصد والمكتبة بها مئات الكتب، فقال له يا ابني: لا يُدعى أي كتاب بالكتاب إلاَّ الكتاب المقدَّس وحده، فهو كتاب اللَّه الوحيد الفريد الذي يقود الإنسان إلى أبواب الملكوت، وقد دُعيت الأسفار المقدَّسة بالكتب كقول السيد المسيح: ” فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً وهي الَّتِي تَشْهَدُ لِي” (يو 5: 39)، وقال بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: ” وَأَنَّكَ مُنْذُ الطُّفُولِيَّةِ تَعْرِفُ الْكُتُبَ الْمُقَدَّسَةَ الْقَادِرَةَ أَنْ تُحَكِّمَكَ لِلْخَلاَصِ بِالإِيمَانِ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ “(2تي 3: 15). ورغم تعدُّد الأسفار المقدَّسة واختلاف أعمار كتَّابها وأعمالهم وثقافاتهم وبيئاتهم.. إلخ، لكن جميعها كُتبت بروح واحد بلا أي تضارب ولا تناقض ولا تشويش، لأن كل الكتاب هو موحى به من الروح القدس، لذلك تندرج جميعها في الكتاب الواحد، وما دُوّن في أي سفر يمكن أن نقول أنه جاء في الكتاب، فمثلًا ما ورد في سفر الخروج قال عنه بولس الرسول أنه جاء في الكتاب: لأَنَّهُ يَقُولُ الْكِتَابُ لِفِرْعَوْنَ إِنِّي لِهذَا بِعَيْنِهِ أَقَمْتُكَ لِكَيْ أُظْهِرَ فِيكَ قُوَّتِي  (رو 9: 17)، كما قال: لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ” (غل 3: 22)، وعندما قال بولس الرسول: وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى فهو يقصد بلا شك صاحب الكتاب، أو رب الكتاب، أو روح اللَّه القدوس.

 وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى.. تعبير بلاغي رائع يُصوّر كاروز الأمم الكتاب المقدَّس كأنه كائن حي يرى ويُبصر ويتفاعل: ” لأَنَّ كَلِمَةَ اللَّهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ” (عب 4: 12)، فالكتاب ليس مجرد حبر وورق، إنما هو يعبر عن صوت اللَّه الحي الفعَّال الذي له نظرته الخاصة في هذه الحياة وفي الحياة الأخرى أيضًا، والكلمة النبوية هي التي تضيئ لنا الطريق كسراج منير: وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ وهي أَثْبَتُ الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ (2بط 1: 19).

 وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى أَنَّ اللَّهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ.. في الكتاب نرى بعض الأمور التي كانت في قصد اللَّه ولم تُعلَن لأحد من البشر وربما للملائكة، مثل قضية التجسد والفداء، وقبول اللَّه للأمم، مثل هذه الأمور جاءت في الكتاب لأنه كُتب بوحي من روح اللَّه القدوس الذي يكشف أعماق اللَّه: لأَنَّ الرُّوحَ يَفْحَصُ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ اللَّهِ. لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ. هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللَّهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللَّهِ” (1كو 2: 10، 11)، فقد كان تبرّير الأمم بالإيمان سر أخفيَ عن الكثيرين، وهذا ما أوضحه بولس الرسول بأن اللَّه قد أُعلن له هذا السر، وهو قبول الأمم، فقال: أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ.. الَّذِي فِي أَجْيَال أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ. أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ” (أف 3: 3 – 6).

 ويقول “ماكدونل“: “يصف لنا هذا العدد (8) العهد القديم وكأنه نبي ينظر عدة قرون إلى الأمام فيرى أن اللَّه يبرر الأمم كما اليهود أيضًا على مبدأ الإيمان. وما سبق العهد القديم فرأى بركة الأمم فقط، بل أعلنها أيضًا لإبراهيم إذ قال له: “وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (تك 12: 3).

 وقد نستصعب في البداية ونحن نقرأ هذا العدد من سفر التكوين، أن نرى كيف وجد فيه بولس هذا المعنى. ومع هذا فإن الروح القدس إذ كتب هذه الآية في العهد القديم، عرف أنها تحتوي على إنجيل الخلاص بالإيمان لجميع الأمم. فقد استطاع بولس أن يشرح المعنى الضمني لهذه الآية لأنه يكتب بوحي الروح القدس ذاته: فيك.. أي مع إبراهيم بالطريقة نفسها كإبراهيم، وجميع الأمم تعني الأمم واليهود على السواء. تتبارك -أي ستُخلَّص. لكن كيف خلص إبراهيم؟ بالإيمان. وكيف ستخلص الأمم؟ بالطريقة نفسها مثل إبراهيم- بالإيمان. وعلاوة على ذلك لا ضرورة لأن يصبح الأمم يهودًا لكي يخلصوا(152).

 أَنَّ اللَّهَ بِالإِيمَانِ يُبَرِّرُ الأُمَمَ سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ.. البشارة هي الخبر الطيب، والبشارة التي بشَّر بها الرب يسوع أبناء إبراهيم هي ” بِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ” (مر 1: 14).. بِشَارَةِ نِعْمَةِ اللَّهِ (أع 20: 24) ومضمون هذه البشارة أن في إبراهيم تتبارك جميع قبائل الأرض، وهذا ما أشار إليه بطرس الرسول عقب شفاء الأعرج من بطن أمه إذ وجّه نظر اليهود لهذه البشارة قائلًا: أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللَّهُ آبَاءَنَا قَائِلًا لإِبْراهِيمَ وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (أع 3: 25).

 الْكِتَابُ.. سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ.. عندما دعا الرب إبرام للخروج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه للأرض التي يريه إياها منحه البركة قائلًا: أُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ وَتَكُونَ بَرَكَةً.. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ(تك 12: 2، 3)، وبعد أن استضاف إبراهيم الرب وملاكين، وقبل إهلاك سدوم وعمورة: فَقَالَ الرَّبُّ هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ؟ وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ (تك 18: 17، 18)، وأيضًا عقب تقديم إبراهيم ابنه ذبيحة منحه الرب البركة قائلًا له: وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ (تك 22: 18).

 ويقول “دكتور وليم آدي“: سَبَقَ فَبَشَّرَ أي تنبأ قبل إنجاز الوعد وقبل مجيء المسيح وقبل دعوة الأمم. وسمى إنباءه “تبشيرًا” لأن جوهره الخبر المبهج أن الأمم تتبرَّر بالإيمان.. فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ أي بكونك أبًا روحيًّا لجميع المؤمنين. فاتخاذ هذه الكلمة إشارة إلى المؤمنين من نسل إبراهيم لا يمنع من اتخاذها في موضع آخر بمعنى آخر هو المسيح (ع 16). والمُراد “بجميع الأمم” كل قبائل الأرض من اليهود والأمم الذين اقتفوا خطوات إبراهيم في الإيمان واتخذوه أبًا روحيًّا فصاروا ورثة البركات التي نالها”(153).

 أَنْ فِيكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ الأُمَمِ.. كيف تتبارك الأمم؟.. تتبارك الأمم بنسل إبراهيم أي بالمسيح، ولذلك لم يقل الأنسال بل قال النسل: ” وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ وَفِي الأَنْسَالِ كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ” (غل 3: 16)، فالذين يؤمنون بالمسيح من الأمم ينالون بركة إبراهيم: الْكِتَابُ سَبَقَ فَبَشَّرَ إِبْرَاهِيمَ.. ماذا يعني ذلك؟ وعد اللَّه إبراهيم بابن أرضي وأمة أرضية عظيمة. ولكن فيما وراء وعد الَّله، كان هناك شيء أكثر من مجرد إتمام بُشرى أرضية. كان ابن إبراهيم، إسحق، نوعًا من الذرية الحقيقية (النسل الحقيقي) الذي كان عليه أن يأتي، وكانت الأمة اليهودية نوعًا من الأمة الحقيقية التي كانت لتولد.. الكلمة “نسل” مفرد، وليست جمعًا (غل 3: 16). إن وعد اللَّه لا يشير إلى جمع عظيم من الناس، بل إلى شخص واحد. هذا الشخص هو يسوع المسيح، إتمامًا لوعد اللَّه لإبراهيم. والأمة الموعودة هي أمة المؤمنين الجديدة التي يخلقها اللَّه لكي ترث السموات الجديدة والأرض الجديدة(154).

 ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: ” إن كلمة “جَمِيعُ الأُمَمِ” تؤكد دخول الوثنيين في نسل إبراهيم حين يؤمنون بشبه إيمانه فيصيرون أولاده بعكس من يرتبطون به عن طريق الدم. كذلك يؤكد هنا أن الإيمان أقدم من الناموس ولقد تبرَّر به إبراهيم قبل إعطاء الناموس بأجيال كثيرة(155).

 إِذًا الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ.. عبارة الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ يَتَبَارَكُونَ هي نفس العبارة التي ذكرها بولس الرسل في (ع 7)، ليؤكد أن التبرير والخلاص ليس له طريق آخَر غير طريق الإيمان بالمسيح الفادي والثقة في كفاية الفداء، وبدون الإيمان به لا خلاص للإنسان مهما صنع من أعمال حسنة، لأن أبواب الملكوت ستظل موصدة في وجه كل إنسان يعتمد على بره الذاتي رافضًا التبرير بدم المسيح (رو 3: 24). أما جميع المؤمنين فأنهم يتباركون، فهذه هي النتيجة الحتمية والأكيدة التي يؤكدها الكتاب المقدَّس أن الإنسان المؤمن الحقيقي الذي تبرَّر بدم المسيح وحفظ طهارته وحياته من الدنس بنعمة المسيح يخلص ويرث الملكوت.

 يَتَبَارَكُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ الْمُؤْمِنِ.. لقد بارك اللَّه إبرام وغيَّر اسمه إلى إبراهيم قائلًا له: فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ. لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ. وَأُثْمِرُكَ كَثِيرًا جِدًّا وَأَجْعَلُكَ أُمَمًا وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ (تك 17: 5، 6)، وهذا العهد الذي أقامه اللَّه مع إبراهيم، دخل فيه جميع الأمم، حتى أن بعض الأمميين فاقوا بني إبراهيم في الإيمان.. اسألوا المرأة الكنعانية وكيف شهد الرب يسوع لإيمانها، وقائد المئة الأممي الذي قال عنه السيد المسيحاَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إِسْرَائِيلَ إِيمَانًا بِمِقْدَارِ هذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ. وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ (مت 8: 10-12).. لقد أشاع المتهوّدين أنه بدون الختان وحفظ مطالب الناموس لا يستطع الإنسان أن يحصل على بركات إبراهيم، فأكد لهم بولس الرسول بأن إيمانهم بالسيد المسيح يمنحهم بركات إبراهيم أب الآباء دون الحاجة للختان وغيره.. الناموس يقول للإنسان: “افعل هذا فتحيا”، أما النعمة فتقول: “آمن فتحيا”، والناموس لا يبرّر الخاطئ أما الخاطئ فيتبرَّر بالإيمان (غل 2: 16)، والناموس لا يهب عطية الروح القدس أما الإيمان فيهب عطية الروح القدس ومواهبه (غل 3: 2)، والناموس يعجز عن أن يهب الإنسان الحياة (غل 3: 21) كما يعجز أن يهبه الحرية (غل 4: 8-10)، أما البار فبالإيمان يحيا.. الناموس يجلب اللعنة أما الإيمان فيهب البركة.

ثالثًا: المسيح افتدانا من لعنة الناموس (غل 3: 10-14):

 لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ. وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللَّهِ فَظَاهِرٌ لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا. وَلكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ بَلِ الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِها. اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ” (غل 3: 10 – 14).

 في هذه الفقرة يوضّح بولس الرسول اللعنة التي تحل على الإنسان بسبب عدم قدرته على تنفيذ مطالب الناموس بالكامل وبصفة مستديمة ومستمرة بلا انقطاع، وقد نص الناموس على أن مَن لا ينفذ مطالبه بالكامل فهو ملعون، فالإنسان بسبب ضعف طبيعته البشرية، وليس عيبًا في الناموس، يستحيل عليه أن يتبرَّر بالناموس، فصار اليهودي محكومًا عليه من قِبل الناموس، والأممي محكومًا عليه من قِبل خطاياه، فصار كليهما تحت الضعف وتحت الخطية، ولا طريق للخلاص والتبرير إلاَّ بالإيمان بالمسيح يسوع الذي افتدانا من لعنة الناموس، إذ عُلّق على خشبة العار وحمل لعنة البشرية، فكل من يؤمن بِاسمه القدوس يتبرَّر ويرث بركة إبراهيم.

 

 لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ (غل 3: 10).

 لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ.. لم يقل بولس الرسول جميع الذين كسروا الناموس هم تحت اللعنة، بل قال جميع الذين هم من أعمال الناموس، أي الذين يحاولون التبرير والحصول على رضا الرب على أساس إطاعة الناموس، هم تحت اللعنة، ذلك لأنهم عجزوا عن أن يلتزموا بجميع وصايا الناموس في جميع الأوقات، ويقول “ماكدونل“: ” إذ لا يكفي حفظ الناموس ليوم أو شهر أو سنة، بل يجب أن يثبت الإنسان في حفظه، يجب أن يحفظه تمامًا. ولا يكفي فقط حفظ الوصايا العشر، بل ينبغي أيضًا حفظ فرائض موسى في الأسفار الخمسة بأكملها، وهي وصايا تتعدى الست مئة!(156).

 ويقول ” دكتور وليم آدي“: “وخلاصة الآية أن كل الذين طلبوا خلاص نفوسهم بأعمال الناموس عرَّضوا أنفسهم لحمل عقابه لأنه من المُحال أن يحفظ الإنسان الناموس كله (رو 3: 19)(157).

 وهنا يقارن بولس الرسول بين:

 أ – الذين يعتمدون على أعمال الناموس في قضية خلاصهم.

 ب – الذين يعتمدون على الإيمان لنوال التبرير والخلاص.

 وبهذا يظهر الفرق بين الذين وثقوا بأنفسهم معتمدين على أعمال الناموس، وبين الذين وثقوا في اللَّه وآمنوا به، وقد ظهر هذا الفارق الشاسع في مَثَل الفريسي والعشار، فالفريسي أخذ يتفاخر بأعماله وسلوكياته وأنه يتميز عن الناس إذ حفظ أدق الوصايا، بينما لم يشأ العشار أن يرفع عينيه إلى السماء، بل قرع صدره طالبًا رحمة اللَّه، فقال الفريسي: ” اَللّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ. وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ. بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلًا اللّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ” (لو 18: 11 – 13).. فماذا كانت النتيجة؟.. ” إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ” (لو 18: 14).

 

 لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ.. لماذا هم تحت اللعنة؟ وهل الناموس يمثل لعنة،.. كلاَّ لأن الناموس صالح، فالشهيد اسطفانوس قال: هذَا هُوَ مُوسَى.. هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي البَرِّيَّةِ مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالًا حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَ (أع 7: 37، 38)، والناموس هو كتاب العهد الذي التزم به الشعب، فموسى النبي: أَخَذَ كِتَابَ الْعَهْدِ وَقَرَأَ فِي مَسَامِعِ الشَّعْبِ فَقَالُوا كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ وَنَسْمَعُ لَهُ (خر 24: 7). إذًا هم قطعوا عهدًا على أنفسهم أن يلتزموا بكل ما تكلّم به الرب. لا أن يستمعوا إليه فقط بل يعملّوا به أيضًا: ” لأَنْ لَيْسَ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ النَّامُوسَ هُمْ أَبْرَارٌ عِنْدَ اللَّهِ، بَلِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِالنَّامُوسِ هُمْ يُبَرَّرُونَ” (رو 2: 13)، وحكم الناموس باللعنة على الإنسان الذي لا يطيع جميع وصاياه ونواهيه وأحكامه بدون أي استثناء، وبذلك تساوى اليهودي مع الأممي، فكليهما تحت حكم اللعنة والخطية والموت، حتى قال بولس الرسول: أَنَحْنُ أَفْضَلُ. كلاَّ البَتَّةَ. لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ الْيَهُودَ وَاليُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ. كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللَّهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ” (رو 3: 9 – 12).

 ولقد ظن المتهوّدون أن الأمم هم تحت اللعنة لأنهم لا يعرفون الناموس، ولم يدركوا أنهم هم أيضًا تحت اللعنة لأنهم لم يلتزموا بالناموس التزامًا كاملًا، وربما أدركوا أنه من المستحيل الالتزام بجميع وصايا الناموس، لذلك راحوا يتمسحون باستحقاقات الآباء ولا سيما إبراهيم، وتمسّكوا بالختان كعلامة عهد بينهم وبين اللَّه، وكان الإنسان اليهودي يظن أنه لا يمكن أن يهلك إنسان مختتن من أبناء إبراهيم، ولا يمكن أن يُلقى في جهنم النار مع الأمم الذين خُلقوا كوقود للنار الأبدية، فإذ ببولس الرسول يكشف لهم الحقيقة أن الذين يعرفون الناموس هم جميعهم تحت اللعنة، لأن ولا واحد منهم استطاع أن ينفّذ جميع وصاياه وأحكامه وفرائضه التي شملت كل مناحي الحياة، فالناموس لم يكن مأدبة غذاء يلتقط منها الإنسان ما يشأ ويترك ما يشأ، حتى لو افترضنا جدلًا أن إنسانًا سيتمم كل وصايا الناموس، فما أدراك أنه لا يسقط في الكبرياء والبر الذاتي؟!

 لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ.. والمكتوب هو كلام اللَّه الذي لا يتغير، وفي التجربة على الجبل حارب عدو الخير ابن اللَّه بالمكتوب، فأجابه الرب يسوع بالمكتوب أيضًا: ” مَكْتُوبٌ لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ” (مت 4: 4).. قَالَ لَهُ يَسُوعُ مَكْتُوبٌ أَيْضًا لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ (مت 4: 7) كما قال له الرب يسوع: ” مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ” (مت 4: 10)، وفي ليلة آلامه قال لتلاميذه: ” لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ” (مت 26: 31)، وكثيرًا ما استخدم رجال العهد الجديد نفس التعبير، فمتى البشير يقول مثلًا: ” لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ” (مت 1: 22)، وقال مرقس الإنجيلي: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ (مر 1: 2)، وقال لوقا الطبيب: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ (لو 2: 23) وبولس الرسول يقول: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ (رو 1: 17) وحَسَبَ الْكُتُبِ (1كو 15: 3، 4) وقال بطرس الرسول: لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ” (1بط 1: 16).. إذًا لا يمكن إلغاء المكتوب، وقديمًا وقفت أسباط لاوي وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالي على جبل عيبال، جبل اللعنة، وكان اللاويون يصرخون: مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي.. وَيُجِيبُ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَيَقُولُونَ آمِينَ (تث 27: 15) وتتكرّر اللعنات اثنى عشر مرة، وفي المرة الأخيرة تأتي اللعنة إجمالية: مَلْعُونٌ مَنْ لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ آمِينَ (تث 27: 26). كما كلّم الرب إرميا ليوصي رجال يهوذا وسكان أورشليم: فَتَقُولُ لَهُمْ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ. مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي لاَ يَسْمَعُ كَلاَمَ هذَا الْعَهْدِ (إر 11: 3)، فهكذا هو مكتوب في الكتاب الخالد.

 

 لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ.. يخاطب بولس الرسول المتهوّدين بالمنطق والعقل: أنتم تريدون أن تتبرَّروا بالناموس، هذا حسن جدًا، ولكن أحد منكم لا يستطيع أن يلتزم بجميع المكتوب في الناموس دون أن يخطئ في واحدة، إذًا جميعكم ستلحقكم لعنة الناموس عوضًا عن البركة، وحتى أن القديس يعقوب الذي تتمسحون في ثيابه قالها صراحة: لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ (يع 2: 10).. “الإنسان الذي يقترب من اللَّه بالناموس ملعون: لأنه لا يحفظ الناموس كله. لاحظ حقيقة هامة: يوجد البر الذي في الناموس (رو 10: 5، غل 3: 12)، ذلك البر يعد بالحياة لكل إنسان يمكنه أن يطيع الناموس بالكامل. إذا استطاع إنسان أن يلبي كل متطلبات الناموس خلال حياته، وألاَّ يخل مرة واحدة بمقياس اللَّه القدوس، فإن ذلك الإنسان يمكنه أن ينجو من عقوبة الخطية، التي هي الموت. لكن كل إنسان عاقل وصادق يعلم أنه لا يستطيع أن يحفظ ناموس اللَّه بكل تفاصيله دائمًا. أنه يعرف أنه في بعض الأحيان يخطئ في:

l السلوك.

l الانفعالات.

l الدوافع.

l العبادة.

l الخدمة.

 كل شخص عامل وصادق يعرف أنه لا يمكن أن يكون قريبًا من الكمال أو من الحصول على الكمال، فهو يعلم أنه يفشل ويخطئ كثيرًا. هو يعلم أن ما يقوله هذا العدد حقيقي تمامًا، لا يستطيع إنسان أن يستمر في عمل كل ما هو مكتوب في ناموس اللَّه(158).

 إذًا الناموس يكشف خطايا الإنسان ويدينه عليها حاكمًا عليه باللعنة، فالناموس إذًا يجلب اللعنة على الإنسان، أما الإيمان فيجلب للإنسان الحياة ورضى اللَّه عنه: ” لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا” (غل 3: 11).

 مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ.. ما أقسى وما أرهب كلمة “اللعنة” التي تعكس الغضب الإلهي، ومن يستطيع أن يحتملها، واللعنة لها تاريخ طويل مع الإنسان، فعقب السقوط لعن اللَّه الحيَّة فصارت تتعقَّب الإنسان، ولعن اللَّه الأرض فعوضًا أن تنتج حصادها وثمارها صارت تنتج شوكًا وحسكًا، وعندما قتل قايين هابيل أخيه لعنه اللَّه فارتعب: فَقَالَ قَايِينُ لِلرَّبِّ ذَنْبِي أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحْتَمَلَ. إِنَّكَ قَدْ طَرَدْتَنِي الْيَوْمَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ وَمِنْ وَجْهِكَ أَخْتَفِي وَأَكُونُ تَائِهًا وَهَارِبًا فِي الأَرضِ فَيَكُونُ كُلُّ مَنْ وَجَدَنِي يَقْتُلُنِي (تك 4: 13، 14)، فاللعنة ارتبطت بالخطية والعصيان، وكلمة مَلْعُونٌ كلمة رهيبة ومرعبة ومخيفة، ولا سيما عندما يسمعها الإنسان من فم الديان العادل في يوم الدينونة الرهيب عندما يقول: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ (مت 25: 41).

 

 وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللَّهِ فَظَاهِرٌ لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا. وَلكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ بَلِ الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَ(غل 3: 11، 12).

 وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللَّهِ فَظَاهِرٌ.. هذا تكرار وتأكيد لما سبق أن قاله بولس الرسول من قبل: ” إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ“(غل 2: 16)، ولكن لماذا لا يتبرَّر أحد بالناموس؟ هل لأن الناموس معيب؟.. كلاَّ، فوصفه بطرس الرسول على أنه أَقْوَالًا حَيَّةً (أع 7: 38)، وقال عنه بولس الرسول أنه: ” أَقْوَالِ اللَّهِ” (رو 3: 1).. إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ (رو 7: 12).. وَلكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ النَّامُوسَ صَالِحٌ (1تي 1: 8) إذًا الناموس مقدَّس وحي وهو أقوال اللَّه الحيَّة، وهذا الناموس لا يقبل الشر، ولذلك يحكم باللعنة على كل إنسان ينتهك وصية واحدة من وصاياه، بل يصفه أنه قد أجرم في حقه: لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ (يع 2: 10).

 و“يوجد البر الذي في الناموس ( رو 10: 5-10، غل 3 : 12) يعد ذلك البر بالحياة لأي إنسان يمكنه أن يطيع الناموس بالتمام. إذا استطاع إنسان أن يلبي كل متطلبات الناموس خلال حياته على الأرض، ولا يخل مرة واحدة بمقياس اللَّه القدوس، يمكن لذلك الإنسان أن ينجو من عقوبة الخطية التي هي الموت”(159).

 فبولس الرسول قال عن نفسه: مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ (في 3: 6)، وذلك لأنه كان مختونًا في اليوم الثامن، فريسي، مضطهد الكنيسة.. إلخ، فهذا هو مفهوم بولس الرسول قبل إيمانه بالمسيح، ولكن بعد إيمانه أدرك أن البر الحقيقي في المسيح يسوع وليس في الناموس، ولذلك أكمل حديثه قائلًا: وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ” (في 3: 9) فشتان بين بر الناموس وبر المسيح.. بر الناموس يستلزم العمل بكل وصايا الناموس، أما بر المسيح فيعتمد على الإيمان بالمسيح، كقول معلّمنا بولس الرسول: لأَنَّ مُوسَى يَكْتُبُ فِي البِرِّ الَّذِي بِالنَّامُوسِ إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا. وَأَمَّا الْبِرُّ الَّذِي بِالإِيمَانِ فَيَقُولُ هكَذَا.. اَلْكَلِمَةُ قَرِيبَةٌ مِنْكَ فِي فَمِكَ وَفِي قَلْبِكَ أَيْ كَلِمَةُ الإِيمَانِ الَّتِي نَكْرِزُ بِهَا (رو 10: 5 – 8).

 لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا.. كون أن لا أحد يتبرَّر بالناموس فهذا أمر ظاهر وواضح تمامًا، سواء مما أثاره بولس الرسول من قبل أو قول اللَّه على فم حبقوق النبي: وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا (حب 2: 4) وربما استخدم الروح القدس هذه الآية كمفتاح سلَّمه لبولس الرسول ليكتشف أن التبرير بالإيمان، ودعَّم بولس الرسول هذا المفهوم بإبراهيم الذي تبرَّر بالإيمان قبل أن يُختن، وربما هذا يفسّر لنا تكرار بولس الرسول لنفس الآية ثلاث مرات، مرة في رسالته لأهل رومية: كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا(رو 1: 17) ومرة أخرى في هذه الرسالة (غل 3: 11)، ومرة ثالثة في الرسالة للعبرانيين: أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرُّ بِهِ نَفْسِي (عب 10: 38)، ومعنى العبارة واضح وصريح أن التبرير بالإيمان، وجاءت “ترجمة كتاب الحياة“: مَن تبرر بالإيمان فبالإيمان يحيا (غل 3: 11)، وبولس الرسول الذي تأكد أن الناموس لن يمنحه التبرير تخلّى عن فريسيته واتبع طريق الإيمان قائلًا: ولَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ” (في 3: 9)، وقال الرب يسوع: اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ” (يو 6: 47).

 ويقول “الأب متى المسكين“: “هنا يلزم أولًا فك اللغز. فكلمة السر هنا هي ” يَتَبَرَّرُ ” وهي فعل ومصدرها هو “البر” والبر هو القداسة، وهي طبيعة اللَّه، فاللَّه هو البار القدوس الوحيد. وهكذا يستحيل لإنسان أن يتبرَّر أو يتقدَّس إلاَّ باللَّه، أي بالإيمان به. فإن عاش الإنسان بالإيمان أي ملتصقًا باللَّه معتمدًا عليه فأنه ينال بر اللَّه..

 ولينتبه القارئ إلى هذه الآية: “الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا” فهي معيار رسالة غلاطية، وتاج ق. بولس الذهبي، ومجد الإنجيل، وسر الحياة بالمسيح، بل وسر ملكوت اللَّه، والسلاح السري الذي به هزم ق. بولس الناموس واليهود المتمسكين بالناموس، وفتح باب الخلاص للأمم، وأراح عظام إبراهيم في مغارة المكفيلة وحيّا روحه في السماء(160).

 وَلكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ.. فالناموس له طريق والإيمان له طريق آخر، والناموس ليس بالإيمان بل بالأعمال.. مبدأ الناموس غير مبدأ الإيمان، مبدأ الناموس مبني أساسًا على أعمال الناموس، أما مبدأ الإيمان فهو مؤسَّس على هبة اللَّه المجانية: وَأَمَّا هِبَةُ اللَّهِ فهي حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا (رو 6: 23)، فالناموس يطالب الإنسان العمل بوصاياه، بينما الإيمان يطالب الإنسان بالاعتماد على هبة اللَّه، طريق الناموس يعتمد على عمل الإنسان واستحقاقه الشخصي وجهده البشري، أما طريق الإيمان فهو يعتمد على الثقة في نعمة اللَّه، ولذلك قال بولس الرسول: فَإِنْ كَانَ بِالنِّعْمَةِ فَلَيْسَ بَعْدُ بِالأَعْمَالِ. وَإِلاَّ فَلَيْسَتِ النِّعْمَةُ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِنْ كَانَ بِالأَعْمَالِ فَلَيْسَ بَعْدُ نِعْمَةً. وَإِلاَّ فَالْعَمَلُ لاَ يَكُونُ بَعْدُ عَمَلًا (رو 11: 6).

 

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “بالناموس صرنا تحت اللعنة، بينما بنعمة المسيح خلصنا منها. النعمة عادة تُعلن عما يفعله اللَّه لأجلنا (1كو 15: 3، 4)، أما الناموس فيعلن عما يطلبه اللَّه منا (خر 20: 1-7).

 النعمة تهبنا حياة وقوة لكي نطيع الوصية (يو 14: 23) ونتقدَّس (رو 6: 14-22)، أما الناموس فيأمر بالطاعة والقداسة الكاملة (تث 6: 24-25) وإلاَّ سقطنا تحت الموت (يع 2: 10). النعمة غالبًا ما تكشف عن حب اللَّه لنا (يو 3: 16)، أما الناموس فغالبًا ما يأمرنا بحب اللَّه (مت 22: 37).

 بالنعمة أُعلن لنا عن البركات الإلهيَّة (غل 3: 14)، بينما أُعلِنت اللعنة ونحن تحت الناموس (غل 3: 10).

 النعمة تهبنا الحرية في المسيح (غل 5: 1)، أما تحت الناموس فكنا عبيدًا للخطية (غل 4: 31). النعمة هي قوة اللَّه (رو 1: 16)، أما الناموس فقوة الخطية (1كو 15: 56).

 بالنعمة نلنا البنوة للآب (غل 4)، أما الناموس فيحرم الإنسان من الحضرة الإلهيَّة (خر 18: 12-24). تُعلن النعمة عن صورة الصالحات عينها، أما الناموس فله ظل الخيرات العتيدة (عب 10: 1)(161).

 وقول بولس الرسول: ” النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ” لا يقصد الناموس ذاته، لكنه يقصد الناموس كوسيلة لتبرير الإنسان وحصوله على خلاص نفسه، وسكنى الملكوت.

 النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ.. لأن الناموس يطالب الإنسان بالالتزام بالأعمال الناموسية الطقسية مثل الختان وحفظ السبت وتقديم الذبائح الحيوانية وحفظ الأعياد اليهودية.. إلخ.، بينما الإيمان يتطلب أعمال النعمة التي هي ثمرة الإيمان، والإيمان هنا ليس إيمانًا نظريًا بل هو إيمان عامل بالمحبة، ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “وهكذا لما عجز الناموس عن تبرير الإنسان. إذ أنه عجز عن تتميم مطاليبه، جاءنا بالإيمان علاجًا ناجحًا فجعل التبرير ممكنًا، بعد أن كان بالناموس مستحيلًا (رو 8: 3) ومما يثبت أن لعنة الناموس فقدت مفعولها قول الرسول أنه مات للناموس ودخل في حياة جديدة ليس للناموس سلطان عليها(162).

 بَلِ الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَ.. كلَّم الرب موسى قائلًا: فَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي الَّتِي إِذَا فَعَلَهَا الإِنْسَانُ يَحْيَا بِهَا أَنَا الرَّبُّ (لا 18: 5)، وجاء في صلاة اللاويين في سفر نحميا: وَأَشْهَدْتَ عَلَيْهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَى شَرِيعَتِكَ. وَأَمَّا هُمْ فَبَغَوْا وَلَمْ يَسْمَعُوا لِوَصَايَاكَ وَأَخْطَأُوا ضِدَّ أَحْكَامِكَ الَّتِي إِذَا عَمِلَهَا إِنْسَانٌ يَحْيَا بِهَا (نح 9: 29)، وقال الرب لحزقيال النبي: وأَعْطَيْتُهُمْ فَرَائِضِي وَعَرَّفْتُهُمْ أَحْكَامِي الَّتِي إِنْ عَمِلَهَا إِنْسَانٌ يَحْيَا بِهَا (حز 20: 11)، وعندما جاء رجل ناموسي ليجرِّب السيد المسيح سائلًا إياه: ماذا أعمل لأرث الحياة، فسأله الرب يسوع: ما هو مكتوب في الناموس. كيف تقرأ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ.. فَقَالَ لَهُ بِالصَّوَابِ أَجَبْتَ. اِفْعَلْ هذَا فَتَحْيَا” (لو 10: 27، 28)، وقال بولس الرسول: لأَنَّ مُوسَى يَكْتُبُ فِي الْبِرِّ الَّذِي بِالنَّامُوسِ إِنَّ الإِنْسَانَ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا (رو 10: 5). إذًا مَن يلتزم بجميع وصايا الناموس وأوامره ونواهيه وأحكامه وفرائضه يتبرَّر ويخلص، ولكن للأسف الشديد لم نسمع على الإطلاق أن إنسانًا نجح في هذا غير شخص واحد، وهو الرب يسوع المسيح الإله المتأنس، وهذا ما قاله ليوحنا المعمدان: ” اسْمَحِ الآنَ لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ” (مت 3: 15).

 

 اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ. لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ (غل 3: 13، 14).

 في هذين العددين يبرع معلمنا بولس الرسول إذ يقدّم كل ما يريد أن يقوله في هذه الجزئية، فالناموس وضع الإنسان تحت اللعنة إذ عجز الإنسان عن تتميم جميع وصاياه وأوامره ونواهيه وأحكامه بلا أي استثناء، فجاء السيد المسيح وتمَّم جميع مطالب الناموس، وهو البار القدوس الذي عُلّق على خشبة العار، فحمل لعنة الناموس عنا، والأمم الذين لم تصل إليهم بركة إبراهيم عن طريق الناموس، نالوا هذه البركة من خلال نسل إبراهيم أي السيد المسيح، وبعد أن فشل الناموس في أن يهب الإنسان عطية الروح القدس، حصل الإنسان على عطية الروح القدس ومواهبه من خلال الإيمان بالسيد المسيح.

 المَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ.. وكلمة افتدى: ” تعني الشراء إلى خارج السوق، وهي صورة مأخوذة من سوق العبيد، حيث كان الأغنياء يأتون لشراء العبيد. أما هنا المشهد هو لشخص جاء ليشتري عبدًا، ولكن ليس ليقتنيه، بل يدفع ثمنه ثم يطلقه حرًّا(163).

 

 ويقول “الخوري بولس الفغالي“: “الفعل افتدى، دفع لكي يحرر، هو في اليونانية “أكسافورزين”. وقد استعمله بولس مرة ثانية في 4: 5 “لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ“. يُعبرّ هذا الفعل بطريقة حية عن موضوع الشراء والذي نجده في (1كو 6 : 20): “قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ” (بثمن كريم). وفي (1كو 7: 23): “اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيدًا لِلنَّاسِ“. في هذه الرسالة يحتل موضوع الحرية حيَّزًا هامًا.. لهذا فالتلميح إلى افتداء (شراء) العبيد يفرض نفسه، نستطيع أن نشتري عبدًا لكي نجعله في خدمتنا، ونستطيع أن نشتريه (نفتديه) لكي نحرره (راجع غل 5: 1). هذا هو الفداء الذي أتمه المسيح من أجلنا(164).

 وقد بدأ بولس الرسول عبارته هذه بِاسم المَسِيحُ مريدًا أن يؤكد أن الفادي واحد، وهو السيد المسيح، وليس أحد غيره، هو الوحيد الذي افتدانا من لعنة الناموس، وافْتَدَانَا أي دفع الفدية عنا نحن اليهود الذين كنا تحت الناموس، وهذه الفدية لم تكن مالًا ولا فضة، ولا ذهبًا: ” عَالِمِينَ أَنَّكُمُ افْتُدِيتُمْ لاَ بِأَشْيَاءَ تَفْنَى، بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ.. بَلْ بِدَمٍ كَرِيمٍ كَمَا مِنْ حَمَل بِلاَ عَيْبٍ وَلاَ دَنَسٍ دَمِ الْمَسِيحِ” (1بط 1: 18، 19).. أنه افتدانا بثمن لا يمكن التعبير عنه: وأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ” (1كو 6: 20). هذا الثمن هو ما قال عنه السيد المسيحلأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ” (مر 10: 45). لقد وقف بولس الرسول مذهولًا أمام هذا الفداء، ولذلك كثيرًا ما تحدّث عنه بصورة أو بأخرى:

مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رو 3: 24)، فبالرغم من عظم هذا الفداء فأنه وُهِب لنا مجانًا.

الَّذِي بَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِ خَطَايَانَا، لِيُنْقِذَنَا مِنَ الْعَالَمِ الْحَاضِرِ الشِّرِّيرِ (غل 1: 4).. ” الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ (بِدَمِهِ) غُفْرَانُ الْخَطَايَا” (كو 1: 14) فبدون هذا الفداء سيغرق الإنسان في خطاياه وسط هذا العالم الحاضر الشرير.

الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي” (غل 2: 20) فهذا الفداء كما أنه جماعي يشمل جميع المؤمنين، فهو فداء فردي يتمتع به كل شخص على حدة.

الذي بذل نفسه لأجلنا لكي ينقذنا من كل إثم ويطهر لنفسه شعبًا خاصًا غيورًا” (تي 2: 14) فقد اقتنى اللَّه شعبه بدمه: لِتَرْعَوْا كَنِيسَةَ اللَّهِ الَّتِي اقْتَنَاهَا بِدَمِهِ” (أع 20: 28).

 هذا الفداء طالما تحدّث عنه الأنبياء، ولا سيما إشعياء النبي (راجع مثلًا إش 43: 1، 3، 4، 14، 25، 44: 6، 22، 23، 24)، وبهذا الفداء تحقّقت نبوة هوشع النبي: مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ (هو 13: 14)، وهذا الفداء هو موضع تسبيح السمائيين: وَهُمْ يَتَرَنَّمُونَ تَرْنِيمَةً جَدِيدَةً قَائِلِينَ مُسْتَحِق أَنْتَ أَنْ تَأْخُذَ السِّفْرَ وَتَفْتَحَ خُتُومَهُ لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للَّهِ بِدَمِكَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَشَعْبٍ وَأُمَّةٍ (رؤ 5: 9).. هؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْخَرُوفَ حَيْثُمَا ذَهَبَ. هؤُلاَءِ اشْتُرُوا مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بَاكُورَةً ِللَّهِ وَلِلْخَرُوفِ (رؤ 14: 4).

 اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ.. كلمة افْتَدَانَا كلمة جامعة تجمع الفاعل والفعل والمفعول به، فالفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي السيد المسيح تبارك اسمه، والفعل هو “فدى” والمفعول به ضمير المتكلم المتصل ب “نا”، فالسيد المسيح افتدانا نحن اليهود والأمم أيضًا، كل البشرية.. وقول بولس الرسول: اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ أي من اللعنة الناشئة من الفشل في حفظ الناموس لأنه مكتوب: مَلْعُونٌ مَنْ لاَ يُقِيمُ كَلِمَاتِ هذَا النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهَا. وَيَقُولُ جَمِيعُ الشَّعْبِ آمِينَ (تث 27: 26).. نحن الذين نستحق اللعنة، وهو الذي حمل اللعنة عنا، وحرَّرنا ووهبنا البركات السمائية، فحق للكنيسة أن تترنَّم على مدى الأجيال: “هو أخذ الذي لنا، وأعطانا الذي له. نسبحه ونباركه ونزيده علوًا” (ثيؤطوكية الجمعة).

 اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا.. ما أصعب قول بولس الرسول هنا إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا وكذلك قوله: لأَنَّهُ جَعَلَ الَّذِي لَمْ يَعْرِفْ خَطِيَّةً خَطِيَّةً لأَجْلِنَا لِنَصِيرَ نَحْنُ بِرَّ اللَّهِ فِيهِ (2كو 5: 21). لقد صار ابن اللَّه القدوس الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ (1بط 2: 22).. رَئِيسُ كَهَنَةٍ مِثْلُ هذَا قُدُّوسٌ بِلاَ شَرّ وَلاَ دَنَسٍ (عب 7: 26). هذا القدوس قد صار ذبيحة خطية لأجلنا.. إنها عبارات قاسية جريئة تكشف عن مدى بشاعة الخطية واللعنة التي تصاحبها، وكأن بولس الرسول يفاجئ الغلاطيين، الذين تراجعوا عن إيمانهم وسعوا نحو عبودية الناموس، بهذه الحقيقة وهي أن الإله المبارك حمل لعنة الناموس عنا. هذا يكشف لنا عن قلب بولس الرسول المفعم بالأسى والحزن والألم على أولاده الغلاطيين الذين ضلوا أو كادوا يضلوا الطريق، إذ هم وقفوا على هوَّة جرف عظيم وكادوا أن يسقطوا في الهاوية، لذلك سعى بولس بكل طاقته أن يوقفهم عن التقدُّم أكثر، فصدمهم بقوله: إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا، وصَارَ خَطِيَّةً مِنْ أَجْلِنَا، وهاتان الجملتان لا نجد لهما تفسيرًا أعظم من تفسير مدرسة صليب الجلجثة، فكم يليق بنا أن نتأمل حمل اللَّه الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الجلجثة وقت المساء فاشتمه أبوه الصالح كرائحة بخور وسرور أمامه.

 ويقول “الأب متى المسكين“: ” بقى المسيح على مدى حياته وهو تحت الناموس منزَّهًا عن اللعنة التي في الناموس. ولكن الذي حدث هو أن رؤساء الكهنة وكل السنهدريم بعض الفحص والتمسُّك بنصوص الناموس حكموا على المسيح كخاطئ ومخالف للناموس وأوقعوا عليه لعنة الناموس، فحكموا بموته مُعلّقًا على خشبة رمز اللعنة والعار. ولكن أعجب ما كان يمكن أن ننتظره من المسيح أنه لم يناقض الحكم ولا ناقشه ولا ردَّ المحكمة. وبهذا السلوك يكون قد ارتضى بالحكم الصادر كأنه بالحق، وبالفعل هو ارتضى بالحكم باعتباره أنه صادر بالحق على البشرية التي يحملها في جسده القدوس معتبرًا جسده الذي حمل البشرية بخطاياها ذبيحة خطية، والتزم أن يحمل العار وبالتالي ارتضى أن يكون المحرقة ليكفّر عن خطايا البشرية، وليس هذا فقط بل واعتبر نفسه أمام اللَّه أبيه أنه هو حامل لخطية وعار البشرية في جسده وإن اللعنة التي حملها قَبَلها عن استحقاق إذ أخذ خطايانا في جسده على الخشبة من أجل البشرية التي كانت قد استحقت هذا بالفعل.. هذه هي نفسها حقيقة النار، النار الرمزية التي كانت تشتعل في جسم ثور المحرقة لتحرقه كله وتأكله حتى التراب، ولكن كان المعروف في أمر المحرقة في العهد القديم أن هذه النار كانت تأكل خطايا الشعب التي وُضَعَت على رأس ثور المحرقة التي استقرت في جسده، وهكذا بحرق جسده تكون قد أُحرقت خطايا الشعب كله، وبسفك دمه أُزهقت روح عوض إن إزهاق روح الخاطئ.

 هكذا وبهذا المنظر المهيب اشتعلت نار اللاهوت في الجسد المقدَّس والحامل لكل خطايا الشعب على الخشبة، تعبيرًا فائق المعنى والواقع عن اللعنة التي حملها المسيح لمّا ارتفع على الصليب صائرًا لعنة من أجلنا.. كانت النار تشتعل في لحم الذبيحة وتتأجَّج أمام أعين الشعب بمنظر مرعب تعبيرًا عمَّا تفعله اللعنة التي حلَّت على الذبيحة الحيوانية عوض الشعب نفسه، وهي عينها اللعنة الإلهيَّة التي حملها المسيح في جسده المقدَّس على الصليب.. أمّا هو فأخذ خطايانا كلها فصار خطية من أجلنا، بمعنى أنه قَبَلَ طبيعتنا، وأما نحن فأخذنا برَّه أي حملنا طبيعته فصرنا بر اللَّه فيه”(165).

 ويقول “صموئيل مايكوكسكي“: “لقد دخل المسيح (بإرادته) دائرة الموت التي رسمتها خطايانا، وتحمّل في جسده دينونتنا، ليكفي مطاليب العدالة الإلهيَّة تحت شروط الطاعة المقدَّسة الكاملة للَّه الآب أن عقوبة الخطية قد تحمَّلها السيد في ذاته.. لقد تحمل لعنتنا، اللعنة المنصوص عليها في (تث 21: 23) والتي تعادل غضب اللَّه الذي تحدَّث عنه كاتب رسالة رومية (1: 18، 2: 8) وفي نور المفهوم المسيحي.. وبحسب رأي الرسول بولس، فإن ممارسة التقاليد والفرائض والطقوس الناموسية التي كان يمارسها الفريسيون ويعلّمون بها، لم تعد ضرورية لرفع اللعنة الواردة في سفر التثنية(166).

 اَلْمَسِيحُ افْتَدَانَا مِنْ لَعْنَةِ النَّامُوسِ إِذْ صَارَ لَعْنَةً لأَجْلِنَا.. يق-ول ” ماكدونل“: “الافتداء هو إعادة الشراء، أو التحرير بدفع الثمن. ولعنة الناموس هي الموت، الذي هو أجرة كسر الوصايا. فقد حرَّر المسيح الذين تحت الناموس من عقوبة الموت التي يطالب بها الناموس.. يقول “سِندِلان جونس” Cynddylan Jones { تخيل الغلاطيون أن المسيح اشتراهم جزئيًا فقط، وأنه كان عليهم شراء ما تبقى بخضوعهم للختان وللطقوس والممارسات اليهودية الأخرى. هذا ما سبب استعدادهم للذهاب وراء معلمين كذبة ولأن يخلطوا المسيحية باليهودية. ويقول بولس هنا: (حسب الترجمة الويلزية) “المسيح اشترانا كليًا من لعنة الناموس”}.

 لقد افتدى المسيح البشر بموته مكانهم محتملًا غضب اللَّه المخيف على الخطايا. وقد وقعت لعنة اللَّه عليه بصفته بديل الإنسان. لم يصر المسيح خاطئًا في ذاته، بل أن خطايا الإنسان وضعت عليه(167).

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “يمكننا القول بأننا خلال الخطية صرنا تحت اللعنة، بينما صار مخلصنا الذي بلا خطية لعنة لأجلنا (ع 13)، لا بارتكابه خطية ما، وإنما بتعليقه على خشبة، وهكذا احتضننا ونحن تحت اللعنة وأنقذنا منها بنعمته. خلَّصنا المسيح المصلوب من اللعنة إذ حقَّق في شخصه كل متطلبات الناموس بالكامل وفي الوقت نفسه صنع كفارة كاملة وتامة عن كل تعديات اليهود (والبشرية بوجه عام) ضد الناموس.. يقول القديس يوستين في حواره مع (تريفو اليهودي) إن العائلة البشرية كانت في حاجة أن تُفتَدى من اللعنة بواسطة الصليب {إن ظهر الذين هم تحت الناموس أنهم تحت اللعنة لعدم ملاحظتهم كل متطلباته، كم بالأكثر تكون كل الشعوب التي تمارس الوثنية ويغوُّون الشباب ويرتكبون جرائم أخرى؟ إن كان أب الكل قد أراد لمسيحه أن يحمل لعنة الكل من أجل كل البشرية، عالمًا أنه يقيمه بعد صلبه وموته. فلماذا تجادلون بخصوصية هذا الذي خضع للألم هكذا حسب بمشيئة الآب وقَبِل اللعنة عوض أن تبكوا على أنفسكم}(168).

 

 لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ.. فقد أوصى اللَّه شعبه قائلًا: وَإِذَا كَانَ عَلَى إِنْسَانٍ خَطِيَّةٌ حَقُّهَا الْمَوْتُ فَقُتِلَ وَعَلَّقْتَهُ عَلَى خَشَبَةٍ. فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ بَلْ تَدْفِنُهُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللَّهِ (تث 21: 22، 23)، فالإنسان المجرم بعد رجمه وموته كانت تُعلَّق جثته على خشبة ثم يُدفن في عشية اليوم لا تبت جثته للغد، ولاحظ أن بولس الرسول عندما اقتبس النص: لأن المعلَّق ملعون من اللِّه حذف القول “من اللَّه“، ويقول “دكتور وليم آدي“: “وفي الأصل العبراني المقتبس منه “ملعون من اللَّه” وترك الرسول لفظتي “من اللَّه” لأن المسيح لم يكن ملعونًا من اللَّه حقيقة لكن اللَّه عامله كأنه كذلك. لأنه احتمل من تلقاء نفسه لعنة الخطاة وأتى ذلك على وفق إرادة الآب الذي سرَّ بتقديمه نفسه على الصليب بدليل قوله: “أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضًا وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا قُرْبَانًا وَذَبِيحَةً للَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً” (أف 5: 2).

 ذكر بولس لعنتين الأولى في الآية العاشرة وهو قوله: “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ“، وهذه اللعنة عمَّت الجنس البشري. والثانية في الآية الثالثة عشرة وهي قوله: “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ“، وهذه اللعنة احتملها المسيح ليفدينا من اللعنة الأولى وكلتاهما من لعنات الناموس، وأحداهما تشير إلى الذنب والأخرى تشير إلى العقاب، فالمسيح احتمل العقاب حتى يرفع عنا الذنب. وكان المسيحلَعْنَةِ” بدلًا من جميع “الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ” بكونه “مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ“.. (169).

 مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ.. قال بطرس الرسول لرؤساء الكهنة: ” إِلهُ آبَائِنَا أَقَامَ يَسُوعَ الَّذِي أَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ” (أع 5: 30)، وقال للحاضرين في بيت كرنيليوس: يَسُوعُ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ. الَّذِي أَيْضًا قَتَلُوهُ مُعَلِّقِينَ إِيَّاهُ عَلَى خَشَبَةٍ (أع 10: 38، 39)، وفي رسالته الأولى قال: الَّذِي حَمَلَ هُوَ نَفْسُهُ خَطَايَانَا فِي جَسَدِهِ عَلَى الْخَشَبَةِ” (1بط 2: 24)، وقال بولس الرسول في مجمع أنطاكية بيسيدية: وَمَعْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا عِلَّةً وَاحِدَةً لِلْمَوْتِ طَلَبُوا مِنْ بِيلاَطُسَ أَنْ يُقْتَلَ.. وَلَمَّا تَمَّمُوا كُلَّ مَا كُتِبَ عَنْهُ أَنْزَلُوهُ عَنِ الْخَشَبَةِ وَوَضَعُوهُ فِي قَبْرٍ” (أع 13: 28، 29).. من شجرة معرفة الخير والشر أكل أبوينا الأولين وخالفا الوصية الإلهيَّة فسقطا، ومعهما سقطت كل البشرية، وسرى حكم الموت على الجميع، ومن قِبل الصليب شجرة الحياة صار الخلاص لجنسنا من حكم الموت واللعنة.. كانت خشبة الصليب رمز الذل والعار، ولكن بعد أن عُلَّق عليها الملك المسيح صارت موضع الفخر والاعتزاز.

 لِتَصِيرَ بَرَكَةُ إِبْرَاهِيمَ لِلأُمَمِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.. كيف تصير بركة إبراهيم للأمم وهو قد انعزل عن الأمم؟.. لقد دعى اللَّه إبراهيم للخروج من أرضه وعشيرته وأنه سيكون معه، فآمن إبراهيم وترك أهله وعشيرته إلى أرض لا يعرفها فحُسِبَ له ذلك برًا، وهو كان في الغرلة ولم يختتن بعد، وهذا ما أكده بولس الرسول: أَفَهذَا التَّطْوِيبُ هُوَ عَلَى الْخِتَانِ فَقَطْ أَمْ عَلَى الْغُرْلَةِ أَيْضًا. لأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهُ حُسِبَ لإِبْرَاهِيمَ الإِيمَانُ بِرًّا” (رو 4: 9)، وقد صارت بركة إبراهيم للأمم عن طريق نسله عندما تلقى الوعد الإلهي أن في نسلك تتبارك الأمم، والمقصود بالنسل السيد المسيح، وقال اللَّه له: وتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ (تك 12: 3). ثم أعاد الوعد بقسم قائلًا: بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ أَنِّي أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ تَكْثِيرًا كَنُجُومِ السَّمَاءِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ.. وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ (تك 22: 16-18)، وللحصول على بركة إبراهيم لا بد من التخلُّص من لعنة الناموس، والخلاص من لعنة الناموس لن يتم إلاَّ بالمسيح يسوع الذي افتدانا من لعنة الناموس هذه، فهدف الفداء أن تصل بركة إبراهيم للأمم.

 ويقول “الأب متى المسكين“: “والتناظر بديع بين المسيح معلَّق مربوط على الصليب والخروف ممسوك بقرنيه في الشجرة، لذلك يلذ للشرَّاح والوعاظ أن يصفوا المسيح أنه صُلِب على “الشجرة” حيث ترمي الشجرة إلى الشجرة التي حمل إسحق حطبها على كتفه أو التي أُمسك الخروف -فدية إسحق- بقرنيه فيها، أو إلى الشجرة التي أكل منها آدم فمات(170).

 

 لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ.. يمثل مَوْعِدَ الرُّوحِ بيت القصيد في هذه الآية، وقد حصلت عليه الكنيسة يوم الخمسين كوعد مخلصنا الصالح لتلاميذه الأطهار: وَهَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي. فَأَقِيمُوا فِي مَدِينَةِ أُورُشَلِيمَ إِلَى أَنْ تُلْبَسُوا قُوَّةً مِنَ الأَعَالِي (لو 24: 49)، بل أن الوعد بحلول الروح القدس كان موضع نبوات العهد القديم، فإشعياء النبي تنبأ قائلًا: ” لأَنِّي أَسْكُبُ مَاءً عَلَى الْعَطْشَانِ وَسُيُولًا عَلَى الْيَابِسَةِ. أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى نَسْلِكَ وَبَرَكَتِي عَلَى ذُرِّيَّتِكَ” (أش 44: 3)، وتنبأ حزقيال النبي: وَأَجْعَلُ رُوحِي فِي دَاخِلِكُمْ وَأَجْعَلُكُمْ تَسْلُكُونَ فِي فَرَائِضِي وَتَحْفَظُونَ أَحْكَامِي وَتَعْمَلُونَ بِهَا(حز 36: 27)، وأيضًا يوئيل النبي قال: وَيَكُونُ بَعْدَ ذلِكَ أَنِّي أَسْكُبُ رُوحِي عَلَى كُلِّ بَشَرٍ فَيَتَنَبَّأُ بَنُوكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَيَحْلَمُ شُيُوخُكُمْ أَحْلاَمًا وَيَرَى شَبَابُكُمْ رُؤًى. وَعَلَى الْعَبِيدِ أَيْضًا وَعَلَى الإِمَاءِ أَسْكُبُ رُوحِي فِي تِلْكَ الأَيَّامِ (يؤ 2: 28، 29)، وهذه النبوة ذكرها بطرس الرسول في يوم حلول الروح القدس على الكنيسة، كما تنبأ زكريا النبي عن موعد الروح القدس أيضًا قائلًا: وأُفِيضُ عَلَى بَيْتِ دَاوُدَ وَعَلَى سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ رُوحَ النِّعْمَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ”: (زك 12: 10).

 

 وموعد حلول الروح القدس على الكنيسة كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بموت المسيح ورفع اللعنة عنا، كقول يوحنا الحبيب: لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعطِيَ بَعْدُ. لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ” (يو 7: 39)، ولكن بعد موت المسيح وقيامته وصعوده سكب علينا مواهب الروح القدس، وفعل “سكب” يعبر عن مقدار الفيض الناتج عن روح ابن اللَّه، كقول معلمنا بطرس الرسول: وَإِذِ ارْتَفَعَ بِيَمِينِ اللَّهِ وَأَخَذَ مَوْعِدَ الرُّوحِ الْقُدُسِ مِنَ الآبِ سَكَبَ هذَا الَّذِي أَنْتُمُ الآنَ تُبْصِرُونَهُ وَتَسْمَعُونَهُ (أع 2: 33). وقول بولس الرسول هنا ” لِنَنَالَ بِالإِيمَانِ مَوْعِدَ الرُّوحِ هو إجابة لسؤال سبق أن سأله القديس بولس عندما سأل الغلاطيين: أَبِأَعْمَالِ النَّامُوسِ أَخَذْتُمُ الرُّوحَ أَمْ بِخَبَرِ الإِيمَانِ (غل 3: 2).

رابعًا: الناموس لم ينسخ عهد إبراهيم (غل 3: 15-18):

 أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ وَفِي الأَنْسَالِ كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ. وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللَّهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ(غل 3: 15 – 18).

 قد يقول البعض أن الناموس جبَّ وألغى وأسقط وعد اللَّه لإبراهيم بأن في نسله تتبارك قبائل الأرض، ولكن من يدرك الأمور بدقة يعلم أن هذا الزعم هو تجني على الحقيقة، لأن مواعيد اللَّه بلا ندامة، واللَّه لا يغيّر وعوده، وليس في الكتاب المقدَّس كله فكرة الناسخ والمنسوخ، ولذلك يحدِّثنا بولس الرسول في هذه الفقرة عن الميراث الذي وعد به اللَّه إبراهيم ونسله، مؤكدًا أن هذا الوعد أو العهد قد تمكَّن بواسطة اللَّه ذاته، فالوعد صادق وأمين وثابت وراسخ، ويؤكد بولس الرسول أن الناموس الذي جاء بعد هذا الوعد الإلهي لإبراهيم بأربعمائة وثلاثين سنة لم يلغِ ولم يغير ولم يبدل هذا الوعد، وأعطى بولس الرسول مثلًا من الحياة العملية، كما كان الرب يسوع يكلِّم الناس بأمثال ليشرح لهم تعاليمه ومقاصده وأسراره الإلهيَّة، فقال لهم متى كان هناك عهدًا بين إنسان وآخر، وهذا العهد استكمل شكله القانوني أي تمكن واستقر، فأنه لا يستطيع أحد أن يبطل هذا التعهُّد أو يزيد عليه أو يحذف منه، ولذلك تكرَّرت كلمة “العهد” أو “الوعد” في هذه الآيات الأربع ست مرات، وجميعها تشير لوعد اللَّه لإبراهيم من خلال نسله أي المسيح تتبارك جميع الأمم.

 

 أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ (غل 3: 15).

 أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. تارة يقول لهم بولس الرسول أَيُّهَا الْغَلاَطِيُّونَ الأَغْبِيَاءُ واصفًا إياهم بالغباء، وتارة يدعوهم بالإخوة أَيُّهَا الإِخْوَةُ.. فكيف يتّفق هذا مع ذاك؟!.. عندما احتد عليهم بولس الرسول ووصفهم بالغباء لم يقصد أن يشتمهم أو يسبهم أو يقذفهم، إنما قصد الغباء الروحي الذي سقطوا فيه بغواية المعلمين الكذبة، فهو كان يُقرّر حقيقة واقعة، وهنا يدعوهم بالإخوة، فهو كأب حكيم تجده تارة يبكتهم ويؤنبهم وتارة يشجعهم، تارة يحدثهم بلهجة صارمة قاسية ليحذر من الخطر الذي يحيق بهم، وتارة يحدثهم بلهجة هادئة تفيض بالمحبة والإخاء لأنه يريد أن يجتذبهم من ضلالهم، وهكذا تقترن هذه اللهجة القاسية باللهجة الرقيقة، لأن مصدرها واحد، والدافع إليهما واحد.

 بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أَقُولُ.. في سبيل الدفاع عن الإيمان المستقيم يطرق بولس الرسول جميع الأبواب، لكيما يدرك الغلاطيون الحقيقة، ويميّزوا بين الحق والضلال، بين أب محب يتمخض بهم إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم، وبين معلمين كذبة يفتخرون بأنهم استطاعوا أن يدفعونهم للختان، فيناقش معهم الموضوع بحسب الإنسان، أي من وجهة نظر إنسانية بشرية، ويطرح عليهم مثلًا من الحياة العملية، فيقول لهم لو وافقتموني القول من وجهة نظر العقل والمنطق البشري، وكأن هذا العهد أو هذا التعاقد قطع بين إنسان وآخَر، واتفق عليه الاثنان تمامًا، واتخذ شكله القانوني، فهل يستطيع أحد أن يغيره أو يبدله؟!.. كلاَّ، وهكذا يستخدم بولس الرسول هذا التشبيه القانوني الأرضي ليفهّم أولاده قصده.

 ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: ” بِحَسَبِ الإِنْسَانِ أي مستخدمًا تشبيهات بشرية، فبعد أن أثبت سلامة تعليمه من الكتاب، ثم المعجزات، ثم آلام المسيح فيهم، ثم إبراهيم، بدأ يستخدم تشبيهات عامة لتظهر مناقشته سهلة ومعتدلة حتى للبسطاء.. والمقصود بهذا التشبيه أن الإيمان أسبق من الناموس، ولو أن إنسانًا أقام عهدًا هل يجرؤ آخَر أن ينقصه أو يبطله أو يزيد عليه؟ فكم بالحري ذلك الذي قطعه اللَّه مع إبراهيم؟!”(171).

 لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ.. كلمة “عهد” في الأصل اليوناني تحمل معنى “عهد” أو “وعد” أو “وصية” أو “موعد”، وعَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ أي عهد قد استكمل شكله القانوني واستوفى شروطه، وطبقًا للقواعد القانونية التي كانت سائدة حينذاك في القرن الأول الميلادي، متى كتب الموصي وصيته واكتملت أركانها القانونية، أي استقرت وتوثَّقت وتمكَّنت فلا يستطيع أحد ولا حتى الموصي أن يغير فيها شيئًا أو يلغيها.

 وكان قطع العهد قديمًا بين شخصين يكتمل بذبيحة حيوانية تُشق نصفين، ويجتاز طرفا العهد بين شقيّ الذبيحة، والأمر العجيب أنه عندما قطع اللَّه مع إبراهيم عهدًا، تنازل اللَّه واستخدم نفس الطريقة (تك 15: 12-20) وإن كان العهد المُقام بين شخصين بهذه الطريقة المتعارف عليها لا يُنقَض، فما بالك بعهد قطعه اللَّه مع إبراهيم أب الآباء ورجل الإيمان.. مَن يقدر أن ينسخه أو يزيد عليه أو يُنقص منه؟!

 لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ.. فمثلًا قد منع الناموس الإنسان من أن يغيّر تخومه أي حدود ميراثه، فلا يستطيع أن يزيد عليه من أرض الجار، ولا يستطيع أن يُنقص منه لحساب الجار، فتخوم الميراث لا تتغيَّر، وربما يتمسَّك بها الإنسان أكثر من تمسُّكه بالحياة.. هذا ما فعله نابوت اليزراعيلي الذي وقف في وجه آخاب الملك رافضًا أن يتنازل عن ميراث آبائه بحسبما أوصاه الناموس. وقد صار العهد من قبل بين اللَّه وإبراهيم وتمسَّك به إبراهيم بإيمان كامل حتى نهاية حياته: ” كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُكَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ. أَمَامَ اللَّهِ الَّذِي آمَنَ بِهِ. الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى وَيَدْعُو الأَشْيَاءَ غَيْرَ الْمَوْجُودَةِ كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ” (رو 4: 17)، ويقول “الأب متى المسكين“: ” واضح هنا أن عهد اللَّه لإبراهيم يقوم أساسًا على وراثة البشرية لبركة إبراهيم وبره إنما بشرط الإيمان إن هم آمنوا باللَّه كما آمن إبراهيم فحُسب له برًا(172).

 لَيْسَ أَحَدٌ يُبْطِلُ عَهْدًا قَدْ تَمَكَّنَ وَلَوْ مِنْ إِنْسَانٍ أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ.. في الرسالة للعبرانيين شرح بولس الرسول نفاذ العهد أو الوصية بعد موت الموصي، فقال: ” لأَنَّهُ حَيْثُ تُوجَدُ وَصِيَّةٌ يَلْزَمُ بَيَانُ مَوْتِ الْمُوصِي. لأَنَّ الْوَصِيَّةَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْمَوْتى إِذْ لاَ قُوَّةَ لَهَا الْبَتَّةَ مَا دَامَ الْمُوصِي حَيًّا” (عب 9: 16، 17)، فمثلًا لو أوصى أحد الأغنياء بميراثه أو بجزء منه لشخص عزيز لديه بعد وفاته، فطالما الموصي على قيد الحياة فلا يستطيع الموضى له أن يتمتع بهذا الميراث، ولكن تصير الوصية واجبة النفاذ وسارية المفعول بتحقُّق شرط الوفاة، فعند وفاة المُوصي يحق للمُوصىَ له أن يتسلّم ما أوصى به هذا المُوصي.. فإن كان هذا هو الحال بعهد أرضي، فما بالك بالعهد السمائي؟!!.. كم يكون مستقرًا ثابتًا استقرار السماء عينها؟! ولا يمكن للشريعة التي جاءت بعد ذلك العهد أن تلغيه.

 ويقول “القديس يوحنا الذهبي الفم“: “إنْ أقام إنسانًا عهدًا فهل يجرؤ من يأتي بعده أن يُغيّره أو يزيد عليه؟ هذا ما يعنيه ب “يَزِيدُ عَلَيْهِ“. بالأولى عندما يقيم اللَّه عهدًا مع إبراهيم، إذ وعده بأن تتبارك جميع الأمم في نسله، هذه البركة لا يمكن للناموس أن يُلقي بها جانبًا.. أخذ إبراهيم وعدًا أن تتبارك الأمم في نسله، ونسله حسب الجسد هو المسيح (غل 3: 16 – 18)(173).

 

 وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ. لاَ يَقُولُ وَفِي الأَنْسَالِ كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ” (غل 3: 16).

 وَأَمَّا الْمَوَاعِيدُ فَقِيلَتْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَفِي نَسْلِهِ.. في الآية السابقة أعطى بولس الرسول مثلًا من واقع الحياة العملية التي عاشها الغلاطيون، وفي هذه الآية يحدثنا القديس بولس عن المواعيد الكتابية التي وهبها اللَّه لأبينا إبراهيم، ولكن إن كان الوعد واحد، فلماذا ورد هنا في صيغة الجمع الْمَوَاعِيدُ؟.. ذلك لأن هذا الوعد ورد عدة مرات في الكتاب، فمثلًا:

1 عندما دعا الرب ابرآم ليترك أرضه وعشيرته وأطاع إبرام على الفور منحه اللَّه وعده بأن فيه تتبارك قبائل الأرض، فقال له: فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ. وَتَكُونَ بَرَكَةً. وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ (تك 12: 2، 3)، فالرب هنا يبارك إبراهيم ويجعله بركة للآخَرين.

2 عندما استضاف إبراهيم الرب ومعه ملاكين، كرَّر له الرب العهد قائلًا: هَلْ أُخْفِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ مَا أَنَا فَاعِلُهُ. وَإِبْرَاهِيمُ يَكُونُ أُمَّةً كَبِيرَةً وَقَوِيَّةً وَيَتَبَارَكُ بِهِ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ” (تك 18: 17، 18)، فالرب هنا يبارك ذرية إبراهيم.

3 عقب طاعة إبراهيم واجتيازه أصعب امتحان يجتازه إنسان جدَّد الرب الوعد له أن في نسله تتبارك جميع أمم الأرض: وَقَالَ بِذَاتِي أَقْسَمْتُ يَقُولُ الرَّبُّ. أَنِّي مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ فَعَلْتَ هذَا الأَمْرَ وَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ. أُبَارِكُكَ مُبَارَكَةً وَأُكَثِّرُ نَسْلَكَ.. وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ” (تك 22: 16-18)، وهنا يجدّد الرب الوعد ويوضح أن بركة إبراهيم للأمم ستأتي عن طريق ابنه إسحق الذبيح الذي هو رمز للمسيح المصلوب.

 لاَ يَقُولُ وَفِي الأَنْسَالِ كَأَنَّهُ عَنْ كَثِيرِينَ، بَلْ كَأَنَّهُ عَنْ وَاحِدٍ.. كان لإبراهيم ابنان هما إسماعيل من هاجر الجارية، وإسحق من زوجته سارة، وبعد موت سارة تزوج إبراهيم بقطورة فَوَلَدَتْ لَهُ زِمْرَانَ وَيَقْشَانَ وَمَدَانَ وَمِدْيَانَ وَيِشْبَاقَ وَشُوحًا (تك 25: 2) ستة أبناء، وبذلك يكون إبراهيم قد أنجب ثمانية بنين، ولكن الوعد تركّز في واحد وهو إسحق دون بقيّة إخوته: بَلْ بِإِسْحَقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ (رو 9: 7)، والأمر العجيب أن إسحق كان رمزًا للنسل الموعود أي السيد المسيح، فإسحق وُلِد بطريقة معجزية بعد تقدّم العمر بإبراهيم وعقورية سارة ومماتية مستودعها (رو 4: 19، عب 11: 11)، وهو الابن الوحيد الحبيب لإبراهيم (تك 22: 2)، وقُدِّم ذبيحة محرقة (تك 22: 2)، وحمل حطب المحرقة (تك 22: 6) وعاد إسحق حيًّا (تك 22: 12)، وصار نسله كنجوم السماء ورمل البحر: وُلِدَ أَيْضًا مِنْ وَاحِدٍ وَذلِكَ مِنْ مُمَاتٍ مِثْلُ نُجُومِ السَّمَاءِ فِي الْكَثْرَةِ وَكَالرَّمْلِ الَّذِي عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ الَّذِي لاَ يُعَدّ (عب 11: 12).. بمثل أوجه الشبه هذه وغيرها كان إسحق رمزًا للسيد المسيح. ثم تركز الوعد في يعقوب دون عيسو، ثم في يهوذا دون بقية إخوته.

 وهنا نلاحظ كيف يُلقي بولس الضوء على كلمة الوحي الإلهي: ” نَسْلِكَ” (غل 22: 18) ويشير إلى أنها جاءت في صيغة المفرد (نَسْلِكَ) ولم تأتِ في صيغة الجمع (الأنسال). إذًا القصد من النسل ليس الجماهير العديدة المتناسلة من إبراهيم، بل هو شخص واحد وحيد بعينه دون سواه، وهو السيد المسيح له المجد، فهو غاية أحداث التاريخ، وبذلك يكون بولس الرسول قد سلَّم أولاده في غلاطية مفتاحًا جديدًا هم في أشد الاحتياج إليه، وهو أن بركة إبراهيم ستصير لهم عن طريق الإيمان بالسيد المسيح وكفاية دمه لخلاص جميع الأمم.

 وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ.. قديمًا أعطى اللَّه الوعد لأمنا حواء بأن نسل المرأة يسحق رأس الحيَّة عندما قال لها: ” وَأَضَعُ عَدَاوَةً بَيْنَكِ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ نَسْلِكِ وَنَسْلِهَا. هُوَ يَسْحَقُ رَأْسَكِ، وَأَنْتِ تَسْحَقِينَ عَقِبَهُ” (تك 3: 15). ثم أعطى الرب المواعيد لإبراهيم بأن في نسله تتبارك جميع الأمم، فمن هو نسل حواء وإبراهيم الذي سحق رأس الشيطان ويهب الحياة والبركة للذين يحبونه، سوى ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح؟!

 وفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ.. والمقصود بالمسيح هنا ليس شخصه المبارك فقط، بل وكل الأعضاء المقدَّسين المتحدين به، وهذا ما أوضحه القديس بولس عندما قال: لأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ هُوَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ وَكُلُّ أَعْضَاءِ الْجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا كَانَتْ كَثِيرَةً هي جَسَدٌ وَاحِدٌ، كَذلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا (1كو 12: 12).

 ويقول “دكتور وليم آدي“: ” والمعنى أن الذي أعطى الوعد هو نسل إبراهيم الروحي أي المؤمنون الذين يسوع المسيح هو رأسهم ونائبهم وهم جسده لاتحادهم به بالإيمان الحي. فكلمة “نسل” اسم جنس يتضمن كل أولاد إبراهيم الروحيين..

 الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ لا باعتبار كونه يسوع الناصري مفردًا بل باعتباره مع أتباعه الذين هم أعضاء جسده وكونه آدم الثاني ورأس المفديين. وخلاصة ما قيل هنا هو ما قاله في (غل 3: 28، 29): “ليْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. ليْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ“.. “(174).

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “يقول القديس أغسطينوس أن إبراهيم نال وعدًا ليس فقط في المسيح نسل إبراهيم الذي يبارك الأمم (3: 16)، بل وفي جسده، أي في كنيسة المسيح (3: 28). { إن كان نسل إبراهيم يُفهم عن المسيح وحده، فأنه ينطبق علينا نحن أيضًا، أي على المسيح بأكمله: الرأس والجسد، المسيح الواحد}(175).

 

 وإِنَّمَا أَقُولُ هذَا إِنَّ النَّامُوسَ الَّذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللَّهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ” (غل 3: 17).

 وَإِنَّمَا أَقُولُ هذَا.. أي ما أقصده هو هذا، أن الوعد لإبراهيم هو الأسبق للناموس، فأي معاملات لاحقة لهذا الوعد لا تنسخه، أي لا تبطل مفعوله.

 إِنَّ النَّامُوسَ الذِي صَارَ بَعْدَ أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً.. وهناك رأيان في بداية هذه المدة، هل بدايتها منذ أن صار الوعد لإبراهيم وهو في الخامسة والسبعين من عمره، أم منذ دخول بني إسرائيل من أرض مصر. أما نهاية المدة فهي استلام موسى الشريعة بعد الخروج من مصر بعدّة أشهر قليلة:

 الرأي الأول: ويحتسب مدة الأربع مئة والثلاثين سنة كالتالي:

 

25 سنة منذ أن صار الوعد لإبراهيم وهو في الخامسة والسبعين من عمره وحتى إنجاب إسحق.

60 سنة عمر إسحق عندما أنجب يعقوب.

130 سنة عمر يعقوب عند النزول إلى أرض مصر.

215 سنة مدة إقامة بني إسرائيل في أرض مصر.

______

430 سنة المدة الإجمالية.

 ويقول المؤرخ اليهودي “يوسيفوس” أن “بني إسرائيل قد تركوا مصر بعد 430 سنة من مجيء إبراهيم إلى أرض كنعان، وبعد 215 سنة من نزول يعقوب إلى أرض مصر”(176).

 ويقول “دكتور وليم أدي“: أَرْبَعِمِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً أي أن إعطاء الناموس على طور سيناء كان بعد هذه المدة من الوعد لإبراهيم، فحسب مدة تغرُّب إبراهيم وإسحق ويعقوب مع مدة العبودية وعبَّر عنها إستفانوس بأربع مئة سنة تقريبًا للحفظ ( أع 7: 6 ).. ” (177).

 

 الرأي الثاني: أن هذه المدة تبدأ من إقامة نسل إبراهيم في أرض الغربة بمصر، كقول موسى النبي: ” وَأَمَّا إِقَامَةُ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَقَامُوهَا فِي مِصْرَ فَكَانَتْ أَرْبَعَ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً. وَكَانَ عِنْدَ نِهَايَةِ أَرْبَعِ مِئَةٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ أَنَّ جَمِيعَ أَجْنَادِ الرَّبِّ خَرَجَتْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ” (خر 12: 40، 41)، ويقول “مكدونل“: ” يبدو أن السنين الأربعمائة والثلاثين قد حُسِبت من الوقت الذي فيه ثبَّت اللَّه العهد الإبراهيمي ليعقوب، عندما كان هذا الأخير يستعد للدخول إلى مصر (تك 46: 1-4)، وتمتد هذه السنون حتى زمن إعطاء الناموس لإسرائيل بعد ثلاثة أشهر من وقت خروجهم من مصر(178).

 إِنَّ النَّامُوسَ.. لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللَّهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ الْمَوْعِدَ.. تعتبر الآية (16) اعتراضية بين الآيتين (15، 17) اللتان ترتبطان بمعنى واحد، فإن كان العهد بين إنسان وآخَر لا يمكن لأحدهما أن يفضه إلاَّ بموافقة الطرف الآخر، فما بالك بالعهد الذي يمثل فيه اللَّه -الذي ليس عنده تغيير ولا ظل دوران- أحد الطرفين، والطرف الآخَر هو إبراهيم أب الآباء الذي فارق الحياة وهو يتمسّك ويتشبث بهذا العهد، وموضوع العهد هنا وبيت القصيد هو الرب يسوع الذي به تتبارك جميع الأمم.. فمن يقدر أن يلغيه أو يغيَّره أو يبدل فيه؟! وإن ادعى أحد أن الناموس يُلغى وينسخ وعد اللّه لإبراهيم.. فليقل لنا لماذا؟!.. وما هو الدافع لذلك؟!.. وهل الناموس ضد مواعيد اللَّه (غل 3: 21)؟!.. بالقطع لا.

 ويقول “مكدونل“: ” كان وعد اللَّه لإبراهيم وعدًا غير مشروط، إذ لم يرتبط بالأعمال على الإطلاق. فاللَّه وافق بكل بساطة أن يُعطي إبراهيم نسلًا (وهو المسيح). وقد آمن إبراهيم باللَّه رغم كونه بلا أولاد، وحُسب ذلك له برًّا إذ آمن، وبهذا الطريق، بالمسيح الآتي أيضًا. هذا وإن الناموس، الذي جاء بعد أربع مئة وثلاثين سنة، لا يؤثر في الوعد بأن شكل من الأشكال، فهو لا يستطيع إلغاءه ولا زيادة أية شروط عليه.

 ربما كان أنصار التهوُّد يدَّعون بأن الناموس الذي جاء بعد 430 سنة من الوعد يُبطل مفعول هذا الأخير. وفحوى جواب بولس لهم: كلاَّ البتة، ففي الواقع، كان الوعد بمثابة وصية صدقت بالموت (ذبيحة العهد، تك 15: 7-11، انظر أيضًا عب 9: 15-22). ولا يمكن أن يُلغى(179).

 

 ويقول “الأب متى المسكين“: “وإسرائيل لم يفرق بين الناموس أي القانون، حيث القانون دائمًا للعقاب والتأديب، وبين العهد والوعد الذي كسبه إبراهيم لنسله بإيمانه، حيث العهد والوعد يقوم على الميراث والتوريث المجاني. فناموس موسى مدموغ بالخطية والعقاب، وإيمان إبراهيم الذي أُستعلن في المسيح مدموغ بالنعمة والميراث المجاني. وواضح أن الوريث الموعود له يستلم الميراث دون سؤال ولا يُطلب منه إلاَّ إثبات أنه ابن المورّث: ” فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا” (رو 8: 17)!! ولقد أعطانا اللَّه هذا الحق العالي نُدعى أولاد اللَّه -بالتبني- لأننا آمنا بابنه يسوع المسيح!(180).

 لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا قَدْ سَبَقَ فَتَمَكَّنَ مِنَ اللَّهِ نَحْوَ الْمَسِيحِ حَتَّى يُبَطِّلَ المَوْعِدَ.. عندما أعطى اللَّه وعده لإبراهيم أن في نسله تتبارك جميع الأمم لم يكن هذا خلال الناموس، وعندما جاء الناموس لم ينسخ أي لم يلغي هذا الوعد الإلهي لإبراهيم: ” فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ” (رو 4: 13، 14). فالناموس ليس ضد مواعيد اللَّه: ” فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللَّهِ. حَاشَا” (غل 3: 21). إذًا الناموس لم يُلغِ وعد اللَّه لإبراهيم، وهذا ما أكد عليه بطرس الرسول في عظته الأولى يوم الخمسين أن الوعد الذي قطعه اللَّه مع إبراهيم ما زال قائمًا، فقال لليهود: أَنْتُمْ أَبْنَاءُ الأَنْبِيَاءِ وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ بِهِ اللَّهُ آبَاءَنَا قَائِلًا لإِبْراهِيمَ وَبِنَسْلِكَ تَتَبَارَكُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ” (أع 3: 25).

 ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “الناموس لا يستطيع إلغاء وعد اللَّه لإبراهيم بأن فيه تتبارك جميع الأمم، ونسله هو المسيح، فلقد جاء الناموس بعد 430 سنة من الوعد، ولو أنه أعطى الإنسان حياة وبرًا لكان قد ألغى الوعد، وإن كان مجرّد إلغاء عهد الإنسان الحي غير ممكن فكم بالحري عهد اللَّه” (181).

 

 إِنَّ النَّامُوسَ.. لاَ يَنْسَخُ عَهْدًا.. فعل يَنْسَخُ له معنيان، أحدهما: ينسخ أي يحرر نسخة جديدة من نسخة مكتوبة، وهذا ما عمل به النُساخ على مدار التاريخ حتى اختراع آلة الطباعة، وكم تعب الكثيرون وسهروا الليالي الطويلة يقطعون الليل بالنهار لكيما ينسخوا الأسفار المقدَّسة، والمعنى الآخَر ينسخ أي يُلغي ويحذف ويشطب وهذا هو المعنى المقصود هنا، وبولس الرسول يؤكد أن الناموس الذي جاء بعد الوعد لإبراهيم بأربعمائة وثلاثين سنة لم ينسخ أي لم يُلغِ هذا الوعد.

 ونشكر اللَّه أنه ليس في كتابنا المقدَّس فكرة الناسخ والمنسوخ، لأن اللَّه لا يجهل المستقبل حتى يقول قولًا ثم يأتي بنقيضه فينقضه ويلغيه، ولكن ما نؤمن به أن الكتاب المقدَّس يُكمّل بعضه بعضًا، واللَّه كان يسير بالإنسان نحو طريق الكمال، ففي القديم أعطاه الوصية لا تقتل، أما في العهد الجديد فنهى الإنسان عن الغضب الباطل، وفي القديم نهى عن الزنا قائلًا: لا تزن، أما في العهد الجديد فقد نهى عن النظرة الشريرة، فالعهد الجديد جاء ليُكمّل العهد القديم ولم يأتِ لينقضه كقول مخلصنا الصالح: مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مت 5: 17)، ومن المعروف طبعًا أن النقض يحمل معنى النقيض أو الضد، فلو قال العهد القديم: لا تقتل.. لا تزن، ثم جاء العهد الجديد وقال “أقتل.. ازن”، فهذا هو النقيض، وبالطبع لم يحدث قط.

 

 وإن قال أحد مكتوب في الكتاب المقدَّس أن الرب ندم لأنه خلق الإنسان وأتى عليه بالطوفان، وهذا نوع من النسخ، نقول له أن هذا تعبير بشري يساعدنا على تفهم مدى بشاعة الخطية التي سادت العالم أيام نوح مما استوجب معها هلاك البشرية (راجع كتابنا مدارس النقد والتشكيك ج 5 س 411)، وإن قال أحد أنه في قصة نينوى ذكر الكتاب أن الرب ندم على الشر الذي كان مزمعًا أن يفعله مع نينوى فلم يفعله وهذا نوع من النسخ، فالحقيقة أن الرب لم يغير رأيه في الحكم على المدينة العاصية نينوى التي صعد شرها للسماء، ولكن هذه المدينة هي التي غيَّرت موقفها عندما قدَّمت توبة قوية، وغيَّرت موقعها من دائرة الغضب الإلهي إلى دائرة الرحمة الإلهيَّة.. فهل يطلب الناقد من اللَّه أن يهلك نينوى بعد توبتها؟!.. ولو فعل اللَّه هكذا، ألاَّ يتهمه الناقد بأنه إله قاسي لا يرحم مدينة تائبة؟!.

 

 نَحْوَ الْمَسِيحِ.. لا توجد هذه العبارة في بعض النسخ القديمة، ولكنها وجدت في نسخ أخرى ومنها أُخذت الترجمة العربية، وهذه العبارة الوجيزة لا تخالف ما جاء في النص، بل تتفق تمامًا مع سياق النص وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ” (غل 3: 16).

 

 

 لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ (غل 3: 18).

 بعد أن أكد بولس الرسول على أن العبرة بوعد اللَّه لإبراهيم وليس بالناموس، لأن وعد اللَّه لإبراهيم سبق الناموس بأربعمائة وثلاثين سنة، يطرح بولس الرسول في هذه الآية دليلًا آخر، وهو أن الوراثة مرتبطة بوعد اللَّه لإبراهيم، والوعد صار لإبراهيم عن طريق الإيمان وليس عن طريق الناموس، لأن الناموس لم يكن قد أُعطيَ بعد: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِالنَّامُوسِ كَانَ الْوَعْدُ لإِبْرَاهِيمَ أَوْ لِنَسْلِهِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لِلْعَالَمِ بَلْ بِبِرِّ الإِيمَانِ. لأَنَّهُ إِنْ كَانَ الَّذِينَ مِنَ النَّامُوسِ هُمْ وَرَثَةً فَقَدْ تَعَطَّلَ الإِيمَانُ وَبَطَلَ الْوَعْدُ (رو 4: 13، 14).

 ولو كان الناموس هو الذي يهب الميراث، فما الداعي للوعد الذي وهبه اللَّه لإبراهيم بأن بنسله تتبارك جميع الأمم؟!.. ولو حصل الإنسان على الميراث بموجب الناموس، أي عندما تمّم مطالب الناموس، إذًا هو حصل على الميراث كأجرة لعمله بالناموس، فكيف يكون الميراث هبة مجانية من اللَّه؟!.. إذًا الأساس للحصول على الميراث هو الإيمان وليس الناموس، ولا يعتبر الإيمان ثمنًا للميراث، إنما الإيمان هو الذي جعل إبراهيم يصدق مواعيد اللَّه، فصار إبراهيم بالإيمان مؤهلًا لنعمة الميراث الإلهي، ويقول “ماكدونل“: “يجب أن يكون الميراث إما بالأعمال وإما بالإيمان، لأنه لا يمكن أن يكون بكليهما. فالكتاب يعلن صراحة أن الميراث أُعطي لإبراهيم بوعد غير مشروط، وهكذا الحال بالنسبة للخلاص أيضًا، فالخلاص يُقدَّم كعطية غير مشروطة، وفكرة الأعمال مستثناة تمامًا”(182).

 ويقول “دكتور وليم آدي“: ” فالناموس والموعد ضدان باعتبار كونهما واسطتين للخلاص، فالأول شرطه الأعمال والثاني شرطه الإيمان(183).

 وقد استخدم بولس الرسول في هذه الآية كلمة “الوراثة” قاصدًا بها كل البركات المادية والروحية، والزمنية والأبدية، وهذه الكلمة تذكرنا بقول الرب لإبراهيم أن أَجْرُكَ كَثِيرٌ جِدًّا(تك 15: 1) فقال إبراهيم للرب: ” مَاذَا تُعْطِينِي وَأَنَا مَاضٍ عَقِيمًا وَمَالِكُ بَيْتِي هُوَ أَلِيعَازَرُ الدِّمَشْقِيُّ ” (تك 15: 2)، فقال الرب لإبراهيم: “لاَ يَرِثُكَ هذَا بَلِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ أَحْشَائِكَ هُوَ يَرِثُكَ” (تك 15: 4)، وهنا نقف أمام ثلاث نقاط هامة خاصة أولًا الوارث إسحق وهو رمز للسيد المسيح، وثانيًا الميراث أرض كنعان التي هي رمز لأورشليم السمائية، وثالثًا المُورّث اللَّه الآب الذي سرَّ بأن يهبنا نحن الأمم هذا الميراث الثمين:

 أولًا: الوارث: وهو إسحق بن إبراهيم وليس أحد غيره من إخوته، وقد حصل إسحق على الميراث كله وليس جزء منه: وَأَعْطَى إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ كُلَّ مَا كَانَ لَهُ. وَأَمَّا بَنُو السَّرَارِيِّ اللَّوَاتِي كَانَتْ لإِبْرَاهِيمَ فَأَعْطَاهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَطَايَا وَصَرَفَهُمْ عَنْ إِسْحَقَ ابْنِهِ(تك 25: 5، 6)، وكان إسحق رمزًا للسيد المسيح الوارث الحقيقي، فاللَّه الآب: “جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ” (عب 1: 2)، وجاء في المزمور: “إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ. قَالَ لِي أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ” (مز 2: 7، 8)، وفي مَثَل الكرم والكرامين قال السيد المسيحوَأَمَّا الْكَرَّامُونَ فَلَمَّا رَأَوْا الابْنَ قَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: هذَا هُوَ الْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ” (مت 21: 38).. السيد المسيح هو الوارث الحقيقي ونحن كأعضاء له نرث معه: ” فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا وَرَثَةُ اللَّهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ” (رو 8: 17)، فقد صرنا ” شُرَكَاءُ الدَّعْوَةِ السَّمَاوِيَّةِ” (عب 3: 1)، ونلنا: وَعْدَ الْمِيرَاثِ الأَبَدِيِّ (عب 9: 15).

 ثانيًا: الميراث: بالرغم من أن الميراث هو أرض كنعان التي تفيض لبنًا وعسلًا: “وأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكًا أَبَدِيًّا. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ” (تك 17: 8)، ولكن مع هذا فإن إبراهيم عاش في خيام متغرّبًا في الأرض وكذلك ابنه إسحق وحفيده يعقوب لم يرث أي منهم هذه الأرض، بل كانوا يتطلعون للوطن السمائي: ” بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللَّهُ” (عب 11: 9، 10). إذًا الميراث الحقيقي الثمين هو أورشليم السمائية مسكن اللَّه مع الناس، ونحن نشكر اللَّه على هذا الميراث السمائي في مساكن النور: ” شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ” (كو 1: 12).. فهل بعد هذا الميراث الثمين جدًا، الذي ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر نصرف عمرنا لاقتناء ميراث فانٍ أو أموال تمتلكنا ولا نمتلكها؟!!.. ” فَإِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ. اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ” (كو 3: 1، 2)..” الوراثة المعطاة لإبراهيم هي ميراث البر، والقبول من اللَّه، وامتياز العيشة إلى الأبد معه في السموات الجديدة والأرض الجديدة. لم يُعطَ الميراث لإبراهيم بالناموس. إن إبراهيم لم يستطع أن يكسب أو يفوز به أو يستحقه، ولكن كما يعلن الكتاب المقدَّس” اللَّهَ وَهَبَهَا (الوراثة) لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ“.. “(184).

 ثالثًا: المُورّث: المُورّث هو اللَّه الآب. وهذا ما أوضحه بولس الرسول في الأصحاح التالي عندما قال بما أننا أبناء ولسنا عبيد، إذًا لنا حق الميراث: ” بِمَا أَنَّكُمْ أَبْنَاءٌ أَرْسَلَ اللَّهُ رُوحَ ابْنِهِ إِلَى قُلُوبِكُمْ صَارِخًا يَا أَبَا الآبُ. إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللًّهِ بِالْمَسِيحِ” (غل 4: 6، 7)، والآب يسرُّ ويفرح بأن يهبنا هذا الميراث: ” لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ” (لو 12: 32).

خامسًا: أهمية الناموس وهدفه (غل 3: 19-29):

 ” فَلِمَاذَا النَّامُوسُ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ. فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللَّهِ. حَاشَا. لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ. لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. وَلكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ. إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ. وَلكِنْ بَعْدَ مَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ. لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ. لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ” (غل 3: 19 – 29).

 في هذه الفقرة يجيب بولس الرسول على تساؤلات المتهوّدين:

1 لماذا الناموس إذا كان لم يُلغِ وعد اللَّه لإبراهيم ولم يزد عليه؟.. وأوضح أن اللَّه أعطى الناموس ليُحجّم شر الإنسان، فحيث لا وصية فإن الإنسان يفعل كل ما يشأ ولا يحاسبه أحدًا، لأنه لم يكسر قانونًا لم يوجد بعد، لذلك أعطى اللَّه الناموس بصفة مؤقتة لحين تحقُّق الوعد الإلهي لإبراهيم بمجيء المسيا المُخلّص الذي به تتبارك كل أمم الأرض، وأن الوعد هو الأساس والناموس هو المُلحق المؤقت، والوعد أُعطيَ من اللَّه مباشرة لإبراهيم بدون وسيط، بينما أُعطيَ الناموس لنا عن طريق وسيط وهو موسى النبي، والوعد لا يتحمّل تبعاته غير طرف واحد وهو اللَّه الذي وهب الوعد وهو القادر على تحقيقه دون أن تقع أية التزامات على الإنسان، بينما في الناموس هناك طرفان ووسيط، وتقع على الإنسان تبعات تنفيذ وصايا الناموس وإلاَّ سقط تحت اللعنة (غل 3: 19، 20).

2 هل الناموس ضد مواعيد اللَّه؟.. والمقصود بالمواعيد وعد اللَّه لإبراهيم الذي تكرَّر عدّة مرات، والناموس ليس ضد مواعيد اللَّه لأن كليهما من مصدر واحد وهو اللَّه، ويسيران في خطين متوازيين وليس خطين متقاطعين،  وإن كان الناموس كشف للإنسان خطاياه لكنه عجز عن تقديم الحياة له، بل أن الناموس حكم على الجميع بلا استثناء أنهم خطاة وأغلق عليهم في سجن الخطية، فكان الناموس كالسجان، ولكنه كان يوجه نظر نزلائه إلى المسيح الفادي نسل إبراهيم الذي سيأتي ويفتح أبواب السجن ويُطلق أسرى الرجاء، فكنا محروسين تحت الناموس، فالناموس سيَّج حول الإنسان بوصاياه، وحفظه ليس للهلاك بل للخلاص المُعد للمؤمنين بالمسيح يسوع (غل 3: 21 – 23).

 ثم تحدَّث بولس الرسول عن الناموس كمؤدب لنا ونحن في مرحلة الطفولة، فكان الناموس مؤدبنا إلى المسيح أي أنه هو الذي قادنا للمسيح عندما كشف للإنسان أنه لا خلاص بدونه، فوجَّهنا إلى الإيمان بالمسيح لنتبرَّر وننجو به، ولكن بعد أن آمنا بالمسيح ووصلنا إلى سن النُضج والرشد لسنا في حاجة للمؤدب مرة أخرى، أما المتهوُّدون فأنهم يحنُّون لعصا المؤدب وعبودية الناموس، أما نحن جميعًا يهودًا وأممًا فقد صرنا أبناء اللَّه بالإيمان بالمسيح يسوع (غل 3: 24-26).

 

 ثم يستبدل بولس الرسول كلمة “الإيمان” بكلمة “المعمودية”، ويتحدث عن المعمودية التي بها نلبس المسيح فيجب أن يكون لنا صورة المسيح وسلوكياته وتصرفاته، وبما أننا صرنا أبناء معمودية واحدة فنحن إخوة، لم يعد هناك فرقًا بين اليهودي والأممي، ولا بين العبد والحر، ولا بين الذكر والأنثى، بل جميعنا واحد في المسيح، وبحسب وعد اللَّه لإبراهيم وبحسب اتحادنا مع المسيح، فنحن ورثة مع المسيح، ورثة للملكوت السمائي الذي كانت أرض كنعان ظلًا له (غل 3: 27 – 29).

 

 ” فَلِمَاذَا النَّامُوسُ قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ. وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ” (غل 3: 19، 20).

 فَلِمَاذَا النَّامُوسُ.. ما فائدة الناموس الذي جاء بعد وعد اللَّه لإبراهيم بأربعمائة وثلاثين سنة إذا كان لا يُلغي هذا الوعد ولا يزيد عليه؟!.. وما فائدة الناموس إذا كان لا يُعطي الروح القدس ولا يهب الإنسان الميراث الأبدي، ولا يمنح الإنسان البركة بل يحكم عليه باللعنة؟!.. ولماذا وهب اللَّه البشرية الناموس؟!.. لقد أعطى اللَّه الإنسان الناموس ليعينه في حياته الروحية، ويعرّفه بطبيعة اللَّه ووصاياه، ولذلك يصلّي الأب الكاهن في القداس الغريغوري قائلًا: “أعطيتني الناموس عونًا”، ولكن الإنسان يكتشف الحقيقة المُرة التي يعيشها لأَنَّ بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ (رو 3: 20).

 

 فقد أظهر الناموس هذه التعديات: ” لِكَيْ تَصِيرَ الْخَطِيَّةُ خَاطِئَةً جِدًّا بِالْوَصِيَّةِ” (رو 7: 13).. وكشف عن أن هذه التعديات تجلب الغضب الإلهي: لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ (رو 4: 15)، والناموس وهب الإنسان الحساسية ضد الخطايا وهذا ما دعيَ بولس الرسول للقول: ” وَأَمَّا النَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ” (رو 5: 20). وأيضًا كشف الناموس للإنسان بشاعة التعدي والخطية، لأنه بدون الوصية لا يُحسب الإنسان متعديًا، حتى قيل أنك لا تستطيع أن تكسر قانونًا غير موجود.

 

 ويقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “سؤال قد يثيره حديث الرسول: ما دام الناموس لم يبرّرنا فما فائدته؟ فيجيب: “قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ” أي أنه أُرسل لليهود ليضبطهم حتى لا ينفلتوا في الشر، كلجام يحدَّهم ويقودهم في تنفيذ ولو بعض الوصايا، ولكن إلى متى؟.. إلى أن يأتي المسيح فما دام المسيح قد جاء لماذا تطلبون امتدادًا للناموس بعد انتهاء مهمته؟(185).

 فَلِمَاذَا النَّامُوسُ.. كان للناموس وظيفتان أساسيتان، أحدهما إيجابية حيث يُعرّف الإنسان بطبيعة اللَّه ووصاياه، والأخرى سلبية لأنه يكشف للإنسان عن تعدياته وخطاياه وآثامه دون أن يشفيه من جراحاته، فالناموس يشبه:

1 المرآة.. التي ينظر إليها الإنسان فيرى شكله وقد شوّهته الخطية، فالمرآة تعكس صورة الإنسان وتعجز عن أن تصلح ما فيه من عيوب.

2 مطمار البناء.. وهو خيط أسفله ثقل يستخدمه البنَّاء في الكشف عن مدى استقامة الجدار رأسيًا، دون أن يكون له القدرة على إصلاح الجدار المائل.

3 ميزان المياه.. الذي يُظهِر مدى استقامة أي سطح أفقيًا دون أن يكون له القدرة على ضبط السطح.

4 ميزان الحرارة.. الذي يكشف للإنسان عن درجة حرارة جسده دون أن يضبط درجة الحرارة.

5 الضوء.. الذي يكشف عن خبايا مكان مُظلم مهجور دون أن يستطيع أن يعيد تطهيره وترتيبه وتنظيفه.

 

6 المُربي والمُؤدب: الذي يُربي الأطفال ويرشدهم ويقودهم للمدرسة حيث المُعلّم الذي هو رمز للسيد المسيح، ويطمئن على سلامتهم وسلوكهم، وكان يقوم بهذه المهمة قديمًا العبيد الناضجين الأتقياء والحكماء. ” كان المؤدّب (paidagogos)عادة عبدًا موثوقًا به، كان مسئولًا عن الرعاية الأخلاقية للطفل، ولكن كان عليه واجب محدَّد كان يشير إليه بولس الرسول في كل يوم، كان الوصي يأخذ الطفل إلى المدرسة ويسلّمه للمعلم. وفي نهاية اليوم كان يعود إلى الطفل ويعود به بسلام إلى البيت. كان ذلك ما كان على الناموس أن يفعله. كان على الناموس أن يقود الإنسان للمُعلّم الحقيقي.. بأن يُظهِر للإنسان أنه غير قادر تمامًا على الحصول على البر من ذاته. عليه أن ينظر إلى المسيح، المُعلّم الحقيقي، من أجل البر والقبول لدى اللَّه، أي من أجل التبرير بالإيمان. وما أن جاء المسيح (الإيمان به)، لم تعد هناك حاجة للناموس ولا إلى أي وصي آخَر، لأن يسوع المسيح يأتي وجهًا لوجه مع اللَّه(186). وقال بولس الرسول: إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ” (غل 3: 24).

 

 ويقول “القديس كيرلس الأورشليمي“: “لأن إله العهدين هو واحد، في العهد القديم أنبأنا عن المسيح الذي ظهر في العهد الجديد، الذي قادنا إلى مدرسة المسيح بواسطة الناموس والأنبياء.. إن سمعتَ أبدًا أحد الهراطقة ينطق بالشر على الناموس أو الأنبياء، أجبه بصوت المُخلّص قائلًا أن المسيح لم يأتِ لينقض الناموس بل ليكمّله (مت 5: 17)(187).

 ويقول “القديس أُغسطينوس“: “لم يُعطَ الناموس لشفاء الضعفاء، وإنما للكشف عن ضعفهم وإظهاره.. لقد تسلّموا الناموس الذي لم يستطيعوا أن يتمّموه، لقد عرفوا داءهم، والتمسوا عون الطبيب، مشتاقين أن يبرأوا إذ عرفوا أنهم في كربٍ، الأمر الذي ما كانوا يعرفونه لولا عدم قدرتهم على تتميم الناموس الذي تسلّموه”(188).

 ويقول “القمص تادرس يعقوب“: “الناموس روحي، لكنه لا يحمل قوة الخلاص أو إمكانية التبرير. غايته أن يُظهِر للجنس البشري الساقط مدى فساد الطبيعة البشرية الخاطئة التي بلا شفاء. يكشف للإنسان عن خطيته وعماه واستخفافه باللَّه وأنه ساقط تحت الغضب الإلهي. هكذا يقودنا الناموس إلى السيد المسيح بإبرازه حاجتنا إليه كمُخلّص وطبيب”(189).

 وجاء في “التفسير التطبيقي“: ” للناموس وظيفتان: من الناحية الإيجابية يعلن طبيعة اللَّه ومشيئته ويبيّن للناس كيف يعيشون، ومن الناحية السلبية يُبرز خطايا الناس ويريهم أنه من المستحيل إرضاء اللَّه بإطاعة كل نواميسه بالتمام. لقد كان وعد اللَّه لإبراهيم على أساس إيمانه، بينما يركز الناموس على الأفعال، فالعهد مع إبراهيم يثبت أن الإيمان هو الطريق الوحيد للخلاص، أما الناموس فيبيّن لنا كيف نحيا حياة الخلاص، فالإيمان لا يُلغي الناموس، ولكن كلما زادت معرفتنا باللَّه نكتشف كم نحن خطاة، فنجد أنه لا سبيل أمامنا سوى الاستناد على إيماننا بالمسيح وحده للخلاص(190).

 

 قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ.. جاء الناموس في المرحلة الثانية بعد العهد الذي أقامه اللَّه مع إبراهيم، فجاء الناموس كملحق للموضوع الأساسي أي الوعد، وقد أُعطيَ الناموس لوقت محدَّد إلى أن يبلغ الوارث سن الرشد، وهنا يجيب القديس بولس على السؤال المطروح: لماذا الناموس؟

 أولًا: زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ: عندما زاد شر الإنسان أعطى اللَّه شعبه الناموس.. فما هو الدور الذي قام به الناموس؟

 1 أظهر الناموس قداسة اللَّه، فالناموس عرَّف الإنسان بطبيعة اللَّه القدوسة التي لا تقبل الشر ولا شبه الشر، فهو نار حارقة وهو فائق القداسة ويريد أن يكون شعبه شعبًا مقدَّسًا لذلك أوصى شعبه قائلًا: ” أَنَا الرَّبُّ إِلهُكُمْ فَتَتَقَدَّسُونَ وَتَكُونُونَ قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ” (لا 11: 44).

 2 كشف الناموس للإنسان عن مدى بشاعة التعدي على وصايا اللَّه لكيما يحاول الإنسان أن يُحجّم الشر في حياته وأن يلتزم بالوصايا الإلهيَّة، وكشف الناموس عن غضب اللَّه المُعلن ضد خطية الإنسان: لأَنَّ النَّامُوسَ يُنْشِئُ غَضَبًا إِذْ حَيْثُ لَيْسَ نَامُوسٌ لَيْسَ أَيْضًا تَعَدٍّ (رو 4: 15). فكان شعب اللَّه تحت حراسة الناموس الذي كان ينبههم لخطورة الخطايا، فيجاهدون للإفلات منها، وبالتالي فأنهم كانوا أحيانًا أفضل حالًا من الوثنيين الذين يستبيحون الخطية ولا منذر لهم، فالناموس حفظ شعب اللَّه إلى حد كبير، فكان يقوم بعمل المُربي والمُؤدب لهم.

 3 عندما جاء الناموس عاشت الخطية ومات الإنسان، بمعنى أنه قبل أن يتسلم شعب اللَّه الوصايا كان يتصرف كما يحلو له ولا يحتسب عليه شيء لأنه لم تكن هناك وصايا إلهيَّة مباشرة تمنع الإنسان من ارتكاب الشر، وهذا ما عبَّر عنه بولس الرسول بقوله: فَمَاذَا نَقُولُ. هَلِ النَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا. بَلْ لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ. فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ الشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ النَّامُوسُ لاَ تَشْتَهِ. وَلكِنَّ الْخَطِيَّةَ وهي مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ. لأَنْ بِدُونِ النَّامُوسِ الْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ. أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشًا قَبْلًا. وَلكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ فَمُتُّ أَنَا. فَوُجِدَتِ الْوَصِيَّةُ الَّتِي لِلْحَيَاةِ هي نَفْسُهَا لِي لِلْمَوْتِ (رو 7: 7 – 10).

 4 بالناموس كَثُرَت الخطية كقول بولس الرسول: وأَمَّا النَّامُوسُ فَدَخَلَ لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ(رو 5: 20)، ليس بمعنى أن الناموس دفع الإنسان لارتكاب خطايا أكثر، ولكن بمعنى أن معرفة وإدراك الإنسان للخطايا التي يرتكبها زادت، فالناموس صار كالضوء الكاشف يجعل الإنسان يكتشف حتى البقع الباهتة في حياته، ويقول “الأب متى المسكين” تعليقًا على قول بولس الرسول ” لِكَيْ تَكْثُرَ الْخَطِيَّةُ“بمعنى توضيح كل الخطايا التي يسقط فيها الإنسان، فقوله “تَكْثُرَ الْخَطِيَّة” مقصود بها تكثر في محيط معرفة الإنسان وإحساسه، وبهذا يتم تعرية الطبيعة البشرية العتيقة على الظاهر والمكشوف أنها مشحونة بأنواع الخطايا التي يستحيل عليها أن تُدخل بركة النسل الموعود به -أي المسيح- قبل كشفها وتعريتها تمهيدًا لرفعها..

 كذلك يقول ق. بولس في (رو 5: 20): “حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدًّا“. أي بقدر ما عرَّى وكشف الناموس من خطايا متنوعة وكثيرة، جاءت النعمة على مستوى كثرة أكثر لتمحوها. وهكذا كان ق. بولس صادقًا غاية الصدق في وضع الناموس في موضعه الإلهي الصحيح حسب خطة اللَّه في خلاص الإنسان(191).

 5 عندما عجز الناموس عن تبرير وخلاص الإنسان شعر الإنسان بمدى احتياجه للمسيح الفادي، فداود النبي صرخ: يَا رَبُّ طَأْطِئْ سَمَاوَاتِكَ وَانْزِلِ (مز 144: 5)، وإشعياء النبي يصرخ أيضًا: لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَوَاتِ وَتَنْزِلُ (إش 64: 1).. “ولكي يجعل الناس أكثر إدراكًا لخطاياهم. لاحظ الحقيقة الهامة: لم يُعطَ الناموس لكي يجعل الناس أبرارًا.. بل..

l ليجعل الناس مدركين لخطيتهم وإدانتهم.

l ليظهر للناس أنه يعوزهم مجد اللَّه.

l ليدفع الناس للالتفات إلى حقيقة أنهم خطاة.

l ليستد كل فم عن الافتخار والمطالبة بالبر الذاتي.

l لتنبيه الناس لحاجتهم الماسة لمعونة اللَّه.

l لكي يغرس في عقل الإنسان أنه بحاجة ماسة إلى اللَّه لكي يخلّصه من الخطية والموت.

l لتحريك كل فم ليعترف بحاجته إلى مُخلِّص من الخطية وعقابها (الموت)(192).

 قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ.. لقد زيد الناموس أي أُعطيَ لمرحلة محدَّدة حتى يأتي النسل الموعود به من قِبل اللَّه وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرضِ (تك 22: 18)، ويتحقَّق الوعد بأن تتبارك جميع الأمم بواسطة هذا النسل الذي هو السيد المسيح له المجد، ويقول “فؤاد حبيب“: ” فإذا كان الناموس لا يستطيع أن يُعطي الروح القدس، ولا أن يبرّر الحياة، وإذا كان الناموس لا يستطيع أن يبارك الإنسان لكنه ينطق عليه باللعنة، وإذا كان الناموس لا يستطيع بأي طريقة أن يؤثر في عهد النعمة الذي جاء قبله والذي كان للَّه مع إبراهيم ثم تأكد لإسحق، فلا يبقى أمامنا إلاَّ هذا السؤال المنطقي: لماذا الناموس؟ لماذا أعطى اللَّه الناموس؟ ويأتي الجواب: “قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ” ثم لم يعطَ الناموس لكي يكون علاجًا للخطية أو ليهب الخلاص للإنسان، بل لكي يُظهر الإنسان متعديًا وليكشف له حالته ويعرف أنه عاجز أثيم. لقد أُدخِل الناموس كشيء عرضي بين الوعد الأول لإبراهيم وبين تحقيقه في المسيح لكي تظهر حالة الإنسان على حقيقتها (رو 3: 20، 5: 13، 20، 7: 7-9). فقد كان إضافة وقتية “إِلَى أَنْ يَأْتِيَ النَّسْلُ (المسيح) الَّذِي قَدْ وُعِدَ لَهُ“. ثم مضى عهده باعتباره تدبيرًا انتهى وقته.

 إذًا “الناموس قد زيد”:

1 ليس لكي يمنع الخطية.

2 ولا لكي يخلِّص من الخطية.

3 بل لكي يكشف الخطية، لأن “بِالنَّامُوسِ مَعْرِفَةَ الْخَطِيَّةِ” (رو 3: 20)، كالنور عندما يدخل غرفة مُظلمة فيكشف ما كان غير ظاهر قبلًا “لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ” (رو 7: 7).

 وهكذا فإن عمل الناموس أن يوقظ في القلب التبكيت على الخطية ويجعل الإنسان يشعر بحاجته للمخلّص(193).

 مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ.. لقد جاء الناموس مرتبًا بملائكة، فقال موسى النبي الذي استلم الناموس: جَاءَ الرَّبُّ مِنْ سِينَاءَ وَأَشْرَقَ لَهُمْ مِنْ سَعِيرَ وَتَلأْلأَ مِنْ جَبَلِ فَارَانَ وَأَتَى مِنْ رِبْوَاتِ الْقُدْسِ وَعَنْ يَمِينِهِ نَارُ شَرِيعَةٍ لَهُمْ” (تث 33: 2) وفي الترجمة اليونانية “رِبْوَاتِ الْقُدْسِ “جاءت” ربوات الملائكة “فعندما حلَّ الرب فوق الجبل صار الجبل محفوفًا بربوات الملائكة، وصارت رعود وبروق وسحاب ثقيل ودخان كدخان الآتون حتى ارتجف الجبل، وارتعب بنو إسرائيل وموسى نفسه ارتعب، وذكَّر استفانوس راجميه بهذا قائلًا: الَّذِينَ أَخَذْتُمُ النَّامُوسَ بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ وَلَمْ تَحْفَظُوهُ” (أع 7: 53)، وقال بولس الرسول للعبرانيين: لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا مَلاَئِكَةٌ قَدْ صَارَتْ ثَابِتَةً (عب 2: 2)، وربما يقصد بالملائكة هنا الكهنة حاملي كلمة اللَّه كقول “القديس يوحنا ذهبي الفم“: “وقوله “مُرَتَّبًا بِمَلاَئِكَةٍ فِي يَدِ وَسِيطٍ” ربما يقصد بالملائكة الكهنة والكائنات النورانية كخدام أعطونا الناموس. أما الوسيط فهو السيد المسيح الذي كان قبل الناموس وهو معطيه(194).

 فِي يَدِ وَسِيطٍ.. وهذا الوسيط هو موسى الذي اختاره الرب ليسلّمه الناموس، وأيضًا وكَّله الشعب عنه ليستلم الناموس: وَقَالُوا لِمُوسَى تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللَّهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ (خر 20: 19)، (راجع تث 5: 27).. فَوَقَفَ الشَّعْبُ مِنْ بَعِيدٍ وَأَمَّا مُوسَى فَاقْتَرَبَ إِلَى الضَّبَابِ حَيْثُ كَانَ اللَّهُ” (خر 20: 21)، وقال موسى للشعب: أَنَا كُنْتُ وَاقِفًا بَيْنَ الرَّبِّ وَبَيْنَكُمْ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ لِكَيْ أُخْبِرَكُمْ بِكَلاَمِ الرَّبِّ لأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مِنْ أَجْلِ النَّارِ (تث 5: 5).. فَجَاءَ مُوسَى وَحَدَّثَ الشَّعْبَ بِجَمِيعِ أَقْوَالِ الرَّبِّ وَجَمِيعِ الأَحْكَامِ فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ وَقَالُوا كُلُّ الأَقْوَالِ الَّتِي تَكَلَّمَ بِهَا الرَّبُّ نَفْعَلُ (خر 24: 3).. وقال يوحنا الحبيب: لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ (يو 1: 17)، وما أجمل قول الشهيد استفانوس عن موسى النبي: هذَا هُوَ الَّذِي كَانَ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْمَلاَكِ الَّذِي كَانَ يُكَلِّمُهُ فِي جَبَلِ سِينَاءَ وَمَعَ آبَائِنَا. الَّذِي قَبِلَ أَقْوَالًا حَيَّةً لِيُعْطِيَنَا إِيَّاهَا (أع 7: 38).. تأمل في مدى ترابط الأسفار المقدَّسة معًا.

 وموسى النبي كوسيط يعتبر رمزًا للسيد المسيح الوسيط الوحيد بين اللَّه والإنسان: لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ الإِنْسَانُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ” (1تي 2: 5)، الذي قال عن نفسه: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ.. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي (يو 14: 6).

 وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ.. لوجود وسيط يستلزم ذلك وجود طرفان وليس طرف واحد، فلو أن التصرُّف قاصر على شخص واحد، وأن الأمر يُقضَي بالإرادة المنفردة فأنه لا يحتاج إلى وسيط، لأن الوسيط لا بد أن يكون بين طرفين، وعندما أعطى اللَّه شعبه الناموس، كان الطرفان هما اللَّه والشعب، وقام موسى بدور الوسيط، وقد اُختير للقيام بهذه المهمة من قِبل اللَّه وأيضًا من قِبل الشعب، ويظل الناموس ساريًا طالما كل طرف ينفّذ التزاماته، فمن جهة اللَّه فقد أوفى بالتزاماته وأكثر، أما من جهة الإنسان فقد فشل في الالتزام بهذا التعاقد أي بمطالب الناموس، فأصبح الناموس دينونة للإنسان. بينما الوعد الذي أعطاه اللَّه لإبراهيم فقد أُعطيَ من طرف واحد دون الحاجة إلى وسيط، واللَّه هو الملتزم بهذا الوعد بدون أدنى التزام على الإنسان، فالإنسان ليس له أي دور في مجيء النسل الموعود به الذي به تتبارك أمم الأرض، أي السيد المسيح، وهذا الوعد غير مشروط، فهو لم يمثل اتفاق وتعاقد، بل هو هبة مجانية من اللَّه، هو الذي أعطى الوعد وهو الذي أعطى الناموس، ولا تعارض بين هذا وذاك لأن اللَّه أَبِي الأَنْوَارِ، الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ (يع 1: 17).

 

 وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ.. هذه الآية عسرة الفهم حتى أنها فُسِّرت بطُرق عديدة (راجع دكتور وليم آدي – الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ج 7 ص 45) ويقول “الأب متى المسكين“: “هذه عقدة العقد في الكتاب المقدَّس، وقد عدَّد أحد العلماء ثلاثة مئة حل لها!! تقدَّم بها كل العلماء الذين تعرَّضوا لشرح هذه الآية(195). ولكن لا يجب أن يغيب عن أعيننا أن بولس الرسول يحاول بكل طريقة وطريقة أن يشرح لنا أن الطريق للَّه هو الإيمان بالوعد الإلهي وليس الناموس، ليس بسبب عيب في الناموس، ولكن بسبب ضعف الإنسان وعجزه عن تنفيذ جميع وصايا الناموس بلا استثناء، ومع أن استلام الناموس كان يعتبر حدثًا عظيمًا وعجيبًا في حياة بني إسرائيل، وكان الأمر رهيبًا ومرعبًا لهم، لكن مع كل هذا فإن الناموس لم يرتقي لمستوى الوعد، وقد جاء الناموس لفترة مؤقتة لحين تجسُّد ابن اللَّه، أما الوعد فهو ثابت لا يتغير، وقد أُعطيَ الناموس عن طريق وسيط، بينما الوعد لم يحتاج إلى وسيط، وأيضًا لأن الناموس يدين ولا يبرّر، ويميت ولا يحيي: “الناموس لم يعطَ مباشرة من اللَّه. لقد جاء الناموس من اللَّه، ولكنه أُعطيَ بواسطة ملائكة إلى موسى ثم إلى الإنسان. عمل موسى كوسيط بين اللَّه والإنسان في إعطاء الناموس. لذلك أتى الناموس إلى الإنسان كشيء غير أولي. ولكن ليس الحال هكذا بالنسبة لوعد اللَّه، فاللَّه نفسه أعطى وعد النعمة والبر.. تسلَّم إبراهيم وعد اللَّه مباشرة من اللَّه. لذلك فإن وعد اللَّه من المحتم أن يكون أسمى من الناموس، لأنه تضمّن المزيد من العلاقة الشخصية مع اللَّه.

 إن الناموس بين طرفين -الإنسان واللَّه- في عهد الناموس، فإن الإنسان واللَّه كان على كل منهما مسئوليات أو عمل يُؤدَى. كان على الإنسان أن يحفظ الناموس. وإذا فعل ذلك فإن اللَّه يتخذ رد الفعل ويكافئه بمنحه هبة البر وكانت هبة البر مشروطة تحت الناموس.

 لكن وعد البر أو النعمة قد أُعطيَ من اللَّه وحده. لا أحد يمكنه أن ينتهك ذلك الوعد. إذا آمن الإنسان (إبراهيم) ببساطة بوعد اللَّه، فنال وعد البر والنعمة(196).

 ويقول “وليم باركلي“: ” فرأى بولس أن ضعف الناموس يكمن في اعتماده على شخصين، فهو لا يعتمد على مُعطي الشريعة فقط ولكنه يعتمد أيضًا على حفاظ الإنسان عليها، ونحن نعلم أنه قد حطّمها. أما النعمة فهي من اللَّه، ولا يستطيع الإنسان أن يمنعها مهما فعل(197).

 وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ.. في ظل الناموس نجد الإنسان يعيش كقاصر تحت الوصاية، والوصاية تستلزم وجود طرفين بالإضافة إلى وسيط بينهما، فهناك المُوصي وهو اللَّه، والمُوصَى إليه وهو الإنسان القاصر، وبينهما الوسيط الذي يؤتمن على الوصية. أما في عهد اللَّه لإبراهيم فلم يكن هناك وسيط بل هناك واهب وهو اللَّه، وليس على الموهوب له أي التزام، فقط يتقبل الهبة من اللَّه، ويقول “القس و. ه. ت. جردنر“: “إن الواسطة تقتضي وجود فريقين ووسيط (واللَّه هو واحد) فهو العامل الوحيد في مسألة الوعد، أي أن في عهده لا فريقين متعاهدين مقيدين بل فقط واهب وموهوب له، فعلى الموهوب له فقط أن يقبل ما يمنحه الواهب. وهذا دليل عظيم -وإن يكن غير مباشر- على ألوهية المسيح لأن بولس أشار إلى وساطة المسيح في مواضع عديدة. فواضح مما يقوله هنا أن تلك الوساطة تختلف عن وساطة الأنبياء والملائكة وهي لا تناقض وحدته باللَّه، بل أن وحدة اللَّه تتناول وساطة المسيح. ويكون عمل اللَّه وعمل المسيح واحدًا ( أن اللَّه واحد)(198).

 وَأَمَّا الْوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ.. كيف يتفق قصد بولس الرسول أن الوعد لإبراهيم هو من واحد أي اللَّه بدون وسيط، وبين قوله أن المسيح هو الوسيط الوحيد بين اللَّه والإنسان (1تي 2: 5)؟

 نعم السيد المسيح هو الإله المتأنس، فهو الوحيد الذي جمع بين اللاهوت والناسوت، هو اللَّه وهو إنسان في آن واحد، فيه حلَّ كل ملء اللاهوت وهو ابن الإنسان، فهو الوسيط الوحيد بين اللَّه والإنسان، وهو واحد مع الآب في الجوهر، فالله والوسيط هما واحد، ودُعي وسيطًا لأنه اتخذ طبيعتنا البشرية وصار نائبًا عنا، هو عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا (مت 1: 23) ويمكننا أن ننظر للسيد المسيح على أنه الوسيط الوحيد بين اللَّه والإنسان، ولكنه ليس هو طرف آخَر غير اللَّه، بل هو اللَّه ذاته، هو الواحد مع أبيه والروح القدس في الجوهر الواحد، وما أجمل تعبير الكتاب أن اللَّه كان في المسيحإِنَّ اللَّهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحًا الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ (2كو 5: 19) فيجب أن ندرك أن المسيح كوسيط يختلف تمامًا عن موسى كوسيط، لأن موسى ليس هو اللَّه، بينما السيد المسيح هو اللَّه. فجمع السيد المسيح في شخصه الأمرين، أنه هو مُعطي الوعد لإبراهيم (بدون وسيط)، وعندما قام بتنفيذ هذا العهد ( وَيَتَبَارَكُ فِي نَسْلِكَ جَمِيعُ أُمَمِ الأَرْضِ) كان هو الوسيط الوحيد بين اللَّه والإنسان.

 

 فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللَّهِ. حَاشَا. لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ. لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. وَلكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ” (غل 3: 21 – 23).

 فَهَلِ النَّامُوسُ ضِدُّ مَوَاعِيدِ اللَّهِ.. لعل مثل هذه التساؤلات قد أثارها المتهوُّدون: لماذا الناموس؟.. هل الناموس ضد مواعيد اللَّه؟.. هل يناقض اللَّه نفسه؟.. أليس حفظ الناموس شرطًا لتحقيق البركة التي وهبها اللَّه لإبراهيم ولنسله؟.. فطرح بولس الرسول مثل هذه الأسئلة وأجاب عليها، وطبعًا من المستحيل أن يخالف الناموس مواعيد اللَّه -والمقصود بهذه المواعيد هي وعد اللَّه لإبراهيم المتكرّر- لأن مصدر الأثنين هو اللَّه الواحد، ولا يمكن أن اللَّه يناقض نفسه. إذًا ليس الناموس ضد وعد اللَّه لإبراهيم. كما يجب ملاحظة أن الناموس لم يمثل طريقًا آخر للتبرير يختلف عن طريق التبرير بالإيمان بوعد اللَّه، وقد جاءت إجابة القديس بولس على هذا التساؤل سريعة بدون مقدمات وقاطعة وحازمة وحاسمة: حَاشَا، أي من المستحيل أن يكون هذا، ثم بدأ بولس الرسول يعلل قوله لماذا قال حَاشَا؟ ويشرح الأمر بأن الناموس لم يهب الحياة للإنسان.

 لأَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ نَامُوسٌ قَادِرٌ أَنْ يُحْيِيَ لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ.. لو كان الناموس قادرًا أن يهب التبرير والخلاص والحياة الأبدية للإنسان لكان بالحقيقة الناموس يكفي ولا داعي لتنفيذ وعد اللَّه لإبراهيم ومجيء المخلص الفادي من نسل إبراهيم، ولو كان الناموس قادرًا أن يهب النعمة والحق للإنسان ما كان هناك داعيًا لمجيء السيد المسيح، لكن ” النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا” (يو 1: 17)، وسبق بولس الرسول وقال: لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيحُ إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ (غل 2: 21). حقًا أن الناموس عجز عن أن يهب النعمة والتبرير والخلاص والحياة الأبدية للإنسان، وبذلك نعود للسؤال السابق: ” فَلِمَاذَا النَّامُوسُ” (غل 3: 19)، وقد سبق الإجابة عليه، فعندما يكشف الناموس للإنسان فساد طبيعته وبشاعة خطيته دون أن يقدّم له الشفاء يشعر بمدى احتياجه الشديد للمُخلّص، فيُلقي بنفسه في أحضان النعمة الإلهيَّة: لأَنَّهُ مَا كَانَ النَّامُوسُ عَاجِزًا عَنْهُ فِي مَا كَانَ ضَعِيفًا بِالْجَسَدِ. فَاللَّهُ إِذْ أَرْسَلَ ابْنَهُ فِي شِبْهِ جَسَدِ الْخَطِيَّةِ وَلأَجْلِ الْخَطِيَّةِ دَانَ الْخَطِيَّةَ فِي الْجَسَدِ (رو 8: 3)، فالناموس يُشخّص المرض ويدفع بنا إلى الطبيب الشافي الرب يسوع، وكأن بولس الرسول يرسم خطين متوازيين وليس خطين متعارضين ولا متضادين:

 الخط الأول: هو عهد اللَّه مع إبراهيم، بأن بنسله تتبارك الأمم ويكون لها الحق في الميراث الأبدي ما دام لهم إيمان إبراهيم، وكذلك اليهود الذين هم أبناء إبراهيم بشرط أن يكون لهم إيمان إبراهيم.

 الخط الثاني: هو الناموس الذي أُعطيَ بصفة مؤقتة بسبب زيادة تعديات الإنسان وكثرة خطاياه وآثامه وفساد طبيعته، ليدرك الإنسان مدى جرمه وإجرامه فيسعى بحثًا عن الفادي.

 لَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ الْبِرُّ بِالنَّامُوسِ.. وهل الناموس ليس به بر؟!.. وكيف يتفق هذا مع القول الإلهي: فَتَحْفَظُونَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي الَّتِي إِذَا فَعَلَهَا الإِنْسَانُ يَحْيَا بِهَا (لا 18: 5) وقول اللَّه على لسان حزقيال النبي: وَأَعْطَيْتُهُمْ فَرَائِضِي وَعَرَّفْتُهُمْ أَحْكَامِي الَّتِي إِنْ عَمِلَهَا إِنْسَانٌ يَحْيَا بِهَا (حز 20: 11)؟!.. الحقيقة أن الناموس كامل إِذًا النَّامُوسُ مُقَدَّسٌ وَالْوَصِيَّةُ مُقَدَّسَةٌ وَعَادِلَةٌ وَصَالِحَةٌ (رو 7: 12) والإنسان إذا فعلها يحيا بها، ولكن الإنسان هو الذي عجز عن إيفاء مطالب الناموس وتنفيذ وصاياه وأحكامه وفرائضه بالكامل وبلا استثناء، فسرى عليه قول القديس يعقوب: لأَنَّ مَنْ حَفِظَ كُلَّ النَّامُوسِ وَإِنَّمَا عَثَرَ فِي وَاحِدَةٍ فَقَدْ صَارَ مُجْرِمًا فِي الْكُلِّ” (يع 2: 10).

 لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ.. لكِنَّ أداة استدراك تعبر عن انتقال بولس الرسول من فكرة إلى فكرة أخرى على النقيض، فينتقل من فكرة تبرير الإنسان عن طريق الناموس، إلى فكرة أن الكتاب (الناموس) أغلق على الكل تحت الخطية، وقد سبق بولس الرسول واستخدم كلمة الكتاب في نفس الإصحاح، عندما صوَّره على أنه يرى ويبشّر، فقال: وَالْكِتَابُ إِذْ سَبَقَ فَرَأَى سَبَقَ فَبَشَّرَ” (غل 3: 8)، وكان يقصد صاحب الكتاب أو رب الكتاب، وهنا يصوّر الكتاب كقاضٍ عادلٍ يجلس على منصة القضاء ويحكم على الجميع بموجب وصاياه وأحكامه من خلال أسفاره المقدَّسة وللأسف الشديد لا ينجو إنسان واحد من دينونته، بل أغلق على الجميع تحت الخطية: لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ (غل 3: 10).

 لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ.. لأنه بالحقيقة: “الْكُلُّ قَدْ زَاغُوا مَعًا فَسَدُوا لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ (مز 14: 3)، وقال داود النبي: وَلاَ تَدْخُلْ فِي الْمُحَاكَمَةِ مَعَ عَبْدِكَ فَإِنَّهُ لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ (مز 143: 2)، فالخطية كانت تتربّص بالإنسان حتى تقتنص روحه وتُغلق عليه في سجن الناموس، وذلك بحكم الناموس العادل، فلا يستطيع الإنسان منها فكاكًا، وهذا ما عبر عنه بولس الرسول مرارًا وتكرارًا: ” لأَنَّنَا قَدْ شَكَوْنَا أَنَّ الْيَهُودَ وَالْيُونَانِيِّينَ أَجْمَعِينَ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ” (رو 3: 9).. ” لِكَيْ يَسْتَدَّ كُلُّ فَمٍ وَيَصِيرَ كُلُّ الْعَالَمِ تَحْتَ قِصَاصٍ مِنَ اللَّهِ (رو 3: 19).. إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللَّهِ” (رو 3: 23).

 لكِنَّ الْكِتَابَ أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ.. وليس معنى هذا أن الكتاب أي الناموس هو السبب في سقوط الإنسان في الخطية، ولكن الإنسان هو الذي أخطأ بإرادته فصار مدانًا بحكم وصايا الناموس التي حطّمها، فحكم عليه الناموس بالسجن، مثلما يودع القاضي العادل الإنسان المُجرم السجن مدى الحياة، فلا يلام هذا القاضي على عدله، إنما اللوم كل اللوم يقع على من ارتكب الجريمة بمحض إرادته، وهو في كامل قواه العقلية، فاستحق العقوبة رغمًا عن إرادته.. وما أقسى سطوة الخطية وعنفوانها إذ تقلب الموازين وتغيب العقل: ” لأَنَّهَا طَرَحَتْ كَثِيرِينَ جَرْحَى وَكُلُّ قَتْلاَهَا أَقْوِيَاءُ” (أم 7: 26) أنها تقبض على من يعشقها بقيود من حديد وفولاذ فلا يستطيع منها فكاكًا وتطرحه في سجن الجحيم وتُغلق عليه لأن كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ. وَالْعَبْدُ لاَ يَبْقَى فِي الْبَيْتِ إِلَى الأَبَدِ (يو 8: 34، 35)، ونفس الكتاب الذي أغلق على الكل تحت الخطية هو هو الذي أعطى الوعد بالفداء بيسوع المسيح لكل من يؤمن به.

 لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.. وهذا ما أوضحه بولس الرسول في موضع آخَر عندما قال: لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هي الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ (رو 10: 4)، فالسيد المسيح قد أكمل كل بر نيابة عنا، ومنحنا بره مجانًا، وليس بر الناموس، وهذا ما عبّر عنه القديس بولس قائلًا: لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ وَأُوجَدَ فِيهِ. وَلَيْسَ لِي بِرِّي الَّذِي مِنَ النَّامُوسِ بَلِ الَّذِي بِإِيمَانِ الْمَسِيحِ الْبِرُّ الَّذِي مِنَ اللَّهِ بِالإِيمَانِ (في 3: 8، 9).

 ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “هذا هو البر بر اللَّه: “البر الذي من اللَّه بإيمان يسوع المسيح”، بمعنى أن المسيح بحياته وموته “أكمل بر الناموس “بحذافيره، بحروفه ونقطه “حتى كان الكل”. وأن المؤمن بالمسيح يُحسَب بارًا أمام اللَّه لا عيب فيه ولا دنس (انظر مز 32: 1، 2). هذا هو الإيمان الذي يُحسب للمؤمن برًا كاملًا في المسيح وبه ينال “الوعد” لا مجرد الإيمان باللَّه بوصفه كونه كائنًا حيًّا، روحًا أزليًا أبديًا، معبودًا، قادرًا على كل شيء، خالقًا لجميع الكائنات، ومكوّنًا لكل من السماء والأرض، واجب الوجود. إذا آمنا بكل ذلك دون نظر إلى السيد المسيح وحياته وموته وكفارته التي قدَّمها عن خطايانا، فهذا إيمان لا يمكن أن يبرّر الخاطئ فلا يوجد موعد بالخلاص والرحمة عن طريق النعمة إلاَّ للذين يتمّمون القول: “إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللَّهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ خَلَصْتَ. لأَنَّ الْقَلْبَ يُؤْمَنُ بِهِ لِلْبِرِّ وَالْفَمَ يُعْتَرَفُ بِهِ لِلْخَلاَصِ ” (رو 10: 9، 10)، فما أبدع أن يُقال عن الكتاب “كتاب الناموس” أنه أغلق على الجميع تحت الخطية ليعطي” الموعد” من إيمان يسوع المسيح(199).

 لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.. الذين يؤمنون سواء كانوا من الأمم لأن أبينا إبراهيم أخذ الموعد بأن به تتبارك قبائل الأرض وهو في الغرلة قبل أن يختتن، أو سواء من اليهود أبناء إبراهيم بحسب الجسد بشرط أن يكون لهم إيمان إبراهيم (رو 4: 11، 12، 16) سواء هؤلاء أو أولئك فأنهم سينالون التبرير والخلاص ما دام لهم إيمان إبراهيم، وذلك عن طريق الإيمان بيسوع المسيحلأَنَّهُ مَاذَا يَقُولُ الْكِتَابُ. فَآمَنَ إِبْرَاهِيمُ بِاللَّهِ فَحُسِبَ لَهُ بِرًّا.. وَلكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ. بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا(رو 3: 23 – 25).

 لِيُعْطَى الْمَوْعِدُ مِنْ إِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ.. الذي يؤمن بابن اللَّه يكرمه اللَّه، ما دام إيمانه إيمان صحيح عامل بالمحبة وليس إيمانًا نظريًا: “عندما يؤمن شخص بيسوع المسيح فأنه يكرم ابن اللَّه، واللَّه يكرم الشخص. لذلك فعندما يكرم شخص ما ابن اللَّه بالإيمان به، فاللَّه يكرم الشخص بعمل نفس الشيء الذي لأجله آمن الشخص بالمسيح. اللَّه يحسب الشخص بارًا، ويحسب إيمانه برًا. ولكن لاحظ: إيمان لا يعني الموافقة العقلية، مجرد الإيمان في أفكار المرء وعقله أن يسوع المسيح هو المُخلّص. الإيمان الحقيقي هو الالتزام الروحي، الالتزام النابع من قلب المرء وحياته، وكل ما يمثل كيان المرء وكل ما لدى المرء للمسيح(200).

 ولكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ.. ما المقصود بالإيمان هنا؟ ومتى جاء هذا الإيمان؟.. المقصود بالإيمان هنا الإيمان بيسوع المسيح ابن اللَّه وابن إبراهيم، الذي به وحده تحقَّق الوعد الإلهي لإبراهيم أن بنسله تتبارك كل أمم الأرض، وهذا الإيمان جاء في ملء الزمان: ” لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ مَوْلُودًا تَحْتَ النَّامُوسِ. لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ” (غل 4: 4، 5)، فقول بولس الرسول جَاءَ الإِيمَانُ تعبير عن التاريخ الزمني للتجسد الإلهي.

 

 وَلكِنْ قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ مُغْلَقًا عَلَيْنَا.. رأينا في الآية السابقة أن الكتاب أغلق على الجميع تحت الخطية فلم ينجو ابن بشر، وفي هذه الآية نرى الناموس الذي حكم علينا يقف كحارس يمسك بمفاتيح هذا السجن المُغلَق على الجميع تحت الخطية، ويقول “الدكتور القس غبريال رزق اللَّه“: “أما حراسة الناموس فهي توقفنا أمام بطل مسلَّح، ومبارز قوي البأس، محاط بأسوار من فولاذ، هي أحكام عادلة، وحق ثابت، وشهادات صادقة ومستقيمة لا يمكن التخلُّص من قيودها بأية قوة بشرية ولو كانت كل طاقات الذرة، فكلها تذوب أمام الأمر الإلهي والنطق بالحكم السماوي “ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس” (تث 27: 26) صورة مخيفة ترسم أمامنا منظرًا لأناس ملعونين تخرج من قلوبهم في قيودهم صرخات الويل وويحاته وآهاته وأنّاته، تضغط على أنفاسهم عوامل الفساد وقوى الشر، فكادت تخنقهم روائح أعمال السجن الكريهة، وتصعد من أفواههم أصوات الاستغاثة المرة “وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ” (رو 7: 24) سجن مُغلق تحت الخطية محروس تحت الناموس، زفير وأنين، إلى متى؟.. إلى الإيمان(201).

 كُنَّا مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، مُغْلَقًا عَلَيْنَا.. وقد اختار لسان العطر بدقة متناهية تعبير مَحْرُوسِينَ، فبينما كان الناموس يشبه السجَّان، ولكن هذا السجَّان لم يكن قاسيًا، بل كان حارسًا أمينًا لنا.. كان حارسًا لنا من خلال وصاياه، فكان كالسياج التي تحفظ الإنسان من السقوط من شرفة الدور العاشر مثلًا.. كان الناموس كحارس معه مفاتيح أبواب السجن الذي أغلق على الجميع تحت الخطية، ومع هذا فأنه كان يشير بقوة لمجيء المُخلّص الفادي، وكان يوجّه دائمًا نظر نزلائه لهذا المُخلّص القادر وحده على تحطيم الأبواب وإطلاق أسرى الرجاء، وبينما كان الإنسان في سجن الناموس كان محروسًا في انتظار العفو الإلهي بالإفراج عنه والخروج للحرية. إذًا الناموس أغلق على الكل في السجن محروسين بمعنى محفوظين، لا للهلاك بالرغم من أننا نستحق هذا، إنما للحياة الأبدية: ” لأَنَّ اللَّهَ أَغْلَقَ عَلَى الْجَمِيعِ مَعًا فِي الْعِصْيَانِ لِكَيْ يَرْحَمَ الْجَمِيعَ” (رو 11: 32)، فحالة الإنسان تحت الناموس حالة السجين المحكوم عليه بالسجن إلى الأبد، ثم تأتي النعمة الإلهيَّة فتفرج عنه ويعود إلى أسرته وبيته وأهله.. فكم تكون فرحته حينذاك؟!!.. ولعل تعبير “مَحْرُوسِينَ” الذي استخدمه بولس الرسول تذكرنا بوضع بطرس وهو في سجن هيرودس ليُذبَح في الغد: فَكَانَ بُطْرُسُ مَحْرُوسًا فِي السِّجْنِ (أع 12: 5).. كان محروسًا بالعناية الإلهيَّة.

 مَحْرُوسِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ.. إلى الإيمان أي إلى الوقت الذي تحقَّق فيه تتميم الوعد الإلهي لإبراهيم، في ملء الزمان، حيث يأتي النسل الموعود به، فينتزع بدم صليبه مفاتيح سجن الجحيم من يد الناموس يفتح الأبواب ويحرر أسرى الرجاء، وهكذا انكسرت مغاليق الناموس، وساد ناموس المسيح ناموس الحرية، فلم يعد للخطية سلطان على المؤمنين بِاسم ابن اللَّه.

 ويقول “الأب متى المسكين“: “وهكذا بمجيء الإيمان فتح المسيح سجن الخطايا وأبطل الخطية بذبيحة نفسه وأوقف الناموس عن سلطانه الذي كان يأمر بالموت، وألغى قانون العقوبات وشطب الموت، وأطلق أسرى الرجاء لملء حرية الحياة في المسيح، والحاجز الذي صنعه الناموس في البشرية حيث احتوى اليهود وأخرج الأمم خارج سياجه الناري، رفعه المسيح من الوسط لما واجه خطية اليهود وخطية الأمم معًا بلا فرق، وأبطلها بذبيحة نفسه عن اليهود والأمم: ” وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ” (يو 12: 32). فسقط الناموس من تلقاء نفسه وتحطَّم الحاجز الوهمي ودخلت الأمم عهد الغفران مع اليهود، لا فرق، وانسكبت المحبة والنعمة على الأثنين بالتساوي من فوق الصليب حينما تَمزَّقَ صك الخطايا الذي على البشرية كلها فتصالح الاثنان إذ شربا من كأس الخلاص الواحد، وصارت التي ليست محبوبة محبوبة، وحملت الكنيسة القريبين والبعيدين في جسد واحد بالصليب(202).

 

 مُغْلَقًا عَلَيْنَا إِلَى الإِيمَانِ الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ.. الإيمان العتيد أن يعلن هو الإيمان ببشارة الإنجيل، وقول بولس الرسول ” الْعَتِيدِ أَنْ يُعْلَنَ” أي الذي لم يُعلَن بعد، وبالرغم من أن بولس الرسول عاين هذا الإيمان وصار موضع بشارته وكرازته، لكنه هنا يعبِّر عن وجهة نظر سابقة للتجسد والفداء، فيتحدَّث عن زمن مضى قبل أن يأتي الإيمان، وقبل أن يتحقَّق الوعد، وقبل أن يأتي ملء الزمان، ولكن عندما جاء الميعاد: “جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْجَلِيلِ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ، وَيَقُولُ قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللَّهِ. فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ” (مر 1: 14، 15 ).

 

 “إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ. وَلكِنْ بَعْدَمَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ. لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ” (غل 3: 24 – 26).

 إِذًا قَدْ كَانَ النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ.. بهذه العبارة يضع بولس الرسول أمام أعيننا خلاصة البحث الذي قام به حول موضوع الناموس والوعد، ولذلك يقول إِذًا، أي بناء عليه قد اتضح جليًا أن الناموس قادنا للمسيح نسل إبراهيم الموعود به، ويستبدل كلمة “الوعد” بكلمة المَسِيحِ وينتهي للنتيجة التالية أن النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ، وكلمة مُؤَدِّبَنَافي الأصل اليوناني تأتي بمعنى مربّي ومُهذّب ومعلَّم و“تعني كلمة مؤدبنا (باياجوجوس) -بتعطيش الجيم- قائد الأطفال، وقد كان هذا أحد العبيد في بيوت الأغنياء، والذي كان عليه أن يأخذه ابن سيده من المدرسة وإليها وكذلك يلاحظ سلوكه وتصرفاته ويكون مسئولًا عنه من سن السادسة وحتى السادسة عشرة من عمره(203). وقد تأدَّب بولس الرسول في أورشليم تحت رجلي غمالائيل وهو من كبار المعلمين المشهود لهم بالتقوى والحكمة والغيرة، فيقول معلمنا بولس : أَنَا رَجُلٌ يَهُودِيٌّ وُلِدْتُ فِي طَرْسُوسَ كِيلِيكِيَّةَ وَلكِنْ رَبَيْتُ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ مُؤَدَّبًا عِنْدَ رِجْلَيْ غَمَالاَئِيلَ عَلَى تَحْقِيقِ النَّامُوسِ الأَبَوِيِّ (أع 22: 3). إذًا الناموس أدَّب الإنسان وربَّاه وأرشده إلى الإيمان بالمسيح يسوع، وكان قديمًا يقوم بدور المؤدب والمربي أحد العبيد الناضجين الأتقياء الحكماء حيث يهتم بابن سيده منذ طفولته المبكّرة وحتى نضجه، يذهب به إلى المدرسة حيث المُعلّم الذي هو رمز للمسيح، ويعود به، ويراقب سلوكياته وتصرفاته، فهو بمثابة وصي على الابن.

 ويقول “دكتور وليم آدي“: النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا الكلمة اليونانية المترجمة “بمؤدب” هي.. (بيداغوغوس) ومعناها الخادم الأمين الذي كانوا في الأيام القديمة يُوكّلون إليه الولد منذ الطفولة إلى أن يكون رشيدًا فيحميه من الضرر الجسدي والأدبي ويرافقه من البيت إلى المدرسة ومن المدرسة إلى البيت، ويعدّه لحرية الشبيبة والرُّشد والعمل. وكان ينتهي عمل المؤدّب حيث يبلغ الولد رشده ويكون أهلًا للحرية”(204).

 

 ويقول “الأب متى المسكين“: “هنا كلمة مؤدّبنا= بيداجوجوس – يعني بها ق. بولس عمل العبد المُكلَّف بتربية طفل ابن البيت الذي يرافق الابن الحُرّ أينما سار منذ لحظة خروجه من حضن أُمه وهو رضيع، فعليه أن يُعلّم الولد كيف يتحرك ويتصرَّف ويسلك حسنًا، وباستخدام العصا إذا لزم الأمر كوصية أبيه، لأنه يود أن يشبَّ ابنه ذا خُلق جيد، يرافقه إلى المدرسة كل يوم، يحمل له كل ما يلزمه ويرافقه في الفصل حتى تكون عينه عليه، ويعود به إلى البيت ويستذكر معه محفوظاته، وطالما هو صغير يكون تحت الضغط لئلا يستخدم حريته في الباطل، حتى في ملء الأيام يشبُّ ناضجًا يستخدم حريته حسنًا.

 وعلى مدى فترة تربيته وتنشئته يتكون في العادة معه رابطة ألفة تزداد وتشتد بمرور الأيام، فيتعلَّق الولد بالعبد المعلّم ربما أكثر من أبيه، ومن ضمن التأديب المنوط به التهذيب يقع حتمًا دور التعليم.. والآن واضح التطبيق أشد الوضوح، فالناموس هنا قام بالنسبة لشعب إسرائيل ابن اللَّه البكر بدور المؤدب والمهذّب والمعلّم”(205).

 النَّامُوسُ مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ.. لا يوجد أي تعارض بين الناموس والإيمان بالمسيح، بل أن السيد المسيح قال: لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ” (مت 5: 17)، كما قال له المجد للفريسيين: كَانَ النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ إِلَى يُوحَنَّا. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ يُبَشَّرُ بِمَلَكُوتِ اللَّهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَغْتَصِبُ نَفْسَهُ إِلَيْهِ” (لو 16: 16).. لقد قطع الناموس بالإنسان رحلة طويلة خلال نحو ألف وخمسمائة عام عبر الأنبياء إلى أن وصل به إلى يوحنا المعمدان السابق الصابغ الذي تقدم المسيح بروح إيليا، وعندما جاء المسيح النسل الذي وعد به اللَّه إبراهيم انتقل الإنسان من عصر الناموس لعصر النعمة لأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا (يو 1: 17).

 ويقول “ماكدونل“: “يصوّر الناموس هنا كحارس ومُرشد للأولاد أو كمؤدب. وهذا يؤيد فكرة التعليم، لأن الناموس علم دروسًا عن قداسة اللَّه وشر الإنسان والحاجة إلى التكفير.. ” مُؤَدِّبَنَا إِلَى الْمَسِيحِ” والمقصود هنا أن الناموس كان مربيًّا يهوديًّا إلى المسيح أي حتى مجيء المسيح.. فالناموس على وجه ما قد حفظ الشعب القديم كأمة مميزة(206).

 لِكَيْ نَتَبَرَّرَ بِالإِيمَانِ.. قال بولس الرسول لليهود في مجمع أنطاكية بيسدية: وَبِهذَا يَتَبَرَّرُ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَقْدِرُوا أَنْ تَتَبَرَّرُوا مِنْهُ بِنَامُوسِ مُوسَى (أع 13: 39) وقال في نفس الرسالة: إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (غل 2: 16). إذًا التبرير بالإيمان كان غاية وهدف الناموس الذي قصد أن يأتي بنا للمسيح: لأَنَّ غَايَةَ النَّامُوسِ هي الْمَسِيحُ لِلْبِرِّ لِكُلِّ مَنْ يُؤْمِنُ” (رو 10: 4).

 وَلكِنْ بَعْدَمَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ.. استخدم بولس تعبيران أحدهما في (غل 3: 23) قَبْلَمَا جَاءَ الإِيمَانُ” والثاني هنا: بَعْدَمَا جَاءَ الإِيمَانُ، وبهذين التعبيرين أوضح الفرق بين العهدين القديم والجديد، بين عصر الناموس وعصر النعمة، والناموس قادنا كمؤدب ومربي ومُعلِّم صالح في مرحلة الطفولة إلى أن أتى بنا إلى الإيمان بالمسيح، وبعد أن نضجنا وآمنا بالمسيح وأتينا إليه صرنا أحرارًا في غنى عن الناموس ذاك المربي والمؤدب الذي طالما قادنا إلى مدرسة المسيح عندما كنا قاصرين تحت الوصاية، فهذا المؤدب والمربي كان نظامًا مؤقتًا قَدْ زِيدَ بِسَبَبِ التَّعَدِّيَاتِ إلى أن تم الوعد وجاء النسل الذي به تتبارك جميع الأمم ربنا يسوع المسيح، فسلَّم عصر الناموس الراية لعصر النعمة والحق، وتحققت نبوة إرميا النبي: هَا أَيَّامٌ تَأْتِي يَقُولُ الرَّبُّ وَأَقْطَعُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمَعَ بَيْتِ يَهُوذَا عَهْدًا جَدِيدًا. لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ.. حِينَ نَقَضُوا عَهْدِي فَرَفَضْتُهُمْ يَقُولُ الرَّبُّ. بَلْ هذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَقْطَعُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ أَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَاخِلِهِمْ وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا.. لأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنِّي أَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلاَ أَذْكُرُ خَطِيَّتَهُمْ بَعْدُ (إر 31: 31-34).. لاحظ أيضًا قول معلمنا بولس لَسْنَا فأنه في اتضاع يضم نفسه للغلاطيين، أو بمعنى آخَر ينزل إليهم ليرفعهم.

 

 ويقول “متى هنري“: “ثم يضيف الرسول (ع 25) ولكن بعدما جاء الإيمان لسنا بعد تحت مؤدب. أي لسنا بعد في حاجة إلى الناموس لاقتيادنا إليه، مثلما كان يحدث لهم سابقًا.

(1) صلاح اللَّه من نحو شعبه القديم وقد ظهر في تسليمه الناموس لهم. إذ أعانهم بكفاية سواء في توجيهه لهم لتأدية واجباتهم من نحو اللَّه، أو لتشجيع رجائهم فيه.

(2) زلة وغباوة اليهود العظيمة وذلك عندما أساءوا فهم غاية الناموس، إذ توقعوا تبريرهم بأعماله في حين أنه لم يُقصد به أبدًا أن يكون أساسًا لتبريرهم، ولكنه كان وسيلة لإقناعهم بذنبهم، وبالتالي باحتياجهم إلى المُخلّص.

(3) فائدة الإنجيل العظيمة التي تسمو فوق كل قانون إذ نحن الآن لا نُعامل كأطفال قاصرين، بل كأبناء كبار إلى نهاية العمر(207).

 

 وَلكِنْ بَعْدَمَا جَاءَ الإِيمَانُ لَسْنَا بَعْدُ تَحْتَ مُؤَدِّبٍ.. المؤدب مسئول مسئولية كاملة عن ابن سيده ما دام صغيرًا قاصرًا، ولكن متى نضج هذا الابن فحينئذ ينتهي دور المؤدب والمربي، ولم يعد هذا الابن تحت سيطرة هذا المؤدب، بل انحلت عنه كل قيوده وسطوته، أما أهل غلاطية فقد أرادوا أن يتنازلوا عن الحرية التي حصلوا عليها بإيمانهم بالسيد المسيح ويعودون إلى عبودية الناموس، إلى المربي والمؤدب وإلى عهد الوصاية وكأنهم قاصرون، ويصيرون كمن يترك ضوء الشمس ليعيش في ضوء شمعة.. نعم الناموس له كل احترام وتقدير وتقديس، فهو صاحب الفضل في قيادة الإنسان لمعرفة المسيح، ولكن ليس معنى هذا أننا نعيش على الدوام في ظلاله، وأن لا نتمتع بنور شمس البر الخالد.

 ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم“فالناموس – كوصي علينا لا يصير متعارضًا مع النعمة بل ممهدًا لها وعاملًا معها، ولكن لا يجب أن يشدنا إلى الوراء بعد أن حصلنا على النعمة حتى لا نصير كمن يستضئ بسراج الليل عن شمس النهار. لسنا بعد تحت مؤدب، بل قد صرنا “أَبْنَاءُ اللَّهِ” انظروا قوة الإيمان وكيف تنمو فينا؟ منذ قليل صرنا أولاد إبراهيم، أما الآن فقد صرنا أولاد اللَّه! وذلك بالإيمان وليس بالناموس(208).

 ويقول “الأب متى المسكين“: “هنا مواجهة صريحة ضد المتهوّدين في غلاطية الذين أرادوا أن يعودوا إلى الناموس بعد أن آمنوا بالمسيح واعتمدوا، ويوضّح لهم ق. بولس بهذه الآية استحالة جمع العبودية تحت عصى الناموس وتهديده الدائم بالموت، مع حرية البنين الذين حصلوا عليها بالإيمان. وصورتها مخزية كموظف في الدائرة الملكية يقدم طلبًا ليُقبَل في كتَّاب القرية ليزداد علمًا! أو كرجل يافع يحن إلى ضرب العصى الذي ذاقه في طفولته، إنها مهزلة وعمى رؤية، وهي تمتُّ إلى نفس مريضة لا تقوى على الاستمتاع بالحرية، ولا تقدر كرامة البنوَّة فتتمنى العودة إلى سجن العبوية(209).

 ويقول “الخوري بولس الفغالي” ما الذي يميّز وظيفة المؤدب؟ أولًا: هي محدَّدة في الزمن، إلى أن يبلغ الطفل السن الذي فيه يستطيع أن يتصرَّف بالميراث.. هذا هو الدور التاريخي للشريعة الموسوية. جاء زمن يسوع فانتهى زمنها، قادت الشعب اليهودي إلى المسيح فانتهى دورها، وهناك دور يجب أن لا ننساه، فالشريعة لعبت أيضًا دور المربي، قادت البشرية إلى المسيحية، قادتها إلى الإيمان بيسوع المسيح. حين تم قصد اللَّه وجاء المسيح، وضع حدًا لدور الشريعة وجعل الناس يتبرَّرون بالإيمان، يتبرَّرون بيسوع المسيح..

 نحن نعيش في زمن ليس زمن الشريعة، والكنيسة اليوم تهددها تجربتان: إذ أنها تسبق (كالساعة) بالنسبة إلى أزمنة الخلاص وتظن أنها منذ الآن في الملكوت. أو أنها تؤخِّر، فتنسى الوضع الجديد الذي دشنه يسوع المسيح(210).

 لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. في الآية الثامنة من نفس الإصحاح تحدَّث بولس الرسول مع الغلاطيين عن بنوتهم لإبراهيم، وفي هذه الآية يحدّثهم عن بنوتهم للمسيح يسوع، ونلاحظ هنا تغيُّر الضمير من ضمير المتكلم (نحن) إلى ضمير المخاطب (أنتم)، فبعد أن تكلَّم عن اليهود (نحن) بدأ يتكلَّم بضمير المخاطب لأَنَّكُمْ جَمِيعًا سواء من الأمم أو اليهود فقد صرتم أبناء اللَّه، فإيماننا بالمسيح يسوع جعلنا أبناء اللَّه كقول الإنجيل: وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل بَلْ مِنَ اللَّهِ” (يو 1: 12، 13).. صرنا أبناء راشدون ولسنا قاصرين تحت وصاية الناموس، بل صرنا مسكنًا للروح القدس ليقودنا في مسيرتنا تجاه الملكوت: ” لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ.. اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللَّهِ” (رو 8: 14، 16).

 

 لأَنَّكُمْ جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللَّهِ بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. والبنوة للَّه هي أعظم امتياز ينفرد به الإنسان المسيحي، فلا يوجد إنسان على سطح الأرض يستطيع أن يقول أنه ابن اللَّه، فهذه عقيدة فريدة تنفرد بها المسيحية. في العهد القديم دُعيَ الإنسان ابنًا للَّه: ربَّيْتُ بَنِينَ وَنَشَّأْتُهُمْ (إش 1: 1)، ولكن كان هذا الابن قاصرًا تحت الوصاية، أما في العهد الجديد فقد صرنا أبناء راشدين ناضجين مسكنًا لروح اللَّه القدوس. والبنوّة أمر عظيم جدًا كان موضع دهشة يوحنا الحبيب حتى أنه قال: اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللَّهِ” (1يو 3: 1)، والذي يثبت في الإيمان بالمسيح يحافظ على هذه البنوة الغالية جدًا، والتي بموجبها نرث مع المسيح الميراث السمائي، كقول رب المجد يسوع: مَنْ يَغْلِبْ يَرِثْ كُلَّ شَيْءٍ وَأَكُونُ لَهُ إِلهًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا” (رؤ 21: 7)، وبارك بطرس الرسول اللَّه على هذه البنوة قائلًا: مُبَارَكٌ اللَّهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً.. لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ مَحْفُوظٌ فِي السَّمَوَاتِ لأَجْلِكُمْ” (1بط 1: 3، 4).

 بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. أعلن بطرس إيمانه بالمسيح ابن اللَّه الحي فطوَّبه السيد المسيح معلنًا أن الآب السمائي هو الذي أعلن له هذا (مت 16: 17)، ويوحنا المعمدان رغم قامته الروحية ورغم أنه أعظم مواليد النساء لم يعرف السيد المسيح إلاَّ بإرشاد إلهي، وقال له اللَّه: الَّذِي تَرَى الرُّوحَ نَازِلًا وَمُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ فَهذَا هُوَ (يو 1: 33)، والروح القدس هو الذي يقودنا للإيمان بالمسيح يسوع: وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ” (1كو 12: 13)، والإيمان بالمسيح يسوع هبة مجانية متاحة للجميع بلا أية شروط ولا فرق بين اليهود والأمم، لأنه هكذا أحب اللَّه العالم كله بلا استثناء حتى بذل ابنه الوحيد عن خلاص هذا العالم ليخلِّص كل من يؤمن به، والإيمان بالمسيح هو المُحرّر الأعظم للعقل الإنساني، وهو الذي يربّي النفس ويقودها للملكوت السمائي.

 بِالإِيمَانِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ.. الذي يؤمن بالمسيح يسوع يكون موضع رضى وسرور الآب الذي يحب ابنه محبة كاملة: “اللَّه سوف يقبل أي واحد يركز على ابنه يسوع المسيح، لأن اللَّه يحب ابنه لأقصى درجة. اللَّه ليس أقل من أي أب عادي يحب ابنه. في الواقع أن اللَّه أعظم بكثير من الإنسان أنه كامل، ولذلك فإن اللَّه يحب ابنه يسوع المسيح بمحبة كاملة. وهذا يعني ببساطة أن اللَّه سوف يكرم أي شخص يكرم ابنه بالإيمان والثقة به. إذ آمن شخص بيسوع المسيح من أجل البر، فإن اللَّه سوف يكرم ذلك الإنسان باعتباره بارًا”(211).

 لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ. لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ (غل 3: 27 – 29).

 

 لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ.. ليست المعمودية ممارسة ظاهرية، إنما هي مشاركة المسيح في موته ودفنه وقيامته كقول معلمنا بولس الرسول: أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ. فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ بِمَجْدِ الآبِ هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ (رو 6: 3، 4).. مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ (كو 2: 12) فواضح جدًا أن المعمودية هي موت ودفن وقيامة مع المسيح، وتتطلب المعمودية التوبة عن كل الأخطاء المادية وترك ورذل الحياة القديمة الخاطئة، وجحد الشيطان وكل جنوده وكل أعوانه وكل حيله المضلة الخادعة، والاعتراف بالمسيح مُخلّصنا، والتعهُّد بالسلوك المستقيم والتمسُّك بالإيمان المستقيم إلى النفس الأخير.

 لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ.. لاحظ أن بولس الرسول هنا استبدل كلمة الإيمان بكلمة المعمودية، فبدلًا من أن يقول: لأن كلكم الذين آمنتم بالمسيح، قال: لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.. لماذا؟.. يوضح ارتباط المعمودية بالإيمان، فكل مَن يدخل الإيمان لا بد أن يجوز بحر المعمودية معتمدًا باسم المسيح، والمعمودية هي من الروح القدس ونار كقول يوحنا المعمدان: أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ لِلتَّوْبَةِ وَلكِنِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي هُوَ أَقْوَى مِنِّي الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحْمِلَ حِذَاءَهُ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ (مت 3: 11)، فيخرج المُعمَّد طاهرًا نقيًّا صورة المسيح، وبهذا يتم قول السيد المسيحمَنْ آمَنَ وَاعْتَمَدَ خَلَصَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ يُدَنْ (مر 16: 16)، فبولس الرسول يشير بوضوح لضرورة المعمودية كقول الرب يسوع لنيقوديموس: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ.. إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللَّهِ” (يو 3: 3، 5)، والمعمودية ضرورية للخلاص لكيما يرتدي الإنسان ثياب البر التي للمسيح.

 ويقول “فؤاد حبيب“:

1- المعمودية إعلان عن إتحادنا مع المسيح: فنحن قد اعتمدنا لموته الذي به ننفصل عن العالم والخطية ونتخصَّص له.

بالمعمودية نلبس المسيح: الذين اعتمدوا لموته ودفنوا معه في المعمودية، قاموا معه في جدة الحياة ولبسوا المسيح، وصار جمال القداسة ظاهرًا فيهم لأنهم قد عيّنوا ليكونوا” مشابهين صورة ابنه“. وكل مؤمن مطالَب أن يلبس المسيح دائمًا وليس فقط في بعض المناسبات(212).

 قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.. قديمًا قال المرنم: كَهَنَتُكَ يَلْبَسُونَ الْبِرَّ وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ (مز 132: 9)، كما ترنَّم إشعياء النبي قائلًا: فَرَحًا أَفْرَحُ بِالرَّبِّ. تَبْتَهِجُ نَفْسِي بِإِلهِي لأَنَّهُ قَدْ أَلْبَسَنِي ثِيَابَ الْخَلاَصِ. كَسَانِي رِدَاءَ الْبِرِّ مِثْلَ عَرِيسٍ يَتَزَيَّنُ بِعِمَامَةٍ وَمِثْلَ عَرُوسٍ تَتَزَيَّنُ بِحُلِيِّهَا (إش 61: 10) فهذه هي ثياب الخلاص ورداء البر، بينما ثياب الخطية ثياب قذرة: ” وَكَانَ يَهُوشَعُ لاَبِسًا ثِيَابًا قَذِرَةً وَوَاقِفًا قُدَّامَ الْمَلاَكِ” (زك 3: 3).

 قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.. كان الصبي الروماني عندما يبلغ سن الرشد كان يخلع ملابس الصبوَّة ويرتدي “التوُّجا” وهي رداء فضفاض يرتديه المواطن الروماني (راجع وارين ويرزبي – كن حرًّا- دراسة في الرسالة إلى أهل غلاطية ص 66) فقول بولس الرسول هنا يشبه من يلبس ثوبًا جديدًا، وكان المُعمَّد بعد خروجه من جُرن المعمودية يرتدي ثيابًا بيضا رمز للحياة الجديدة التي حصل عليها، وكما ارتدى هذه الثياب الجميلة يلبس المسيح، أي يكون له تصرفات المسيح وسلوكه.

 

 ويقول “ر. آلان كول“: “والعلاقة.. التي يشير إليها بولس في العبارة (اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ)، فالمعمودية التي هي صورة الموت والحياة الجديدة وعبور “مياه الدينونة” فوق رأس الخاطئ، تمثل وتختم على نهاية علاقة قديمة وبداية علاقة جديدة. وهذه العلاقة الجديدة من الناحية المثالية يجب أن تتماثل مع بزوغ فجر الحياة الجديدة في قلب المتجدّد.. نحن الذين اعتمدنا لبسنا المسيح، كما نلبس الرداء، ومن المحتمل أن الصورة مأخوذة من العهد القديم، فمثلًا ألبس روح الرب جدعون (قض 6 : 34).. وربما نجرؤ فنقول.. أن استخدام “يخلع ويلبس” قد يُشتق في الدوائر المسيحية من خلع الثياب قبل المعمودية، واللبس الذي يستتبع ذلك، لبس الملابس البيضاء النظيفة، ولكنه مناسب بصفة خاصة لوصف موقف معين تبطل فيه عبادات معينة نهائيًا وتستبدل بعبادات جديدة”(213).

 قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.. الإنسان المعمَّد يخلع بالعمودية الإنسان العتيق ويلبس الإنسان الجديد: ” إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ. وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ (كو 3: 9، 10).. أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ.. وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللَّهِ فِي البِرِّ وَقَدَاسَةِ الحَقِّ” (أف 4: 22، 24).. الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ” (رو 13: 14).

 ويقول “القديس باسيليوس الكبير“: “لا تسمح لدنس أو عفن يدنس نقاوة ثوب الخلود، بل أحفظ قداسة كل أعضائك، إذ تلبس المسيح، إذ يُقال: “لأَنَّ كُلَّكُمُ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُمْ بِالْمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ“. لتكن أعضاؤكم جميعها مقدَّسة فتكون كمرتدية ثوبًا من القداسة والنور”(214).

 قَدْ لَبِسْتُمُ الْمَسِيحَ.. وعندما نلبس المسيح يستر على عيوبنا فلا يظهر خزي عرينا، كقوله له المجد لملاك كنيسة اللاودكيين: أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ. وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ(رؤ 3: 18). أما الذي لم يعتمد فأنه يشبه الذي حضر عرس ابن الملك وليس عليه ثياب العرس ” فَقَالَ لَهُ يَا صَاحِبُ كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ الْعُرْسِ. فَسَكَتَ” (مت 22: 12)، بينما الذي يعتمد يلبس المسيح ويسلك كما يحق لإنجيل المسيح ينظر إليه الآب فيرى فيه صورة ابنه الحبيب فيرضى عنه ويصير موضع سرور الآب، فيظهر في المشهد بثياب نقية بهية: بعد هذَا نَظَرْتُ وَإِذَا جَمْعٌ كَثِيرٌ لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يَعُدَّهُ.. مُتَسَرْبِلِينَ بِثِيَابٍ بِيضٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ سَعَفُ النَّخْلِ(رؤ 7: 9).

 لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى.. الفروق العنصرية والاجتماعية والجنسية، بين اليهودي واليوناني، والعبد والحر، والذكر والأنثى كانت متفشية بصورة صعبة قبل المسيحية، وكان الرجل اليهودي ولا سيما الفريسي يصلّي في كل صباح قائلًا: ” أشكرك يارب لأني يهودي ولست أمميًا، ولأني رجل ولست امرأة، ولأني حُرّ ولست عبدًا”، ولا بد أن شاول الطرسوسي كان يُصلّي هذه الصلاة كل صباح حتى رسَخَت في ذهنه وفي قلبه وظهرت في سلوكه وتصرفاته، ولكن بعد لقائه بالمصلوب، وبعد أن أدرك أعماق المحبة المذبوحة على الصليب من أجل كل العالم قد تغيرت نظرته هذه إلى النقيض، وهذا ما سجّله في هذه الآية الرائعة، فلا فرق بين أي شخص وآخَر لأي سبب كان، ولعل هذه الآية صدى لما جاء في الصلاة الوداعية: لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ (يو 17: 22، 23)، وإن كان هناك ميل طبيعي لدى الإنسان أن يتآلف سريعًا مع من يشبهه، لكن من يلبس المسيح يدرك جيدًا أن المسيح للكل، فيسعى للتآلف مع الجميع حتى للمخالفين له في اللون والجنس والعقيدة، يقبل القديسين منهم ويتمثل بإيمانهم، ويقبل الخطاة منهم ولا يتمثل بشرهم.

 ويقول “الأب متى المسكين“: “ارتفع المسيح بارتفاعه على الصليب في قلب ق. بولس ليكون معيار القداسة والمحبة والسلام الأعظم، الذي حلَّ في العالم ليرفع البغضة والعداوة والأحقاد بين القلوب، أينما كانت ومهما كانت، واعتبر أن جسد المسيح الذي تمزّق على الصليب إنما هو الذي امتص العداوة بصورتها المُطلقة. فبقدر ما صار لعنة وخطية لأجلنا على الصليب فمزَّقت الخطية جسده ممثَّلة في الحسد والبغضة والعداوة التي ملأت قلوب صالبيه من رؤساء كهنة السنهدريم مع شيوخه، بقدر ما صار المسيح سلامًا وحبًا ومصالحة للجميع والكل مع اللَّه.

 والقديس بولس وهو يذكر هذه الثلاث عداوات من كتاب صلاة الصباح، إنما عاد لتنسيقها من قانون المعمودية الذي وضعته الكنيسة مبكرًا جدًا كما يقول العالِم بروس والذي سيذكر بعضنا منه في هذه الآيات:

 “لأَنَّنَا جَمِيعَنَا بِرُوحٍ وَاحِدٍ أَيْضًا اعْتَمَدْنَا إِلَى جَسَدٍ وَاحِدٍ.. يَهُودًا كُنَّا أَمْ يُونَانِيِّينَ. عَبِيدًا أَمْ أَحْرَارًا. وَجَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا” (1كو 12: 13).

 “إِذْ خَلَعْتُمُ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ مَعَ أَعْمَالِهِ. وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ.. حَيْثُ لَيْسَ يُونَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ، خِتَانٌ وَغُرْلَةٌ، بَرْبَرِيٌّ سِكِّيثِيٌّ، عَبْدٌ حُرٌّ، بَلِ الْمَسِيحُ الْكُلُّ وَفِي الْكُلِّ ” (كو 3: 9 – 11)(215).

 لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ.. كان اليهود ينظرون لأنفسهم على أنهم أبناء إبراهيم وهم شعب اللَّه المختار، وما عداهم من الأمم كلاب وقد خُلقوا كوقود لجنهم النار، هذا من جانب، ومن جانب آخَر كان اليونانيون ينظرون للآخَرين على أنهم برابرة متخلفين. أمَّا المسيحية فقد نظرت للجميع على أنهم إخوة لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالْيُونَانِيِّ لأَنَّ رَبًّا وَاحِدًا لِلْجَمِيعِ غَنِيًّا لِجَمِيعِ الَّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ (رو 10: 12)، وعندما كان بولس في أثينا قال لهم عن اللَّه: وصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ” (أع 17: 26)، وقال بطرس الرسول وهو في بيت كرنيليوس: بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ (أع 10: 34، 35)، وبالطبع لا أحد يصنع البر بدون المسيح يسوع. إذًا المؤمنون بالمسيح لا فرق بينهم مهما كانت أصولهم.

 وجاء في “التفسير التطبيقي“: “أنه ميل طبيعي أن نشعر بعدم الارتياح بالنسبة لمن يختلفون عنا، وأن ننجذب نحو من يشبهوننا، ولكن عندما نسمح للاختلافات أن تفصلنا عن المؤمنين رفقائنا، فإننا نتجاهل التعليم الكتابي الواضح، فلتهتم بالسعي نحو من لا يشابهونك تمامًا واحترمهم، فقد تكتشف أشياء كثيرة مشتركة بينك وبينهم”(216).

 لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ.. في القديم أوصى الرب شعبه أن لا يختلط بالأمم حتى لا يتأثر بهم ويعبد عباداتهم النجسة، فقال لشعبه: ” لأَنَّكَ أَنْتَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ. إِيَّاكَ قَدِ اخْتَارَ الرَّبُّ إِلهُكَ لِتَكُونَ لَهُ شَعْبًا أَخَصَّ مِنْ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ” (تث 7: 6).. ” أَنْتُمْ أَوْلاَدٌ لِلرَّبِّ إِلهِكُمْ.. لأَنَّكَ شَعْبٌ مُقَدَّسٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ وَقَدِ اخْتَارَكَ الرَّبُّ لِكَيْ تَكُونَ لَهُ شَعْبًا خَاصًّا فَوْقَ جَمِيعِ الشُّعُوبِ الَّذِينَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ” (تث 14: 1، 2)، وكان هذا الفكر يناسب طبيعة تلك المرحلة، إذ كان اللَّه يُسيّج حول شعبه حتى لا يتوه في غياهب وثنية وشرور الشعوب المجاورة، وعندما اختار اللَّه إبراهيم ليجعل من نسله شعبًا مقدَّسًا مخصَّصًا له كان هذا الاختيار مؤقت إلى حين أن يأتي نسل إبراهيم الموعود به، الرب يسوع المسيح، الذي به تتبارك جميع أمم الأرض. إذًا ما حدث من تمييز في العهد القديم كان ضروريًا ليحافظ اللَّه على هوية شعبه ومع ذلك كثيرًا ما كان هذا الشعب يفقد هويته ويختلط بالأمم ويشرب من كأس خمرهم فيذوق مرارة عناده ويقع تحت ذل وعبودية تلك الشعوب القاسية. ولكن عندما جاء نسل إبراهيم عاد ووحَّد اليهود مع الأمم شعبًا مقدَّسًا له من كل قبيلة ومن كل لسان: لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ.. وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللَّهِ بِالصَّلِيبِ قَاتِلًا الْعَدَاوَةَ بِهِ” (أف 2: 14، 16)، وقال “غوفيث” Goveet : “أن كل الفروقات التي صنعها الناموس ابتلعها القبر المشترك الذي أعده اللَّه”(217).

 لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ.. قال السيد المسيحومَنْ أَرَادَ أَنْ يَصِيرَ فِيكُمْ أَوَّلًا يَكُونُ لِلْجَمِيعِ عَبْدًا (مر 10: 44)، وقد أخذ السيد المسيح صورة العبد في تجسُّده وآلامه،  فهو العبد المتألم الذي تنبأ عنه إشعياء النبي: هُوَذَا عَبْدِي يَعْقِلُ يَتَعَالَى وَيَرْتَقِي وَيَتَسَامَى جِدًّا.. (إش 52: 13)، وكان يلذ لبولس الرسول أن يدعو نفسه: عبد يسوع، وقد ذكر بولس الرسول العبد قبل الحُرّ لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ وبينما كان العالم حينذاك يعطي للإنسان الحر كافة حقوقه كان يحرم العبد من أية حقوق، بينما نظرة المسيحية أن الجميع واحد في المسيح يسوع: دُعِيتَ وَأَنْتَ عَبْدٌ فَلاَ يَهُمَّكَ. بَلْ وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصِيرَ حُرًّا فَاسْتَعْمِلْهَا بِالْحَرِيِّ. لأَنَّ مَنْ دُعِيَ فِي الرَّبِّ وَهُوَ عَبْدٌ فَهُوَ عَتِيقُ الرَّبِّ. كَذلِكَ أَيْضًا الْحُرُّ الْمَدْعُوُّ هُوَ عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ” (1كو 7: 21، 22) وإن العبد يأخذ مكافأته من الرب مثل الحر تمامًا: عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الخَيْرِ فَذلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًّا ” (أف 6: 8).

 وعندما التقى بولس الرسول بأنسيمس العبد الهارب من سيده فليمون، فأصلح حاله وأعاده إلى سيده برسالة قائلًا: ” أَطْلُبُ إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي.. الَّذِي رَدَدْتُهُ. فَاقْبَلْهُ الَّذِي هُوَ أَحْشَائِي.. لِكَيْ يَكُونَ لَكَ إِلَى الأَبَدِ. لاَ كَعَبْدٍ فِي مَا بَعْدُ بَلْ أَفْضَلَ مِنْ عَبْدٍ أَخًا مَحْبُوبًا” (فل 10-16)، وحرَّر فليمون أنسيمس، وصار أنسيمس أسقفًا للمدينة العظيمة أفسس.

 لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى.. كانت المجتمعات في القرن الأول الميلادي تمنح الرجل كافة حقوقه، أما المرأة فهي من الدرجة الثانية، خُلقت لكيما تخدم رجلها وتنجب له الأولاد وتربيهم، ولا ثمة حقوق لها، بينما كرَّمت المسيحية المرأة ورفعت من شأنها، ونظرة لمعاملات السيد المسيح مع المرأة توضح هذه الحقيقة، وأعظم تكريم للمرأة كان في شخص العذراء مريم أم النور والدة الإله السماء الثانية التي حملت جمر اللاهوت في أحشائها تسعة أشهر، وأعطت للابن المتجسد الجسد المقدَّس، فصارت أعلى من الشاروبيم والسَّرَافيم.

 لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى.. من الملاحظات اللطيفة أن بولس الرسول عندما تحدَّث عن اليهود والأمم أو العبيد والأحرار استخدم حرف “لا”: ” لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّلَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ“، أما في حديثه عن الذكر والأنثى فقال: لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، فإن بولس الرسول أراد أن يرجع بنا إلى بدء الخليقة عندما قال الكتاب: ” فَخَلَقَ اللَّهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللَّهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ” (تك 1: 27)، وقال السيد المسيح تبارك اسمه: أَمَا قَرَأْتُمْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْبَدْءِ خَلَقَهُمَا ذَكَرًا وَأُنْثَى. وَقَالَ مِنْ أَجْلِ هذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونُ الاثْنَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. إِذًا لَيْسَا بَعْدُ اثْنَيْنِ بَلْ جَسَدٌ وَاحِدٌ” (مت 19: 4-6) ففي الحقيقة أن الذكر والأنثى هما واحد وهو الإنسان، فأي مجتمع إنساني متكامل تجد فيه الذكور والإناث، والأسرة ذكر وأنثى واللَّه حال فيهما وبينهما، وإن قلنا أن هناك مجمع الرهبان ومجمع الراهبات وكليهما ذكور أو إناث فقط، نقول أن هذا المجمع هو بالحقيقة جزء من المجتمع الإنساني، والمجتمع الإنساني هو الذي يغذي مجمع الرهبان أو مجمع الراهبات بالأعضاء الجدد، وكل من المجمعين قائم على المجتمع الإنساني.

 

 لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى.. أمام اللَّه الذكر والأنثى سيان، وهكذا الكنيسة لا تميّز بين الذكر والأنثى، فكل منهما نفس بشرية تسعى الكنيسة لخلاصه، وإن كانت الكنيسة تُقصِر الدرجات الكهنوتية على الرجال فهذا لا يعني أن المرأة دون الرجل: غَيْرَ أَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ مِنْ دُونِ الْمَرْأَةِ وَلاَ الْمَرْأَةُ مِنْ دُونِ الرَّجُلِ فِي الرَّبِّ” (1كو 11: 11)، فقط المرأة لديها موانع شهرية تمنعها عن الأسرار المقدَّسة، فكيف تصير كاهنة ينبغي أن تقود الشعب في الصلاة دائمًا؟!.. ولهذا يخطئ مَن يستخدم هذه الآية لتبرير كهنوت المرأة.

 ويقول “مكدونل“: “لكن علينا ألا نُحمّل هذه الآية معنى لا تقوله بالحقيقة. فاللَّه يؤكد الفروقات بين الرجل والمرأة في الحياة اليومية (وفي خدمة الكنيسة العلنية، بغير شك) إذ يحتوي كتاب العهد الجديد على تعليمات معطاة لكليهما، كما أنه يتكلَّم للعبيد بشكل منفصل عن السادة. وأما بالنسبة للحصول على البركة من اللَّه فهذه الأشياء لا تؤثر أبدًا، لأن الأمر الأساسي الذي يهم هو أن نكون في المسيح يسوع(218).

 ويقول ” الأب متى المسكين تعليقًا على هذه الآية: “إن بعض المفسّرين فسَّروها بأن هذا معناه إلغاء الجنس إن لم يكن الآن ففي الأبدية، وهذا غير مقبول في نظرنا، كما أن البعض فسَّرها بإلغاء الفوارق الاجتماعية بين الرجل والمرأة، فللمرأة بذلك أن تلبس وتتصرَّف كالرجل في الحرية الاجتماعية، وهذا أيضًا مرفوض في نظرنا، ونعتقد أن ق. بولس يرى هذا التساوي هو في الحقوق والواجبات الدينية العامة من جهة الإيمان والصلاة والعبادة والسجود وحسب..

 غير أنه قد خرجت علينا بعض الكنائس في الغرب بأن نصبَّت المرأة كاهنة، إلاَّ أن ذلك كان خروجًا شديدًا على كل الأعراف الدينية والاجتماعية والتاريخية وفي كل معاملات اللَّه الأولى حتى منذ آدم وحواء.. فالقديس بولس الذي قال: “ليس رجل ولا امرأة في المسيح” قال وبتأكيد من فم الرب: “لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ. لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا. وَلكِنْ إِنْ كُنَّ يُرِدْنَ أَنْ يَتَعَلَّمْنَ شَيْئًا فَلْيَسْأَلْنَ رِجَالَهُنَّ فِي الْبَيْتِ. لأَنَّهُ قَبِيحٌ بِالنِّسَاءِ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِ-ي كَنِيسَةٍ.. ” (1كو 14: 34-37)(219).

 لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.. لأنكم جميعًا أيها الغلاطيون سواء من أصل يهودي أو أصل أممي، وعندما قال الرب يسوع: وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا فَتَسْمَعُ صَوْتِي وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ (يو 10: 16) فهو كان يشير للمؤمنين بِاسمه من جميع قبائل الأرض، وفي الصلاة الوداعية صلَّى قائلًا: ولَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ. لِيَكُونَ الجَمِيعُ وَاحِدًا كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا (يو 17: 20، 21)، فهو كان يصلّي من أجل هؤلاء الأمم، وقال بولس الرسول: لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ (أف 2: 14)، وبالمعمودية صار جميع المؤمنين أعضاء في جسد المسيح الواحد، فجميعهم صاروا إخوة وجميعهم صاروا أبناء اللَّه لا فرق بين يهودي وأممي، ولا عبد وحر، ولا ذكر وأنثى.

 فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ فَأَنْتُمْ إِذًا نَسْلُ إِبْرَاهِيمَ وَحَسَبَ المَوْعِدِ وَرَثَةٌ.. يربط بولس الرسول بين المؤمنين بالمسيح وبين نسل إبراهيم، فالمؤمنون بالمسيح هم واحد مع المسيح، والمسيح هو نسل إبراهيم الذي به تحقَّق الوعد الإلهي كقول القديس بولس: وَفِي نَسْلِكَ الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ” (غل 3: 16).. وقول بولس الرسول فَإِنْ كُنْتُمْ ليس للشك بل للتأكيد، فما دمتم للمسيح فأنتم نسل إبراهيم، وما دمتم أنتم نسل إبراهيم فأنتم حسب الوعد الإلهي ورثة، فالناموس قد فشل في أن يمنحنا الميراث السمائي الأمر الذي نجح فيه إبراهيم: لأَنَّهُ إِنْ كَانَتِ الوِرَاثَةُ مِنَ النَّامُوسِ فَلَمْ تَكُنْ أَيْضًا مِنْ مَوْعِدٍ. وَلكِنَّ اللَّهَ وَهَبَهَا لإِبْرَاهِيمَ بِمَوْعِدٍ (غل 3: 18)، وليس المقصود هنا بالطبع أرض كنعان، إنما المقصود كنعان السمائية: بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللَّهُ (عب 11: 9، 10)، فإبراهيم أمضى حياته ولم يملك وطأة قدم في كنعان أرض الموعد، سوى مغارة المكفلية قبر سارة، ولكنه ورث ملكوت السموات، وقال السيد المسيحإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِب وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ (مت 8: 11).

 

 فَإِنْ كُنْتُمْ لِلْمَسِيحِ.. فإن كنتم أيها الغلاطيون تؤمنون بالمسيح فأنتم نسل إبراهيم، وبالتالي أنتم ورثة متساوون تمامًا مع اليهود الذين يُقصِرون الميراث السمائي على أنفسهم، ويقول “دكتور وليم آدي“: “هذه الآية نتيجة احتجاج الرسول في اثنتين وعشرين آية سبقت في هذا الإصحاح إثباتًا لقوله: “اعْلَمُوا إِذًا أَنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الإِيمَانِ أُولئِكَ هُمْ بَنُو إِبْرَاهِيمَ” (ع 7) أي أن المؤمنين بالمسيح هم أولاد إبراهيم الحقيقيين ورثة الوعد لأن المسيح هو نسل إبراهيم الحقيقي وأن المؤمنين به متحدون به فصاروا واحدًا وقد لبسوا المسيح وهذا يحقّق كونهم نسل إبراهيم الروحي وورثة كل البركات التي يتضمنها الوعد”(220).

 وَحَسَبَ الْمَوْعِدِ وَرَثَةٌ.. بما أننا أبناء فنحن ورثة: فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا وَرَثَةُ اللَّهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ” (رو 8: 17)، فقد صرنا ورثة مع المسيح الذي جعله الآب: وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ (عب 1: 2)، وحسنًا قال بولس الرسول: ” إِذًا لَسْتَ بَعْدُ عَبْدًا بَلِ ابْنًا وَإِنْ كُنْتَ ابْنًا فَوَارِثٌ ِللَّهِ بِالْمَسِيحِ” (غل 4: 7)، وأكد في موضع آخَر أن الأمم شركاء في الميراث: أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ” (أف 3: 6).

فاصل

فاصل

تفسير غلاطية 2 تفسير رسالة غلاطية
تفسير غلاطية 4
 أ/ حلمي القمص يعقوب
تفاسير رسالة غلاطية تفاسير العهد الجديد

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى