فصول مُنتخبة من العهد الجديد للقديس اغسطينوس – متى 11

العظة السادسة عشر مت 11: 2

يوحنا المعمدان

عن كلمات الإنجيل مت11: 2 “وأما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح ارسل إثنين من تلاميذه وقال له انت هو الآتي

 أم ننتظرأخر الخ….”

1-أعظم مواليد النساء:

 

1- لقد وضع فصل الكتاب المقدس  أمامنا سؤالا يخص يوحنا المعمدان. ليت الرب يساعدني لأشرحه لكم كما سبق أن شرحه هو لنا. لقد مُدح يوحنا بشهادة المسيح كما سمعتم – في تعبيرات مدح كهذه أنه لم يقم من بين مواليد النساء أعظم منه. ولكن الأعظم منه قد ولد من العذراء. كم هي عظمته؟ لندع البشير نفسه يخبرنا عن الفارق العظيم بينه وبين الديان الذي ارسله. فقد سبق يوحنا المسيح في ميلاده وبشارته و لكن بالطاعة سبقه  وليس لتفضيله نفسه عن المسيح. هكذا جاء جميع الخدام قبل الديان ولكن الذي ساروا قبله هم في الحقيقة بعده. أنه شهادة مشهورة شهد بها يوحنا للمسيح؟ كما في قوله” الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه.(1) وما هي الشهادة الأعظم من هذه؟

 

2- إتضاع:

يقول “ومن ملئه نحن جميعنا أخذنا”. لقد اعترف أنه ليس إلا مصباحا يضئ بنور المسيح، فهو يحتمي عند قدميه لئلا يطمح في العلو والعلاء فينطفئ بريح الكبرياء. هكذا كان يوحنا عظيما حتى ظُن أنه المسيح ولولا إعلانه بنفسه أنه ليس هو المسيح لاستمر هذا الخطأ وحُسب انه المسيح. ياله من إتضاع عجيب. قدم الناس إليه المجد، أما هو فرفض. أخطأ الناس في عظمته، أما هو فوضع نفسه ولم يرغب في العلو بكلام الناس، ناظرا أنه يدرك كلمة اللُه.

3- ثابتا في تعاليمه:

2- هذا ما قاله يوحنا عن المسيح، وماذا قال المسيح عن يوحنا؟ لقد سمعنا ذلك الآن “إبتدء يسوع يقول للجموع عن يوحنا ماذا خرجتم إلى  البرية لتنظروا اقصبة تحركها الريح.” بالتأكيد لا لأن يوحنا لم يكن “محمولا بكل ريح تعليم”

4- ناسكاً:

 لكن ماذا خرجتم لتنظروا إنسانا لابسا ثيابا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة في بيوت الملوك. لا فيوجد كان لابسا ملبسا خشنا. وكان ردائه من شعر الإبل لا من الملابس الناعمة. ولكن ماذا خرجتم لتنظروا أنبياء.

5- أفضليته عن الأنبياء:

نعم اقول لكم وأفضل من نبي. “لما هو أفضل من نبي؟ لقد تنبأ الأنبياء بمجيء الرب واشتهوا رؤيته دون أن يروه، وأما هو فقد اعطى له ما بحثوا عنه. رأى يوحنا الرب، رآه وأشار إليه بأصبعه قائلا هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم. هوذا. أنه هاهنا. لقد جاء المسيح ولم يعرفه حدث خطأ كما حدث بالنسبة ليوحنا نفسه. هوذا الذي اشتهى الآباء رؤيته والذي تنبأ الأنبياء عنه، والذي تنبأ الناموس عنه بالرموز. “هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم. “قدم يوحنا شهادة صادقة للرب. كذلك قدم له الرب أيضا، فقد قال الرب” لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه الأصغر من ناحية الزمان ولكن الأعظم من ناحية الكرامة.

هذا ما قاله الرب. فيوحنا المعمدان عظيم جدا بين البشر الذين ليس فيهم أعظم إلا المسيح. يمكن أن نشرح هذا أيضا بمعنى غير الذي شرحته، “لم يقم بين مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان. ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم من يوحنا “يقصد بملكوت السموات في “الأصغر في ملكوت السموات أعظم” أنه حيث يكون الملائكة. أذن الأصغر في الملائكة أعظم من يوحنا. بهذا يعرض أمامنا عظمة الملكوت الذي ينبغي أن نشتاق إليه، ويضع أمامنا مدينة ينبغي أن نشتهي أن نكون من سكانها. من أي نوع هم هؤلاء السكان؟ كم هم عظماء؟ الأصغر فيهم أعظم من يوحنا. أعظم من أي يوحنا هذا؟ من الذي “لم يقم بين مواليد النساء أعظم منه”.

 

هل شك في شخص المسيح:

3- هكذا قد سمعنا الشهادة الحقيقية الصالحة من كل من يوحنا عن المسيح ومن المسيح عن يوحنا. اذن ماذا يعني إرسال يوحنا تلميذيه للمسيح عندما كان في السجن على وشك أن يوضع للموت وقال لهما “اذهبا وقولا له “أنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ هل هذا هو كل مدحه؟ هل تحول ذلك المدح إلى  شك؟

ماذا تقول يا يوحنا؟ لمن تتحدث؟ لمن تقول؟ انك تحدث الديان الذي أنت مخبر عنه. لقد بسطت أصبعك واشرت إليه قائلا” هوذا حمل اللُه الذي يرفع خطية العالم لقد قلت “ومن ملئة نحن جميعا أخذنا “لقد قلت” الذي لست مستحق أن أحل سيور حذائه فهل تقول الآن “أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ أليس هو المسيح نفسه؟ من أنت؟ ألست السابق له؟ ألست الذي عنك قد تنبئ “ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك” فكيف تهيئ الطريق وأنت ضال عنه؟ لذلك جاء تلميذي يوحنا فقال الرب لهما

“اذهبا وأخبرا يوحنا.. العمي  يبصرون والصم يسمعون والعرج يمشون والبرص يطهرون والمساكين يبشرون وطوبى لمن لا يعثر في”(8) لا تظن أن يوحنا عثر في المسيح ومع هذا فقد كانت كلماته “أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ إسأل أعمالي “العمي يبصرون والصم يسمعون والعرج يمشون والبرص يطهرون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” ومع هذا هل تسأل عما إذا كنت أنا هو؟ انه يقول ان أعمالي هي كلماتي وحتى لا يقول أحد أن يوحنا كان صالحا ولكن روح اللُه فارقة لذلك تكلم بهذه الكلمات بعد ذهابهما” إذهبا وإخبرا يوحنا.. وبينما ذهبا “مدح المسيح يوحنا بعد ذهاب التلميذين الذين أرسلهما يوحنا.

 

4- إذن ماذا يعني هذا السؤال الغامض؟ ليته تشرق تلك الشمس (المسيح) علينا تلك التي اقتبس ذلك المصباح نوره منها. بهذا يتضح حل هذا السؤال تماما. لقد خصص يوحنا تلاميذا له لا ليفصلهم عن المسيح بل ليعدهم ليكونوا شهودا له.

لأن هذا يليق بشخص عليه أن يشهد للمسيح وقد جمع لنفسه تلاميذا، الذي يشتهيه ولكن لا يستطيع رؤيته. كان تلاميذ يوحنا يقدرون سيدهم تقديرا عظيما وقد سمعوا من يوحنا شهادة عن المسيح وتعجبوا، وإذ قرب موته رغب في تثبيتهم بواسطة المسيح لانهم بلا شك كانوا يقولون فيما بينهم “أشياء عظيمة كهذه يقولها عن المسيح ولا يقولها عن نفسه.

إذهبا وإسألاه “ليس لأنني أشك بل لأجل تعليمكم “اذهبا إسألاه اسمعا منه ما أخبركم به لقد سمعتم الرسول (المخبر) فلتثبتوا بواسطة الديان. “اذهبا أسألاه أنت هو الآتي أم ننتظر أخر”؟ لذلك ذهبا وسألاه لا لأجل يوحنا بل لأنفسهما. من أجل نفسيهما قال المسيح “العمي يبصرون والعرج يمشون والصم يسمعون والبرص يطهرون والموتى يقومون والمساكين يبشرون” لقد رأيتماني فلتعرفاني لقد رأيتما الأعمال فلتعرفا صانعها “وطوبى لمن لا يعثر في” هذا أقوله عنكم لا عن يوحنا لذلك ينبغي أن نعرف أنه لم يكن يتكلم بهذا عن يوحنا فعندما رحلا ابتدأ يسوع يقول للجموع عن يوحنا أن الحق، الحق نفسه يعلن مدحه الحقيقي.

 

5- أظن أنه قد وضح هذا السؤال بما فيه الكفاية، أن هذا يكفي ولا حاجة للإطالة في الشرح. لتتذكروا الفقراء الآن. إعطوا يا من لم تعطوا بعد إلى  الآن. صدقوني أنكم لن تخسروا (ما تعطونه). حقا أنه يبدر أنكم تخسرون فقط ما لا تحملونه إلى  الميدان”

 ينبغي علينا ان نعطي الفقراء تقدماتكم بتقديمكم شيئا، فالمبلغ الذي معنا أقل من التقدمات المعتادة تخلصوا من هذا الإسترخاء. لقد صرت شحاذا للشحاذين. ماذا يكون هذا بالنسبة لي؟ أريد أن أكون شحاذا للشحاذين حتى تحسبون في عداد الأبناء.

العظة السابعة عشر مت 11: 25

الاعتراف

عن كلمات الإنجيل مت 11: 25 “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء الخ…

1- عندما قرأ إلانجيل معنا أن الرب يسوع تهلل بالروح قائلا “أعترف”(1) لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للاطفال” ان هذا كثير علينا أن نبدأ به، فإنه إذا ما تبصرنا في كلمات الرب باهتمام واجب وبهمة (نشاط) وفوق الكل بتقوى فإننا نجد أنه ينبغي قبل التعمق في الموضوع- أن لا نفهم كلمة “الاعتراف” عند قراءتها في الكتاب المقدس  أنها الاعتراف الذي يخص الخاطئ. لأنه ما أن نطق القارئ بهذه الكلمة أي عند سماعها، أقصد سماع قول الرب “أعترف لك أيها الآب” حتى تبعها قرعات على صدوركم. فعند النطق بهذه الكلمات “أنا اعترف” تضربون على صدوركم. ماذا تعني هذه الضربات على الصدور إلا إظهار ما قد خبأ فيها، وانتهار الخطايا الخفية بضربات منظورة؟ ولماذا تصنعون هذا إلا لسماعكم اعترف لك أيها الآب “لقد سمعتم الكلمات “أنا اعترف” دون أن تتبصروا في من هو الذي يعترف. تبصروا الآن إن كان المسيح البعيد عن كل الخطايا يقول “اعترف” فان الاعتراف “لا يخص الخطاة فحسب بل يخص أحيانا الذين يسبحون الله أيضا. لذلك فاننا نعترف سواء في تسبيحنا لله أو في استذناب أنفسنا. وكلا الأمرين هو اعتراف حسن، سواء في لومكم لأنفسكم يا من لستم بلا خطية أو في تسبيحكم لله الذي بلا خطية.

 

الاعتراف بالخطية دليل الحياة:

2- لكن اذا تأملنا جيدا فاننا نجد أن خزيك هو مجد لله. لأنه لماذا تعترف الآن متهما نفسك بالخطية إلا لأنك قد حبيت من الموت؟ لأن الكتاب المقدس  يقول “الإعتراف يعدم من الميت اذ يعود كلا شيء” فاذا كان الاعتراف يعدم من الميت، فلابد وأن يكون المعترف حيا.

و إذا اعترف بخطيته فبلاشك يكون قد قام ثانيا من الموت والآن إذا كان الذي يعترف بالخطية قد قام من الموت فمن هو الذي اقامه؟ لا يمكن لإنسان ميت أن يقيم نفسه. المسيح وحده الذي كان حيا في نفسه هو الذي كان قادرا على إقامة نفسه الذي رغم موت جسده فانه لم يكن هو ميتا، لأنه أقام ما كان ميتا. لقد أقام نفسه الذي هو حي في نفسه Himself   ولكنه كان ميتا في جسده المقام. لأنه ليس الآب وحده اقام الابن الذي قال عنه الرسول “لذلك رفعه الله أيضا” بل أقام الرب نفسه أيضا أي جسده لذلك قال السيد “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام اقيمه” أما الخاطئ فميت خاصة الذي تضغط عليه ثقل العادات الخاطئة، المدفون كما لو كان مثل لعازر. لأنه لم يكن لعازر ميتا فقط بل مدفونا أيضا” أن كل من ثقل بأثقال العادات الشريرة والحياة الشريرة والشهوات الأرضية، أقصد بالحقيقة ذلك الذي حالته كحال الذي وصفه المزمور برثاء “قال الجاهل في قلبه ليس إله” فانه يكون انسان كهذا الذي قبل عنه “الإعتراف يعدم من الميت.

اذ يعود كلا شيء” من يستطيع ان يقيمه إلا ذاك الذي عندما رفع الحجر صرخ قائلا لعازر هلما خارجا” ماذا يقصد بـ “هلما خارجا” إلا إخراج ما هو ميت؟ إن المعترف “يخرج خارجا “هلم خارجا”. انه لم يكن ذلك ممكنا مالم يكن حيا، ولا يمكن أن يكون حيا مالم يكن قد أقيم ثانيا. لذلك فإنه في الاعتراف اذ يتهم الإنسان ذاته بتمجد الله.

 

عمل الله وعمل الكاهن:

3- قد يقول قائل ما فائدة الكنيسة الكهنوت إن كان الذي يعترف ينهض في الحال قائما إلى  الحياة ثانيا بصوت الرب؟ ماذا ينتفع المعترف من الكنيسة التي قال عنها الرب “ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء”  تأمل الأمر ذاته في حالة لعازر، فانه خرج خارجا ولكن بأربطته. انه كان حيا بالاعتراف ولكن لم يكن قادرا على السير بل يسقط (يختبل) بسبب أربطته. ماذا تفعل الكنيسة التي قيل لها “كل ما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السماء” إلا ما قاله الرب لتلاميذه “حلوه ودعوه يذهب”.

 

الاعتراف يمجد الله:

4- اننا نمجد الله سواء باتهمنا لذواتنا أو مدحنا له مباشرة فإن كنا نتهم انفسنا بقصد ورع فاننا بذلك نمجد الله. عندما نمدح الله مباشرة فاننا نفعل هذا مبجلين قداسته الذي بلا خطية وأما عندما نتهم ذواتنا فاننا نمجده بالذي اقامنا مرة أخرى. فان فعلت هذا (أي اتهمت ذاتك) لا يجد العدو فرصة يحتال بها عليك أمام القاضي. إن كنت تتهم ذاتك، والرب هو مخلصك ماذا يكون العدو سوى مجرد محتال؟

بهذا يستطيع المسيحي لسبب حين أن يحمي نفسه ضد اعدائه لا المنظورين الذين هم من لحم ودم (هؤلاء الذين نشفق عليهم أكثر من أن نخاف منهم) بل الذين ينصحنا الرسول أن نتدرع ضدهم “فان مصارعتنا ليست مع لحم ودم” أي ليست مع البشر الذين نراهم يغضبون علينا. انهم ليسوا إلا أوان يستخدمها غيرهم، ليسوا إلا أدوات في أيدي الأخرين. فيقول الكتاب المقدس ” القي الشيطان في قلب يهوذا الاسخريوطي أن يسلمه” قد يقول قائل وماذا أنا بفاعل؟ اسمع الرسول يقول “لا تعطوا إبليسا مكانا” بإرادتك الشريرة تعطه مكانا فيدخل ويمتلك ويستخدمك انه لا يمتلك ان لم تعطه مكانا.

 

5- لذلك يحذرنا قائلا “فان مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين” قد يظن أحد أنه يقصد بذلك ملوك الأرض وسلاطين هذا العالم” كيف هذا؟ أليسوا هم من لحم ودم؟ وقد قيل عن الكل (كل الأعداء) ليست مع لحم ودم “غض نظرك عن كل البشر فاي أعداء بعد يبقون؟ مع الرؤساء مع السلاطين مع أجناد الشر مع ولاة العالم “وحتى يزيل اللبس، وضح ما هو هذا العالم الذين هم ولاته “ولاه العالم عالم الظلمة “ما هو عالم الظلمة” هذا؟ العالم مملوء بالذين يحبونه وبغير المؤمنين هؤلاء الذين عليهم هم (أي الشيطان وجنوده) ولاه.

هذا ما يدعوه الرسول ظلمة “فالشيطان وجنوده هم ولاة هذه الظلمة انها ليست بالظلمة الطبيعية، غير المتغيرة، بل تتغير وتصير نورا. انها تؤمن ومتى أمنت تضئ وعندما يحدث لها هذا تسمع هذه الكلمات “لانكم كنتم قبلا ظلمه وأما الآن فنور في الرب”  لأنكم اذ كنتم ظلمة لم تكونوا في الرب وبالتالي عندما استضائم فإنكم لا تضيئون من ذواتكم بل بالرب” وأي شيء لك لم تأخذه”؟ فبكونهم أعداء غير منظورين ينبغي أن يقاوموا بطرق غير منظورة. حقا يمكن أن تتغلب على العدو المنظور بالضربات، أما غير المنظور فانك تقهره بالإيمان. الإنسان عدو منظور والضرب منظور أيضا. الشيطان عدو خفي وكونك تؤمن فهو غير منظور أيضا. إذن توجد حرب غير منظورة ضد الأعداء الخفيين.

 

          6- كيف يمكن لإنسان أن يقول أنه في مأمن من هؤلاء الأعداء؟ لقد بدأت أن أتكلم عن هذا ولكن أظن أنه ينبغي أن أعالج موضوع هؤلاء الأعداء في شيء من الإيجاز. الآن قد عرفنا الأعداء دعنا نبحث عن طريقة دفاعنا ضدهم “أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي (مز 18: 3). لقد رأيت ما ينبغي أن تفعله أدعو بحمد أي ان تدعو الرب بحمد “لأنك لا تكون في مأمن من أعدائك إن مدحت ذاتك “أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي “لأنه ماذا يقول الرب ذاته” ذابح الحمد يمجدني والمقوم طريقه أريه خلاص الله” (مز 50: 23) أين هو الطريق.

 في ذبيحة الحمد. لا تدع أرجلك تحيد عن هذا الطريق. كن فيه و لا تبتعد عنه، لا تبتعد عن مدح الرب خطوة ولا قيد أنملة، لأنك إن حدت عن الطريق ومدحت ذاتك بدلا من أن تمدح الرب فانك لا تنجو من أعدائك، فقد قيل عنهم “مّدوا شبكة بجانب الطريق”  (مز140: 5) لهذا إن ظننت أن لك صلاح في ذاتك ولو إلى  أدنى درجة فانك تكون قد حدت عن طريق مدح الله. عندما تضلل ذاتك لماذا تتعجب إن ضللك عدوك؟ استمع إلى الرسول “لأنه إن ظن أحد أنه شيء وهو ليس شيئا فانه يغش نفسه” (غل 6: 3).

 

          7- انتبه إلى اعتراف الرب “اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض” اعترف لك أي أحمدك. إنني أحمدك ولست اتهم ذاتي. والآن لو أخذنا في الاعتبار الشخص ذاته فان كله نعمة، نعمة فريدة كاملة أي استحقاق لهذا الشخص الذي هو المسيح لو اخذت منه النعمة ولو كانت هذه النعمة عظيمة الشأن التي بها يليق أن يكون مسيحا و احدا وبها يكون هذا نعرفه أنه هو (المسيح)؟ لتنزع هذه النعمة فماذا يكون بعد في المسيح إلا مجرد إنسان؟ وماذا يكون سوى مثلك؟ لقد أخذ روحا وجسدا، أخذ إنسانا كاملا، لقد وحده فيه لقد صار الرب في خادمة شخصا واحدا.  أي نعمة جزيلة الشأن هذه ؟ المسيح في السماء المسيح في الأرض، المسيح نفسه في السماء وعلى الأرض.

المسيح مع الآب، المسيح في بطن العذراء، المسيح على الصليب، المسيح يعتق بعض الأرواح التي في الجحيم وفي ذات اليوم هو في الفردوس مع اللص المعترف. وكيف وصل هذا اللص إلى  هذه البركة إلا لأنه سلك هذا الطريق الذي فيه أعلن المسيح خلاصه؟

ذاك الطريق الذي ينبغي أن لا تحيد أرجلك عنه. ففيه أوان نفسه وامتدح الله، وجعل حياته مباركة. أنه نظر في رجاء لهذه (الحياة) من الرب قائلا له “اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك”(24) لقد تأمل أعماله الشريرة فحسبها كثيرة، فهل تشمله رحمة الله ولو في النهاية. في الحال بعد قوله “اذكرني” متى؟ “اذا جئت في ملكوتك” قال له الرب “الحق أقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس “الرحمة قدمت للحال فيالشقاء من أجّل.

 

الحكمة الباطلة:

          8- استمع إلى  اعتراف الرب “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض بماذا أعترف؟ هل أمدحك في اعترافي؟ لأن هذا الاعتراف كما سبق أن قلت يعني الحمد “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” ما هذا يا أخوتي؟ لتفهموا (ما يقصد بالحكماء والفهماء) مما جاء بعكسهم قال “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” ، ولم يقل أنه أعلنها للأغبياء والجهلاء بل بالحقيقة “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال “أخفاها عن هؤلاء الحكماء الذين هم بالحقيقة مثار سخرية ومتكبرين، الذين يتظاهرون باطلا أنهم عظماء ولكنهم بالحق ليسوا إلا متكبرين. انه لم يذكر عكسهم الأغبياء والجهلاء بل الأطفال. من هم الأطفال؟ أنهم المتضعون. لهذا “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء “فبقوله “أعلنتها للأطفال” أوضح أنه يقصد الكبرياء تحت اسم الحكمة والفهم.

لذلك أخفيتها عن من هم ليسوا بأطفال. ما هو المخفي عن من هم ليسوا بأطفال أي عن غير المتضعين، الذين هم ليسوا سوى المتكبرون؟ أنه طريق الرب. إما أنه لا يكون احدا منهم هناك او يظل الطريق مخبأ لكي ما يعلن لنا. لماذا تهلل الرب؟ لأنه أعلن ذلك للأطفال.

ينبغي أن نكون أطفالا صغار، لأنه ان أردنا أن نكون عظماء “حكماء وفهماء كما قيل فعندئذ لا يعلن لنا. من هم هؤلاء العظماء؟ انهم “الحكماء والفهماء” وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء”(25) هنا تجد علاجا تعرفه من الضد. فإذ تزعم أنك حكيم تصير جاهلا، فلتعترف في نفسك انك جاهل فتصير حكيما. ولكن لتشهد بذلك بالحق اعترف بهذا في القلب لأن هذه هي الحقيقة كما تشهد. فان شهدت بذلك لا تشهد به أمام الناس دون أن تعترف به أمام الله بالنسبة لذاتك وكل ما يخصك أنت بكليتك مظلما.

 لأنه أي غباء أكثر من أن يكون قلبك مظلما؟ أنه يقول عنهم في النهاية “وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” ماذا نجد قبل زعمهم هذا؟ واظلم قلبهم الغبي”(26) إذن لتعرف أنك لست نورا لنفسك بل الأصح أنك عين لا نور ما فائدة العين حتى المفتوحة والسليمة بدون وجود نور؟ لتعرف إذن أنك لست نورا لذاتك ولتصرخ كما هو مكتوب “لأنك أنت تضيء سراجي. الرب إلهي ينير ظلمتي. (27) لأني أنا نفسي كنت بكليتي ظلمة ولكن أنت هو النور الذي يبدد الظلمة وينير في. أنا لست نورا لنفسي، ليس لي نصيب من النور إلا بك.

 

          9- هكذا ظنوا يوحنا صديق العريس أنه المسيح، ظنوا أنه النور “لم يكن هو النور بل ليشهد للنور.”  ولكن ماذا كان النور؟ لقد كان النور الحقيقي. ما هو هذا النور الحقيقي؟ هو “الذي ينير لكل إنسان “إن كان هو النور الحقيقي الذي يضيء لكل إنسان فلابد وأن يكون قد اضاء يوحنا أيضا، الذي شهد واعترف بحق “من ملئه نحن أخذنا” انظرا أنه قال ما ينبغي قوله  وهو ليس إلا “لانك انت تضيء سراجي”.

أخيرا فبكونه مضيء قد شهادته لأجل الأعمى قدم السراج شهادة إلى  اليوم انظر كيف انه سراج. قال يسوع أنتم أرسلتم إلى  يوحنا فشهد للحق…. وأنتم أردتم أن تبتهجوا بنوره ساعة” لقد كان السراج الموقد المنير. أنه السراج أي أنه الشيء المضيء استضاء لكي ما يضيء الذي يمكن أن يضاء يمكن أيضا أن يطفئ، لذلك لا يعرض نفسه لرياح الكبرياء حتى لا ينطفئ. لهذا “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء.

“اخفيتها عن هؤلاء الذين ظنوا أنفسهم أنهم نور وكانوا ظلمة. فإذا هم ظلمة وظنوا أنفسهم نورا لم يستطيعوا حتى أن يستضيئوا. وأما الذين هم ظلمة واعترفوا بانهم ظلمة فقد كانوا أطفالا صغارا وليسوا بعظماء، كانوا متضعين وليسوا بمتكبرين. كذلك لهم بالحق ان يقولوا “انت تضيء سراجي” انهم يعرفون أنفسهم ويمدحون الله. انهم لم يضلوا عن طريق الخلاص. ادعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي.

 

          10- لنرجع إذن إلى  الرب إلهنا، الآب القدير في نقاوة قلب. لنعد إليه بقدر ضعفنا، بحمد فياض، مصلين إلى  صلاحه الفريد بكل قلوبنا، حتى يهبنا أن يسمع صلواتنا في مسرته الصالحة ويطرد بقوته العدو من أعمالنا وأفكارنا، ويقوي إيماننا ويرشد عقولنا ويهبنا أفكارا روحية، ويحضرنا سالمين إلى  بركته اللانهائية بابنه يسوع المسيح. أمين

 

العظة الثامنة عشر مت 11: 25

الحكمة الباطلة

أيضا على كلمات الإنجيل مت11: 25 “أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض الخ.

1) الاعتماد على الحكمة البشرية:

1- لقد سمعنا ابن اللُه يقول اعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض”.  بماذا يعترف له؟ بماذا يمدحه؟ “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء واعلنتها للأطفال”. من هم الحكماء والفهماء؟ من هم الأطفال؟ ماذا أخفى عن الحكماء والفهماء وأعلنه للأطفال. لقد قصد بالحكماء والفهماء أولئك الذين تكلم عنهم القديس بولس “أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل اللُه حكمه هذا العالم. ومع هذا فلعلك لازلت تسأل من هم هؤلاء؟ ربما يكونون أولئك الذين يجدفون باطلا عن اللُه في جدالهم الكثير عنه، الذين ينتفخون بتعاليمهم الخاصة فلا يستطيعوا أن يجدوا ويعرفوا اللُه بحكمه، والذين بسبب عدم إدراك ورؤية جوهر اللُه يظنون أن الهواء والسماء هما اللُه أو أن الشمس هي اللُه وأن أي شيء له مكانا عاليا بين المخلوقات هو اللُه [؟؟؟؟] لعظمة وجلال وقوة المخلوقات يبقون فيها دون أن يجدوا اللُه.

 

          2- هؤلاء يزجرهم سفر الحكمة حيث يقول “لأنهم إن كانوا قد بلغوا من العلم أن استطاعوا ادراك كنه الدهر فكيف لم يكونوا أسرع إدراكا لرب الدهر” أنهم متهمون بتضييع وقتهم وعملهم في الجدال في أبحاث ومقاييس كما لو كان مخلوقا. أنهم يبحثون في دوران النجوم وبين الكواكب وحركات الأجسام السماوية هكذا إلى  أن يصلوا بحسابات دقيقة إلى  هذه الدرجة من المعرفة والتنبؤ بكسوف الشمس وخسوف القمر، فتنبؤا هكذا بالحوادث باليوم والساعة وبالأجزاء التي ستحجب من الأجسام. ياله من مثابرة عظيمة ونشاط ذهني ضخم.

 ولكنهم يبحثون عن الخالق خلال هذه الأمور، ذلك الذي ليس هو ببعيد عنهم ومع هذا فلم يجدوه. هؤلاء الذين لو استطاعوا أن يجدوه للزم أن يجدوه في داخلهم، فيحق، وبحق أكيد قد اتهموا، هؤلاء الذين استطاعوا البحث في عدد النجوم وحركاتها المختلفة وعرفوا وتنبأوا بانحجاب الكواكب، أقول بالحق اتهموا أنهم في هذه لم يجدوه، ذاك الذي به خلقت (هذه الأشياء) ودبرت وذلك بسبب وإهمالهم في البحث عنه.

          لا تقلق كثيرا إن كنت تجهل حركة النجوم وعدد الأجسام السماوية والأرضية. أنظر إلى  جمال العالم النقي ومجد الخالق مدبره، تطلع إلى  ما قد صنع وحب صانعها ليكن هذا هو اهتمامك العظيم. حب صانعها لأنه صنعك أيضا على صورته حيث ينبغي أن تحبه.

 

2)الذين عرفوا اللُه ولم يمجدوه:

          3- إن كانت هذه الأشياء غريبة، تلك التي قال عنها المسيح “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” قد أخفيتها عن حكماء كهؤلاء الذين ينشغلون كلية بالمخلوقات، راغبين في البحث بإهمال عن الخالق فلم يستطيعوا أن يجدوه، فانه يبقى ما هو اكثر عجبا أن يوجد بعض البشر “حكماء وفهماء ولهم قدرة على معرفته” لأن غضب اللُه معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم”(3). ربما تسأل أي حق يحجزونه بالإثم؟ “إذ معرفة اللُه ظاهرة فيهم لأن اللُه أظهرها لهم” كيف أن (معرفة اللُه) ظاهرة؟ أنه يردف قائلا “لأن اللُه أظهرها لهم “ألعلك لازلت تسأل كيف اظهرها للذين لم يتسلموا الشريعة؟ لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات”(4) .

 أنهم كانوا هكذا، ليسوا كموسى خادم اللُه أو بعض الأنبياء الذين كان لهم إدراكا ومعرفة بهذه الأمور وقد أرشدهم روح اللُه الذي نالوه بالإيمان وشربوه بفم الصلاح وفاضوا به بفم انسانهم الداخلي. انهم لم يكونوا كهؤلاء بل مختلفين عنهم تماما، هؤلاء كان في قدرتهم أن يصلوا إلى  معرفة الخالق بواسطة المصنوعات المنظورة وأن يقولوا عن هذه الأشياء التي صنعها اللُه “تطلعوا إلى  تلك الأشياء التي صنعها اللُه ودبرها وضبطها أيضا. أن الذي جبلهم يملأ ما قد خلقه بنفسه بواسطة حلوله. هكذا كان يمكنهم أن يقولوا الكثير عن هذا أشار بولس في سفر أعمال الرسل عندما تكلم عن اللُه “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد(5)، فلأنه كان يحدث الأثينيون الذين كان من بينهم المتعلمون أضاف للحالّ” كما قال بعض (شعرائكم) انهم لم يقولوا كلاما تافها “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد”.

 

          4- اذن في أي شيء كانوا لا يشبهون الأخرين (أي موسى والأنبياء)؟ لماذا وبُخوا؟ لماذا بحق أتهموا؟ استمع إلى  كلمات الرسول التي بدأت أن استشهد بها، فانه يقول “لأن غضب اللُه معلن من السماء على جميع فجور الناس” حتى هؤلاء أي الذين لم يتسلموا الشريعة” على جيمع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم” أي حق؟” إذ معرفة اللُه ظاهرة فيهم” لمن ؟ بواسطة من هذا الاظهار (الاعلان)؟” لان اللُه اظهرها لهم” كيف؟ لأن أمور غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركه بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته “لماذا أظهرها لهم؟” حتى أنهم بلا عذر” إذن لماذا يوبخون؟ “لأنهم لما عرفوا لم يمجدوه أو يشكروه كإله.”

 

          5- ماذا تعني هذه الكلمات “لم يمجدوه… كإله”؟ أي لم يشكروه، هل الشكر أيضا بمجد؟ نعم بالحقيقة هو كذلك. لأنه أي أمر أشر من هذا وهو أن تخلق على صورة اللُه وتأتي إلى  معرفته ولا تشكره؟ فبالتأكيد تقديم الشكر يمجد اللُه. يعلم المؤمن متى وأين تقال “فلنشكر اللُه ربنا” من هو الذي يقوم الشكر لله إلا الذي يرفع قلبه للرب؟ لذلك يوبخون وهم بلا عذر” لأنهم لما عرفوا اللُه لم يمجدوه أو يشكروه كإله “ولكن ماذا فعلوا؟” بل حمقوا في افكارهم” لماذا حمقوا إلا لأنهم كانوا متكبرين؟ يختفي الدخان هكذا متى ارتفع عاليا يشتعل اللهب بأكثر قوة واصلى وضموح فيما لو وضع منخفضا” بل حمقوا في افكارهم واظلم قلبهم الغبي” هكذا الدخان رغم ارتفاعه عاليا عن اللهب إلا أنه مظلم.

 

6- فلتلاحظ أخيرا ما يلي هذا ولتنظر إلى  الأمر الذي يتوقف عليه الموضوع كله “فبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” فإذ ادعوا لأنفسهم بغير حث ما أعطاهم اللُه، أخذ اللُه ما قد اعطاهم. بهذا يخفي ذاته عن المتكبرين معطيا معرفة ذاته للذين يبحثون بنشاط عن الخالق خلال الخليفة. لذلك يقول الرب حسنا “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء” سواء الذين وصلوا إلى  بحث كامل للخليقة عن طريق محاولاتهم المتعددة وبحثهم الدائم ولم يعرفوا شيئا عن الخالق، أو الذين عندما عرفوا اللُه لم يمجدوه أو يشكروه كإله،

اللذين لم يستطيعوا أن ينظروا نظرة سليمة بسبب كبريائهم “لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال” أي أطفال؟ للمتضعفين. قل على من يستقر روحي فيهم؟ إلى هذا أنظر إلى  المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي”عند هذه الكلمات ارتعد بطرس وأما افلاطون فلم يرتعد. لقد اكتسب الصياد ما خسره أكبر الفلاسفة المشهورين “أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال “أخفيت هذه عن المتكبرين وأعلنتها للمتضعين. أيه أشياء هي هذه؟ عند قوله هذا لم يكن يقصد السماء والأرض، ولا أشار إليهما كما لو كانتا في يده أثناء حديثه. لأنه من لم يراهما؟ الصالح يراهما والشرير كذلك “فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين”(8) إذن ما هي هذه الأشياء؟ “كل شيء قد دفع إليّ من أبي”(9).

العظة التاسعة عشر مت11: 28

كيف ننال الراحة؟

 

عن كلمات الإنجيل مت11: 28 “تعالوا إلي يا جميع المتعبين

والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”

1) بالاتضاع:

1- لقد سمعنا في الإنجيل أن الرب قد تهلل بالروح قائلا لله الآب “أعترف لك أيها الآب رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرة أمامك. كل شيء قد دفع إليّ من أبي وليس أحد يعرف الابن إلا الآب. ولا أحد يعرف الآب إلا الابن ومن أراد الابن أن يعلن له” أن عملي هو أن أحدثكم وأنتم تسمعون فلنصغي جميعا إلى ذاك الذي أردف قائلا “تعالوا إلى يا جميع المتعبين”فلماذا جميعنا متعبون إلا لأننا بشر فانين، خلائق ضعيفة واهية، حاملين أنية فخارية حيث تتجمع وتقوم بعضها البعض.

ولكن إن كانت هذه الأواني الجسدية قد فومت فليتسع مجال المحبة. إذن ماذا كان يقصد (المسيح) بـ “تعالوا إلي يا جميع المتعبين” غير أنكم لا تعودوا بعد تتعبون أكثر؟ أقول في كلمة أن وعده واضح تماما. فإذا يدعو المتعبين فانهم يتسألون: ماذا ينتفعون بالدعوة؟ لقد قال “وأنا أريحكم”.

 

2- احملوا نيري عليكم وتعلموا مني” لا في صنع العالم ولا خلقه الأشياء المنظورة وغير المنظورة ولا صنع المعجزات وإقامة الموتى في العالم الذي خلقه هكذا بل “لأني وديع ومتواضع القلب أتريد أن تكون عظيما فلتبتدئ من الأخر. أتريد أن تصنع بناءا عاليا قديرا “أذن فلتفكر أولا في أساس التواضع يا لضخامة البناء الذي يرغبه الإنسان راسما أن يبني فوقه، يرتفع المبنى إلى أعلى أثناء البناء وأما الذي يحفر الأساس فعليه أولا أن ينزل إلى أسفل جدا. هكذا ترى أن البناء يكون منخفضا قبل ارتفاعه، وأما القمة فترتفع بعد الاتضاع.

3- ما هي قمة تشييد هذا البناء الذي نؤسسه؟ إلى أين ستبلغ قمة هذا البناء العالية؟ أقول للحال إلى رؤية الله . والآن ترى كم هو عظيم أن تعاين الله. إن الذي ارتفع إلى هذا يستطيع أن يفهم كل ما أقوله وما يسمعه. قد وعدنا برؤية الله، رؤية الله ذاته تتعالى لأنه حسن أن نرى الذي يرانا، فالذين يعبدون آلهة باطلة يرونها بسهولة، ولكنهم يرون التي لها أعين ولا تبصر.

وأما نحن فقد وُعدنا بمعاينة الله الحي المبصر حتى نشتاق لرؤية ذلك الإله الذي يقول عنه الكتاب المقدس: “الغارس الأذن ألا يسمع؟ الصانع العين ألا يبصر؟” (مز94: 9) ألا يسمع ذلك الذي صنع لك ما تسمع به، أما يرى ذلك الذي خلق ما ترى به؟ لذلك يقول في المزمور حسنا: “افهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون” (مز 94: 8)، لأن كثيرين يرتكبون أفعالاً شريرة ظانين أن الله  لا يراهم. حقيقة إنه يصعب عليهم أن يعتقدوا أنه لا يستطيع رؤيتهم، بل يظنون أنه لا يريد ذلك. قليلون هم الملحدون تمامًا الذي يتم فيهم المكتوب:

 “قال الجاهل في قلبه ليس إله”. هذا جنون القليلين فقط. فإذ قليلون هم الورعين تمامًا فانه ليس بأقل منهم أيضًا هم الملحدون تمامًا، وأما غالبية البشر فيقولون هكذا، ماذا؟ هل يفكر الله  الآن فيّ، حتى يعرف ما أفعله في منزلي، وهل يهم الله  ما قد أختار فعله على سريري. من يقول هذا؟ “أفهموا أيها البلداء في الشعب ويا جهلاء متى تعقلون” (مز 94: 8) فبكونك رجل فإنه من شأنك أن تعلم بكل ما يحدث في منزلك وأن تصلك أفعال وأقوال خدمك.

ألا تظن أن لله عمل كهذا أن يلاحظك، الذي لم يتعب في خلقتك؟ أفلا يثبت عينيه عليك ذاك الذي صنع عينيك؟ أنك لم تكن موجودا وقد خلقك وأعطاك الوجود. ألا يهتم بك الآن وأنت موجود، الذي “يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رو 4: 17)؟ إذن لا تعد نفسك بهذا فإنه يراك، إن أردت أو لم ترد. وليس هناك مكان تستطيع أن تختبئ فيه عن عينيه. “إن صعدت إلى السماء فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت” (مز 139: 8).

عظيمة هي أتعابك بينما لا ترغب في الانفصال عن الأعمال الشريرة، مع هذا فإنك لا ترغب في أن يراك الله . حقا يا له من تعب مضني! كل يوم ترغب في صنع الشر ومع هذا أتشك في أنك لا تُرى؟ استمع إلى الكتاب المقدس القائل: “الغارس الأذن ألا يسمع. الصانع العين ألا يبصر” (مز 94: 90). أين تستطيع أن تخفي الأعمال الشريرة عن أعين الله؟ إن لم تمت عنها فإن بالحق تعبك مضني.

4- إذن لتنصت إلى (المسيح) القائل “تعالوا إلي يا جميع المتعبين أنك لا تستطيع أن تنهي تعبك بالهروب. هل تريد أن تهرب منه (المسيح) وليس بالأحرى إليه؟ لتجده إذن حيث يمكن أن تهرب إليه وهكذا تطير. ولكن إن كنت لا تستطيع أن تهرب منه لأنه موجود في كل مكان. اهرب إلى الله  (فانه قريب جدا) الحال حينما وجدت. اهرب هوذا في طيرانك قد عبرت السماء، أنه هناك. لقد هبطت إلى الجحيم. فهو هناك.

أي صحاري الأرض ستختار فانه هناك، ذاك الذي قال “أملاء السموات والأرض” إذن إن كان يملأ السماء والأرض فانه لا يوجد مكان يمكنك أن تهرب إليه منه، لتنهي تعبك هذا ولتهرب إلى حضرته، لئلا يدركك مجيئه. لتتشجع بالرجاء أنك بالحياة الصالحة ترى ذاك الذي يراك وأنت في حياتك الشريرة. ففي الحياة الشريرة تُرى ولا يمكن أن تَرى وأما الحياة الصالحة فتَرى وتُرى. بأي حنان عظيم ينظر إليك ذاك الذي يتوج المستحقين، هذا الذي بعطفه يراك وأنت غير مستحق ليدعوك؟

قال نثنائيل الرب الذي لم يكن بعد قد عرفه “من أين تعرفني” قال له الرب “وأنت تحت التينة رأيتك” يراك المسيح وأنت في ظلك أفما يراك وأنت في نوره؟ لأنه ماذا تعني “وأنت تحت التينة رأيتك”؟ ماذا يعني هذا؟ أن يذكرنا بخطية آدم الأصلية التي فيها مات جميعنا. فعندما أخطأ أولا، صنع لنفسه مئزرا من أوراق التين، معلنا بهذه الأوراق تهيج الشهوة التي سقط فيها بالخطية. هكذا نحن ولدنا، ولدنا بهذه الحالة، ولدنا في جسد الخطية، الذي يكون شفاءه فقط” في شبه جسدا الخطية” لهذا أرسل (الله ) ابنه في شبه جسد الخطية” لقد جاء في العذراء التي كانت قبلا عذراء.

أنه اختار هذه التي خلقها. لقد خلق تلك التي دبر اختيارها لقد جاء ثمرة العذراء دون أن ينقص نقاوتها.

أنه الذي يأتي إليك بدون تهيج أوراق شجرة التين يراك “وأنت تحت التينة” استعد إذن لتراه في علو مجده، الذي قد تطلع إليك برحمته. وإذ القمة مرتفعة فكر في الأساس أي أساس؟ ماذا تقول “تعلموا منه لأنه وديع ومتواضع القلب “لتحفر أساس الاتضاع هذا عميقا فيك، وبهذا تحصل على قمة المحبة. لنرجع إلى الرب… 

العظة العشرون مت 11: 28

 

أيضا عن كلمات الإنجيل مت11: 28 “تعالوا إلي

يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم”… الخ

 

2) بالجهاد:

1- أنه يبدو غريبا للبعض أيها الأخوة أن يسمعوا الرب يقول “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم احملوا نيري عليكم وتعلموا مني. لاني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف” ناظرين إلي أن الذين يحنون رقابهم بخوف لهذا النير والذين يحملون ذلك الحمل على أكتافهم باتضاع عظيم، ويتدربون على مصاعب عظيمة هكذا في الحياة، حتى يبدو أنهم لم يدعوا من التعب إلى الراحة بل من الراحة إلى تعب آخر، حيث يقول الرسول أيضا “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون”.

 لذلك قد يقول قائل: كيف يكون النير هين والحمل خفيف عندما تحمل هذا النير وذلك الحمل الذي هو ليس إلا لكي ما تعيش بالتقوى في المسيح؟ وكيف قيل “تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” ولم يقل بالأحرى “تعالوا إلي يا من أنتم في راحة وكسل فتتعبون”، لأنه هكذا وجد المرتاحين والكسالى، هؤلاء الذين استأجرهم حتى يتحملوا حرارة النهار، ونسمع الرسول تحت النير الهين والحمل الخفيف يقول “بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله  في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات … الخ” وفي موضع آخر من نفس الرسالة يقول “من اليهود خمس مرات قبلت أربعين جلدة إلا واحدة ثلاث مرات ضربت بالعصى مرة رجعت ثلاث مرات انكسرت بي السفينة ليلا ونهارا قضيت في العمق” وبقية المخاطر التي حقا يمكن إحصائها ولكن لا يمكن احتمالها إلا بمعونة الروح القدس.

 

2- لقد كان يعاني دائما وبكثرة من كل هذه التجارب الخطيرة الثقيلة التي اشرنا إليها، ولكن في نفس الوقت كان يعمل الروح القدس معه في ابطال الإنسان الخارجي وتجديد إنسانه الداخلي يوما فيوم، فبتذوقه للراحة الروحية في مباهج الرب الغزيرة تهون المتاعب الحاضرة على رجاء البركة المستقبلة وتخف كل التجارب الثقيلة. هوذا ما أحلى نير المسيح الذي حمله، وما أخف ذلك الحمل حتى قال ان هذه المتاعب الصعبة والخطيرة التي يقشعر كل من يسمعها عند تلاوتها كما سبق هي “ضيقات خفيفة” كما نظرها بأعينه الداخلية، اعني بالإيمان.

ياله من ثمن عظيم للأمور الفانية أن تشتري بها الحياة القادمة والهروب من آلام الشر الأبدية والفرح الكامل متحررا من كل المضايقات في سعادة البر الأبدية يعاني البشر التقطيع والحرق لا من أجل آلام أبدية بل مقدمين الثمن وهو الآم أكثر قسوة من أجل الآم أكثر دوما من الالآم المعتادة فالجندي يعاني أتعاب الحرب جميعها تاعبا السنوات الطويلة لأجل فترة من الراحة قصيرة غير أكيدة في نهاية حياته، تاعبا أكثر مما يتمتع به من هدوء في النهاية. إلى اية أمواج وزوابع وأي اضطراب مخيف ومريع للسماء و البحر يعرض التجار أنفسهم له من أجل طلبهم ثروات زائلة كالريح ومملؤة بمخاطر وزوابع أعظم هولا من تلك التي تحملونها للحصول عليها. كم يتحمل الصيادون من حرارة وبرودة،

 ومخاطر خيول والسقوط في حفر، والأنهار والوحوش الضارية، أي الآم جوع وعطش، كم من أزمات تجعلهم يأخذون مأكلا ومشربا رخيصا رديئا، هذا كله لأجل اصطياد وحش؟ أحيانا بعد كل هذا يكون لحم (الوحش) الذي قاسى من أجله هذا كله غير صالح للطعام. رغم اصطياده خنزيرا بريا أو إيلا إلا أنه يكون أعذب عند عقل الصياد لأنه اصطاده عنه في حلق الآكل لأنه معد له للطعام.

كم يخضع الأطفال الصغار إلى تهذيبات صارمة ترسم لهم يوميا. يالالآم المبرحة التي يكابدونها في تدريبهم على السهر والتعب في المدارس، ليس من أجل تعليمهم الحكمة الحقيقية بل من أجل الغنى والمجد الباطل، فيتعلموا الحساب والآداب الأخرى وتملق الفصاحة.

 

3- في كل هذه الأمثلة نجد أن الذين لا يحبون هذه الأمور يشعرون (بالاتعاب) أنها في غاية القسوة أما الذين يحبونها فحقا يتحملونها هي بذاتها دون أن يبدو عليهم أنهم يشعرون بقسوتها. لأن المحبة تصنع كل شيء. حقا بالاكثر وأسهل للمحبة أن تصنع بالنسبة للبركة الحقيقية تلك التي تصنع ما تستطيع لأجل الاشتياق لأمور ليست هي إلا شقاءا؟

 كم يسهل أن تحتمل الضيقات الزمنية من أجل تجنب العقاب الأبدي وإدراك الراحة الأبدية! لم يقل الاناء المختار اعتباطا بفرح زائد “فاني أحسب أن الآم الزمان الحاضر لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا” أنظر أذن كيف أن ذلك “النير هين وذلك الحمل خفيف” فإن كان عسير على القليلين الذين اختاروه إلا أنه سهل الذين يحبونه. يقول المرتل “على حسب كلام شفتيك لزمت طرقا وعره” الأشياء الصعبة للذين دبر الصلاح الإلهي أن لا يخضع بعد ذلك “الداخل الذي يتجدد يوما فيوما” للناموس بل للنعمة، ويتحرر من تلك الملاحظات الغير محصية التي هي فعلا حملا ثقيلا،

 لكن تفرض بلياقة على العنق العنيد متاعب عظيمة، تلك التي يمكن للأمير المطرود الذي يفرضها من الخارج على الإنسان الخارجي أن يجعلها خفيفة بواسطة السعادة الداخلية الناتجة عن لطافة الإيمان البسيط والرجاء الصالح والمحبة المقدسة. لأنه هكذا ليس هناك أسهل لدى الإرادة الصالحة من الإرادة الصالحة ذاتها وهذا يكتفي به الله . إذن كم للعالم بالأكثر أن يغضب، بالحق تهللت الملائكة عند ميلاد الرب بالجسد قائلة “المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة” لأن نير (المولود) هين وحمله خفيف” وكما يقول الرسول بأن الله  أمين الذي لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع بل يجعل مع التجربة المنفذ لنستطيع أن نحتمل”.

زر الذهاب إلى الأعلى