تفسير انجيل لوقا أصحاح 1 للأنبا غريغوريوس

 الفصل الأول

4-1:1 القديس لوقا يسجل أحداث الإنجيل 

كان تلاميذ ربنا يسوع المسيح ورسله ـ بعد أن شهدوا موته على الصليب وقيامته من القبر وصعوده إلى السماء، وبعد أن امتلأوا من روح القدس – قد انطلقوا يبشرون به ويإنجيله كل شعوب العالم المعروفة في ذلك الحين، مجاهرين بالإيمان به، مثابرين على دعوة الجميع إلى ذلك في كل مجمع أو اجتماع. يخطبون تارة ويكتبون الخطابات والرسائل تارة أخرى، مرددين في خطبهم وخطاباتهم ورسائلهم كل ما رأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم من أنباء معجزاته الإلهية وتعاليمه السماوية وسائر وقائع حياته العجيبة المهيبة على الأرض. ومن ثم تناقل الناس من يهود ووثنيين في كل بقاع الأرض تلك الأنباء. فآمن بها بعضهم، وقاومها بعضهم الآخر. وقد اشتد بشأنها النقاش والجدال بين أولئك وهؤلاء.

وإذ كان القديس لوقا من رسل السيد المسيح السبعين، ومن أشد الناس التصاقا بتلاميذه الأقربين، ومن أكثرهم جهداً وجهاداً معهم في سبيل التبشير به، ومن أوفرهم دراية بدقائق حياته وحقائق رسالته، رأى من واجبه أن يسجل ما علمه منه أو عرفه عنه، في كتاب يوطد به إيمان الذين آمنوا بنادينا الحبيب، ويفقد حجج الذين أنكروه، ويرد على مـا أفـتـروه عليه من الأكاذيب، وقد كان للقديس لوقا صديق ذو منصب رفيع بالإسكندرية أسمه ثيئوفيلوس، كان قد سبق له أن سمع بأنباء السيد المسيح، ربما من أولئك الذين كانوا يترددون بين الإسكندرية وفلسطين، فوجه إليه القديس لوقا كتابه، لينقل إليه في أمانة ودقة قصة حياة الرب يسوع وتعاليمه، من مصادرها الأصلية. وقد خاطبه في مستهل كتابه، ملقبا إياه بالعزيز ثينوفيلوس. وكان لقب العزيز، من القاب الرؤساء والولاة وأصحاب المراكز الطليا، ولا سيما لدي الرومان في ذلك الحين، مما قد يدل على أن الرجل كان رومانياً. ومن ثم كان وثنياً وليس يهودياً.

وقد استهل القديس لوقا كتابه بالإشارة إلى أن كثيرين قد أخذوا يدونون قسة تلك الأحداث الخاصة بيسوع المسيح، والتي جرت أمام التلاميذ والرسل ورأوها بأعينهم. ثم راحوا بإيمان عميق وتفان عظيم يخدمون سيدهم كلمة الله، مبشرين به وناشرين بين الناس كلماته، ولما كان القديس لوقا من بينهم، فقد أخذ هو أيضاً في كتابتها. إذ كان قد تتبع كل شيء منذ البداية بتدقيق، وقد رأى بعينيه بعضها، وسمع بعضها الآخر من تلاميذ السيد المسيح الذين كانوا ملازمين المعلمهم ملازمة كاملة، وقد شهدوا بأنفسهم كل ما قال وكل ما فعل أمامهم. كما أنه ولا ريب قد أستمع من السيدة العذراء نفسها، إلى كثير من أسرار تجسد الرب في أحشائها، وميلاده منها، وما أحاط بذلك الميلاد الفذ الفريد من معجزات تعلو على مدارك البشر، ولو كانوا من أعلم العلماء، وما رأته ورآه كثيرون غيرها من ظواهر ومظاهر عجيبة غريبة قبل الميلاد وبعده ، وما امتلأت به الأرض حينذاك من ملائكة السماء الذين لم يلبثوا أن ظهروا لكثيرين يبشرونهم بمجيء ابن الله بين الناس، مهللين تهليل الفرح، ومرتلين تراتيل التمجيد لله في السماء، والخلاص للبشر والسلام على الأرض. وإذ كان القديس لوقا طبيباً، وعلى قدر عظيم من الثقافة والبلاغة، وكان تلميذاً للرب، وواحداً من رسله السبعين، ومزوداً بمواهب الروح القدس لذلك فهو من أقدر الناس بإرشاد الروح القدس على تصوير أحداث مجىء الفادي، في أسلوب رفيع، وفي تعبير دقيق، وفي ترتيب منسق، وفي فهم عميق، وفي أمانة كاملة.

ولعل شهادة القديس لوقا عن أحداث حياة السيد المسيح بأنها جرت يقيناً بينهم كما تسلموها من أولئك الذين رأوا بأعينهم وكانوا خداما للكلمة، هي شهادة أيضاً بأهمية التقليد الشفاهي الذي سارت عليه الكنيسة منذ نشأتها. قبل كتابة البشائر والرسائل. وهذا معناه أن التقليد هو مصدر الإنجيل، وقد اعتمد عليه الذين كتبوا الإنجيل. والتقليد الرسولي هو الحقائق والتعاليم التي ، علم بها السيد المسيح، والأحداث والوقائع التي صاحبت حياته على الأرض منذ بدأت وعاشت في ذاكرة السيدة العذراء مريم وتلاميذ السيد المسيح ورسله سنوات كثيرة قبل أن يبدأ الرسل تبشيرهم بالفعل وقبل أن يكتبوا البشائر والرسائل، وعنها أخذوا فيما علموا وفيما كتبوا. على أن أكثر الآباء الرسل ممن لم يكتبوا بشارة، أخذوا عنها في تعليمهم في البلاد التي ذهبوا إليها وبشروا فيها، والتي صارت معروفة بعدهم بالكنيسة الرسولية. فالتقليد الرسولي المسلم إلى الكنائس الرسولية، بالإضافة إلى البشائر والرسائل، تؤلف معا ينابيع التعليم المسيحي الذي نؤمن وننادي به.

1: 5 -25 ميلاد يوحنا المعمدان :

وإذ كان يوحنا المعمدان هو المعين في الحكمة الإلهية كما وردت على لسان أنبياء العهد القديم ليسبق السيد المسيح في الظهور، كي يهيئ قلوب الناس وعقولهم لمجيله والإيمان به، بدأ القديس لوقا إنجيله بوصف كيفية ميلاد يوحنا وأسلوب حياته ومناداته بقرب ظهور المسيح مخلص العالم الذي تنبأ بمجيئه كل الأنبياء، والذي كان اليهود ينتظرونه منذ أجيال طويلة. فيقول القديس لوقا إنه في أيام هيرودس ملك اليهودية – وهو المسمى هيرودس الكبير الذي لم يكن من أصل يهودي، والذي كان يحكم بلاد اليهود تحت سلطان الرومان، خاضعاً لهم، متملقاً إياهم – كان ثمة كاهن أسمه زكريا من نسل هارون أول رئيس لكهنة اليهود، وأخي موسى النبي. وقد كان الكهنة من أبناء هارون قد كثر عددهم في أيام الملك دارد، فقسمهم إلى أربع وعشرين فرقة، تتناوب، إقامة شعائر العبادة في هيكل أورشليم في الموعد المحدد لكل منها، وجعل لكل فرقة رئيسا تنتسب الفرقة إليه وتحمل أسمه . وكان زكريا أبو يوحنا من الفرقة الثامنة التي كان يرأسها أبيا، وكانت تحمل اسمه (1أخ 24: 10). وكانت زوجة زكريا من نسل هارون أيضاً، وكان اسمها أليصابات. وكانا كلاهما بارين أمام الله، سالكين بلا لوم في كل وصايا الرب وفرائضه. . بيد أنهما لم يكن لهما ولد، إذ كانت أليصابات عاقراً. وإذ كانا كلاهما طاعنين في السن، اتقطع رجاؤهما في إنجاب أبناء، على الرغم من دعائهما الدائم إلى الله ليستجيب لرجائهما في ذلك . وقد كان هذا مصدر حزن لهما، ولا سيما أن اليهود كانوا يعتبرون عقم المرأة عاراً لها، متخذين إياه دليلاً على غضب الله عليها.

وفيما كان زكريا يقوم بمراسم الكهنوت أمام الله في نوبة فرقته، أصابته القرعة على مقتضى نظام الكهنوت لأن يقوم بالتبخير على مذبح البخور في الهيكل. وكان هذا الطقس الذي كان ينبغي أن يتم يوميا، يتضمن شرفاً عظيماً، ومن ثم كان الكهنة يقترعون فيما بينهم لتعيين من يقوم به. فدخل زكريا هيكل الرب وكان الشعب كله في الخارج يصلي في وقت التبخير. وإذا بملاك الرب قد ظهر له قائماً على يمين مذبع البخور، فاضطرب زكريا حين رأه واستولي عليه الخوف. بيد أن الملاك بادر إلى تهدئة روع زكريا قائلا له ولا تخف يا زكريا، فإن دعاءك قد استجيب، وزوجتك أليصابات ستحبل وتلد ابنا فتسميه يوحنا، وتفرح وتبتهج، كما يفرح كثيرون بميلاده ، لأنه سيكون عظيماً أمام الرب، وخمراً و مسكرا لا يشرب. ومن بطن أمه سيكون ممثلاً من روح القدس، وسيرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمام الرب بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى أبنائهم، والعصاة إلى فكر الأبرار، كي يهيئ للرب شعباً مستعداً. ويتبين من بشارة الملاك لزكريا أن زوجته العاقر الطاعنة في السن التي فات أوان صلاحيتها الحمل والولادة بحكم القوانين الطبيعية، ستحمل على الرغم من ذلك بمعجزة إلهية، وتلد ابناً مختاراً من الله، إذ عين الله له رسالته، كما عين له أسمه قبل الحبل به، ووهبه كل صفات الرجل العظيم، لا العظمة الزائفة بالمقياس البشري وإنما العظمة الحقيقية بالمقياس الإلهي. وبالفعل فقد وصف السيد المسيح يوحنا بعد ذلك قائلا إنه لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان، (مت 11: 11). ويدل قول الملاك أنه “خمراً ومسكراً لا يشرب”، على أنه سيكون نذيراً للرب، مكرساً حياته لخدمته. لأنه كان من واجبات النذير في الشريعة أن يمتنع عن شرب الخمر والمسكر (عد 6: 3) . أما قول الملاك إنه سيرد كثيرين من بني إسرائيل إلى الرب إلههم، ويتقدم أمام الرب بروح إيليا وقوته ليرد قلوب الآباء إلى أبنائهم والعصاة إلى فكر الأبرار، كي يهيئ للرب شعباً مستعداه، فكان معناه أن هذا المولود هو الذي عينته حكمة الله ورحمته ليهيئ قلوب الناس للإيمان بالسيد المسيح، والذي تنبأ عنه ملاخي النبي حين ريد قول الله وها أناذا أرسل إليكم إيليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف، فيرد قلب الآباء إلى الأبناء، وقلب الأبناء على آبائهم، (ملاخي 4: 5) . فلم يكن المقصود في هذه النبوءة أن إيليا نفسه هو الذي سيجيء ليمهد الطريق للسيد المسيح كما كان اليهود يعتقدون، وإنما أن الذي سیجئ هو نبی آخر : بروح إيليا وقوته . وقد قال السيد المسيح في ذلك ولكنني أقول لكم إن إينيا قد جاء فعلا فلم يعرفوه، وإنما فعلوا به كل ما أرادوا .. وعندئذ فهم التلاميذ أنه كان يكلمهم عن يوحنا المعمدان” (مت 17: 12 و 13).

بيد أن زكريا وقد بوغت بهذا القول من الملاك، ذهل في تلك اللحظة عن قدرة الله العظيمة التي طالما أظهرها لرجاله الصالحين في قديم الأيام، ولم يخطر في باله لأول وهلة إلا أنه من غير الممكن أن زوجته العاقر العجوز تحيل وتلد. ولم يدرك أن ظهور الملاك في ذاته دليل كاف على أن إرادة الله قد شاءت أن تتم هذه المعجزة، كما لم يدرك أن صدور القـول من الملاك المرسل من الله دليل كاف على صدقه وامتناع الريبة فيه. ومن ثم طلب من الملاك أن يعطيه دليلاً واضحاً، وأن يبدي له علامة تقنعه بصدق ما سمعه منه، قائلا له «بم أعرف هذا فإني شيخ وزوجتي قد طعنت في السن ؟» . وعندئذ كشف له الملاك عن شخصيته، توبيخاً له على عدم اقتناعه، وتأكيداً له في الوقت نفسه بأن ما أنبأه به حق وصدق لأنه من عند الله ذاته، إذ قال له أنا جبرائيل الواقف أمام الله، وقد أرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا، ثم أعطاه العلامة التي أرادها. بيد أنها كانت علامة وعقابا معاً، إذ قال له وها أنت ذا ستظل أبكم فلا تستطيع الكلام إلى اليوم الذي يتحقق فيه هذا، لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في أوانه، ففقد زكريا على الفور القدرة على الكلام، ويبدوا أنه فقد أيضاً القدرة على السمع، بدليل ما جاء في الآية الثانية والستين من هذا الفصل. وفي هذه الأثناء كان الشعب كله في انتظار زكريا، متعجبين من إبطائه في الهيكل. فلما خرج لم يستطع أن يكلمهم، فأدركوا أنه قد رأى رؤيا في الهيكل، إذ كان يومئ بالإشارة إليهم، وقد ظل أبكم وأصم، فلما تمت أيام خدمته في الهيكل معنى إلى بيته، ثم لم تلبث المعجزة التي أنبأه بها الملاك أن تحققت، إذ أن زوجته أليصابات حبلت بالفعل، فأخفت نفسها خمسة أشهر قائلة “هذا هو الفضل الذي صنعه الرب معي، إذ عطف على كي ينزع عنى العار بين الناس”.

1: 26 -38 بشارة الملاك إلى العذراء مريم بميلاد المسيح 

وفي الشهر السادس من حبل أليصابات، أرسل الله ملاكه جبرائيل إلى مدينة في منطقة الجليل تسمى الناصرة، تقوم على جبل مرتفع في شمال فلسطين، ودخل إلى عذراء اسمها مريم، كانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، وقال لها «السلام لك أيتها الممثلكة نعمة. الرب معك. مباركة أنت في النساء، . والملاحظ أن الملاك ابتدر حديثه مع العذراء بأن أعطاها السلام، الأمر الذي لم يفعله مع زكريا الكاهن، أو مع أي إنسان آخر من قبل، مما يدل على مكانة خاصة للسيدة العذراء مريم، وهذا السلام من فم الملاك يبرر أيضاً ما تحيي به الكنيسة، والدة الإله، بقولها دائما السلام لك، نسألك أيتها القديسة الممثلة مجداً، العذراء دائمة البتولية، والدة الإله أم المسيح ، أصعدي صلواتنا إلى ابنك الحبيب ليغفر لنا خطايانا…. ثم إن وصف الملاك لها بأنها الممتلئة نعمة، إنما هو بيان لفضيلتها، وأنها كانت قبل حبلها بالسيد المسيح إناء طاهراً مستعداً لحمل النعمة، ولذلك ملأتها النعمة فصارت هي مشحونة بالنعمة ممثلة بها. وهذا الاستلام بالنعمة هو الذي جعلها أهلا لحلول الكلمة الأزلي في أحشائها.. نعم إن ما نالته ، مریم من كرامة كان إنعاماً، ولكن الإنعام لا يجيء إلا لمن يستحقه، كعلامة رضى وتكريم واعتراف بفضله وفضيلته. بيد أن السيدة العذراء إذ رأت الملاك اضطربت من قوله، وأخذت تفكر ما عسى أن يكون معنى هذه التحية؟. لأنها فتاة صغيرة وفقيرة، فما الذي دعا ذلك الملاك النوراني الجليل الهيئة المهيب الطلعة لأن يجيء إليها في بيتها المتواضع، ويوجه إليها كل هذا التكريم والتعظيم، ويسبغ عليها كل هذه الأوصاف الوافرة التقدير والتقديس، الزاخرة بالنعمة والبركة ؟ ولعلها أيضاً في براءتها وبساطتها – خافت من منظره الروحاني السماوي الذي لا يشبهه في بهائه وضيائه أحد من أبناء الأرض. كما خافت من ظهوره الفجائي كوميض البرق أمام عينيها. فقال الملاك لها ولا تخافي يا مريم، لأنك قد نلت نعمة عدد الله، وها أنت ذي ستحبلين وتلدين ابنا تسمينه يسوع. وسيكون عظيماً وابن العلى يدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، فيملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولن يكون لملكه انقضاء، ، بيد أن العذراء الطاهرة العفيفة، على الرغم من خطبتها ليوسف، كانت قد عشقت العفة الكاملة، وأرادت أن تحيا لله بتولا كل أيامها، ولم يكن زواجها الاسمى بيوسف إلا ضرورة اقتضاها وضعها كفتاة يتيمة الأبوين بلغت نحو الرابعة عشرة من عمرها، وكان لابد أن تخرج من الهيكل كما تقضى بذلك الشريعة، وكان لابد بالتالي من أن تكون في كتف رجل يحميها، ويتضح هذا العزم على العفة الكاملة والبتولية التامة من قولها للملاك في دهشة مثيرة «كيف يكون لي هذا، وأنا لا أعرف رجلا . والملاحظ أن عبارة العذراء مريم وهي تنفي عنها معرفة رجل معرفة الأزواج لم تكن بالنسبة للماضي فقط، وإنما تدل على اعتزامها أن لا تعرف رجلا في الحاضر والمستقبل أيضاً. وهذا أمر يدعو إلى العجب حقاً، فإن رسالة الملاك جاءتها وهي في بيت يوسف. ولو لم تكن مصممة على البتولية الدائمة لما كان ثمة معنى لاعتراضها، لا سيما أن البشري هي في صيغة المستقبل، إذ قال لها الملاك ستحبلين،. مما يدل دلالة قاطعة على أن السيدة العذراء مريم التي عاشت منذ الثالثة من عمرها في جو الهيكل المعطر بالبخور والصلوات قد تعلقت بالطهارة، وقد ملكت العفة على قلبها، فاعتزمت أن تعيش بتولا دائماً. ولذلك فإن الملاك لم يغضب لاعتراضها كما غضب لاعتراض زكريا، بل أبان لها في وقار أن هذا الحمل سوف لا يتعارض احتفاظها بيتوليتها، لأنه سيكون حملا، لا بزرع بشر، بل بحلول روح القدس عليها فأجاب الملاك وقال لها : إن روح القدس سيحل عليك وقوة العلى تظلك، ولذلك فإن القدوس الذي سيولد منك يدعى ابن الله، . فلما اقتنعت بأن هذا الحمل سوف لا يحرمها من احتفاظها يعفتها وبتوليتها أجابت الملاك قائلة وها أناذا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك، ، على أنها وإن كانت عذراء نقية وتقية تداوم السلاة وتتلو التوراة ونبوءات الأنبياء لم يخطر ببالها، وفي وداعتها وتواضعها، أنها هي العذراء التي تنبأ إشعياء النبي أن المسيح ابن الله مخلص العالم سيتجسد في أحشائها، وأنها على الرغم من أنها عذراء وتحبل وتلد ابنا وتدعو اسمه عمانوئيل، أي والله معناه (إش 7: 14) . ولكي يعطيها الملاك مثلاً على أن الله قادر أن يفعل هذا وإن بدا في عينيها عجيباً، قال لها وها هي ذي أليصابات التي هي من بنات جنسك، قد حبلت هي أيضاً بابن في شيخوختها، وهذا هو شهرها السادس، تلك التي كان يقال إنها عاقر، لأنه ليس ثمة مستحيل على الله، . وإذ قال لها الملاك ذلك أيقنت على الفور أنها هي العذراء التي تحدث إشعياء عنها في نبوءنه، ما دام روح القدس سيحل عليها وقوة العلى ستطالها، ما دام القدوس الذي سيولد منها هو ابن الله. وعندئذ تقبلت نعمة الله في خضوع وخشوع وإيمان وامتنان، قائلة للملاك ، ها أناذا أمـة الرب، فليكن لي بحسب قولك». وإذ رأى الملاك أنها استمعت إلى قوله واقتنعت به، انصرف من عندها بعد أن أدى الرسالة التي كلفه الله بها.

1: 39- 56 زيارة العذراء لأليصابات 

 بيد أن السيدة العذراء – وهي الفتاة الصغيرة الوديعة المتواضعة . كان هذا الحدث الجليل أكبر وأخطر من أن تطوى عليه جوانحها. ولم تكن تستطيع أن تقضى به إلا إلى قريبتها أليصابات زوجة زكريا التي أنبأها الملاك بأنها هي الأخرى – بقدرة الله الذي لا يستحيل عليه شيء – قد حبلت في شيخوختها. ففي تلك الأيام قامت مريم وذهبت مسرعة إلى مدينة على الجبال من مدن يهوذا، كانت تبعد عن الناصرة عشرات الأميال، والمعروف أنها مدينة عين كارم». وهناك دخلت بيت زكريا وسلمت، على أليصابات التي كانت عندئذ حبلى بيوحنا المعمدان، وكانت في شهرها السادس . فما إن سمعت أليصابات سلام مريم حتى انتفض الجنين في بطنها، وامتلأت أليصابات من روح القدس، فعلمت في هذه اللحظة – بالروح القدس وقبل أن تتحدث إليها سيدتنا الطاهرة بأي شيء مما حدث لها ـ أن هذه هي العذراء التي اختارها الله ليولد منها المسيح ابن الله مخلص العالم، ومن ثم صاحت بصوت عظیم قائلة “مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطلك. من أين لي هذا الشرف أن تأتي أم ربي إلى، فإنه ما بلغ أذنى صوت سلامك حتى انتفض الجنين متهللا في بطني. فطوبى لك يا من آمنت بأنه سيتم ما قيل لك من الرب” وهنا نقف لنتأمل امرأة عجوزاً وقورة تبلغ نحو التسعين من عمرها أو تزيد، وفي مكانة محترمة، إذ هي زوجة كاهن وهو زكريا، تستقبل فتاة صغيرة يتيمة فقيرة لم تبلغ بعد الرابعة عشرة من عمرها، تحييها بصوت عظيم قائلة مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك، ومما يجدر ذكره أنها باركتها قبل أن تبارك ثمرة بطنها، وهذا ينهض دليلاً من الروح القدس على أن تمريم كرامة في ذاتها، وأن كرامتها في فضيلتها أسبق من كرامتها كأم للمسيح، أي أن كرامتها في فضيلتها هي التي رشحتها لأن تصير أما للمسيح. فهي ليست كأي عذراء : أخرى، وإنما  هي العذراء الطاهرة المشحونة بالفضائل والتي اختارها الرب دون جميع العذاري لتكون له أما، لأنه رأى فيها حسنها الروحاني، وجمالها الباطني ولذلك أيضاً طويتها أليصابات وغبطتها، وكشفت بالروح القدس عمق إيمانها، إذ قالت فطوبى لك يا من آمنت بأنه سيتم ما قيل لك من الرب، فكانت أليصابات أول من طوبها بالروح القدس، بعد الملاك جبرائيل الذي حياها بتحية لم تعرفها أمرأة من قبل، ووصفها بأنها الممثلة نعمة، وقال لها ومباركة أنت في النساء، (لو 1: 28) . ثم إن في قول أليصابات «من أين لي هذا الشرف أن تأتي أم ربي إلى ما يبرر تلقيب السيدة العذراء مريم بوالدة الإله، حيث إن الذي كان في أحشائها من سجد له يوحنا المعمدان وهو في بطن أمه جنيناً وانتفض متهللا. إن اعتراف أليصابات بأن مريم هي أم الرب إنما هو صوت الروح القدس الذي نطق على فم أليـصـابات. وقـد كـان ولا يزال هذا هو اعتراف المسيحيين منذ أول عـصـور الكنيسة. ولقد أسقطت الكنيسة ونسطور، من درجته الكهنوتية لأنه أنكر هذا اللقب على السيدة العذراء مريم، وصارت الكنيسة تترنم دائما بمقدمة قانون الإيمان التي تقول «نعظمك يا أم النور الحقيقي. ونمجدك أيتها العذراء القديسة والدة الإله، مریم .. لأنك ولدت لنا مخلص العالم. . ومن ثم فإن الذي يذكر على السيدة العذراء مريم تلقيبها بوالدة الإله، إنما ينكر علي سيدنا يسوع المسيح أنه ابن الله، وأنه الله الظاهر في الجسد.

ولقد كانت تحية أليصابات هي أول إشارة تؤيد لدى العذراء العفيفة ما سبق أن قاله لها الملاك. ومن ثم أخذت تسبح الرب مترنمة بعظمته، شاكرة إياه على أنه ـ على الرغم من أنها صغيرة وفقيرة – وضعها في أشرف وأرفع مكان بين البشر، إذ هتفت قائلة وتعظم نفسى الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي، لأنه عطف على أمته في تواضعها فإنه هوذا منذ الآن كل الأجيال تطويني، لأن القدير قد صنع بي عظائم، قدوس اسمه ورحمته دائمة إلى أجيال فأجيال للذين يتـقـونه. أتى أعـمـال قـدرة بذراعه، وشتت المتـعـالين بأفكار قلوبهم. أنزل الأعزاء عن عروشهم ورفع الأذلاء. أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغي الأيدي. عاضد عبده إسرائيل ليذكر رحـمـتـه التي وعـد بـهـا آباءنا إبراهيم وذريته إلى الأبد، . وهكذا أدركت سيدتنا العذراء كل الإدراك قيمة المركز الذي منحه الله إياها. كما أدركت كل الإدراك طبيعة الجنين الذي تحمله في أحشائها، إذ ه هتفت قائلة «هوذا منذ الآن كل الأجـبـال تطويني،، وأيدت هذا الإدراك بقولها «تبتهج روحي بالله مخلصي، ، ثم بقولها إن الله بذلك العظائم التي صنعها بها، قد أنجز وعده لإبراهيم وذريته بمجئ المسيح مخلص العالم من نسله، لأنها كانت من نسل إبراهيم وذريته. وقد مكنت سيدتنا العذراء عند أليصابات نحو ثلاثة أشهر. أي أنها لازمتها إلى حين ولادتها ابنها يوحنا، ثم رجعت إلى بيتها في الناصرة.

1: 57- 80 میلاد يوحنا المعمدان 

فلما استوفت أليصابات زمان ولادتها ولدت أبنا، وسمع جيرانها وأقاربها كيف أن الرب قد أجزل رحمنه لها، ففرحوا معها. وفي اليوم الثامن جاءوا لختان الطفل على مقتضى الشريعة، وسموه زكريا على اسم أبيه. بيد أن أمه اعترضت قائلة ولا بل يسمى يوحنا، فقالوا لها ولا أحد في عشيرتك يدعى بهذا الاسم، . ثم سألوا أباد بالإشارة . إذ كان لا يزال أهم وأبكم منذ أن ظهر له الملاك في الهيكل منذ تسعة أشهر. قائلين له «ماذا تريد أن تسميه ؟، ، فطلب لوحا وكتب يقول أسمه يوحنا ، وفقاً لقول الملاك حين بشره أن الطفل الذي سيولد له سيسميه يوحنا، ومن ثم تعجب الحاضرون جميعاً، وفي الحال انفتح فم زكريا، وانحلت عقدة لسانه بعد أن استوفى العقاب الذي استحقه على عدم إيمانه بما بشره ملاك الله به، طالباً علامة ليؤمن، إذ أجابه الملاك عند ذاك قائلاً وها أنت ذا ستظل أبكم فلا تستطيع الكلام إلى اليوم الذي يتحقق فيه هذاء ، أي إلى الموعد الذي يجيء فيه الطفل ويسميه يوحنا، فلما تحقق هذا تكلم زكريا مباركاً الله. فاعترى الخوف جميع جيرانهم، لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا مثل هذه المعجزات التي وقعت أمامهم، والتي كان قد انقطع وقوعها منذ مئات السنين. إذ كانت الرؤيا التي علموا أن زكريا رأها في الهيكل معجزة، وكان حبل زوجته العاقر العجوز وولادتها معجزة، وكان كلامه وسمعه بعد أن ظل تسعة أشهر أبكم وأصم معجزة . ومن ثم جرى الحديث بكل هذه الأمور في جميع جبال اليهودية. وقد راح كل الذين سمعوها يفكرون في قلوبهم قائلين ،ما عسى أن يكون هذا الطفل؟… ما عسی أن تكون شخصية هذا الطفل الذي أحاطت بالحبل به وبميلاده كل تلك المعجزات، والذي كان واضحاً أن يد الرب كانت معه؟. أما أبوه زكريا فقد امتلأ من روح القدس وتدباً قائلاً «مبارك الرب إله إسرائيل، لأنه تفقد شعبه واقتداه ، مقيماً لنا ركن خلاص من بيت عبده داود. كما أعلن منذ القديم على أفواه أنبيائه القديسين أن يخلصنا من أعدائنا ومن أيدى جميع الذين يبغضوننا، وأن يسبغ رحمته على آبائنا، ويذكر عهده المقدس. ذلك القسم الذي أقسمه لإبراهيم أبينا، أن ينعم علينا بأن ننجو من أيدي أعدائنا، فنعبده بلا خوف، في قداسة وبر أمامه كل أيام حياتنا. وأنت أيها الطفل ستدعي نبي العلى، لأنك ستتقدم أمام وجه الرب لتهيئ طريقه، ولتعطى شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم. فيفضل رحمة إلهنا تفقدنا المشرق من العلاء، ليضئ للجالسين في الظلمة وظلال الموت، ويقود خطانا في طريق السلام، ، وبذلك تنبأ زكريا ـ وقد امتلأ في تلك اللحظة بروح النبوة التي هي من مواهب الروح القدس – بأن ابنه يوحنا هو الذي قال عنه الأنبياء إنه سيعد الطريق للمخلص الفادي، هاتفاً بالشكر لله، إذ حقق وعده للآباء الأوائل والأنبياء القدامي، فأرسل بالفعل ذلك المخلص الفادي الذي هو ابن الله وقد تجسد في أحشاء عذراء من نسل دارد. وإذ خاطب زكريا ابنه قائلاً «أنت أيها الطفل ستدعى نبي العلى، لأنك ستتقدم أمام وجه الرب لتهيئ طرقه،، إنما كان يعني أن ابنه هذا هو الذي تحدث عنه إشعياء النبي قائلاً في نبوءته وصوت صارخ في البرية : أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلا لإلهنا.. فيعلن مـجـد الرب ويراه كل بشر، (إش 40: 3و5) . وإذ قال زكريا فبفضل رحمة إلهنا تفقدنا المشرق من الأعالي ليضئ للجالسين في الظلمة وظلال الموت، ويقود خطانا في طريق السلام، ، فإنما كان يعنى بذلك أنه قد تحققت بالفعل نبوءة إشعياء النبي بمجيء السيد المسيح مولوداً من عذراء تعيش في منطقة الجليل التي كانت موطن سبطی زبولون ونفتالي، والتي كان سائر اليهود يحتقرون أهلها ويهينونهم لأنهم اختلطوا بالوثنيين وتأثروا بكثير من عاداتهم وعباداتهم، إذ جاء في هذه النبوءة ،كما أهان الزمان الأول أرض زبولون ونفتالي، يكرم الزمان الأخير طريق البحر، عبر الأردن، جليل الأمم (أي الوثنيين) الشعب السالك في الظلمة أبصـر نوراً عظيماً. الجـالـسـون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم نور .. لأنه يولد لنا ولد ونسلى ابنا وتكون الرئاسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيباً مشيراً، إلها قديرا، أبا أبدياً، رئيس السلام. لنمو رئاسته وللسلام لا نهاية، (إش 9: 1و2 و6 و7) ، وهكذا بدأت الإعلانات منذ ذلك الحين بأن المسيح ابن الله فادي البشر ومخلمسهم الذي تنبأ به كل أنبياء العهد القديم، قد جاء فعلا، وأصبح مع الناس على أرضهم، مصداقا لقول الملاك للسيدة العذراء حين بشرها بميلاده منها أنه سيدعى عمانوئيل، الذي يعنى باللغة العبرية والله معنا، أي أنه اتخذ جسدنا وعاش بيننا كواحد منا.

أما الطفل يوحنا فكان ينمو ويزداد قوة في الروح، وكان يقيم في البراري إلى يوم ظهـوره لإسرائيل، أي أنه عاش حياته كلها تقيا متقشفاً متوحداً في البراري. وكان هيرودس ملك اليهود قد أمر بقتل كل الأطفال المناهزين لعمر الطفل الإلهي يسوع من أبن سنتين فما أقل وفقاً للزمان الذي تحققه من المجوس الذين كانوا قد جاءوا يسألون عن ذلك الطفل قائلين إنه سيكون ملكاً لليهود (مت 2: 16) وقد كان يوحنا واحداً من هؤلاء الأطفال الذين ينطبق عليهم أمر القتل الذي أصدره هيرودس. ويروي لنا تقليد قديم أن الجند حين جاءوا ليقتلوه في بيت أبيه زكريا، احتضنه أبوه بين يديه وقال للجند ، سأسلّمه إليكم من المكان الذي أخذته منه، ثم جرى نحـو الهيكل يحمل ابنه، والجند يجرون من خلفه، فلما بلغ إلى الهيكل أمسك بقرون المذبح وأخـذ يصرخ إلى الرب إلهه قائلاً «أليس هذا هو الابن الذي أعطيتني إياه في سن الشيخوخة بعد طول جهاد؟ إنهم يريدون قتله،، وعند ذلك يروى التقليد أن ملاك الرب خطفه من يد أبيه ومضي به ید إلى البرية، فلما لم يجده الجند، قتلوا أباه زكريا بالسيف. وأما يوحنا فقد ظل في البرية حيث وضعه للملاك وهو طفل رضيع، حتى كبر وصار يافعاً، فصار طعامه جرادة وعسلا بريا (مت 3: 4). فإذ جاء يوحنا بإعلان من الله ومعجزة من السماء، لرسالة مقدسة، شاء الله أن يحيا منذ طفولته في البراري استعداداً لهذه الرسالة التي أرسله الله لأدائها، وكان دائم الاتصال به لیرشده ويعينه على أداء هذه الرسالة. ومما يدل على ذلك قول يوحنا لليهود عن السيد المسيح «أنا ل أكن أعرفه. لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء، ذاك قال لي : الذي تري الروح نازلا ومستقراً عليه، فهذا هو الذي سيعمد بالروح القدس، (يو 1: 32و 33).

وإذ كـان يوحنا كاهناً كـمـا كـان أبوه زكريا كاهناً من سبط هارون، لم يكن يجوز له طبقاً للشريعة أن يقوم بالخدمة الدينية ككاهن أو كتبي قبل أن يبلغ سن الثلاثين، ومن ثم فإنه ظل ملتزماً التقشف والوحدة والصمت في البراري حتى بلغ هذه السن. وعندئذ أظهر نفسه لبنى إسرائيل، ليؤدي الرسالة التي كان مكلفاً من الله بأدائها.

زر الذهاب إلى الأعلى