تفسير إنجيل مرقس الأصحاح 3 للأب متى المسكين

16- السبت وشفاء اليد اليابسة داخل المجمع [3: 1-6]

(متى12: 9-14)
(لو 6: 6 ـ 11)

[مصادمات مع الكتبة والفريس:
هـ ـ لا يحل لك]

1:3و2 «ثم دخل أيضاً إلى المجمع، وكان هناك رجل يده يابسة. فصاروا يراقبونه: هل يشفيه في السبت؟ لكي يشتكوا عليه».

هذه هي القصة الخامسة التي يرتبها ق. مرقس في إنجيله تباعاً، وتجمع معاً أنواع الصدام مع الكتبة والفريسيين. وهـي هنـا تنتهي بأنهم بلغـوا الـذروة في الهياج حتى وضعوا خطة مع جماعة الهيرودسيين ‘‘لإهلاك’’ يسوع. وتمتاز هذه القصة بأن المسيح هو الذي يبادرهم بالسؤال والتحدي ويفحمهم بعمل المعجزة وفي يوم السبت، واضعاً هنا مبدأ جديداً يختص بالسبت وهو عمل الخير وتخليص النفس.

والمجمع المذكور هنا هو مجمع كفرناحوم، لأنها كانت موضوع الحديث في الأصحاح السالف مباشرة (7-1). وكان رؤساء المجامع يضحون من عادة المسيح الذي كان يلاحقه المرضى في يوم السبت، فيضطر أن يشفيهم رغماً عن العرف اليهودي الجاري. وقد صرح بهذا أحد رؤساء المجامع صارخاً في الشعب والمرضى الذين تزاحموا حوله في المجمع يوم السبت :

+ «فأجاب رئيس المجمع، وهو مغتاظ لأن يسوع أبرأ في السبت وقال للجمع: هي ستة أيام ينبغي فيها العمل، ففي هذه ائتوا واستشفوا، وليس في يوم السبت. فأجابه الرب وقال: يا مرائي، ألا يـحـل كـل واحـد منكم في السبت ثوره أو حمـاره مـن المـذود ويمضي به ويسقيه؟» (لو 13: 15,14)

«فصاروا يراقبونه هل يشفيه في السبت»:

«يراقبونه»: 

الكلمة اليونانية تفيد التربص والملاحظة الدقيقة مع تحفز لضبطية بالنسبة لعدو. وقد أوردهـا ق . مرقس هنا ليوضح حال الكتبة والفريسيين المعتادة تجاه المسيح، الأمر الذي تماماً . حرمهم مـن الفـهـم الصحيح التلقائي لأعمال المسيح. كان هذا داخل المجمع، وقد جلسوا متربصين وهم على يقين أن المسيح لابد  سيجري عمل الشفاء، مما يعطينا نحـن إحساساً بقدرة المسيح على الشفاء بصورة دائمة وتلقائية.

 والعجيب أن التربص بالمسيح كان على أساس جمع الأدلة لتقديم التهم التي تصلح للشكوى ضده. والعقدة المستعصية التي أصابت نفوس الكتبة والفريسيين بالعمى من جهة رؤية أعمال المسيح التي تنطق بيد الله هي الناموس والسبت، كما قال بولس الرسول عن خبرة شخصية: «فوجدت الوصية التي للحياة نفسها للموت» (رو 10:7). فالسبت ـ وهو الوصية التي جعلت للإنسان للحياة السعيدة والراحة من العمل – صار هو العائق الخطير في عقول الكتبة والفريسيين: كيف يعمل فيه المسيح للخير ويشفي المرضى. إذن، بذلك يكون قد كسر الناموس، إذن، هو ليس من الله، إذن، ينبغي أن يقتل.

3:3 «فقال للرجل الذي له اليد اليابسة: قم في الوسط!».

علم المسيح ما يدور في صدور الكتبة والفريسيين فقبل التحدي، والذي نووا عليه بالصمت أخرجه علانية. فدعا الرجل ذا الذراع اليابسة (المشلولة) أن يقوم ويقف في وسط المجمع لكي يكون ظاهراً أمام الجميع بيده المدلاة المشلولة. منظر يكسر القلوب الرحيمة ويستدر الدمع من العيون الوديعة، فما ألعن الشلل وما يعمله في صحة الإنسان ليحوله إلى عاطل حزين كئيب لا حول له ولا قوة، له حياة وهو فاقد نضارتها، وكل هذا لا يحرك قلب هؤلاء الكتبة والفريسيين، إنهم يوافقون على أن يبقى هذا الإنسان مشلولاً ويموت بشلله ولا يكسر السبت. هنا المسيح دخل ليكسر هذا الجحود الديني ويقلب موازين الرياء والتدين الفاسد والمفسد.

4:3 «ثم قال لهم: هل يحل في السبت فعل الخير أو فعل الشر؟ تخليص نفس أو قتل؟ فسكتوا».

الجميل في اللغة اليونانية أن عبارة فعل الخير وعبارة فعل الشر تأتي ككلمة واحدة لكل منهما:

فعل الخير = gaqopoiAsai¢، فعل الشر = kakopoisai.

تخليص نفس = yucan sisai ولكن القتل ليس قتل نفس بل مجرد قتل poktenai حيث خلاص النفس تفيد أيضاً الخلاص من المرض أو المحن. ولكـن أقـوى معنى لها هو خلاص من الدينونة المزمعة .

لا يتكلم المسيح هنـا عـن حالة هذا المريض فقط، لأنه يمكن أن يرضي الكتبة والفريسيين بأن يؤجل عمل الشفاء للغد. ولكن المسيح هنا يطرح مبدأ شاملاً في الحال الواقع: هل يمكن عمل الخير في السبوت عامة أم لا؟ هل يمكن تخليص النفوس في السبوت أم لا؟ أما الرد فيقوله المسيح ليكون قانون الخير والسبت والحياة. فالسبت والناموس بأجمعه يستحيل أن يعارض ويقاوم خلاص النفس.

هنا المسيح أوقع الكتبة والفريسيين في حيرة من أنفسهم وواجههم بعمى قلوبهم وتعصبهم الأعمى ضد الخير والحق والصلاح والحياة.

وبهذا أنقذ المسيح الناموس والسبت وكل الوصايا من تحت وصاية الكتبة والفريسيين ليعطيها معناها الجديد لخدمة خلاص النفس. وهكذا سيوظف المسيح الناموس كله بكل وصاياه لخدمة خلاص النفس؛ بل وسيقدم نفسه وحياته فدية لخلاص نفس الإنسان. وهكذا يطوع المسيح عظمة السبت وكرامته لخلاص نفس الإنسان.

5:3 «فنظر حوله إليهم بغضب، حزيناً على غلاظة قلوبهم، وقال للرجل: مد يدك. فمدها، فعادت يده صحيحة كالأخرى».

«بغضب»:

لم يذكرها كل من إنجيل ق. متى وق. لوقا تحاشياً من ذكر هذا الشعور بالنسبة للمسيح؛ ولكن ق . مرقس ركز عليها ولم يستكثر أو يستصغر على المسيح أن ينظر بغضب. أليس هو الرب والحمل، ومن يطيـق غضبه؟ فغضب الحمل سيكلفه دمه على الصليب، والمسيح لا يغضب لنفسه ولا هـو متأثر بداخله؛ ولكن غضبه على الخطاة والمعاندين الذين لو سمعوا وأطاعوا ما كلّفوه عناء الجلجثة ولخلصوا هـم وربحوا الحياة. فالمسيح غضب غضب الله نفسه «لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم.» (رو 18:1)

«حزيناً على غلاظة قلوبهم»: 

هنـا حـزن المسيح يعبر عنه بالكلمة اليونانية ما يفيد بالإنجليزية utterly distressed وترجمتها متضايق ومكروب للغاية أو مغتم للغاية. وحزن المسيح حزنان، حزن على المرضى الذين لا يقابلون قلوباً رحيمة من رجال الدين، وحزن على رجال الدين الذين فقدوا الرحمة في سبيل ممارسات طقسية لا تشفي ولا تغني عن موت. هنا حزن المسيح بهذا القدر وعلى هذا المستوى يشرح لنا غضبه، فغضبه ارتد على نفسه حزناً من أجل وعي الإنسان الذي أفسده عدم فهـم مقاصد الله . ناموسه. وهكذا انسدت قلوبهم عن قبول التعليم والعمل الذي لخلاصهم. 

«غلاظة قلوبهم»:

الكلمة تفيد عدم الحساسية وعمى القلب حسب كثرة العلماء المتخصصين في اللغة.

فلما مدّ الرجل يده وعادت صحيحة، شرح المسيح عملياً ما هو عمل الخير في السبت وما هو خلاص النفس. وبهذا أعلن عن فكر الله كيف نكرم سبت الله بإدخال الفرح والحياة في قلوب الناس. كما أثبت أنه أحكم وأحق من الناموس وأقوى وأقدر !!

6:3 «فخرج الفريسيون للوقت مع الهيرودسيين وتشاوروا عليه لكي يهلكوه».

«فخرج الفريسيون للوقت»:

لقد امتلأ الفريسيون سخطأ وهياجاً لأن تحدي المسيح لهم أوقعهم في ضيق ومأزق إذ انتهت هيبتهم بين الشعب. ويقول ق. مرقس إنهم خرجوا للوقت equj أي في الحال، أي لم يتركوا فرصة للانتظار، فقد صمّموا على الخطة التي ملأت ذهنهم، فلابد من هلاكه، وبخروجهم اتصلوا بالهيرودسيين ليدبروا الخطة.

«الهيرودسيون»:

لم يكن الهيرودسيون شيعة ولا نظاماً خاصاً، ولكـنـهـم أتباع هيرودس أنتيبـاس. ولم يكـن بـين الهيرودسيين والفريسيين صـداقة، ولكن جمعهما الحقد على المسيح. فالعداوة تجمع القلوب الساخطة لعمل الشر والنقمة. وكانوا ذا مركز مرموق بسبب عميدهم، ولكن كانت خطورتهم وقوتهم الغاشمة راجعة إلى صلتهم بالرومان واعتمادهم على سلطان روما.

«وتشاوروا عليه لكي يهلكوه»:

الكلمة اليونانية تفيد اتحدت إرادتهم، وهي تفيد أكثر من المشاورة؛ بل هي مشاورة انتهت إلى إرادة واحدة. وهكذا تكثفت السحب القائمة فوق مسيرة المسيح في الخدمة. والقديس مرقس يقدم هذه القصة داخل مجمع كفرناحوم كآخر أعمال المسيح في الجليل، بعد أربعة مواقف أخرى مماثلة في تصـ الفريس جهــة النــــــاموس الشــــــــفاهي ويتركـز في مراعــاة السبت. والخطأ الشنيع الذي وقع فيه الكتبة والفريسيون أنهم ظنـوه كأحد الكتبة وصاحب آراء حرة في المبادئ والقوانين الثابتة والتقليدية الدهرية عندهم. وبذلك اعتبروه مركز تهديد مباشر وخطير للعقيدة والتقليد والديانة اليهودية بأكملها، مع أن المسيح كان يعترف بالناموس اعترافاً عملياً وقوياً، غير أنه كان يوضح بتعاليمه مشيئة الله الأساسية في الناموس ويستعرض عملياً المعنى الحقيقي للناموس مؤيداً تعاليمه الإلهية بالمعجزة الباهرة حتى يصدق الفريسيون تفسيره المنحاز للحق والمعرفة الإلهية الصحيحة للناموس. ولكن لما لم يخضع المسيح للتخريجات التي بناهـا الكتبـة والفريسيون خصوصاً بالنسبة للسبت، التي كادت تشل معرفة الناس لقصـد الله الحقيقي من السبت، اعتبروا أنه قد كسر الناموس نفسه وألغى التقاليد الموروثة وعارض السلطة الروحية بسلطة من عنده تقف ضدها وفي مواجهتها.

وهكذا تولد الصدام كحقيقة يومية، فلمّا صمّم الفريسيون بالاستعانة بالهيرودسيين لإهلاكه كان الهدف الأساسي التخلص من التهديد الذي يواجه الناموس والتقليد والسلطان الديني معاً.

وهكذا انتهت خدمة المسيح في الجليل بهذه الصورة الحزينة والكئيبة، لذلك أعطى المسيح الويل لكفرناحوم قائلاً إنها بقدر ارتفاعها (مبنية على ربوة) فستهبط إلى الجحيم، كذلك أيضاً بقية مدن الجليل التي عمل فيها معجزاته وتعاليمه ككورزين وبيت صيدا.

هكذا وضح أن رفض كرازة المسيح وإن كانت قد شكلت صورة الصليب لكنها جلبت عليهم الهلاك. رفضوا الحياة من يد رئيس الحياة، فاكتسبوا اللعنة والموت، وعاشوا القلق والحيرة تائهين على وجه كل الأرض. لقد حزن المسيح على غلاظة قلوبهم لأنه رأى الثمن على رؤوسهم، ودفع حياته على الجلجثة ثمناً لحماقتهم وجنونهم.

وهكذا ترك المسيح مجمع كفرناحوم على أن لا يعود إليه مرة أخرى.

فاصل

17- الازدحام الهائل من الجليل واليهودية وأورشليم وأدومية وعبر الأردن وحول صور وصيدا [3: 7-12]

يهمنا هنا أن نوضح الفاصل بين (1:1-6:3)، وما يأتي بعده (7:3-13:6).

أما الجزء الأول من الإنجيـل وهـو (1:1-6:3) فهو امتداد (14:1و15) الذي يقول فيه: “وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله…”

أما الجزء الثاني مباشرة من الإنجيل وهو (7:3-13:6) بما فيه من اختيار الاثني عشر فهو امتداد (20-16:1) الذي يقول فيه: «وفيما هو يمشي عند بحر الجليل أبصر سمعان وأندراوس أخاه … إلخ» وبهذا يتضح أمامنا المنهج التنسيقي في ذهـن ق . مرقس عنـد كتابة إنجيله، فهـو كأنه وضع في الأصحاح الأول فهرساً توضيحياً لما سيجئ حتى أصحاح (13:6).

وهنا في (7:3-12) يبدأ ق . مرقس يجمع مختصراً بلغته، فيبدو أسلوبه هنا مميزاً عن كل المرات التي جمع فيها بعض الحوادث والأخبار مثل (14:1 و15)، (1:2 و2)، (1:4 و2)، (24:7و31 إلخ) فيأتي هنا التجميع مطولاً وبدون وصلات. وهنا يذكر ق . مرقس أن سبب انطلاق المسيح من مدينة كفرناحوم إلى البحيرة هو كثرة الازدحام بسبب كثرة المعجزات التي بهرت الشعب وجعلته يلتف حوله ويجري وراءه ويزحمه، أما ق. متى في هذا الموضع فيذكر أن السبب تربص الفريسيين به (مت 15:12). على أن ق. مرقس يذكر هذا الزحام الشديد كمقدمة لبدء تعليمه الذي ابتدأه في (1:4.. إلخ) على شاطئ البحيرة.

وفي هذا المختصر يركز ق . مرقس على قوة المسيح وسلطانه على الشياطين المذكور في (11:3 إلخ)، وهو التطبيق العملي على قوله في القصة بالنسبة للشيطان (27:3): «لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً وحينئذ ينهب بيته (الذي فيه الشياطين)» مما يعطي للقارئ لمحة عن حبك ق. مرقس وربطه بين الأقوال والأفعال في حياة المسيح.

كذلك يلاحظ القارئ كيف يذكر ق. مرقس في هذا المختصر بخصوص طلب المسيح من التلاميذ أن يعدوا له مركباً (سفينة) لكي تلازمه بسبب الزحام. ثم هناك في أول الأصحاح الرابع يقول: «وابتدأ أيضاً يعلم عند البحر فاجتمع إليه جمع كثير حتى إنه دخل السفينة … إلخ» (1:4) ومن هذا التطابق يظهر بوضوح كيف يسبق ويرتّب هذا القديس إنجيله بدقة قبل أن يدونه.

ولكن من المؤكد أن ق. مرقس جمع هذا كله من شهود العيان الأوائل جداً، ولم يدخل فيها أبدأ شيئاً من تصوره الخاص، مما يعطينا احتراماً شديداً لهذا الكاتب الإنجيلي الأمين والدقيق.

7:3و8 «فانصرف يسوع مع تلاميذه إلى البحر، وتبعه جمع كثير من الجليل ومن اليهودية ومن أورشليم ومن أدومية ومن عبر الأردن. والذين حول صور وصيداء، جمع كثير، إذ سمعوا كم صنع أتوا إليه».

«فانصرف يسوع مع تلاميذه»:

كلمة انصرف لا تفي بإعطاء الصورة التي قصدها ق. مرقس من هذه الكلمة باليونانية، لأنها كلمة لغوية يندر استخدامها إلا في حالات الخطر، فهي تعني ‘‘انسحب”، لأن الفريسيين والهيرودسيين بدأوا يخططون لقتله، فترك المسيح كفرناحوم هو وتلاميذه والتجأ إلى البحيرة ليتقي مؤامراتهم. وهذا يوضحه ق. متى في إنجيله بقوله: «فعلم يسوع وانصرف من هناك» (مت 15:12).

وذكر ق. مرقس لأنواع هذه المجموعات التي تبعته من كل البلاد يوضح القصد، وهو الكشف عن اتساع خدمة المسيح في كل هذه النواحي وانتشار الكرازة والأخبار السارة في كافة أرجاء البلاد: «إذ سمعوا كم صنع أتوا إليه» وهنا يذكر ق. مرقس اليهودية وأورشليم لأول مرة، كذلك إلى أقصى الجنوب : أدومية التي كان سكانها من اليهود منذ يوحنا هركانوس، ومن مناطق بيريه التي هي عبر الأردن، كذلك في أقصى الشمال الغربي للبلاد حول صور وصيدون وهي المتاخمة لأعلى الجليل. ولم تذكر هنا السامرة والمدن العشر التي ذكرت فيما بعد في (20:5). 

وواضح أن هذا الجمع الغفير قد جذبته أخبار معجزات المسيح وخاصة الأعمال المقتدرة فجاءوا من قريـب ومـن بعيد. أعظم دعاية للمسيح والمسيحية والإنجيل: الوصول إلى قلب الفقير وجسمه وعقله بالعمل والحب .

9:3و10 «فقال لتلاميذه أن تلازمة سفينة صغيرة لسبب الجمع، كي لا يزحموه، لأنه كان قد شفی کثیرین، حتى وقع عليه ليلمسه كل من فيه داء».

منظر شديد الأثر في الوعي وفي القلب قد حفظه لنا ق. مرقس حيا وكأنه يمر الآن أمام مخيلتنا، إذ لم تكن الرغبة في الشفاء فقط بل كانت القوة الخارجة منه لشفاء السقماء ذات جذب شديد للقلوب أيضاً. فقد تعدت معجزات الشفاء التي كان يعملها بنفسه للمرضى بأن ينتهر المرض أو الحمى أو الشياطين، فصارت مجرد أن يرمي الإنسان نفسه عليه ليلمسه يشفى «فللوقت التفت يسوع بين الجمع شاعراً في نفسه بالقوة التي خرجت منه وقال: من لمس ثيابي؟» (مر 30:5). كان يحيط بالمسيح مجال قوة إلهية كل من دخلها تعاملت مع مرضه وتعبه وهمه وآلامه، فشفته وأفرحته وأعطته قوة تبقى معه. لذلك فكل من شفي جرى وراءه، وكان عامل الإيمان به في قلوبهم والرجاء والحب العامل في أنفسهم هو الدافع الذي جعلهم يتدافعون نحوه، لأنه يقيناً إن أي إنسان لم يكن يؤمن به في قلبه ما كان يمكن أن يشفى. فقوة المسيح لا تتعامل أبداً إلا مع الإيمان والحب .

وبسبب هذا التزاحم الشديد لجأ المسيح إلى مركب صغير يجري بجوار الشاطئ حتى يستطيع أن يتعامل مع المرضى بالكلمة دون أن يزحموه .

11:3و12 «والأرواح النجسة حينما نظرته خرت له وصرخت قائلة: إنك أنت ابن الله! وأوصالهم كثيراً أن لا يظهروه».

تحيّر الشيطان على الإنسان بقوته الفائقة عن ما للبشر. فكانت الأرواح النجسة إذا دخلت إنساناً تسوقه، كما يسوق الإنسان البهيمة، ليسير إلى ما لا يريد أن يذهب ويعمل ما لا يريد أن يعمل ويقول بغير ما يشاء أن يقول، يضحك ويبكي بغير هواه لأنها ذات طبيعة متسلطة أقوى من طبيعة الإنسان . فالروح النجس إذا دخل إنساناً يمتلك كل ملكاته، لذلك يقال عن الذي به روح نحس إنه مسكون، وهي باللغة الإنجليزية Possessed أي مملوك، فهـو محسوب ضـمن مال وحوزة” الشيطان. وهذا نسمعه من قول المسيح في تعريفه لعمل الشيطان وكيفية ربطه ونصرة المسيح عليه كما سيجيء في الآية (27) من هذا الأصحاح: «لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً وحينئذ ينهب بيته» (مر 27:3). هنا الشيطان معبر عنه ب‘‘القوي’’ ولكن المسيح هو الأقوى «حينما يحفظ القوي (الشيطان) داره متسلحاً تكون أمواله في أمان، ولكن متى جاء من هو أقوى منه (المسيح) فإنه يغلبـه وينـزع سلاحه الكامل الذي اتكـل عليـه ويوزع غنائمه (الإنسان الذي اغتنمه» (لو21:11) سبى ســـــبـياً وأعطــى النــــاس عطايـــــــاه (أف 8:4).  

ولكن جاء الأقوى الذي يستطيع أن يربطه ويخرجه مرغماً صارخاً منهزماً ويسوقه حيث لا يشاء، إلى الظلمة والمصير المشئوم. فالأرواح النجسة عندما كانت تنظر إلى المسيح كانت ترتعب وتقع على الأرض وتصرخ معترفة بقوته وسلطانه «أنت ابن الله» الأمر الذي كان يشعر به ق. مرقس وهو يدون هذا الاعتراف الخطير في مبدأ إنجيله: «إنجيل يسوع المسيح ابن الله» وشهادة الأعداء من واقع الحال تحت إرغام واضطرار. ولكن المسيح لم يكن في حاجة إلى شهادة الشياطين، لأن أعماله وأقواله كانت تشهد له، لذلك فكان يتحتّم عليهم أن لا يظهروه لئلا يفسدوا طريقته في الكرازة بأعماله وأقواله، وهكذا أخرسها بسلطانه.

فاصل

18- اختيار الاثني عشر [3: 13-19]

(مت 10: 1-14)،
(لو 6: 12-16)،

لقد كان من التقليد الكنسي المبكر جداً أن يدعى الذين تبعوا المسيح بالاثني عشر، ولم يعط اسم ‘‘الرسل’’ إلا للاثني عشر في الجيل الثاني بعد أن دخلت الكرازة بين الأمم(5). أما بولس فتسمى بالرسول منذ أن ، ، دعي، وهو الذي سمى نفسه بهذا اللقب، فتحت هذه الكلمة دخل بولس الرسول “كرسول” وليس كتابع أو تلميذ. والدليل على لقب ‘‘الاثني عشر ’’ ما جاء على لسان ق. بولس: « وإنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر» (1كو 5:15). فكانوا اثني عشر تلميذاً اختارهم يسوع. وقد اختارهم الرب اثني عشر ليكونوا على مستوى الاثني عشر سبطاً، بمعنى أن يكرزوا لإسرائيل جميعاً: « فقال لهم يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (مت 28:19). وهكذا يمثلون خدمة المسيح نفسه لكل شعبه. ومن جهة أسمائهم التي ذكرها هنا مرقس الرسول فهي في الواقع الأسماء المسيحية التي صارت لهم في الكنيسة، ولكنه ذكرها هنا أثناء اختيارهم، مع أن أسماءهم أثناء الاختيار كانت أرامية صرف .

وإذا جمعنا الأسماء بحسب الأناجيل الثلاثة المتناظرة مع ما جاء مبكراً جداً في سفر الأعمال عنهم (أع 12:1)، نجد أن الأسماء متفقة بالنسبة لأحد عشر منهم، ولكن إنجيل ق. متى ينفرد بإعطاء اسم لاوس Lebbaeus ويقول عنه إنه ملقب تداوس Thaddeus الذي جاء أيضاً في إنجيل ق. مرقس هكذا. ولكن ق. لوقا ليس فيه هذان الاسمان ولكنه يتفق مع الإنجيل الرابع للقديس يوحنا في إعطاء اسم يهوذا لآخر غير الإسخريوطي الخائن (يو 16:6، ثم 22:14)، كما يزيد الإنجيل الرابع بين أحباء يسوع الأخصـاء جـداً اسـم نثنـائيـل Nathanael الـذي كـان صـديقاً لفيلبس Philip (يو 45:1 ثم 2:21)، مع أنه لم يظهر هذا الاسم على الإطلاق في أي من الأناجيل الثلاثة المتناظرة .

15-13:3 «ثم صعد إلى الجبل ودعا الذين أرادهم فذهبوا إليه. وأقام اثني عشر ليكونوا معه، وليرسلهم ليكرزوا، ويكون لهم سلطان على شفاء الأمراض وإخراج الشياطين»

«صعد إلى الجبل»:

ليس في المنطقة جبل إنما مسطح عال نوعاً ما. ولكن ق. مرقس يستوحي التقليد القديم الذي فيه كانت كل العمليات الإلهية الكبرى تتم على الجبال. فالجبل في العهد القديم والجديد أيضاً مكان الإلهام والوحي بالفداء. هكذا يعطينا ق. مرقس في اختيار وتعيين التلاميذ إيحاء إلهياً أنها عملية إلهام وفداء تمت مع الاثني عشر، واستعلان المسيح كمشرع العهد الجديد. والقديس مرقس يستمر في نظرته إلى الجبل نفس النظرة على مدى إنجيله :

+ «وبعدما ودعهم مضى إلى الجبل ليصلي.» (مر 46:6)
+ «وفيما هو جالس على جبل الزيتون تجاه الهيكل.» (مر 3:13)

«وأقام اثني عشر»:

هنا كلمة “أقام باللغة العربية ليست مطابقة للكلمة اليونانية التي تميل أكثر إلى عملية ‘‘الصنع – he made أو he created twelve” وذلك حسب رأي العالم الألماني ج. شنيوند. ويستقرئ هذا العالم من هذا الاصطلاح أن المسيح قام بالفعل بعملية تحديد لرؤوس الاثني عشر سبطأ القدامى، أو تجديد شعب الاثني عشر سبطاً بواسطة هذه الرؤوس الجديدة. وترددت مرة أخرى: «فأجعلكما صيادي الناس» (مت 19:4). أي أجدد لكم مهنة صيد جديدة. 

وواضح من استقراء إنجيل ق. مرقس أن بدء اختيار التلاميذ وتعيينهم للخدمة يفتتح بها المسيح إرساليته الماسيانية وامتدادها في كل الأنحاء المذكورة سابقاً التي خدم فيها: «ودعا الاثني عشر وابتدأ يرسلهم اثنين اثنين، وأعطاهم سلطاناً على الأرواح النجسة، … فخرجوا وصاروا يكرزون أن يتوبوا 6: 12-7). ومع أن ق. مرقس يركز على الاثني عشر هنا، ولكننا من نفس الكلام نستطيع ان نتصور بسهولة عدداً كبيراً آخر كان يتبعه، والذي ألمح إليه بأنه اختار منهم الاثني عشر ليبقوا معه. التلاميذ الآخرون الذين كانوا يأتون إليه ويسيرون معه فإنه لم يذكر منهم أحداً، ولكن هؤلاء الاثني عشر الذين تبعوه منذ الابتداء. والقديس مرقس ركز على الاثني عشر في إنجيله حوالي عشر مرات، علماً بأن كلاً من ق. متى وق. لوقا أخذ بما سجله ق. مرقس، ولكنهما معاً ذكرا الاثني عشر ست مرات فقط وق. يوحنا أربع مرات، ومرة واحدة في سفر الأعمال، وفي رسائل ق. بولس الرسول ذكروا مرة واحدة. ومن ذلك نفهم  أن تقليد ق. مرقس من جهة التلاميذ هو أقدم وأصل كل ما جاء عنهم في الأناجيل وذلك بحسب العالم ر. ب. مايي الذي يقول: إن إنجيل ق. مرقس هو أول من سجل عبـارة يسوع المسيح على أنه ابن الله في إنجيله، وأول من شدد على عبـارة الكنيسة وعمل الاثـني عشر.

أما قصد المسيح من العدد اثني عشر فهو قائم أساساً على مفهوم العهد الجديد وشعب المسيح، فهو المقابل للاثني عشر سبطاً، بل والمقابل لكل شعب إسرائيل في العبادة الجديدة القائمة على استعلان ملكوت الله. وبينما كان الاثنا عشر رأساً للأسباط مجرد نسل ليعقوب المبارك، إذ بالاثني عشر تلميذاً محسوبون الاثني عشر باباً لأورشليم السماوية، وهم أيضاً الاثنا عشر أساساً المحسوبون رسل الخروف (رؤ 21: 12و14). وهم أيضاً المحسوبون في أورشليم السماوية الاثني عشر لؤلؤة واثني عشر حجراً كريماً بألوانها السمائية. الذين سيجعل لهم المسيح أن «يجلسوا على كراسي يدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (لو 28:22)، وهم الذين فتح المسيح ذهنهم ليفهموا المكتوب، الذين تنبأ عنهم دانيال بأنهم الفاهمون الذين يضيئون كضياء الجلد، الذين ردوا كثيرين إلى البر، ويضيئون كالكواكب إلى أبد الدهور (دا 3:12)، كما سبق يوسف حبيب يعقوب أبيه أن رآهم في الرؤيا (تك 9:37).

بدأوا حياتهم ملتصقين بمعلمهم كتلاميذ، وظل يكشف عن أعينهم أسرار ملكوت الله بسعة: « فقال لهم: قد أعطـي لـكـم أن تعرفـوا سـر ملكوت الله» (مر 11:4)، إلى أن اشتد عـودهـم وتعبـوا معه في تجاربه، فكانوا أول مين ظهر لهم بعد قيامته ونفخ فيهم من روحه القدوس وأرسل لهـم المعزي ثم أرسلهم ليضيئوا المسكونة وليملّحـوا كـل الأرض! وعلى أساسهم نحن مبنيون الآن ولنا شركة مع الآب والمسيح: «مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية. »(أف 20:2)

ويلاحظ القارئ بسهولة كيـف صـار الصيادون وجباة الضرائب تلاميذ ثم رسلاً مفتـوحـي العينين حكماء مقتدرين، يشفون المرضى، ويخرجون الشياطين بل ويقيمون من الموت، ويعلمون أسرار الملكوت والمسيح، ويمنحون الروح القدس للكنائس بوضع اليد. وبهذا يؤمن المسيح عمله الماسياني وقدرته الإلهية على تجديد البشرية ومنحها المواهب الإلهية الفائقة. وهكذا صار الاثنا عشر نموذج العمل الماسياني الجديد، والخميرة الإلهية التي خمرت عجينة البشرية، وتلمذوا شعوب الأرض لحساب المسيح والملكوت، وألقوا شبكة الخلاص على وجه الأرض كصيادين مهرة، وأتوا للمسيح والآب بصيد عظيم لا يزال يتزايد حتى يجمع المسكونة في شبكة المحبة التي أحب بها الله العالم.

16:3- 19 «وجعل لسمعان اسم بطرس. ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب، وجعل لهما اسم بوانرجس أي ابني الرعد. وأندراوس، وفيلبس، وبرثولماؤس، ومتى، وتوما، ويعقوب بن حلفي، وتداوس، وسمعان القانوي، ويهوذا الإسخريوطي الذي أسلمه. ثم أتوا إلى بیت» .

الأول: «وجعل لسمعان اسم بطرس»:

وفي بعض المخطوطات تُقرأ: الأول سمعان (وجعل لسمعان اسم بطرس = mwni Pstron…) سمعان وحدها ثم بين قوسين سمعان بطرس. وكلمة ‘‘ بطرس” تجيء هنا في إنجيل ق. مرقس لأول مرة، إذ ذكرت سابقاً سمعان فقط، مما يبدو أن المسيح لما جمعهم معاً بعد أن اختارهم بدأ يعطيهم أسماءهم الجديدة: «وجعل لسمعان اسم بطرس» واسم بطرس مذكور في إنجيل ق. مرقس 19 مرة باسم بطرس فقط، ما عدا في (37:14): «فقال لبطرس: ياسمعان أنت نائم؟!!» وبطرس هي أصلاً بالأرامية Khf£j وتعني: ‘‘ صخرة’’، ونقرأها في إنجيل ق. يوحنا هكذا: «وقال أنت سمعان بن يونا (حمامة) أنت تُدعى صفا الذي تفسيره بطرس» (يو 12:1). وغرف بطرس بين التلاميذ باسم صفا، كما علمها ق. بولس هكذا: «فأنا أعني هذا: أن كــــل واحـــد مـــــكـم يقـــول: أنـا لبـــولس، وأنـا لأبلـس، وأنـا لصـفا، وأنـا للمسيح …» (1كو 12:1)، وكذلك: «ألعلّنا ليس لنا سلطان أن نحول بأخت زوجة كباقي الرسل وإخوة الرب وصفا؟» (1كو 5:9)، كذلك: «وأنه ظهر لصفا ثم للاثني عشر.» (1كو 5:15). ولكن عاد ق. بولس وأعطى اسم بطرس بوضوح: «ثم بعد ثلاث سنين صعدت إلى أورشليم لأتعرف ببطرس، فمكثت عنده خمسة عشر يوماً.» (غل 18:1). ولكنه عاد يذكر اسم صفا: «فإذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا، المعتبرون أنهم أعمدة، أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم، وأما هم فللختان.» (غل 9:2). وهكذا ندرك أن إنجيل ق. مرقس لم يذكر اسم صفا ولا كيفا (مترادفاً) على الإطلاق. والمعتقد بحسب العلماء أن اسم كيفا أو صفا يقال له عندما يراد التلميح إلى أخلاقه.

الثاني والثالث: «ويعقوب بن زبدي ويوحنا أخا يعقوب وجعل لهما اسم بوانرجس»:

«بوانرجس»: 

الاسم هنا بهجاء يوناني ويعتقد البعض أنه منقول مغلوطاً من الأرامية التي تقرأ Banhregej وبمعنى اختلف فيه العلماء، ولكن أصحهم هو العالم توري الذي يعطي المعنى بالعاصفة الرعدية thunderstorm فتكون ابن الرعد.

وهكذا يبدو المسيح أعطاهم أسماء جديدة مستمدة من طباعهم.

الرابع: «وأندراوس» Andrew = ‘Andršan

نجد في الترتيب هنا أن أندراوس يأتي مباشرة بعد يعقوب ويوحنا، وهـذا مـوافـق لما جاء في سفر الأعمال (13:1). ولكن في إنجيلي ق. متى ولوقا يأتي أندراوس بعـد بطرس. ولكـن المقبـول لـدى العلماء هو ترتيب ق . مرقس حيث تقرر وضع أندراوس بعد يعقوب ويوحنا. ونلمح قصد ق . مرقس ذلك أن يجمع الثلاثة تلاميذ الأساسيين بطرس ويعقوب ويوحنا معاً بالترتيب، كما ذكرهم في عدة مواضع من إنجيله (37:5)، (2:9)، (33:14). ومن هنا يفهـم القارئ أن مرقس الرسول منسق إنجيله على مبادئ قوية وثابتة. 

الخامس: «وفيلبس»: 

كـل مـن اسـم أندراوس وفيلبس أسماء يونانيـة صـرف، وبالرغم من أن اسم فيلبس تكرر في إنجيـل ق. يوحنا، إلا أننا لا نعثر على هذا الاسم إلا في مجموعة الأسماء للاثني عشر فقط في الثلاثة أناجيل وسفر الأعمال، ولكن اسم فيلبس الرسول هنا غير اسم فيلبس الذي جاء في سفر الأعمال بين أسماء السبعة شمامسة (أع 25:6) الذي بشر في السامرة (أع 7: 5-40) والمعتبر تحت لقب “إنجيلي” في (أع 8:21). ويلزم أن نحترس من اختلاط الاسمين كما حدث بين الكتاب الأوائل.

السادس: «وبرثولماوس»: وبالإنجليزية Bartholomew

واسمه ‘‘أبوي’’ بمعنى ‘‘ابن فلان” كما في العربية، فهو ابن ثالماي Qalmai مشابه لاسم Bart”makoj بارٹیماوس ‘‘ابن طيما’’ الأعمى (مر 46:10). وبارثولماوس يظن ربما خطأ أنه هو أيضـاً نثنـائيـل المذكور في إنجيـل ق . يوحنـا (45:1) ويميـل لهـذا الـرأي العـالم سويت والعـالم وستكوت أيضاً.

السابع: «ومتی»: 

والكلمة اختصار للنطق الصحيح Mattaq…a كما جاءت بهذا الهجاء في سفر أخبار الأيام الأول (21:15) ‘‘متاثيـا’’ ومعناها هدية أو عطية. وفي إنجيل ق. متى أضاف إلى اسم متى كلمة العشار (مت 3:10)، وهكذا جاء الاسم ليوضح به اسم لاوي عند ق. مرقس (14:2) بلا أي لبس: «وفيما يسوع مجتاز من هناك رأى إنساناً جالساً عند مكان الجباية اسمه متى فقال له اتبعني فقام وتبعه» (مت 9:9)، وهكذا نعرف أن متى الرسول هو لاوي.

الثامن: «توما (توماس)»: 

وهو المدعو في إنجيل ق. يوحنا (16:11) «الذي يقال له التوأم D legomenoj D…dumoj »واسمه وارد في إنجيل ق. يوحنا (5:14) مع فيلبس (يو 8:14) ويهوذا ليس الإسخريوطي (يو 22:14) ضمن الذين سألوا الرب أثناء أحاديث الوداع .

التاسع: «ويعقوب بن حلفی»: 

وأعطاه هذا اللقب حتى يفرق بينه وبين يعقوب بن زبدي. وهو المذكور هنا في إنجيل ق. مرقس وفي (مت 3:10)، (لو 15:6)، (أع 13:1). وهـو يعرف أحياناً بيعقوب الصغير كما جاء في (مر 40:15): «وكانت أيضـاً نساء ينظـرن مـن بعيد، بينهن مريم المجدلية، ومريم أم يعقوب الصغير ويوسي، وسالومة»

ويقول العالم ترنر : إنه ربما يكون أخا «لاوي بن حلفى» الذي ذكره في (مر 14:2). وقـد عرف مـرات كثيرة باسم كلوبـاس KIwp©j كما جاء في (يو 25:19) وكذلك كليوباس Kleopaj كما في (لو 18:24) حسب أبحاث العالم ليتفوت(12). ويقـول ليتفـوت أيضاً إن اسمه الحقيقي كـان كـلوبـاس بالأرامية ولمها تحولت إلى اليونانية أخذت رنة اليوناني فصارت كليوباس.

العاشر: «وتداوس»: 

وجاء في إنجيل ق. متى: «لباوس الملقب تداوس» (مت 23:10). وهذا الاسم قريب في النطق مـن ثـوداس الوارد في (أع 36:5)، وهـو مختصـر لاسـم ثيؤدوسيوس وثيؤدوتوس  وأحياناً ثيؤدوروس وذلك بحسب تحقيق العالم دالمان. ويقول التقليد الكنسي: إن أعمال هذا التلميذ القديس كانت في نواحي أديسا Edessa (الرها)، وهـو المذكور في (لو 15:6)، (أع 13:1) باسـم يـهـوذا أخـي يعقوب، وأيضـاً ذكـر بـاسـم لـبـايوس Lebbaoj في إنجيل القديس مرقس في بعض المخطوطات، ووجد في إنجيل ق. متى باسـم لبايوس (مت 3:10).

أما الكتاب الكنسيون المتأخرون نوعاً فيجعلون تداوس ولبايوس ويهوذا أخـا يعقوب اسماً واحـداً متبادلاً. ويقول العلامة أوريجانوس في ذلك: إن اليهود اعتادوا أن يعطوا للشخص الواحد اسمين أو ثلاثة مثل هذا التلميذ. ويقول العالم ستريتر: إن في إنجيل ق. مرقس جاء إما لبايوس أو تداوس كقراءة أصيلة، حيث يقول البحاثة إن اسم لبايوس يعني القلب (اللب باللغة العربية).

الحادي عشر: «وسمعان القانوي»: 

وهو المدعو بالغيور وواضح أن اسم كانيناوس من ‘‘قانون’’ أي المتمسك بالناموس، لذلك دعـاه ق. لوقا مباشرة بالغيور. وهـو ليس له علاقة بقانا الجليل كمـا يخطئ بعض العلماء. والغيورون أو الزيلوتيـون هـم الذين اشتهروا بعد ذلك بتحريض الشعب لحمل السلاح للثورة ضد الرومان حسب تاريخ يوسيفوس، وهـم الـذين تبعـوا يـوداس الجليلـي وكـان مـنهم الفريسيون أتباع الجناح اليساري بتشددهم الوطني. ولكن في سمعان القانوي هنا فإن الغيرة محصورة في الدين وحسب.

الثاني عشر: يوداس الإسخريوطي: 

وإسخريوطي تُفهم على أنها رجل من بلدة قريوت Kerioq وهي إما قريوت حصرون المذكورة في (يش 25:15) على بعد 12 ميلاً جنـوب حـبرون، أو قريـوت مـواب المذكورة في (إر 24:48). ويتعجب العلماء أن مرقس الرسول ترك كلمة الإسخريوطي دون تعليق . ويتعجب جميع العلماء كيف صار يذكر يهوذا الإسخريوطي هنا بين التلاميذ حتى بعد الخيانة دون کشف شخصيته، مما يعطي لتاريخ إنجيل مرقس أصالة فائقة في أمانة النقل والتدوين والتقليد الإنجيلي.

والآن يقع هذا الفصل في إنجيـل ق . مرقس (13:3ـ19) موقعاً هاماً ومتميزاً، لأن اختيار الاثني عشر خطوة أساسية في بروجرام أو خطة إنجيل ق. مرقس الذي يبدأ إعلانه في الأصحاح الأول عند ذكر بدء اختيار سمعان وأندراوس أخيه ليكونا صيادي الناس. وهنا بدء رفع الستار عن قصة الكرازة “صيد الناس” بواسطة التلاميذ، التي أكملت حلقتها الأولى عند الأصحاح السادس هكذا: «واجتمع الرسل إلى يسوع وأخبروه بكل شيء كل ما فعلوا وكل ما علموا» (مر 30:6). أما بعد ذلك التاريخ فمسيرة التلاميذ مع المسيح كانت للمرافقة والمشاهدة في امتداد كرازة المسيح التلاميذ، والتي ختمت بعد قيامة الرب من الأموات في (مر 28:14): «ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل» الذي تم بالتحقيق في (مر 7:16): «لكن اذهبن وقلن لتلاميذه (المتكلم هو الملاك) ولبطرس إنه يسبقكم إلى الجليل هناك ترونه كما قال لكم» 

ويا عزيزي القارئ، إن فصل اختيار وتعيين المسيح للتلاميذ الاثني عشر يحسب بالنسبة لنا قلب الإنجيل، فبواسطة هؤلاء صرنا نحن الآن مسيحيين بل وتلاميذ الرب، ليس عـن طـريـق كـرازتهم وحسب بل وثمرة لسفك دمائهم. فالعالم وكل فرد مدين لهذه الأسماء التي تقدست من فم المسيح. جماعة صيادين يحولهم المسيح في دعوة للاجتماع بعدها يخرجون وقد انتهوا من مهنتهم وبيتهم وحياتهم السابقة، ليتعلموا بالروح كيف يطرحون شباك النعمة على الناس في كل الأمم لحساب ملكوت الله. والشبكة ظلت مطروحة إلى اليوم أجيالاً وراء أجيال لتمتلئ كل يوم وتخرج سمكاتها المقدسة سلطان بحر هذا العالم لتدخل في سلطان ملكوت المسيح والله: ملايين ملايين بلا عدد في كل الأرض. من يصدق أن صيادي الجليل ومن احترفوا حرفتهم بعدهم يصطادون هكذا كل أمم العالم . 

دعيـوا فلبوا الدعوة فصاروا تلاميذ وحفظوا أمانة التلمذة فصاروا رسلاً، وكما استلموا هذا التراث المقدس لا يزالون يطرحونه على الناس: دعوة فتلمذة فأمانة فرسالة. وكأن الاثني عشر خميرة الملكوت التي خمرت عجنة البشرية كلها. وإن لم يتغيّر ’’ المدعو من صيد التوافه إلى مستوى صيد السموات فلا نفع له مهما علت درجاته. فإن لم يقبل الإنسان الروح القدس فلن يكون له عمل في ملكوت الله. فحتمية التغيير تسبق التعيين في الخدمة، وإلا فلن تكون خدمة. فالخدمة نعمة، فكيف تكون خدمة بدون نعمة، كيف يبشر الإنسان بالخلاص وهو لم يختبره، كيف ينادي بالملكوت وهو لم يذقه، كيف يشهد للمسيح وهو لم يشاهد، بل كيف يستحث النفوس على التغيير عن شكل العالم وهو لا يزال يحمل شكله، بل كيف يدعو للولادة مـن فـوق وهو لم يجز مخاضها؟ خطر هو الاشتغال باسم المسيح اكتفاء بالاسم والشكل واللقب. المنبر في محنة لأن الذين ينادون من فوقه لم ينادهم الله ولا هم سمعوا صوته. رعبة أن يحمل الخادم مسئولية شعب وهو لا يزيد عن واحد من أفراده، كيف ينطق بالحق وهو لا يعيشه؟

انظروا التلاميذ كيف ساروا وعاشوا ملاصقين للمسيح الليل والنهار: «أنتم الذين ثبتوا معي في تجاربي» (لو 28:22)، «أنتم الذين تبعتموني» (مت 28:19). ثم أخيراً: «قد أعطي لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله» (مر 11:4)، «حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب.» (لو 45:24). فخدموا المسيح وخدموا الملكوت. فالذي لم يتتلمذ للمسيح والإنجيـل كـيـف يخدم المسيح والإنجيل؟ والذي لم تنفتح بصيرته ويفهم المكتوب كيـف يشرح المكتـوب؟ ثم كيـف يدعو للشركة مع الله الآب والمسيح وهـو لا يعرفها ولا يفهمها ولا يعيشها ولا يؤمن بها؟ «أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح، ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً» (1يو 1: 3و4)، كيف ندعو لفرح المسيح ونحن لا نعيشه؟ بل كيف نقيم الشركة في الجسد والدم على المذبح ونحن لم نمارس الشركة في الجسد والدم في حياتنا.

إذا وقف الخادم، أي خادم، ليعظ على المنبر كيف يبلغ الناس رسالة المسيح إن لم يكن له خبرة الرسالة: «الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا» (1يو 4:1). يتحتم على الخادم أن يدرك ويثق ويؤمن أنه يخدم النور، والذي يخدم النور ومصباحه الداخلي مطفأ نور، ومنادياً بلا صوت. الخادم الذي يتأفف ويتعالى على غسل الأرجل لا يأتمنه المسيح على خدمة يصير منارة بلا بيته :

+ «فلمّا كان قد غسل أرجلهم وأخذ ثيابه واتكأ أيضاً، قال لهم: أتفهمون ما قد صنعت بكم؟ أنتم يدعونني معلماً وسيداً، وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك. فإن كنت وأنا السيد والمعلم قد غسلت أرجلكم، فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضـكـم أرجـل بعـض، لأني أعطيتكم مثالاً، حتى كما صنعت أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحق الحق أقول لكم: إنه ليس عبد أعظـم مـن سيده، ولا رسول أعظـم مـن مرسله. إن علمتـم هـذا فطوبـاكـم إن عملتموه.» (يو 13: 12-17) عزيزي القارئ المعلم والسيد والكاهن، إن هذا التعليم العملي الفائق القيمة هو لك. اسمع ما يقوله معلم الكنيسة الأول بعد سيده : + «فإننا لسنا نكرز بأنفسنا بل بالمسيح يسوع رباً ولكن بأنفسنا عبيداً لكم من أجل يسوع»(2کو 5:4)

فاصل

19- عثرة الأقارب ومقاومة الكتبة
النقد المتهور والسلطان القاهر [20:3-26]

(مـت 12: 24 -28
لـو 11: 15۔ 20)

 

نقطة الاشتعال:

20:3و 21 «… ثم أتوا إلى بيت. فاجتمع أيضاً جمع حتى لم يقدروا ولا على أكل خبز. ولما سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه، لأنهم قالوا: إنه مختل!».

واضح أن سرد هذه الواقعـة جـاء كـوصـلة بين عملين: الأول اختيار الاثني عشر وتكريسهم للخدمة، والحدث الآخر هو موقف الكتبة من تعليم المسيح وعمله المعجزات. والقارئ يندهش كيف يسجل ق. مرقس في إنجيله هذه الحادثة التي تضعف الإيمان بالمسيح وتحط من مستواه ومن كرامته ومن هيبته. ولكن اعتنى ق. مرقس أن يذكر هذه الحادثة المهينة للمسيح التي تكشف بحد ذاتها عن أمانة في السرد وإمعاناً في تصوير الوقائع كما هي، وهو واثق أن مثل هذه الوقائع تدخل في تكميــل صــــــورة المسـيح والكــــــرازة، إذ اعتبرهـا جـزءاً حيـا مـن الإنجيـل الـذي يبلغنا ما جرى للمسيح وهو عتيد أن يجري علينا: «لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس» (لو 31:23). وتعتبر هذه القصة كما صورها ق. مرقس من أهم وأخطر البراهين التي توثق إنجيـل ق. مرقس وتكشـف عـن تمشيك شديد وأمين بالتاريخ الملقن مـن واحـد لـواحـد والمدون من يد ليد.

اجتمع المسيح مع تلاميذه الاثني عشر في بيت ربما بيت ق. بطرس – على أثر تكريسهم للخدمة، كانت مفاعيل النعمة في ذلك اليوم فائقة الحد، أحس بها كل الذين لهم حساسية الروح، وكل الذين يطلبون وجه الله ولهم عنده سؤال وطلبة ومذلية إثر أعـواز الدنيا وبلايا الجسد. تنادوا وتجمعوا وأحاطوا بالبيت ثم دخلوه، فالمسيح هو الملكوت، يغتصب والغاصبون يختطفونه، فلا سؤال ولا استئذان. فحيثما يكون الكنز يكثر الغاصبون ويتربص المختطفون، حتى ضاق البيت وخارجه وتعذرت الحركة وتعذر على أهل البيت ترتيب المعيشة حتى ولا على أكل الخبز. فبقدر ما كانت مسرة القادمين من قريب ومن بعيد لما رأوه مع تقليل القـوم وراحة المتألمين، بقدر ما تضجر من في البيت.

وما أمر على الإنسان الذي يصنع الخير ويبذر الحب والسلام ويبذل الحياة لخدمة الآخرين، حينما لا يفهم ولا يقدر حبه ولا يصدق صدقه، ويتعامى الناس عن النعمة التي فيه والنور الذي ينبثق من قلبه وعينيه، ولكن أمر المر أن يكون هؤلاء الناس العائرون هم الأقارب وأهل البيت « لأن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به!!» (يو 5:7). فأن يجوز الإنسان محنة الأعداء أمر يهون، ولكـن أن يخرج الأقارب بغرض احتجازه لما شاع عنه أنه مختل، فهذا شيء لا يهون ولا يكون حينما يكون هذا الإنسان هو المسيح وهو الحق والحياة.

آه يا أهلي ويا إخوتي وأحبائي، يقول قائل: «ما هذه الجروح (التي) في يديك (بل في قلبك)؟ فيقول: هي التي لجرحت بها في بيت أحبائي» (زك 6:13)، والذين باعوا يوسف باعوني: «أميا إليكم يا جميع عابري الطريق (أسمعتم أقاربي وإخوتي)، تطلّعوا وانظروا إن كان حزن مثل حزني »(مرا 12:1)، «الذي وثقت به آكل خبزي (معي) رفع علي عقبه.» (مز 9:41) لقد جاز المسيح عثرة الأقارب، وعثرة الإخوة والذين عاشوا معه وأكلوا الخبز والملح معاً وجاز قلبه الحزين الألم كما يجوز في النفس سيف.

وما قاله الأقارب بمواربة قاله الكتبة على المكشوف

22:3 «وأما الكتبة الذين نزلوا من أورشليم فقالوا: إن معه بعلزبول، وإنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين».

إن كان الأقارب قد قالوا إنه مختل العقل، فليس بكثير أن يقول الكتبة إن معه بعلزبول. يا لصبرك العجيب يا ابن الله، يا لوداعتك واتضاعك، فأنت وأنت قادر أن تنزل ناراً من السماء وتفنيهم تكتفي بأن تكشف لهـم عـظـم الجرم الذي اقترفوه ومدى علو سلطانك فـوق كـل سلطان. وتشرح لهـم فساد ظنهم وشر اتهامهم وتعديهم على حق ا وإهانة ابنه القدوس المبارك .

«وأما الكتبة الذين نزلوا من أورشليم»:

هم من بعثة مرسلة على عجل عندما بلغت أسماع السنهدريم أعمال المسيح الفائقة وخاف الرؤساء لئلاً يذهب الشعب وراءه، فجاءت البعثة محملة بخطة ماهرة لوقف عملية الانبهار بالإيمان بالمسيح. والخطة تقوم على الحط  من سلطان المسيح الذي يستخدمه في إخراج الشياطين، بأن يلوثوا سمعته بين الشعب بأن المسيح يستخدم رئيس الشياطين لإخراج الشياطين، وهكذا يبطلون الإيمان به ويحفرون من شخصه لينفض الناس عنه. ولكن فاتهم أنهم بهذا الاتهام يكونون قد جدّفوا على الروح القدس الذي يعمل به المسيح وأهانوا القدير وأغلقوا ملكوت الله أمام وجوههم:

+ «إن كنت أنا بروح الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله.» (مت 28:12)

«برئيس الشياطين يخرج الشياطين»:

يلاحظ القارئ أن الجزء الأول من الآية يقول فيه الكتبة إن معه بعلزبول أي أن الشيطان مستحوذ عليه، وفي النصف الآخر من الآية يقولون إنه برئيس الشياطين يخرج الشياطين. وهذا القول ينقض بعضه كما رد المسيح، إذ كيف والمسيح مستحوذ عليه بواسطة الشيطان يعود ويخرج الشيطان من الآخرين، هذا أمر مستحيل لأن إخراج الشيطان من إنسان هو بمثابة هزيمة منكرة للشيطان وعملية فاضحة له. فكيف شيطان يصنع هذا بشيطان؟

26-23:3 «فدعاهم وقال لهم بأمثال: كيف يقدر شيطان أن يخرج شيطاناً؟ وإن انقسمت مملكة على ذاتها لا تقدر تلك المملكة أن تثبت. وإن انقسم بيت على ذاته لا يقدر ذلك البيت أن يثبت. وإن قام الشيطان على ذاته وانقسم لا يقدر أن يثبت، بل يكون له انقضاء».

بوداعة المسيح وحلمه دعا الكتبة الذين شتموه وأهانوا عمله ونعتوه بفعل شيطان وبدأ يشرح لهـم بأمثال، وأمثال هنا تعني باللغة الأصلية “المثل إزاء المثل”، أي بالمقارنة والتطبيق، كيف أن شيطاناً يخرج شيطاناً؟ لأن إخراج الشيطان كما يعرفه المسيح ويعمله يحتاج إلى قوة إلهية، إذ الإخراج هو حكم طرد بالقوة المقتدرة فيها يخرج الشيطان منهزماً صارخاً، كما كان يحدث تحت يديه، فإن حدث حقا أن شيطاناً أخرج شيطاناً فهذا معناه أن الشيطان قد انقسم على نفسه وكان هذا نذيراً بخراب مملكته.

فاصل

20 – القوي الذي رُبط ونهب بيته [27:3-30]

(مـت 12: 29-32
لـو 11: 21-22)

 

27:3 «لا يستطيع أحد أن يدخل بيت قوي وينهب أمتعته، إن لم يربط القوي (الشيطان) أولاً، وحينئذ ينهب بيته».

هنا أعظـم الأمثال التي قالها المسيح وفيها يشرح فكرة عن الشيطان ومنهجه الكامل الذي جاء ليكمله خطوة خطوة للإنهاء على هذه القوة الشريرة. ففي هذا المثل نقرأ بوضوح وقوة عن ‘‘ السلطان الأقـوى” الذي جاء المسيح به ليهدم به سلطان القـوي! وعـن قـدرة المسيح الفائقة في اقتحام بيت الشيطان وجبرؤوته التي يربطه بما فيوقف حركته ويسلبه قوته وسلطانه ويسترجع منه أسلابه التي سلبها من بني الإنسان: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا» (أف 8:4). بمعنى أن المسيح لما نزل إلى الجحيم حيث أسر الشيطان كثيرين من أبرار العهد القديم بحكم سلطان الموت الذي له وسباهم ظلماً، كسر المسيح مصاريع الهاوية وأخرج أسرى الرجاء، فقيل إنه «سبى سبياً» فمعركة المسيح الأولى التي بدأت مع الشيطان كانت بعد المعمودية مباشرة، بعد أن تأكد الشيطان أن يسوع المسيح هو ابن الله. لذلك تركزت تجربتـه للمسيح في «إن كنـت أنـت ابـن الله» لقـد دخـل المسيح بـدعوة جريئـة من الشيطان لدخول بيته، وهي البرية التي بلا ماء حيث راحته، وهناك حدثت المناظرة بل المبارزة التي نجهل ثقلها، والتي استلزمت من المسيح أن يصوم أيامها كلها، والتي خرج منها الشيطان مربوطاً فاقداً حريته المطلقة التي ك كانت له على بني الإنسان. لأن المسيح حارب كابن الإنسان عن دائرة الإنسان، وخرج منها المسيح وله صورة مرعبة على كل مملكة الشيطان وأعوانه .

وهكذا بدأ المسيح يكرز بملكوت الله، وكانت الشياطين ترتعب منه وتخرج صارخة، لأن رئيسها ربط تحت سلطان المسيح. وهكذا بعد أن ربط المسيح الشيطان بدأ ينهب بيته بإخراج الأرواح الشريرة وهي صاغرة، إلى أن أكمل النصرة على الشيطان، لمها نزل إلى الهاوية وفك أسرى الرجاء، كل الذين سباهم الشيطان: فلما قام المسيح بعد أن كسر مصاريع الهاوية خرج ومعه كل المسبيين ظلماً وعدواناً “سبی سبياً وأعطى الناس عطايا» 

30-28:3 «الحق أقول لكم: إن جميع الخطايا تغفر لبني البشر، والتجاديف التي يجدفونها. ولكـن مـن جـدف على الروح القدس فليس له مغفرة إلى الأبد، بل هو مستوجب دينونة أبدية. لأنهم قالوا: إن معه روحاً نجساً».

«الحق»:

هي “آمین” في أصلها العبري، وهي تختص جداً بأقوال المسيح ولا يشترك في قولها آخر. وهذا جيد وصدق، لأن المسيح هو هو الحق، فإن قال فهو الأمين والحق بالدرجة الأولى، والمسيح يقولها ليعطي لكلامه بعدها القوة الإلهية النافذة والمنفذة. وهي تكررت في إنجيل ق . مرقس ثلاث عشرة مرة، أما في إنجيل ق. متى فثلاثين وفي إنجيل ق. لوقا ست مرات وفي إنجيل ق. يوحنا «الحق الحق» مكررة خمساً وعشرين مرة.

«إن جميع الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها. ولكن من جذف على الروح القدس«:

وقد جاءت في إنجيل ق. متى هكذا :

+ : «كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح فلن يغفر للناس.» (مت 31:12)

وأما في إنجيل ق. لوقا فقد جاءت هكذا:

+ «وكل من قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من جذف على الروح القدس فلا يغفر له. »(لو 10:12)

وواضح أن قوله في إنجيل القديس لوقا: “ابن الإنسان أنه يعني وضع المسيح في نظر الناس، أي في وضعه غير المستعلن أنه مسيا ابن الله، وبذلك يكون التجديف ناشئاً من اختباء المسيح في صورة إنسان بسبب اتضاعه، فهي عثرة في اتضاع ابن الله لذلك لا تحسب. ثم عاد المسيح ورجع على من يجدف على الروح القدس نفسه، أي على من يعتبره روحاً نجساً، فهذا قد عثر في الله ككل. ففرق هائل بين من يجدف على «ابن الإنسان» باعتباره إنسان عادي دون أن يدري، ومن يجدف على روح الله باعتباره روح نجس.

والذي يلفت نظر العلماء جداً هذا الوضع الشمولي: «جميع الخطايا والتجاديف». وواضح أن ما جاء في إنجيل ق. متى هو مدون على أساس ما جاء في إنجيل ق. مرقس مع تعديل طفيف لإصلاح اللغة فقط. أما ما جاء في إنجيل ق. لوقا فهو تحديد ما قيل في إنجيل ق. مرقس بصورته الشمولية « جميع الخطايا والتجاديف» إذ حدده ق. لوقا بمـن قـال كلمة (رديئة) على ابن الإنسان، حيث التخصيص هنا هو التجاوز من الشمولية البشرية إلى تخصيص ابن الإنسان، وهي أقصى صـورة للخطية والتجديف، ولكن بسبب الجهالة فإنها تُغفر. أما التجديف العمد على الروح القدس فعقوبته الهلاك الأبدي، لأن أعمال الروح القدس كانت واضحة وناطقة حتى على فم الأرواح النجسة نفسها.

وواضح أن إنجيل ق. مرقس يعلق على جحود أقارب المسيح الذين نعتوه بمختل العقل، فهذه هي خطية وتحديف، ويحصرها إنجيل ق. مرقس في الوضع الشمولي الذي قاله المسيح «جميع الخطايا تُغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها» ولكن رجعته على الكتبة المعتبرين معلمي إسرائيل فوضعهم في حالة منفردة واستثنائية، لأن هؤلاء قالوا إن به روحاً نجساً، وهم يعلمون أن ما يعمله المسيح يعمله باسم الله وبروحه القدوس. هنا جعل خطيتهم وتجديفهم على الروح القدس غير مغفورة بصورة أبدية لأنهم عثروا في الذي يغفر الخطايا والتجاديف نفسه.

فإن كان لنا درس وموعظة في هذه الآية: أن جميع خطايا وتحاديف بني البشر مغفورة، فهي اتساع رحمة المسيح وقدرته أن يقول ويفعل. أما خطية الكتبة والتجديف على الروح القدس فلا تستهوينا قط أن نفتش عنها بين الناس، ولكن فرحنا وبهجة قلوبنا ورجاؤنا يشتعل ناراً ونوراً حينما نتمسك بقـول الذي قال ـ وهو قادر دائماً أبدأ أن يفعل ـ إن جميع خطايا بني البشر وتجاديفهم مغفورة لهم. هكذا قيم المسيح دمه على الصليب قبل أن ينسكب . فيا لعظم رحمة ونعمة المسيح بعد أن انسكب، إذ لا يوجد ولن يوجد خاطئ مهما جدف عن جهالة، لا يجد لخطيته عند المسيح صفحاً وغفراناً، بل وحبـا وعفـواً ونسياناً، إن هـو نـدم وتـاب وعفـر وجهـه بـالتراب. ومـن آمـن بـالروح القـدس ومجـده فقـد انفتح أمامـه بـاب الغفران بل باب قلب المسيح، وصـار كـارزاً بالغفران الشامل والخلاص المجاني. اسمع ق. بولس الذي كان أكبر محذف ثم أصبح أكبر كارز وهو يقول:

+ «أنا الذي كنت قبلاً مجـدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت لأني فعلت بجهـل في عـدم إيمان.» (1تي 13:1)

آيتان في الإنجيل يلزم أن نلهج بهما الليل والنهار:

+ «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.» (مت 28:11)

+ و«جميع الخطايا تغفر لبني البشر والتجاديف التي يجدفونها.» (مر 28:3)

وإن أردت أضف هذه الآية الصغيرة :

«الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي.» (غل 20:2) 

لاحظ هنا أيها القارئ السعيد أنه ليس عبثاً أن المسيح استهان بالخطية بل بجميع الخطايا؛ أو بالتجديف بل بجميع التجاديف؛ لكـن لكي يحصر جميع الخطاة في قلبه ويصطاد جميع المجدفين بشبكة حبه .

 فكر جيداً، اجلس وامسك كراسة كبيرة واكتب فيها جميع خطاياك وأقبحها، بل وجميع الخطايا التي سمعتها أو رأتها عيناك، فهذه كلها احتواها دم المسيح وغسلها فابيضت أكثر من الثلج. فهل تستطيع أن تتحداني وتذكر لي خطية ما لا يقوى عليها دم المسيح:

«هلم نتحاجج يقول الرب : إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، إن كانت حمراء كالدودي تصير كالصوف .» (إش 18:1) 

إذاً، فلماذا الأنين بعد؟ ولماذا التخوف والبعاد وخطاياك جميعها مغفورة واسمك منقوش على كفه وفي قلبه؟

 ألا تعلم أن ألوف ألوف وربوات ربوات يقفون الآن حول العرش، كلـهـم كـانـوا خـطـاة ومن عتـاة  صانعي الإثم، وقد لبسوا تيجان الخلاص ولا يكفون عن الشكر والتسبيح!! فلماذا تتوانى؟ أقدم وامسك بالدم واخطف لك نصيباً في ملكوته.

فاصل

21- أقارب المسيح الجدد والعائلة المقدسة الكبيرة 31:3-35

(مـت 12: 46-50
(لو 8 : 19-21)

35-31:3 «فجاءت حينئذ إخوته وأمه ووقفوا خارجاً وأرسلوا إليه يدعونه. وكان الجمع جالساً حوله، فقالوا له: هـوذا أمك وإخوتك خارجاً يطلبونك. فأجابهم قائلا مـن أمـي وإخوتي؟ ثم نظر حوله إلى الجالسين وقال: ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمي».

للمرة الثانية يعمل ق. مرقس موازنة، أولاً بين الأقارب وما يقولونه من جهة أنه مختل العقل، وبين الكتبة الذين يقولون إن به روحاً نجساً. ثم هنا مقارنة بين الأهل الذين جاءوا يطلبونه وهم لا يؤمنون به وبين الذين جاءوا يطلبونه وهم يؤمنون به فاحتسبهم أهله وأقاربه. وهذا شيء في الحقيقة مخز!! ولكن لا يمضي هذا التعليم دون أن نستوعبه، فنحن الذين كنا غرباء عن العهود والموعد وبلا إله في العالم، دعانا برحمته من فوق صليبه لنصير له أهلاً وأقرباء بل وشركاء بل وأعضاء في جسمه الإلهي الحي كنيسة الله . فكم يكون إيماننا بل حبنا بل تعلقنا بالروح والنفس والجسد. ولكن ليس ذلك فقط، فهذه الإجابة التي أجابها المسيح «من أمي وإخوتي» كشف فيها مدى تعلق الإنسان في المسيح يسوع بالنسبة لأمه وإخوته وأخواته، إذ قد تقطعت أوصال قربى الجسد لتلتحم الروح بقربي المسيح وأولاد الله الحي. هذه كانت إجابة المسيح التلقائية فيما يخصه سريعاً، ثم حولها بعد ذلك إلى تعليم وإلى وصية وإلى رؤية جديدة لحال الإنسان المولود من فوق، بما له من الداخل والخارج معاً، وصير هذا إنجيلنا الذي نسير عليـه ونحيا (مر 10: 28-30). والذين يتماحكون في ضرورة التعلـق والحـب بـالأم والأخ والأخت فنحن لا ننكر عليهم ما للجسد، ولكن الروح لا تخضع لموحيات الجسد ونوازعه وإلحاحاته الميتة، وإليك قول الله في العهد القديم الذي نطق به الله على فم موسى بالنسبة لبركة سبط لاوي المنوط به خدمة الله والكهنوت:

+ «وللاوي قال تُميمك وأوريمك “لرجلك الصديق” الذي جربته في مسه وخاصمته عند ماء مريبة، الذي قال عن أبيه وأمه: لم أرهما، وبإخوته لم يعترف وأولاده لم يعرف بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك. يعلمـون يعقـوب أحكامك وإسرائيل ناموسـك، يضـعـون بخـوراً في أنفك ومحرقات على مذبحك. بارك يا رب قوته وارتـض بعمل يديه. احطـم متون مقاوميه ومبغضيه حتى لا يقوموا.» (تث 33: 8-11)

هذه من أروع توصيات موسى لشعب لاوي المخصصين لله ولخدمته. فبمجرد أن صار سبط لاوي وتخصص الله يقول له موسى بلسانه: «يقول عن أبيه وأمه لم أرهما وبإخوته لم يعترف وأولاده لا يعرف». ثم يزيد في ناحية الله هكذا: بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك، أي لم يعودوا ينظرون إلى عائلاتهم سواء الأم أو الأولاد أو حتى الإخوة والأخوات بل تكرسوا لحفظ كلام الله وصون عهوده!!

ويا قارئي العزيز، من نحن المسيحيين إلا لاويي العهد الجديد جميعاً «الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله» (يو 13:1)، لخدمة الله وحفظ كلامه وصون عهـوده. ولا يوجد في العهد الجديد غير بني الله إلا بنى بليعال أي بني الشيطان، ولا غير الخليقة الجديدة إلا الخليقة العتيقة المرفوضة من الله والتي عليها غضب الله باقي واللعنة الأولى كما هي. 

وإليك هذه التجربة الاختبارية التطبيقية العجيبة التي صنعها موسى ليختبر بني لاوي هـل هـم الله أم لازالوا متعلقين بالأم والإخوة والأولاد: ذلك بعد أن عبدوا العجل في البرية، وقد نوى موسى أن يعاقب الشعب بأن يطعن كل واحد الآخر بالسيف «كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه» (خر 27:32): «وقف موسى في باب المحلة وقال: من للرب فإلى: فاجتمع إليه جميع بني لاوي »(خر 26:32). وهكذا ترك اللاويون أمهاتهم وإخوتهم وأخواتهم وأولادهم للطعن بالسيف. انظر أيها القارئ وتعجب، فهنا لم يقل الله أن يترك الإنسان أباه وأمه … إلخ، بل قال اتركوا الأم والإخوة والأولاد ليطعنـوا بالسيف، فأطـاع بنـو لاوي وأثبتـوا فـعـلا أنهـم لله!! إذن، فوصية العهد الجديد بترك الأم والأخ والأخت مستمدة من صورتها الأقوى والأعلى في العهد القديم :

+ «وأما أنتم فجنس مختار، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء، (شعب مخصص الله) لكي تخبروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب .» (1بط 9:2)

انظر للرب، أيها القارئ العزيز، وخذ لنفسك منه منهجاً وطريقاً، الذي ترك إخوته الذين لم يكونوا يؤمنون به وعلماء اليهود وكهنتهم ورؤساءهم وانطلق وحيداً مهاناً، وحتى التلاميذ أخيراً تركوه وهربوا، حتى صعد على الصليب ليؤدي مهمته العظمى. فلا الأسرة ولا الأعداء ولا الأصدقاء استطاعوا أن يثنوه عن العمل العظيم الذي صمّم أن يكمله: «لي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تكمل» (لو 50:12). إذن، فلا يثنيك أيها الحبيب أي ترغيب أو تهديد أو وعيد عن الطريق الضيق الذي اخترته لنفســك والله، لا تـــــدع أي أمـر مهما كـان، يجعلـك تنظر إلى الــــوراء أو ترخي جهادك حتى إلى الموت، ومهما عانيت لا تقل قط قد مللت، فهي خطوة أو خطوات لا تحسب أبدأ بحساب الزمن، فهي كطرفة عين وترى النصـرة والـرب واقف والإكليل بيديه. ولا تسمح لصـوت الأدعياء الناصحين بالكذب والمشيرين بالخبث كمشيري نحميا العظيم:

+ «أرسل سنبلط وجشم إلي قائلين: هلم نجتمع معاً في القرى في بقعة أونو، وكانا يفكران يعملا بي شرا. فأرسلت إليهما رسلا قائلاً: إني أنا عامل عملاً عظيماً فلا أقدر أن أنزل …» (نح 2:6و3)

وأخيراً، أيها القارئ المحبوب أتمنى أن تدرك أن شهادة المسيح نحوك: هذا هو أخي وهذه هي أختي وأمي، قد حسبت يوم اعتمدت للمسيح أنك صرت «رعية مع القديسين وأهل بيت الله» (أف 19:2). أي عزاء وأي رجاء هذا.

 إخوة يسوع

معلوم أنه قامت تحليلات ونظريات كثيرة عن علاقة المسيح بهؤلاء المدعوين أخوة يسوع، ولكن المعروف في التاريخ ومن قديم الزمان أن الكنيسة المرتشدة بالروح استقرت على أن الإخوة والأخوات هـم أولاد ليوسف من زوجة سابقة، ويقف وراء هذا المبدأ كل من العلماء والقديسين إبيفانيوس، كليمندس الإسكندري، أوريجانوس، يوسابيوس، هيلاري، امبروزياستر ، كـذلك غريغوريوس النيسي وأمبروسيوس وكيرلس الكبير. ويقـف . مع هذا الشرح كل من العلماء المحدثين ليتفوت، هاريس وبرنار، تأكيداً لدوام بتولية العذراء القديسة مريم .

وواضح من هذا الحل أن إخوة يسوع كانوا جميعاً أكبر منه سنًا، وربما يكون هذا هو السبب الذي وقف ليجعلهم لا يؤمنون به: «لأن إخوته أيضاً لم يكونوا يؤمنون به» (يو 5:7). حالهم حال إخوة يوسف بن يعقوب وغيرتهم المرة من نحوه حينما رأوه محبوباً وذا رؤى وأحلام فاضطهدوه وباعوه!!

أما موقف العذراء من حركة هؤلاء الإخوة الذين قالوا إنه مختل، فكان الخوف على ابنها فخرجت معهـم لتطمئن عليـه، ويستحيل أن تكـون قـد شـاركتهم في نظرتهم الحاقدة على المسيح ولا إلى لحظة. فحنان الأمومة هو الذي قادها لكي تطلب أن ترى الذي قال لها يوماً: «ينبغي أن أكون فيما لأبي.» (لو 49:2)

ولنا في إنجيل القديس لوقا ما يغنينا عن الشكوك، فهي الأم البتول والعذراء النبية التي قالت بفـم الروح القدس: «تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه نظر إلى اتضاع أمته. فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني، لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس، ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه» (لو 1: 46-50). التي سمعت مـن فـم الملاك: «الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله … هذا يكون عظيماً، وابن العلي يدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية.» (لو1: 33,32,35)

فإن كان ق. مرقس قد دون لنا ما سمعه من آخرين، فالقديس لوقا الذي سمعه من فم العذراء قاله، لأنه “تتبع كل شيء من الأول بتدقيق، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البـدء معاينين وخداماً للكلمة” (لو 1: 3و2). ومن الذي عاين سر الله عياناً إلا التي استأمنها الله على سره. فهي أول نبي وأول بشير لعصر النعمة وأول من حمل لواء العهد إذ حبلت بكلمة الله، وغير المحوي حوته في بطنها وأخرجته للعالم روحاً متجسّداً، وظهر الله في الجسد ورؤي الذي لا يرى واستُعلنت فيه الحياة الأبدية التي كانت مخفية عند الآب، وانسكبت على الإنسان واشترك فيها وصارت مسرة للناس. ولولاها ما كتب القديس مرقس إنجيله وهو أول من دون للإنجيل.

زر الذهاب إلى الأعلى