تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 2 للأب متى المسكين

11- المشلول والخطية 2: 1-12

(مت 9: 1ـ 8)،
(لو 5: 17-26)

[مصادمات مع الكتبة والفريسيين:
أ ـ لماذا يتكلم هذا بكلام تجاديف؟]

قصة مركبة ذكرها ق. مرقس ليوضح علاقة الإيمان بالشفاء ثم علاقة المرض بالخطية، ثم إعلان المسيح لنفسه لأول مرة أنه هو ابن الإنسان الذي جاء ـ من عند الله ـ محمّلاً بقوة غفران الخطايا.

وبعد ذلك نرى كيف دعا عشاراً من مكان جبايته ودخل بيته وعلّم، وكان معه تلاميذه وجمع – غفير، فيهم عشارون وخطاة، وكان المسيح يأكل معهم في وقت الأكل. ووصف نفسه في وسط التلاميذ كعريس مع بني العرس، أي أنه شبه وجوده مع التلاميذ على مدى الأيام كلها كأنها حفلة عرس تنتهي بغياب العريس وحينئذ يحل الصوم. كما شبه المسيح محاولة مزج تعاليم الكتبة والفريسيين بتعليمه كوضع رقعة من قماش جديد على ثوب قديم، أو كوضع خمر جديد في زق جلد مشقق عتيق لا يضبط ما فيه. فالثوب القديم لا يحتمل ترقيع الجديد، والخمر الجيدة الجديدة يلزم أن توضع في زق جلد جديد، كناية أن تعاليم العهد الجديد لا تحتمل إضافات من تعليم الكتبة والفريسيين، وأن تعليم العهد الجديد قوي بالروح يلزمه فكر جديد قوي بالروح أيضاً. ثم وصف المسيح نفسه أنه “ابن الإنسان”، على أن الإنسان عموماً هو أصلاً غاية الناموس كله الذي من ضمنه السبت. فالناموس وضع للإنسان وليس الإنسان هو الذي خلق للناموس، وعليه يكون ‘‘ابن’’ الإنسان هو رب السبت بصفته أنه هو الواضع للناموس الذي يكرم السبت، وهنا إشارة واضحة لله .

1:2و2 «ثم دخل كفرناحوم أيضاً (ثانية) بعد أيام، فسمع أنه في بيت. وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يعد يسع ولا ما حول الباب. فكان يخاطبهم بالكلمة».

ظل المسيح خارج المدينة يكرز ويشفي، ثم عاد ثانية (أيضاً) إلى المدينة بعد أيام. ودرى الناس أنه التجأ إلى بيت أحد أولاده فتجمهر الشعب كالعادة. وكفرناحوم كانت إحدى المراكز التي أقام فيها المسيح وعمـل كثيراً من معجزاتـه، وذلك حسب إنجيـل ق. لوقا، إذ حينمـا كـان يـكـرز في الناصـرة  قيل له: «كم سمعنا أنه جرى في كفرناحوم فافعل ذلك هنا أيضاً في وطنك» (لو 23:4). ويعتقد العلماء أن هذا البيـت كـان بيت ق. بطرس، لذلك ينبغي أن نقرأ الآية الأولى هكذا: «ثم دخل كفرناحوم أيضاً بعد أيام فسمع أنه في البيت» والحقيقة حتى اليوم أنه إذا شمع أن يسوع يعمل في بيت أو كنيسة فالعالم كله يتقاطر عليه، فهو لا يزال ملجأ خلاص للبشرية المتعبة أينما كانت. وحيثما كان يجتمع الناس، كان المسيح يبدأ بالكرازة، ولكن سرعان ما كانوا يأتون بالمرضى.

5-3:2 «وجاءوا إليه مقدمين مفلوجاً يحمله أربعة. وإذ لم يقدروا أن يقتربوا إليه من أجل الجمع، كشفوا الشقف حيث كان. وبعد ما تقبوه دلوا الشرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه. فلما رأى يسوع إيمانهم، قال للمفلوج: يا بني، مغفورة لك خطاياك» .

واضح من دقائق المنظر أن الراوي كان شاهد عيان. أما المفلوج فهو المصاب بمرض الفالج وهـو الشلل. والشلل أصناف، فيه من يستطيع أن يمشي على رجل واحدة وعكاز، وفيه من لا يستطيع أن يمشي على الإطلاق، وهذا هو مريض هذه الآية. ولمها لم يستطيعوا أن يقربوه من الزحام، صعدوا على السلم وفتحوا غطاء المنور أو الرؤشن ودلوه بالحبـل فـكـان أمام المسيح. نوع من الإصرار الذي يزكيه الإيمان واللهفة على نوال لمسة يد المسيح للشفاء. من أجل هذا قدم ق. مرقس هذه العينة من الرواية ليوضح شدة إيمان الشعب مع قوة الشفاء الإعجازي التي للمسيح. وهنا يقصد الإنجيل أن يضع معادلة في غاية الأهمية بين الإيمان والشفاء التي طالما أكـدها المسيح مراراً وتكراراً، أنه بقدر الإيمان يكـون الشفاء. ولكن الجديد في هذه القصة أن المسيح وضع معلومة جديدة وخطيرة كنا قد سبقنا وشرحناها (في شرح آية 31:1)، وهي أن المرض ليس أصلاً من طبيعة الإنسان المخلوق على صورة الله، ولكن لمها أخطأ الإنسان نحو الله فقدت طبيعته العناية الحافظة من سلبيات الحياة ومداهمة الأعداء والأمراض، حتى إن الطبيعة وكل مكونات الأرض أظهرت له العداء: «ملعونة الأرض بسببك» (تك 17:3). الأمر الذي فشره ق. بولس الرسول هكذا:

+ «إذ أخضعت الخليقة للبطل – ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها (الله) ـ على الرجاء (أي لعنها لزمن محدد). لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد (اللعنة) إلى حرية مجد أولاد الله – (لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أولاد الله) ـ فإننا نعلم أن كـل الخليقـة تـئـن وتتمخض معاً إلى الآن. وليس هكذا فقط، بل نحن الذين لنا باكورة الروح (الذين خلصنا بنعمة الله)، نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا (لأن اللعنة تعمل في العالم وفي الجسد الطبيعي)، متوقعين فــداء أجســـــادنا (منتظـــــرين نهايـة هـذا العـالم الطبيعـي لنأخـذ مـيـراث الروح كأبناء الله). لأننا بالرجاء خلصنا (فقط). ولكن الرجاء المنظور (ونحن في الجسد) ليس رجاء؛ لأن ما ينظره أحدٌ (الإنسان) كيف يرجوه أيضا؟ ولكن إن كنا نرجو ما لسنا ننظره أي ما ليس في العالم) فإننا نتوقعه بالصبر.» (رو 8: 19-25)

إذن، فخطية الإنسان الأولى تسببت في لعنة الأرض ومعها الحسد حتماً وبالضرورة، أما ما قبل الخطية الأولى فكان الإنسان يحيا مع الله وينظره وجها لوجه، والعالم حوله على مستوى الروح يطيعه ويخضع له، وليس مرض ولا حزن ولا كآبة ولا تنهد ولا موت، فكل هذه دخلت على الإنسان – مؤقتاً – إلى أن ترفع اللعنة عنه، لعنة الخطبة وآثارها في الأرض والحسد.
 
لذلك حيثما يقول المسيح: «مغفورة لك خطاياك». فالمعنى يغطي الخطية وأصلها وتفرعاتها في الإنسان، وقد قالها المسيح في زمن الحاضر المستمر: “في هذه اللحظة صارت خطاياك مغفورة لك”. وقالها بسلطان من هو قابض على الدينونة والغفران معاً وبأن واحد، ومن هو قابض على الزمن ماضيه وحاضره ومستقبله معاً!! لذلك بمجرد أن نطق المسيح بالغفران دبت الحياة والصحة في المفلوج، لذلك أعطاه المسيح الأمر بالوقوف. وليس الجسد فقط نال هذه النعمة بل الفكر والضمير والنفس والروح معاً.
إذن، فالمسيح بالتالي يرفع عنه المرض وكل متعلقاته؛ ولكن يضيف المسيح أحياناً الأمر «فلا تخطئ أيضاً (ثانية) لئلا يكون لك أشر» (يو 14:5)، إذ تعود حالة الإنسان تحت اللعنة من جديد. وقد جعل المسيح هذه العينات من الشفاء نموذجاً تعليمياً ليوضح أثر الخطية في حياة الإنسان، ويوضح بالتالي كيف ولماذا جاء هو ليغفر خطايا الإنسان لينقله إلى وضع مبرر إعداداً لنوال الحياة الأبدية.
 
– ويلاحظ في الآية (5:2) أن المسيح ناداه «يا بني» ـ يا ابني أو أيها الابن، فهذا النداء بهذا اللقب يعني ويساوي تماماً مغفورة لك خطاياك، فنهاية غفران خطايانا هي أبناء الله، وقد قالها المسيح «يا بني» قبل أن يقول له مغفورة لك خطاياك . والسبب أنه يصر بعد صليب ولا سفك دم، الذي يؤهل للتبني، فهنا المسيح وهيه التبني من عنده كعطية حاضرة فيه، لكي يحل عليه غفران الخطية.
 
وعلى هذا يظهر كيف أعطى المسيح بنوته لكل الذين يؤمنون بموته وقيامته. إذ لكي يعطي المسيح بنوته للناس يلزم أن يعطيهم حياته التي هي علاقته مع الآب. وكيف يعطيهم حياته إلا بسفك دمه لأن “الحياة في الدم” ولكـن لا الصليب ولا سـفـك الـدم كـان محصوراً في زمـن قيافـا وبيلاطس بل كان قائماً قبل إنشاء العالم :

+ «بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح، معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم.» (1بط 1: 19و20)

وعلى مثال ووزن الإيمان الكثير الذي زكى شفاء الأبرص، كان الحب الكثير الذي زكى غفران خطايا المرأة الخاطئة: «قد غفرت خطاياها الكثيرة لأنها أحبت كثيراً» (لو 47:7). فالحب يوازن الإيمان ويتفوق عليه ولكن يتولد منه. فالمرأة آمنت وأحبت وهذا منتهى الإيمان .

وقد يظن بعض العلماء أن الإيمان في معجزة المشلول هو إيمان الأربعة الذين حملوه وقدموه، ولكن في الحقيقة يستحيل أن يكون الأربعة قد قدموه إلا بناء على إلحاح المشلول وبكائه وتوسلاته التي تذيب قلب الإنسان، فالأربعة في الحقيقة لم يحملوا المفلوج بل حملوا إيمانه وقدموه للمسيح!

ويلاحظ أخيراً أن القديس مرقس قدم هذه المعجزة ليقدم برهاناً موثقاً بالشهود والعمل الجهاري أن يسوع هو المسيح ابن الله!

6:2و7 «وكـان قـوم مـن الكتبـة هناك جالسين يفكرون في قلوبهم: لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده؟».

قدم الكتبة والفريسيون هنا أنفسهم كحفظة للناموس والشريعة، ولو أن تفكيرهم لم يخرج عن دائرة عقولهم، ولكن المسيح شعر بروحه بما يفكرون. وكان تفكيرهم قد انتهى إلى الحكـم بـأن هـذا تجديف، وطبعاً حكم التجديف هو الرجم. ولكن المسيح استطاع أن يرد عليهم برد عملي ليثبت لهم أنهم على حق في قولهم إن الله وحده هو الذي يغفر خطايا، ولكنه أثبت لهم أنه هو بالفعل غفر الخطايا.

8:2و9 «فللوقت شعر يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في أنفسهم، فقال لهم: لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ أيما أيسر، أن يقال للمفلوج، مغفورة لك خطاياك، أم أن يقال: قم واحمل سريرك وامش؟» .

هكذا أثبت المسيح لهم أول ما أثبت أنه قرأ ما في قلوبهم وأفكارهم، وهذا تمهيد للكشف الأقوى عن هويته الحقيقيـة كـابن الله. ثم وضعهم في حرج الموازنة بين سلطان مغفرة الخطايا وسلطان إقامة مشلول من مرضه العضال الذي لا يشفى، ولكنه شفي وحمل سريره فوق ظهره!

ومعروف في تعاليم الربيين أن الإنسان لا يمكن شفاؤه من مرضه إلا إذا غفرت خطاياه كلها.

فالآن بعد أن سألهم هذا السؤال الذي جوابه بالضرورة هو أن الأسهل القول بغفران الخطايا، لأنه أمر مستور لا يمكن لأحد أن يتحقق منه. فالمدعي بأنه يغفر الخطايا ليس من يحاسبه، ولكن أن يقيم المشلول ليقف ويحمل سريره ويمشي هنا الصعوبة البالغة التي لا يقوى عليها إلا الله وكلمته.

10:2و 11 «ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطاناً على الأرض أن يغفر الخطايا. قال للمفلوج: لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك».

هنا أظهر المسيح سلطانه بالأمر المباشر للمشلول الراقد على سريره «لك أقول قم» وبذلك برهن المسيح على أنه قادر أن يغفر الخطايا كالله، لأنه برهن قدرته على مغفرة الخطايا بإعطاء الشفاء والقوة على حمل السرير وعلى الذهاب إلى بيته. وبهذا انتهى المسيح إلى تلقين الكتبة والفريسيين درساً لا ينسى، لأنهم قرروا أن الذي يغفر خطايا هو الله فغفر المسيح الخطايا وبرهن على ذلك بإعطاء الشفاء والقوة للمفلوج.

هنا وضحت الرواية بأجلى وضوح، أن ق. مرقس سجلها لكي يعلن للمعاندين، الكتبة والفريسيين، حقيقة يسوع أنه المسيح ابن ا الله .

12:2 «فقام للوقت وحمل الشرير وخرج قدام الكل، حتى بهت الجميع ومجدوا الله قائلين: ما رأينا مثل هذا قط!».

هي بمجرد أن أعطاه المسيح الأمر قام في الحال، وكان من القوة والصحة التي له في حالته الطبيعية وأكثر، لأنه ربما قبل أن يمرض لم يكن يقدر أن يحمل سريره. إذن، فهو شفاء عاجل وصحة كاملة، حالة تشبه الخلق الجديد. المسيح هنا يمارس عملية تطهير من خطايا وإعادة الطبيعة إلى أفضل ما تكون جسداً ونفساً وروحاً. وهذه هي الصورة المجسّمة للخلاص العتيد أن يمارسه المسيح على الصليب للخلق الجديد للإنسان الروحي، ليصير فعلاً صورة الله في القداسة والحق.

«حتى بهت الجميع»: 

الكلمة اليونانية تفيد الاندهاش الشديد (الخروج عن الوعي) لشدة الإعجاز في المعجزة واستحالة نسبتها لإنسان عادي، ففي الحال مخدوا الله العامل والفعال فيها بتدخله الشخصي.

«ما رأينا مثل هذا قط!»:

خروج المعجزة عن طاقة عمل البشر على طول خبرة الإنسان رؤية ومعرفة، فهي هنا شهادة فائقة للمسيح أنه ينطق بفم الله «مغفورة لك خطاياك» ويعمل بيد بإقامة المشلول ليمشى ويحمل سريره ويذهب. وكأنما يقول ق . مرقس هذا هو إنجيل يسوع المسيح ابن الله فآمنوا بالإنجيل.

لقب ابن الإنسان في إنجيل القديس مرقس:

واضح للقارئ هنا في هذه المعجزة كيف يقرن ق. مرقس بين اسم ابن الإنسان وبين «لا يغفر الخطايا إلا الله وحده» مربوطة بـ «لك أقول قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك» ثم «بهت الجميع ومجدوا الله» ثم «ما رأينا مثل هذا قط!» هذا هو «ابن الإنسان» عند ق. مرقس في أوضح وضع ماسياني، الذي فسره بكل وضوح أنه «يسوع المسيح ابن الله» والقديس مرقس ينقل لنا تقليد الكنيسة بكل أمانة ودقة .

ولكن يقول العالم لاجرانج الفرنسي: إن المسيح هنا أثبت أنه المسيا بكل تأكيد، ولكنه لا يريد أن يعلنها صراحة لأن رأيه في الإنجيل كله أن يجعل الآخرين هم الذين يقررونه وليس هو. وهذا بعينه ما حرص القديس مرقس أن يبرزه في الإنجيل ليكون لنا نحن أيضاً نفس التمييز والفـهـم والاختيار .

مفهوم مغفرة الخطايا في إنجيل القديس مرقس:

يلاحظ القارئ المدقق أن إنجيـل ق . مرقس يـورد قول مغفرة الخطايا بطريقة غير ما قاله لشفاء المفلوج، ففي مغفرة الخطايا يقول المسيح: «يا بني، مغفورة لك خطاياك» إذ يبني الفاعل هنا للمجهول، غير أنه ليس مجهولاً حقيقة بل هو معروف تماماً لأنه هو الله أبوه. وهذه هي الوسيلة التي حاول بها المسيح أن يخرج عن مفهـوم قـول الفريسيين أن ليس لأحد أن يغفر الخطايا إلا الله وحده، ولكن إذ قالها المسيح نيابة عن الله بصورة حادة وآنية ومطلقة، أفاد أنه ضمناً هو الممسوح المرسل، أي المسيا في صورة ابن الإنسان. وحين قال للمريض: «لك أقول قم» أثبت أنه أعطي السلطان المطلق ليشفي علناً كمدخل للإيمان أن له قوة الله وفاعلية كلمته. 

فاصل

12- دعوة لاوي بن حلفی[2: 13و14]

(مت 9: 9-13)،
(لو 5: 27-32)

هي من قصة تنضم إلى قصة دعوة المسيح لتلاميذه، وقد أتت هنا مؤخراً، والمدعو هنا عشار جالس في مكان الجباية “مصلحة الضرائب وكانت تُدعى تهكماً: “المسلخة”. وتقبل هذا اللاوي فجأة المسيح الواقف أمامه دعوة «اتبعني» فكان الجواب أن قام في الحال وتبعه. جملة قصيرة للغاية: « اتبعني، فقام وتبعه» والقصة هنا ذات جمال رائع إذ اهتم ق. مرقس لا بقول المسيح ولا بقبول المدعو، ولكن بالصـورة الخاطفة للدعوة نفسها وظرفها البديع: مكان جباية بمعنى بؤرة اختلاسات وسرقات، غزتهـا دعـوة للملكوت واستجابة لحظية، صورة مبدعة لانتشال إنسان من وسط النار، ليكـون كـارزاً بملكوت الله :

+ «وأراني يهوشع الكاهن العظيم قائماً قدام ملاك الرب والشيطان قائم عن يمينه ليقاومه، فقال الرب للشيطان : لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب الذي اختار أورشليم. أفليس هذا شعلة منتشلة من النار.» (زك 3: 1و2)

منظر دعوة لاوي من أمام مكان الجباية وبالسرعة الخاطفة التي أنقذت واختارت وكرست بآن واحد، هي صورة من الصور النادرة للقديس مرقس يمكن أن تعنون: “صورة للدعوة المسيحية”. وربما تأخذ الجائزة الأولى في معرض صور الإنجيل. على أثرها حضر الرب وليمة وكأنها احتفاء بعضو بارز جديد من أعضاء الملكوت. والأعجب من الكل يبدو أن لاوي تزعم دعوة العشارين: «وفيما هو متكئ في بيته (بيت العشار لاوي) كان كثيرون من العشارين والخطاة يتكثون مع يسوع وتلاميذه لأنهم كانوا كثيرين وتبعوه» (مر 15:2). وهذه إضافة جمالية للصورة السابقة والمسيح جالس وسط عشارين وخطاة كلهـم مدعوون للملكوت!! سجلي يا سماء!! وأصحاب الملكوت القدامى المرفوضون واقفون يتحرقون غيظاً وينفثون سما: «ما باله يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة.» (مر16:2).

2: 13 ,14 ثُمَّ خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْبَحْرِ. وَأَتَى إِلَيْهِ كُلُّ الْجَمْعِ فَعَلَّمَهُمْ. 14وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى لاَوِيَ بْنَ حَلْفَى جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: «اتْبَعْنِي». فَقَامَ وَتَبِعَهُ. 

قصة من حياة المسيح اليومية يقدمها ق. مرقس مختصرة أشد الاختصار، ويبدو أنها كانت قصة مطولة وجميلة ولكن اختزلها ق. مرقس لكي يستخلص منها ما يتفق وخط فكره في عرض إنجيله. ويراها العالم بولتمان إنها نوع من الأبوفثجما (أي قول حكيم جامع) مصور بحياة شخصية، أو ترجمة حياة شخص، في وضع يصلح أن يكون قولاً متـداولاً، وذلك بسبب اختصارها وقوة الحركة فيها التي لا تزيد عن كلمة واحدة أنشأت حياة جديدة جليلة «اتبعني» وصارت الكلمة شعاراً للطاعة الكاملة الناجحة والجريئة. وكلمة «اتبعني» أعطت مشهدأكاملاً في الإنجيل، بل قصة مثيرة لاستجابة مسيحية نموذجية. وهي تشبه إلى حد ما روايات دعوة بقية التلاميذ، إلا أن هذه الرواية تمتاز بأن المدعو عشار وهو مرفوض عند الكتبة والفريسيين، ويعتبرونه هو ومهنته غير مقبول بسبب تعامله مع الأجانب، بالإضافة إلى أن مهنته تقوم على الظلم والمغالاة في تقدير الضرائب واستخدام القـوة وربما الابتزاز. واللاوي أصلاً من عائلة كهنوتية.

وقد قامت منازعة بين الآباء القدامى والعلماء المحدثين أيضاً: هل لاوي الذي لم يذكر اسمه هنا هو متى صاحب الإنجيل؟ أو هو آخر ذكر اسم لاوي عوض اسمه، وهل لحسب بين الرسل أو لم يحسب؟ فأوريجانوس يقول: “إنه لم يكن من التلاميذ إلا أن إنجيل ق. مرقس يضعه بين التلاميذ”، وهذا الظن يقوم على يقين الدعوة التي دعاها المسيح له مثل باقي التلاميذ: «اتبعني» هذا يحتم أن لاوي تبع المسيح كتلميذ والمسيح أيضاً دخل بيته وأكل عنده كما صنع مع ق. بطرس. والمأخذ الوحيد الذي يؤخذ على إنجيل ق. مرقس أنه ذكر اللقب «لاوي» دون الاسم، ولكنه عاد وصححه في الأصحاح الثالث (18:3): «برثلماوس ومتى وتوما …» ويعتقد العلماء أن لاوي هذا أو متى العشار الذي كان بيته في كفرناحوم الواقعة في أرض هيرودس أنتيباس كان يجمع الضرائب لحسابه!

ويلاحظ أن دعوة لاوي «اتبعني» قبلها في الحال فقام وتبعه. وهذه الاستجابة أهلته بالفعل أن يكون تلميذاً ورسولاً. وبهذا يعتبر لاوي ـ متى – أقوى من كرم الدعوة في الحياة المسيحية، خاصة أنه المال بإغراءاته وهمومه وتعلقاته التي لا تنتهي. كيف قطع كل شيء وقام ولم ينظر وراءه. على هؤلاء قامت المسيحية بل قام ملكوت الله

فاصل

13- الأكل مع العشارين والخطاة 2: 15-17

مت 9: 10-13
لـو 5: 29 -32

مصادمات مع الكتبة والفريسيين: 
ب ـ لماذا يأكل مع العشارين والخطاة؟]

15:2 «وفيما هو متكئ في بيته كان كثيرون من العشارين والخطاة يتكئون مع يسوع وتلاميذه، لأنهم كانوا كثيرين وتبعوه» .

كانت هذه القصة بكل مناظرها ودقائق روايتها أكبر ملهم للتلاميذ والرسل وكل الكارزين في كل أنحاء العالم. فإن كان المسيح كـأعـظـم كـارز بملكوت الله تؤج حياتـه وخدمته بجلوسه مع العشارين والخطاة ـ حثالة القـوم ـ وأكـل معهم، فقد صارت هذه إحدى فضائل الخدمة التي يفتخر بها كل خادم وكارز بملكوت الله. لقد أوضح المسيح في هذا اليوم وفي بيت لاوي العشار أعظم وأفخم إطـار لمستوى الخدمة لحساب ملكوت الله وباسم المسيح. لم تعد الخدمة والكرازة تتنجس بمعاملة الزناة والزواني والمستهزئين والمنحلين وذوي السمعة السيئة؛ بل تتكرم وتتقدس على غرار المسيح في بيت لاوي العشار والخطاة يحيطون به، يتكلمون معه ويسمعون له ويكشفون له ضمائرهم وهمومهم ونقائصهم. لقد احتل بيت لاوي العشار، بالخطاة الذين التفوا حول المسيح، أعظم أركان الخدمة في كنيسة الله الحي. لقد أسقط المسيح في بيت لاوي في ذلك اليوم الحاجز المصطنع الفاصل بين العظماء والصعاليك، بين المعتزين بطهارتهم وكرامتهم ومستواهم العالي والراقي وبين الخطاة والمذلين والمنجسين وكبار اللصوص وحثالة القوم المرفوضين من المجتمع الراقي. لقد جاءت هذه القصة على مستوى ما صنع المسيح يوم غسل أرجل تلاميذه ونشفها بالمنشفة.

نعم لقد لاق بالمسيح أن يدعى ابن الإنسان حتى يجد فيه كل إنسان ما يعوض نقصه ويكمل طهارته ويجد فيه أخاً يتكرم به ويتمجد. لم يعد ق. بطرس وحده هو الذي يفتخر قائلاً نحن الذين أكلنـا معـه وشـربنا؛ بل العشـارون والخطـاة والـزواني بكـل صـنف لهـم ذات الفخـر. فهـو الأخ الأكبر للإنسانية بأجمعهـا والـكـل يفتخر بأنه أكل وشرب معه. لقد حطم المسيح قانون النجس والطاهر حينما قال لبطرس: «ما طهره الله لا تدنسه أنت» (أع 15:10). فليس فقط من يأكل بل من يلمس المسيح يطهر ويقف نزف خطيته .

في هذه القصـة الفريدة تخرج أول أيديولوجية لمفهـوم الاشتراكية الصادقة أو الروح الشعبية . والمسيح هنا يعتبر أول ثائر في العالم على نظام الطبقية، وأول من هدم روح التحفظ المتعالي لعلية القوم والتباهي بنقاوة الجنس وطهارة العنصر. فقد صنع المسيح من الخطاة والزناة والأنجاس وكبار اللصوص وحثالة الناس ضيوفاً على مائدته، وفتح لهـم قلبـه للحديث والشكوى، وتعرف على أوجاعهم وطيب قلوبهم وجبر كسر نفوسهم. ولا يمكن أن ننسى يوم أن شبه الملكوت بأنه عمل وليمة عظيمة ولم يحضر أحد المدعوين العظام، فأرسل الخدم ليدعوا الذين خارج السياجات، مثل هؤلاء القوم الخطاة، ولمها استكثر الخطاة والمذلون الدعوة قال للخدم: «ألزموهم بالدخول» ! (لو 23:14). وهل يمكن أن ننسى قوله «بما أنكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر فبي فعلتم» (مت 40:25). هكذا ساواهم بنفسه ليرثوا منزلته بين الناس!!

انظر أيها القارئ العزيز كيف كان المسيح يصلب نفسه كل يوم ليرتقي بالبشرية حتى إلى قامته.

16:2 «وأما الكتبة والفريسيون فلما رأوه يأكل مع العشارين والخطاة، قالوا لتلاميذه: ما باله يأكل ويشرب مع العشارين والخطاة؟».

هي العنصرية بعينها والطبقية المتعالية بقيمها ومميزاتها التي أضافوها إلى أنفسهم. فبدل أن يعطيهم اشتغالهم بالدين روح القربي من الشعب، استغلوه للتعالي والكبرياء عليه. وعـوض أن تقربهم معرفتهم بالله بالضعفاء والخطاة والمساكين، عزلتهم عنهم وأسكنتهم في بروجهم، وهكذا أصبح الدين وسيلة لركوب طبقة على طبقة وسبباً في انقسام الشعب وعزلة المساكين والخطاة. وكأن الله أصـبح وقفـاً على الأغنياء والعلماء والأدعيـاء والأصحاء، ولم يعلـم هـؤلاء الكتبـة والفريسيون أنهـم مـن أجـل تعـاليهـم عـن الشعب وإفرازهم لأنفسهم كطبقة متميزة بمعرفتهم، وافتخارهم بمعرفتهم واحتقارهم لبقية الشعب وخاصة العشارين والخطاة، جاء المسيح ليرد لهؤلاء حقوقهم عند الله التي سلبها منهم الكتبة والفريسيون. لهذا أحبيه هؤلاء الخطاة واللصوص والزناة والمستضعفون والتفوا حوله، ساروا معه وجروا وراءه أينما ذهـب ووجدوا عنده في قلبه وفي بيته وعلـى مائدتـه مكـانـاً يـسـعهم، وصـارت لهــم دالـة عليــه يتحـدثون معه ويسمعون إليه، وفهموا رسالته وقرأوا إنجيله قبل أن يقرأه هؤلاء الكتبة والفريسيون، وآمنوا به وأحبوه وتابوا على يديه ونذروا حياتهم له. لذلك خاطب المسيح هؤلاء المتعظمين بعلمهم ومعرفتهم، الذين ظنوا أنهم أقرب إلى الله من الخطاة، وأنهم أحق بملكوت الله من كل الشعب، وقال لهم: «الحق أقول لكم إن العشارين والزواني يسبقونكم إلى ملكوت الله، لأن يوحنا جاءكم في طريق الحق فلم تؤمنوا به، وأما العشارون والزواني فآمنوا به» (مت 21: 31و32). وزاد أيضاً على ذلك وقال: «أقول لكم: إن ملكوت الله ينزع منكم ويعطى لأمة تعمل أثماره … ولما سمع رؤساء الكهنة والفريسيون أمثاله، عرفوا أنه يتكلم عليهم.» (مت 21: 43و45)

17:2 «فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة».

نظرة المسيح للخطاة والعشارين واللصوص والزواني لم تكن أكثر من أنهم مرضى، ونظرته إلى نفسه كانت أنه هو الطبيب وحـده الذي يعرف أصـل المرض وعلـة سـقـم النفـوس وعلاجها وشفاءها. هذه نظرة الله للمجتمع أي للناس والشعب. كانت نظرة الله للشعب في البرية (في العهد القديم) كمشرع يضـع لهـم القـوانين ويسـن لهـم نـواميس الأخلاق، أميا نظرة الله لنفسه في العهد الجديد بالنسبة للعالم فهو الطبيب والمخلص. في القديم كان يمسك العصى ويؤدب، وفي الجديد يحمل المشرط ليقطع أصول الداء كما يحمل كأس الدواء ووسائل نقل الدم. فالله الذي سن القانون وحمل عصى التأديب هو هو الذي أتى بالضمادة وحنان الطبيب. أما الكتبة والفريسيون فظنوا أن بالقانون والعصى يحيا الإنسان، أما الضعيف والمريض والخاطئ والزاني فليس له إلا القبر، ولم يدروا أنهم بقانونهم حكموا على أنفسهم، والعصى التي في أيديهم سقطت على أعناقهم «ويل لكـم أيها الكتبة والفريسيون»

+ «ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السموات قدام الناس (بقوانينكم) فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون .» (مت 13:23)

«لم آت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة»:

قالها المسيح للكتبة والفريسيين الذين اعتبروا أنفسهم أنهم أكملوا الناموس وبذلك صاروا أبراراً بالناموس. يقول المسيح: إنه لم يأت لمثل هؤلاء الأبرار أي الكتبة والفريسيين؛ ولكن جاء للذين احتسبوا لدى الكتبة والفريسيين أنهم خطاة وأنجاس لأنهم لم يحفظوا الناموس ولا عملوا به. وقول المسيح واضـح أن التوبة لا تصـح للبـار: سـواء الصـادق فهـو تائـب بالضرورة، ولا تصـح للبار عند نفسه لأنه لا يؤمن بأنه خاطئ ليتوب. أمّها الذي لا يحتسب نفسه باراً لا بالصدق ولا بالكذب فهو الذي يحتسب نفسه أنه خاطئ بالفعل ومستحق الرحمة، وهؤلاء لما سمعوا المسيح يقول ويعلم بالتوبة طلبوها فنالوها.

هنا يقدم لنا مرقس الرسول إنجيله على أساس أنه للخطاة عند أنفسهم الطالبين التوبة، وأن هؤلاء هم الذين استمعوا للأخبار السارة وآمنوا بها وقبلوها وتابوا ونالوا إكليل الحياة الأبدية.

وقبول المسيح للمرأة الخاطئة وغفران خطاياها الكثيرة هو أحد التطبيقات العملية لمنهج المسيح في دعوة الخطاة، كذلك دعوة متى العشار (لو 7: 36-50) ودعـوة زكا العشار (لو 19: 1 10). ولقد وافق المسيح على ما قيل عنه لأنه كان كذلك بالفعل «صديق للعشارين والخطاة »(لو 34:7)، (مت 19:11).

والمسيح قالها جهاراً نهاراً: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم» (مت 28:11). ومن يكون المتعب وثقيل الحمل أكثر من الخاطئ الذي أعيته الحيل للتوبة واحتاج إلى طبيب؟ وأيضاً: «ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلّص ما قد هلك.» (لو 10:19)

فاصل

14 – سؤال المسيح: لماذا لا يصوم تلاميذه؟ 18:2-22

(مـت 9: 14-17
لـو 5: 33 – 39

[مصادمات مع الكتبة والفريسيين: 
ج ـ لماذا لا يصوم تلاميذ المسيح؟] 

20-18:2 «وكان تلاميذ يوحنّا والفريسيين يصومون، فجاءوا وقالوا له: لماذا يصوم تلاميذ يوحنا والفريسيين، وأما تلاميذك فلا يصومون؟ فقال لهم يسوع: هل يستطيع بنو العرس أن يصوموا والعريس معهم؟ ما دام العريس معهم لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن ستأتي أيام حين يرفع العريس عنهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام».

كان هناك صوم جار عرفي عند اليهود هـو يـومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. ويبدو أن هذا كان مطلوباً من التلاميذ الذين يتتلمذون على أيدي الربيين، وقد أخـذ بـه المعمدان وبقية زعماء الفريسيين. وقد اتخذ هذا الأمر الذين يترصدون للمسيح للمساءلة. وقد أورد ق. مرقس في إنجيله هذه الرواية ليكمل بها موضوع المصادمات مع ا الكتبة والفريسيين: «أما الفريسي فوقف يصلي هكذا: أصوم مرتين في الأسبوع وأعشر كل ما أقتنيه …» (لو 12:18). علماً بأن الكنيسة وقت كتابة هذا الإنجيل كانت قد استقرت على الصوم يومي الأربعاء والجمعة بحسب الديداخي (1:8)، والأربعاء هو اليوم الذي تمت فيه المشورة لصلب الرب والجمعة تم الصلب، وكأن صوم الكنيسة في هذين اليومين هو للمشاركة في آلام الرب «إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه» (رو 17:8). ولكن هذه الآية تشير إلى آلام الاضطهادات وليس آلام الصـوم. فالصوم المسيحي جزء لا يتجزأ مـن فـرح الملكوت ، ووصية المسيح للصوم هي أن نغسل الوجه وندهن الرأس حتى لا نبدو صائمين (مت 17:6).

والصوم عموماً في العهد القديم سواء بحسب الناموس أو كما وضعه الربيون في زمن العهد الجديد هو الرقعة الغريبة التي إذا أُدخلت في نسيج ثوب النعمة تمزقه، لأن صوم العهد القديم بكل صوره حركة حزن تليق بغياب الله عن الإنسان. أما نحن في العهد الجديد فقد صرنا متحدين بيسوع المسيح ابن الله، وقد صارت لنا شركة مع الآب والابن كتحقيق القديس يوحنا في رسالته الأولى: «أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 3:1)، فكيف نحزن ونحن نعيد كل يوم لعيد الأبدية «افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً افرحوا» (في 4:4). ولكن إن صمنا الأربعين المقدسة فنحن نشارك المسيح في صومه الانقطاعي الذي بدأ به عهد النعمة، وإن ضمنا الجمعة فنحن نعيد لصليب المجد، وإن تألم الجسد منا وتعب فالروح تحلل، فأصوامنا بهجة للروح. ولما رفع العريس رفعنا معه فكيف نحزن والمسيح فينا والروح داخلنا. أصـوامنا صارت ذبائح شكر وتسبيح واعتراف لفضل الله وشركة مع المسيح، والصـوم الـوحيـد الذي صامته الكنيسة مجتمعة رسمياً بعدما رفع العريس عنهم يوم الأربعين حسب قول الرب ـ هو صوم العشرة أيام وهم في الغلية يصلون بانتظار عودة العريس الذي أرسل الروح القدس ليعد ويرتب سكناً له في قلوب أولاده إلى الأبد.

أما الأصوام الفردية فهي مفتوحة بلا حدود لكل إنسان، فالقديس بولس كان يصوم أصواماً كثيرة، والمسيح استحسن الصـوم حينما نكون في مواجهة الشيطان العنيد: «أما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم .» (مت 21:17)

21:2و22 «ليس أحد يخيط رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق، وإلا فالملء الجديد يأخذ من العتيق فيصير الخرق أرداً. وليس أحد يجعل خمراً جديدة في زقاق عتيقة، لئلا تشق الخمر الجديدة الزقاق، فالخمر تنصب والزقاق تتلف. بل يجعلون خمراً جديدة في زقاق جديدة».

يحمل مفهوم المثل كما قاله المسيح أن الخمر الجديدة قد مزقت الزق القديم فلم يعد يصلح لها، والرقعة الجديدة التي ظهرت في نسيج تعليم الله أتلفت الثوب القديم بأكلمه، فلم يعد يصلح للترقيع وإلا يصير إلى أردأ.

هنا اعتبر المسيح مبدأ الصـوم تعبيراً عن الحزن لا يتناسب أن يندس في تعليم العهد الجديد القائم على الفرح بالأخبار السارة أي الإنجيل. والقصد النهائي أنه لا يمكن الجمع بين القديم والجديد في وحدة واحدة، القديم بقدمه يبقى كما هو قديماً ليترك جانباً ويأتي الجديد بجدته وحده دون الخلط بين القديم وبينه .

ويعلق العالم راولنسن على هذا المثل بأنه ساطع وذو تأثير نفسي لأنه من واقع الحياة المنزلية. وفي الحقيقة يتسحب هذا المثل على كل وصايا وتعاليم الناموس القديم فيما لا يخص المسيا بالذات، فقد كانت كوعاء يدّخر في داخله الكنز أي ‘‘المسيا”، فلما جاء الزمن واستُعلن الكنز لم يعد للصندوق أو الوعاء أو اللفافة التي كان الكنز مخفى فيها قيمتها الأولى؛ بل واستخدامها يتلف الكنز نفسه : بمعنى ستخفيه، فلابد من التخلص الأغلفة التي كانت تحوي سر المسيا من تطهيرات وأصـوام وذبائح وعادات بجميع أصنافها. فالكنز (المسيا) لم يعد يوضع في لفائف أو صناديق لأن مكانه الجديد هو القلب وليس خارجه بأي حال من الأحوال «الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات» (مت 35:12)، كذلك: «لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً» (مت 21:6). وهـذا هـو الكنز الـوحـيـد والـفـريـد الـذي بعنـا كـل شـيء واشتريناه، ولكي لا يسرقه اللصـوص خبأناه في قلبنا.

فاصل

15- السبت وأكل السنابل 23:2-28

(مت 12: 1-8)،
(لو 6: 1 ـ 5)

[مصادمات مع الكتبة والفريسيين:
د ـ لا يحل لكم]

28-23:2 «واجتاز في السبت بين الزروع، فابتدأ تلاميذه يقطفون السنابل وهم سائرون. فقال له الفريسيون: انظر. لماذا يفعلون في السبت ما لا يحل؟ فقال لهم: أما قرأتم قط ما فعله داود حين احتاج وجاع هو والذين معه، كيف دخل بيت الله في أيام أبيأثار رئيس الكهنة، وأكل خبز التقدمة الذي لا يحل أكله إلا للكهنة، وأعطى الذين كانوا معه أيضاً؟ ثم قال لهم: السبت إنما جعل لأجل الإنسان، لا الإنسان لأجل السبت. إذاً ابن الإنسان هو رب السبت أيضاً».

لقد ركز الفريسيون انتقادهم للمسيح على بندين: الأول أن التلاميذ كسروا قانون عدم العمل في يوم السبت، والثاني وهو مترتب على الأول أنهم استهتروا بقيمة السبت .

أما بالنسبة لقانون العمل في السبت فقد وضع الربيون الكبار في المشناه تصنيفاً للأعمال الممنوعة، وعددها 39 عملاً، ومن بينها حصاد القمح في البند الثالث، وهنا اعتبر الفريسيون عمل التلاميذ كونهم يقطفون السنابل بمثابة عملية حصاد. وطبعاً لم يقبل المسيح أصلاً تأويلات الفريسيين ـ ولا المشناه لأنها ليست ملزمة ـ التي وضعوها من عندهم بخصوص هذه العمليات. وأعطى الدليل على عدم أهمية هذا العمل وكأنه كسر للقوانين الموضوعة بما صنعه داود النبي لمها جاع ودخل بيت الله وأكــل الخبـز المقـدس الموضـوع أمــام وجـه الله (خبـز الوجوه). والمعـنى أن الوصــايا الخاصة بتقديس الأشياء والأماكن والزمان فالإنسان في حل من كسرها عند الحاجة، لأن عبرة الوصايا جميعاً بكل درجاتها حتى المهمة منها هي أصلاً جعلت لصالح ومنفعة الإنسان، حتى السبت نفسه جعل أصلاً لراحة الإنسان، والوصية أعطيت أجله ليلتزم الإنسان بإراحة نفسه من العمل. ولكن لو كان العمل أثناء السبت هو لراحة الجائع والتعبان فيحل كسره. وهنا وضع المسيح القانون الذي يضبط كافة الوصايا وهو أن الوصية جعلت للإنسان وليس الإنسان جُعل للوصية. 

ولم يترك المسيح مهاجمة الفريسيين دون أن يشير إلى نفسه من هو: «وابن الإنسان هو رب السبت أيضاً» بمعنى إن كـان كـل الكلام الذي قاله يصلح للرد عن التلاميذ، أما الـرد عن نفسه فهو رب السبت، بمعنى إن كان السبت قد وضع للإنسان أي للتلاميذ، فابن الإنسان يكون هو خالق السبت والزمان.

وعلى القارئ اللبيب أن ينتبه إلى تلميحات المسيح كون داود ومن معه حينما دخلوا بيت الله السبت أنهم أكلوا خبز الوجوه، حيث خبز الوجوه لم يكن إلا رمزاً للخبز الحي النازل . عودة إلى سنابل الحنطة، فالحنطة أيضاً ، الخبز وهي إشارة دائمة إلى خبز الحياة. هنا أصبح أكـل التلاميذ لسنابل القمح هو رمز مبكر لأكل خبز الحياة النازل من السماء، والسبت لم يكن في القديم إلا يوم الرب أي يوم المسيح. إذن، أصبح نسيج هذه القصة كله رؤيوي بالدرجة الأولى ومن صميم التعبير عن لاهوت المسيح وعلاقة الإنسان بالله. إذن، نحن في إنجيل ق. مرقس وفي هذه القصة أمام من السماء. ثم هي يسوع المسيح ابن الله.

وواضح أن ق. مرقس قدم لنا هذه القصة ليعلن بها للكنيسة موقف المسيح من السبت وهو موقف قاطع يتسحب على كل الوصايا التي على مستوى تقديس الزمن كالسبت .

كذلك وبالدرجة الأولى تأكيد المسيح على تحليل أكل خبز الوجوه الذي لا يأكله إلا الكهنة’’ كيف أكله الرجال الذين مع داود تلميحاً على أكل التلاميذ لسنابل القمح في مفهومها الاسخاتولوجي (المستقبلي)، الـذي سيسـتعلن بخبـز الحيـاة “الخبـز المقـدّس”، الـذي يتضـمن أن الله لم يدن داود على أكله خبز الوجوه الذي لا يحل أكله إلا للكهنة. وهـذا مـا أكـد عليه المسيح الذي يكشف أن تدقيقات الكتبة والفريسيين في شرح الوصايا لا تقف دائماً مع فكر الله في الأسفار. ومرات كثيرة ركز المسيح على جهالة وضيق فكر الكتبة والفريسيين في شرح الوصايا.

 
ملاحظة:
 
على القارئ أن ينظر ما يحدث في هذه الأيام بالنسبة لليهود كتبة وفريسيين وكهنة وحاخامات كيف امتهنوا السبت ووصايا السبت، وهذا وحده يعطي هذا التعليم الوزن العالي جدا كونها أنها وصـايا استهلكها الزمن حيث صرّح ق. بطرس بكل علانية:
 
+ «فالآن لماذا تجربون الله بوضع نير (الوصايا السلوكية) على عنق التلاميذ الذين آمنوا بالمسيح من الأمم) لم يستطع آباؤنا، ولا نحن أن نحمله.» (أع 10:15)

 

زر الذهاب إلى الأعلى