فصول مُنتخبة من العهد الجديد للقديس اغسطينوس- متى 5

مت 5: 3، 8

“طوبى للمساكين بالروح… الخ

وبخاصة عن “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” 

التطويبات في موعظة المسيح على الجبل

1. إذا عُدنا إلى ذكرى البتول المقدسة التي شهدت للمسيح، كما استحقت أن يشهد المسيح عنها، تلك التي ماتت جهارًا لكنها كُللت سرًا، فإن هذا يذكرني أيها الأحباء بالحديث إليكم عن النصائح التي نطق بها الرب في الإنجيل الآن، مؤكدًا لنا أن هناك مصادر كثيرة للبلوغ إلى الحياة المطوّبة. تلك الحياة التي يشتهيها كل البشر. حقًا إنه ما من إنسان إلا ويرغب في أن يكون مُطوبًا. آه إن كل البشر يشتهون الجعالة فعليهم أن لا ينحرفوا عن الطريق المؤدي إليها. من ذا الذي لا يجري بكل سرور عند سماعه إنه “سيكون مُطوبًا”؟ لذلك عليه أيضًا أن يصغي بسرور وابتهاج لسماع ذلك القول “طوباك إن فعلت هذا. فإذا نحب الجعالة علينا أن لا نهمل الجهاد ليت عقلنا يلتهب شوقًا للعمل إذ تجعل الجعالة أمامه. إن ما نشتاق إليه ونرغب فيه ونبحث عنه سيكون فيما بعد، وأما ما قد أمرنا بفعله – من أجل الحصول على ذلك الذي نبحث عنه – فينبغي أن يكون من الآن.

لنبتدئ الآن فنذكر الأقوال الإلهية والوصايا والجعالات الإنجيلية.

“طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات؟: كونوا مساكين بالروح الآن لأن لكم ملكوت السموات فيما بعد. ألا ترغبوا في ملكوت السموات؟ افحصوا أنفسكم منْ تكونون أنتم؟ كونوا مساكين بالروح. لعلكم تسألونني “وما هي المسكنة بالروح؟” إن من يتعظم لا يكون مسكينًا بالروح بل المتضع. لقد ارتفع ملكوت السموات ولكن من “يضع نفسه يرتفع”.

 

2. لاحظوا ما يلي بعد ذلك…. ” طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” أنكم ترغبون في امتلاك الأرض، ولكن اِحذروا من أن تمتلككم هي. أنكم ستمتلكون الأرض إن كنتم ودعاء، وستملككم هي إن لم تكونوا هكذا.

عند سماعكم لهذه الجعالة ينبغي أن لا يبسط طمعكم الخفي لأجل رغبتكم في الأرض، فتحرمون جيرانكم بكل الطرق حتى تمتلكوا الأرض حاليًا. لا يخدعكم مثل هذا التصور. أنكم ستمتلكون الأرض حقًا إن التصقتم بالله صانع السماء والأرض. فوداعتكم هي عدم مقاومتكم لله. فإن صنعتم خيرًا تبهجون الله بكم ولا تبتهجوا أنتم بأنفسكم. وإن قاسيتم من الشر باستحقاق لا يكون الله مكرهة لكم بل أنتم مكرهة لأنفسكم. إنه ليس بالأمر الهين أن يسر الله بكم، عندما تكونون غير راضيين عن أنفسكم. أما إذا أبهجتكم ذواتكم فإنكم تغضبون الله.

3. أصغوا إلى التعليم الثالث: “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون” هنا يشمل العمل حزنًا والجعالة عزاءَا. أية تعزية ينالها هؤلاء الذين يحزنون حزنًا جسديًا؟ تعزيات بائسة بأمور تزيد الخوف. هوذا الحزين يتعزى بأشياء تجعله يخشى أن يعود إليه الحزن مرة أخرى. فمثلاً موت ابن يُحزن الأب وميلاد ابن يُغبطه. واحد حُمل إلى القبر والآخر جلب إلى العالم. في الحالة الأولى حزنًا وفي الأخرى خوفًا. وفي كليهما لا يوجد عزاء. ولكن هناك العزاء الحقيقي الذي إذ يعطى لا يؤخذ منهم بعد، حتى هؤلاء الذين يحزنون لأنهم في المنفى الآن يبتهجون لأجل ما سينالونه من عزاء.

4. لنتقدم إلى العمل الرابع وجزائه “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون” أما تريدوا الشبع؟ وكيف يكون ذلك؟ يشتاق الجسد إلى الشبع لأنه بعد الهضم يعود إليه الجوع مرة أخرى. لذلك يقول (المسيح) “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا” (لو 4: 13). إذا ما شفى الدواء الجرح لا يكون بعد هناك ألم. لكن الطعام الذي نأخذه لأجل الجوع نأكله ليشبعنا إلى فترة قصيرة فقط. فإذا ما انتهى الشبع عاد الجوع. إن العلاج الخاص بالشبع نتناوله يوميًا ومع ذلك فلا زالت جراحاتنا عديمة الشفاء. لذلك ليتنا “نجوع ونعطش إلى البرّ لكي ما نشبع” من ذلك البرّ الذي نجوع ونعطش إليه الآن. ليت إنساننا الداخلي يجوع ويعطش ليكون له الطعام والشراب المناسب له. لقد قال (المسيح) “أنا هو الخبز الذي نزل من السماء” (يو 6: 41)، هذا هو خبز الجياع. ليتنا نشتاق أيضًا إلى الشرب كالظمآ “لأن عندك ينبوع الحياة” (مز 36: 9).

5. لاحظوا بعد ذلك “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون” افعلوا هذا يفعل بكم. عاملوا الآخرين بالرحمة فيرحمكم الله إنكم أغنياء وفي نفس الوقت فقراء، أغنياء في الأمور الزائلة وفقراء في الأمور الأبدية. إن الذي يستعطي منكم هو شحاذ وأنتم أيضًا تستعطون من الله. فمنكم يطلبون ومن الله أنتم تطلبون. كما تفعلوا بالذين يسألونكم يفعل الله بسائليه. أنكم مملوئين وفي نفس الوقت فارغين، املئوا الفراغ يشبعكم فيمتلئ فراغكم بكمال الله.

6. لاحظوا بعد ذلك “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.” هذا هو نهاية حبنا، تلك النهاية التي بها نصير كاملين غير هالكين، فللطعام نهاية وللملابس نهاية، فنهاية الطعام استنفاذه، ونهاية الملابس كمالها بحياكتها. لكليهما نهاية ولكن نهاية أحدهما هلاكه ونهاية الآخر كماله.

ومهما فعلنا، مهما صنعنا خيرًا، مهما بلغ شغفنا أو رغبتنا الطاهرة، فإن هذه كلها لا نحتاج إليها بعد، عند معاينتنا لله. فماذا يطلب الإنسان ما دام الله حاضرًا؟ وماذا يشبعه إن كان الله لا يشبعه؟ إننا نتوق لرؤيته ونبحث ونلتهب شوقًا لمعاينته. من لا يريد ذلك ولكن لتنتبهوا إلى القول “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”. زوِّدوا أنفسكم بهذا حتى تستطيعوا معاينته. لأنه حتى بالنسبة للجسد كيف ترغبون في رؤية الشمس بأعين متوعكة؟ لتكن أعينكم سليمة لتتمتعوا بالنور وإلا فإنها تتألم، هكذا لا يسمح للقلب غير النقي أن يعاين ما يراه القلب النقي. إنكم ستنعون وتُطردون بعيدًا ولا تعاينوا ذلك، لأنه طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”.

كيف سبق فعدد المطوّبين وأسباب تطويبهم، أعمالهم ومكافآتهم، استحقاقاتهم وجزاءاتهم، دون أن يقول قط “أنهم يعاينون الله”، “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات، طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض، طوبى للحزانى لأنهم يتعزون، طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ لأنهم يشبعون، طوبى للرحماء لأنهم يرحمون” إنه لم يقل قط “أنهم يعاينون الله” ولكن إذ نصل إلى “نقاوة القلب” نجد الوعد برؤية الله. هناك سبب وجيه لذلك وهو أن القلب يحوي العيون التي تعاين الله، فيتحدث بولس الرسول عن هذه الأعين قائلاً: “إنارة عيون قلوبكم”

إنها تستنير الآن بالإيمان لأنه مناسب لضعفها، وأما فيما بعد فإنها تستنير برؤية الله لقوتها. “فإذا… نحن مستوطنون في الجسد فنحن متغربون عن الرب. لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان” (2 كو 5: 6-7). وإذا نسلك الآن بالإيمان ماذا يقال عنا؟ “فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز ولكن حينئذ وجهًا لوجه” (1 كو 13: 12).

7. لا تسلموا بالتفكير في النظر إلى وجه جسدي، لئلا في شوقكم الملتهب نحو رؤيته تهيئون وجهكم الجسدي لرؤيته، وبهذا تبحثون عن وجه (جسدي) في الله. لكن إذا تصورنا الله روحًا على الأقل دون أن نتصوره جسديًا – هذا الموضوع الذي سبق معالجته بتوسع بالأمسإن كنت قد نجحت في إزالة تلك الصورة البشرية من قلوبكم كما من هيكل الله، إذا كان الرسول يعبر عن مضايقته من هؤلاء الذين “بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء أبدلوا مجد الله الذي لا يفنى بشبه صورة الإنسان الذي يفنى” (رو 1: 22-23). إن كان هذا قد دخل إلى أعماق أفكاركم، وامتلك قلوبكم الداخلية، إن كنتم تنفرون من هذا الكفر، وتحفظون لله هيكله نقيًا، إن كنتم تريدونه يأتي، ويجعل له مسكنًا فيكم، “تفطنوا في الرب بفطنة صالحة وأطلبوه ببساطة قلب” (حك 1: 1).

تنبهوا من هو هذا الذي تخاطبونه قائلين له بإخلاص” لك قال قلبي… وجهك يا رب أطلب” (لها رقم 7 في الهامش ولكن غير موجود هذا الرقم؟؟؟ ص40) لتطلب قلوبكم هذا فتقول “وجهك يا رب أطلب” لتبحثوا هكذا عنه، لأنكم تبحثون عنه بقلوبكم.

يتحدث الكتاب المقدس عن “وجه الله – ذراع الله – يديّ الله – قدميّ الله – كرسي الله – موطئ قدميه”، ولكن لا تفكروا في هذه كلها كأعضاء بشرية، لأنكم إن أردتم أن تكونوا هيكلاً لله فلتكسروا، تمثال البهتان. إن يديّ الله هي قوته، ووجهه هو معرفته، وقدميه هما حلوله، كرسي الله هو أنتم إن أردتم. لكنكم قد تتجاسرون فتنكرون أن المسيح هو الله. إنكم تقولون: “ليس كذلك”.

هل تسلمون بهذا أيضًا أن المسيح “قوة الله وحكمة الله”؟ تجيبون: “نسلم بهذا”.

اسمعوا إذن “روح البار كرسي الحكمة” (حك1). نعم لأنه ما هو كرسي الله سوى المكان الذي يسكنه. وأين يسكن الله إلا في هيكله؟ “لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو” (1 كو 3: 17).

اسهروا في استقبالكم لله. “الله روح، والذين يسجدون لله فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا له” (يو 4: 24).

ليدخل تابوت العهد قلوبكم وليسقط داجون إن أردتم” (1 صم 5: 3).

لتصغوا الآن. ولتتعلموا أن تشتاقوا إلى الله. كونوا مستعدين لأن تتعلموا كيف ترون الله. إنه يقول “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”. لماذا تعدوا أعينكم الجسدية لو كان الله يرى بواسطتهما، ذلك الأمر الذي لو كان كذلك لصارت رؤيتنا له محدودة بمكانٍ ما، لكن ذلك الموجود في كل مكان لا يحده مكان. إذن فلتنقوا ذاك الذي به ترون الله.

8. اسمعوا وافهموا لعلي أستطيع بنعمة الله أن اشرح ذلك لكم. ليعطينا بمعونته فهمًا لتلك الأعمال السابق تسميتها وجزاءاتها. كيف وهبت لنا جزاءات مناسبة للأعمال، لأنه في أي موضع جاء جزاء غير مناسب للعمل؟ فإذ يبدو المتضعين كأنهم غرباء عن أي مُلك قال “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات”. وإذ يسهل طرد الودعاء من أرضهم قال “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض”. وهكذا فإن الباقي سهل ولا يحتاج إلى الإطالة في شرحه بل إلى مجرد الإشارة إليه. “طوبى للحزانى” وأي حزين لا يرغب في التعزية؟ إنه يقول “لأنهم يتعزون”. “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ” وأي جائع أو ظمآن لا يبحث عن الشبع؟ “لأنهم يشبعون”.”طوبى للرحماء” وما هو الرحيم غير ذلك الذي يريد أن يعامله الله بالرحمة فيفعل به ما يفعله هو بالفقير؟ “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون”، إننا نجد لكل عمل الجزاء المناسب له، ليس هناك مكافأة غير متناسقة مع الوصية‍‍!

هذه هي الوصية أن تكون “مسكينا بالروح” والجزاء هو “ملكوت السموات”

الوصية هي أن تكون “وديعًا” والجزاء “أنك تملك الأرض”.

الوصية هي أن “تحزن” والجزاء هو “أنك تتعزى”.

الوصية هي أن “تجوع وتعطش” إلى البرّ والجزاء هو “أنك ستشبع”.

الوصية هي أن تكون “رحيمًا” والجزاء هو “أنك ستُرحم”.

وأيضًا الوصية هي أن تكون “نقي القلب” والجزاء هو “معاينتك لله”.

9. لكن لا تفهموا هذه الوصايا وجزاءاتها هكذا بأن تظنوا عند سماعكم “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”، أن المساكين بالروح أو الودعاء أو الحزانى أو الجائعين والعطاشى إلى البرّ أو الرحماء لا يرونه. لا تظنوا بأن أنقياء القلب فقط هم الذين سيعاينوه بينما يحرم الآخرون من رؤيته. لأن هذه الصفات جميعها هي لنفس الأشخاص. أنهم جميعًا سيعاينوه، ولكن لا يعاينوه لأنهم مساكين بالروح أو ودعاء أو حزانى أو جياع وعطاش للبرّ أو رحماء بل لأنهم أنقياء القلب. هكذا مثل الأعمال الجسدية التي قد خصصت لها أعضاء جسدية كثيرة، فيقول قائل مثلاً “طوبى للذين لهم أقدام لأنهم يمشون، طوبى للذين لديهم أيدي لأنهم يعملون، طوبى للذين لهم صوتًا لأنهم يصرخون عاليًا، طوبى للذين لهم فمًا ولسانًا لأنهم يتحدثون، طوبى للذين لهم أعينًا لأنهم يرون، هكذا رتب إلهنا الأعضاء كما لو كانت للروح معلمًا ما هو مناسب لكل. فالاتضاع يؤهل لامتلاك ملكوت السموات، والوداعة تؤهل لامتلاك الأرض، والحزن للتعزية، والجوع والعطش إلى البرّ للشبع، والرحمة للحصول عليها، ونقاوة القلب لمعاينة الله.

10. كيف ننقي عيوننا إن كنا نرغب في معاينة الله؟ فمن لا يهتم ويسهر باحثًا عن الوسائل التي بها ينقي العيون التي تعاين ذاك الذي يشتاق إليه بحب عميق؟ عبَّر الكتاب المقدس عن هذا قائلاً: “إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع 15: 9). الإيمان بالله ينقي القلب، والقلب النقي يعاين الله.

يقتبس أحيانًا بعض الخادعين لأنفسهم على تعريف الإيمان faith بالاعتقاد Believe، فإذ يعتقدون وهم بعد في حياة الشر يعدون أنفسهم برؤية الله وملكوت السموات. يقول الرسول يعقوب ضد هؤلاء في رسالته – في سخط وغضب ولكن في حب مقدس – “أنت تؤمن أن الله واحد” أنك تمدح نفسك لإيمانك، إذ ترى الكثيرين يعتقدون بوجود آلهة كثيرة، فتبتهج بنفسك لأنك تؤمن بإله واحد “حسنًا تفعل والشياطين يؤمنون believe ويقشعرون” (يع 2: 19)، فهل هؤلاء أيضًا يعاينون الله؟ إن أنقياء القلب هم الذين يعاينونه، ولكن من يستطيع القول بأن الأرواح الشريرة نقية القلب؟ ومع هذا فهم أيضًا “يؤمنون ويقشعرون”.

11. كذلك ينبغي أن يكون هناك فارق بين إيماننا وإيمان الشياطين، لأن إيماننا ينقي القلب، وأما إيمانهم فيجعلهم مذنبين ويصنعون الشر، ومع ذلك يقولون لله: “ما لنا ولك” (مت 8: 29؛ مر 24: 1؛ لو4: 34). لعل عند سماعكم هذا تعلمون بأنهم لم يكونوا قد عرفوه. لقد قالوا “نحن نعرفك بن أنت ابن (قدوس) الله. هذا ما قاله بطرس أيضًا فمُدح وقاله الشيطان فوُبخ. كيف يحدث هذا رغم تشابه القول إلا لأن القلب كان مختلفًا؟ لذلك ينبغي أن نميز إيماننا غير مكتفين بالاعتقاد. فالاعتقاد لا يكفي ليكون إيمانًا ينقي القلب. لقد قيل “إذ طهر بالإيمان قلوبكم” ولكن بأي إيمان غير ذلك الإيمان الذي عرفه الرسول بولس قائلاً: “الإيمان العامل بالمحبة” (غل 5: 6). هذا الإيمان يميِّزنا عن إيمان الشياطين وإيمان فاسدي السيرة.

إنه يقول “الإيمان” وأي إيمان؟ “العامل بالمحبة”. وذلك الإيمان الذي يرجو مواعيد الله ليس هناك أكثر دقة أو كمال من هذا التعريف ففي الإيمان توجد هذه الأمور الثلاثة:

ذاك الذي إيمانه عامل بالمحبة والذي يترجى مواعيد الله.

الرجاء أيضًا مشارك للإيمان، إذ بمقدار عدم رؤيتنا لما نعتقد به يكون الرجاء ضروريًا لئلا نفشل بسبب عدم رؤيتنا، ويأسنا من أن نراه. فعدم رؤيتنا يحزننا ولكن رجاءنا في الرؤية يعطينا عزاءًا. للرجاء موضع هنا وهو مشارك للإيمان.

أيضًا المحبة التي بها نشتاق ونجاهد من أجل الحصول على الشيء ونلتهب شوقًا ونجوع ونعطش. لذلك ينبغي أن نحصل عليها أيضًا. وبذا يكونوا ثلاثة (الإيمان والرجاء والمحبة). إن كان الإيمان قد عُرف بأنه العامل بالمحبة Love، فكيف لا تكون هنا محبة Charity ما دامت المحبة ليست إلا الحب Love.

زيلوا الإيمان فيزول اعتقادكم، انزعوا المحبة فتباد كل أعمالكم. فمن اختصاص الإيمان أن نعتقد، ومن اختصاص المحبة أن نعمل، فإن كنتم تعتقدون بدون أن تحبوا لا تنتظروا من أنفسكم أعمالاً صالحة، وإن صنعتم أعمالاً صالحة فإنكم تضيعونها كخدام تخشون العقاب، لا كأبناء محبين للبرّ. لذلك أقول أن الإيمان العامل بالمحبة ينقي القلب.

 

12. ولكن ما هي آثار هذا الإيمان حاليًا؟ إن عمل الإيمان بحسب شهادة الكتاب المقدس بدروسه المطولة ونصائحه المختلفة الوفيرة هو إنه يجعلنا” ننظر الآن في مرآة في لغز لكن حينئذ وجها لوجه” (1 كو 13: 12).

لا تعودوا بعد إلى التفكير فيه بوجه جسدي فكروا فيه بوجه قلبي فقط. اغصبوا قلوبكم بالقوة للتفكير في الأمور الإلهية، اطردوا الأمور التي تشبه الجسديات من أن تشغل أفكاركم. إن لم تستطيعوا القول “بأنه هو” فعلى الأقل تقولون “أنه ليس هو”. لأنه من يستطيع أن يقول هذا هو الله؟ إن هذا لا يحدث إلا عند رؤيتكم له، لأن ما ترونه لا ينطق به. لذلك يقول الرسول “اُختطف إلى الفردوس وسمع كلمات لا ينطق بها” (2 كو 12: 4). وإن كانت الكلمات التي سمعها لا ينطق بها فكم يكون هذا الذي كلماته هكذا؟ لذلك إن فكرتم في الله وجاءتكم الفكرة في صورة بشرية عجيبة وعظيمة جدًا، ونظرتم إلى هذا كأمر عظيم وجليل أمام فكركم فإنكم تكونون قد حددتم الله بحيز معين. إن حدث هذا فهو ليس الله فكيف يكون له وجه (جسدي)، لو لم تصنعوا حدودًا لها (للصورة)؟ إنكم تتصورون لأنفسكم جسدًا عظيمًا، ولكي ما يتميزوا بين أعضائه تصنعون له حدودًا، إذ بهذا تصنعون تصورًا جسديًا سخيفًا أنكم تصنعون جسدًا كبيرًا تضخمونه كلما أردتم تكريم الله. بل يضيف الآخرون إليه عظمًا ويجعلون بصورة أعظم من السابقة.

لكنكم قد تقولون: أننا قرأنا، وماذا قرأتم يا من لم تفهموا شيئًا؟ أخبروني ماذا قرأتم؟ لا تعود بعد كالطفل في فهمه للعبته. اَخبروني بما قرأتم: “السماء عرشي. والأرض موطئ قدمي” (إش 66: 1). لقد سمعتكم وقد قرأت أنا ذلك أيضًا. قد تظنون إذن لكم مصلحة فيما قرأتم واعتقدتم، فإنني اَعتقد أيضًا بما تقولونه. لنعتقد سويًا. ماذا أقول؟ لنبحث معًا. آه تمسكوا بما قرأتم واعتقدتم. “السماء عرشي (أي كرسي لأن عرشي “باليونانية” تعني كرسي) والأرض موطئ قدميّ. ألم تقرأوا جيدًا “من قاس السموات بالشبر” (إش 40: 12). أظنكم قرأتم هذا إذ تعرفونه وتعتقدون به ففي هذا الكتاب نقرأ كلا النصين ونعتقد بهما. فكروا قليلا وعلموني فإني أجعلكم معلمين لي وأنا اَستصغر أمامكم، أتوسل إليكم أن تعلموني “من هو هذا الذي يجلس على راحة يده”.

 

14. انظروا فقد رسمتم صورة وملامح لأعضاء الله من جسد بشري. وقد يعرض على تفكيركم أن هذا يوافق الجسد الذي منه نحن صورة الله. سأقبل هذا إلى لحظات حتى نتبصر في ذلك ونفحصه ونختبره وننقبه بالجدل. الآن إن كان هذا يبهجكم فلتسمعوا لي فيما قد سمعت لكم. يجلس الله في السماء ويقيسها بالشبر، ماذا؟ هل تتسع السماء بكونها كرسي لله وتضيق عند قياسها؟ هل يبقى الله محدودًا عند جلوسه بقدر راحة يده؟ لو كان الله كذلك فإنه لم يخلقنا على شبهه، لأن راحة يدنا أصغر بكثير من الجزء الذي نجلس به. ولكن إن كانت راحة يده تتسع عند جلوسه، فإنه لم يصنع أعضائنا على شبهه. ليست هنا مماثلة. ليخجل المسيحي من أن يقيم تمثالاً كهذا في قلبه. لهذا فلتفكروا في السماء إنها كل القديسين. لأنه يقال عن سكان الأرض “كل الأرض تسجد لك” (مز 66: 4)، فإن قلنا بحق عن كل سكان الأرض “كل الأرض تسجد لك”، فإننا نقول أيضًا يحق عن سكان السماء كل السماء تحملك، لأنه حتى القديسين الذين يقطنون الأرض يقطنون السماء بقلوبهم رغم أنهم يسيرون على الأرض بأجسادهم فليس باطلاً تنبيههم “ارفعوا قلوبكم”. فعند تذكيرهم بهذا يجيبون أنهم قد رفعوها. لم يقل باطلاً “فان كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله، اهتموا بما فوق لا ما على الأرض” (كو 3: 1-2). فبمقدار اختلاطهم بالسماويات يحملون الله ويكونون سماء لأنهم كمرسى الله، وعندما يعلنون كلام الله فإن “السموات تحدث بمجد الله”.

15. لتعودوا معي إلى الوجه القلبي وليكن مستعدًا، فالذي يحدثه الله هو داخلي فالآذان والأعين وكل بقية الأعضاء المرئية إما أنها أعضاء داخلية فتكون مكانًا لسكنى أو وسيلة لأمور داخلية، إنه الإنسان الداخلي الذي يسكنه المسيح الآن بالإيمان، وفيما بعد فيسكنه بحلول لاهوته، حينذاك ندرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو. ونعرف محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلؤا إلى كل ملء الله” (أف 3: 1-19).

إن كنتم تريدون الدخول إلى عمق هذه الكلمات استدعوا كل قواتكم لتدركوا العرض والطول والعلو والعمق.. لا تحوِّلوا تخيلاتكم إلى ما هو في حيز العالم، لأن هذا الحيز المدرك جسد متسع. انظروا فيما أحدثكم عنه إلى ذواتكم “العرض” هو الأعمال الصالحة، “الطول” هو المثابرة والمداومة على الأعمال الصالحة، العلو هو رجاءكم في البركات الخالقة، فمن أجل هذا العلو تؤمروا “ارفعوا قلوبكم”. اصنعوا خيرًا وثابروا عليه من أجل جعالة الله احتسبوا الأمور الأرضية كلا شيء، لئلا عندما تُبلى الأرض بأي كارثة تقولون أنكم كنتم تعبدون الله باطلاً، وتصنعون الخير عبثًا وتثايرون على عمل الخير بلا فائدة فبعملكم الخير يكون لكم العرض، وبمثابرتكم عليه يكون لكم الطول. ولكن بحثكم عن الأمور الأرضية لا تأخذوا “الارتفاع” الآن فلتلاحظوا “العمق” إنه النعمة الإلهية في توزيعها الخفي بحسب إرادته. لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا” ((رو 11: 34)، أحكامك لجة عظيمة” (مز 36: 5).

16. هذا الحديث عن الأعمال الصالحة والمثابرة عليها والرجاء في الحصول على الجزاءات السابقة والتوزيع الخفي لنعمة الله بحكمة لا بغباوة، بدون أي خطأ لأنه يأخذ شخص بوسيلة وآخر بوسيلة أخرى، لأنه ليس عند الرب إلهنا ظلم” (أي 19: 7؛ رو 9: 14). أقول إن كنتم تفكرون حسنًا فلتطبقوا هذا أيضًا على صليب ربنا. لأن هذا الذي في سلطانه أن يحيا أو يموت لم يختار هذا النوع من الموت اعتباطًا. إن كان في سلطانه أن يموت أولاً يموت لماذا لا يكون في سلطانه أيضًا أن يموت بوسيلة أو أخرى، إن اختياره للصليب لم يكن اعتباطًا، ففيه يصلبكم للعالم.

العرض هو قطعة الخشب الأفقية التي في الصليب والتي بسطت عليها اليدان لتعلن عن الأعمال الصالحة. والطول هو قطعة الخشب التي تمتد من هذه القطعة (الأفقية) إلى الأرض، حيث صلب عليها الجسد وثبت عليها منتصبًا معلنًا عن المثابرة. “العلو” هو الجزء أعلى القطعة الأفقية البارزة فوق الرأس وهي تعلن الرجاء في الأمور السابقة، وأين “العمق” إلا ذلك الجزء الثبت في الأرض؟ لأنه هكذا يحدث توزيع النعمة سرًا، إنها لا ترى في ذاتها ولكنها تحمل كل ما هو مرئي.

إن أدركتم هذه الأمور جميعها ليس بمجرد فهمًا بل وبالعمل بها أيضًا “حسن الفطنة لكل الذين يعملون بها”[9] (مز 110: 1)، لذلك إن استطعتم أن تجاهدوا للحصول على معرفة “محبة المسيح الفائقة المعرفة”. إن كنتم قد حصلتم عليها “لكي تمتلؤا إلى كل ملء الله” (إش 4: 19). حينئذ يتم “وجهًا لوجه” الآن ستمتلئوا إلى كل ملء الله، هذا لا يعني إن الله سيمتلئ منكم بل أنتم تمتلئون من الله.

ابحثوا إذن إن كنتم تستطيعون ذلك بأي وجه جسدي. أزيلوا من أفكاركم هذه التفاهات. ليلقي الطفل لعبته ويتعلم أن يتمسك بأمور أعظم ففي أمور كثيرة لسنا إلا أطفالاً ولكن إذ يسمو عن حالتنا التي نحن فيها نكون قد طبعنا على التقدم “اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14)، لأنه بهذا يتنقى القلب، لأن فيه ذلك الإيمان “العامل بالمحبة” من ثم طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”.

مت 5: 16

“فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”

وما يبدو مناقضا لها

“احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم” (مت 6: 1)

1. أحبائي الأعزاء إن ما جاء في عظة ربنا يسوع المسيح الواردة في الإنجيل تحيِّر الكثيرين إذ بعد ما قال “فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” قال “احترزوا من أي تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم”، لأنه يضطرب عقل ضعيف الفهم هكذا فإذ يرغب في طاعة كلا الوصيتين يتشتت فكره بسبب الاختلاف والتناقض بينهما. لأنه كما يشهد المخلص نفسه في هذه الموعظة بأنه لا يقدر أحد أن يخدم إلا سيدًا واحدًا، فلو خدم سيدين قد تعطي له أوامر متضادة. ماذا يفعل العقل عندما يتردد إذ يفكر في استحالة تنفيذ الوصيتين، (وفي نفس الوقت) يخاف من عصيان أحدهما. فإذا أظهر أعماله الحسنة ليراها الناس حسب الوصية القائلة: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات”، فإنه يشعر بأنه قد أذنب بمخالفة للوصية الأخرى القائلة: “احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس لكي ينظروكم”. فإذا ما خاف وتجنب ذلك مخبئًا أعماله الحسنة يظن أنه قد عصى ذلك الذي أوصى قائلاً: “فليضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة”.

2. أما صائب الفهم فهو ينفذ الوصيتين، وبذلك يطيع رب الكل في كليهما. فإن لم تكن هناك إمكانية لتنفيذ الوصايا ينبغي أن لا يدين الخادم المتواني في تنفيذها.

أصغوا إلى بولس “عبد يسوع المسيح المدعو رسولاً المفرز لإنجيل الله” (رو 1:1)، إذ عمل وعلم بهما. انظروا كيف أضاء بنوره قدام الناس حتى يروا أعماله الصالحة. لقد قال “مادحين أنفسنا لدى ضمير كل إنسان قدام الله” (2 كو 4: 2). وأيضًا معتنين بأمور حسنة ليس قدام الرب فقط بل قدام الناس أيضًا” (2 كو 8: 21). وأيضًا “كما أنا أيضًا أرضوا الجميع في كل شيء” (1 كو 10: 33). انظروا من الناحية الأخرى كيف يحترز من أن يصنع برّه قدام الناس لينظروه إذ يقول: “ليمتحن كل واحد عمله وحينئذ يكون له الفخر من جهة نفسه فقط لا من جهة غيره” ( غلا 6: 4). وأيضًا: “لأن فخرنا هو هذا شهادة ضميرنا” (2 كو 1: 12). كذلك هذا النص الأوضح من الجميع “فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدًا للمسيح” (غلا 1: 10). ولكن لئلا يفتري أحد المرتبكين في وصايا ربنا نفسه – فينظرا إليها كأنها متناقضة – ضد رسوله قائلاً: كيف يقول “كما أنا أيضًا أرضوا الجميع في كل شيء” ومع هذا القول “فلو كنت بعد أُرضي الناس لم أكن عبدا للمسيح”؟ ليت الرب الذي تكلم في عبده ورسوله يكون معنا مظهرًا لنا إرادته معلنًا لنا الوسائل التي نطيع بها الوصايا.

3. إن نفس كلمات الإنجيل تحمل في ذاتها تفسيرًا لها، دون أن تسد أفواه الجائعين إليها، إذ ترى أن عليها تقتات قلوب أولئك القارعين فينبغي أن نهتم بنية قلب الإنسان واتجاهاته ومقاصده، فالذي يرغب في أن يرى الناس أعماله الحسنة مظهرًا أمامهم عظمته ومحاسنه باحثًا عن هذا المجد في نظر البشر لا ينفذ أي الوصيتين التي علَّمنا إياهما الرب في هذا الموضوع. إنه يهتم بصنع البرّ أمام الناس لكي ينظروه فلم يضئ نوره قدام الناس فيروا أعماله الحسنة ويمجدوا أباه السماوي.

إنه يرغب في مجد نفسه لا في مجد الله ساعيًا وراء مصلحته الخاصة غير محب لإرادة الله. يقول الرسول عن مثل هؤلاء “إذ الجميع يطلبون ما هو ليسوع المسيح” (في 2: 21)، لذلك لا تنتهي الآية بهذه الكلمات “فليضئ نوركم قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة”، بل أضاف الهدف من هذا العمل وهو “فيمجدوا أباكم الذي في السموات” فالإنسان الذي يصنع الأعمال الحسنة يكون هدفه هو صنع الخير من ضميره دون أن يقصد معرفة الناس له إلا لتمجيد الله، لمنفعة الذين يعرفونه، فإليهم تريد المنفعة إذ يسرون بالله الذي أعطى الإنسان هذه القوة وبذا ألا ييأسون بل تمنح لهم القوة عينها إن أرادوا.

إنه لم ينهي الوصية الأخرى “احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس” إلا بهذه الكلمات “لكي ينظروكم”. لم يضيف في هذه الحالة “فيمجدوا أباكم الذي في السموات”. وبذلك أظهر لنا أن لا يكون مؤمنيه مثل هؤلاء الذين يسعون وراء المكافأة في هذا الموضوع حتى يراهم الناس، فيوجهون كل اهتمامهم فيما ينظرونه إليهم، وبذلك تسر كبرياء قلوبهم وغرورهم وتعظمهم وتشامخهم وفسادهم، لأنه لماذا لم يكتف بالقول “احترزوا من أن تصنعوا برّكم قدام الناس” بل أضاف “لكي ينظروكم”، إلا لأن هناك من “يصنعون البرّ أمام الناس” من أجل أن يراهم الناس بل لكي ترى الأعمال نفسها فيمجدوا الآب السماوي الذي وهب تلك العطايا للأشرار الذين يبرهم؟

4. إن أمثال هؤلاء لا يصنعون البرّ كأنه منهم بل من الله بواسطة الإيمان الذي به يحيون حيث يقول الرسول أيضًا “لكي أربح المسيح وأوجد فيه وليس لي برّي الذي من الناموس بل الذي بإيمان المسيح البرّ من الله بالإيمان” (في 3: 8-9). وفي موضع آخر يقول “لنصير نحن برّ الله فيه” (1 كو 5: 21). وأيضًا حيث يظهر خطأ اليهود بقوله “لأنهم إذ كانوا يجهلون برّ الله ويطلبون برّ أنفسهم لم يخضعوا لبرّ الله” (رو 10: 3)، فالذين يرغبون في إظهار أعمالهم الحسنة للبشر حتى يمجدوا ذاك الذي أخذوا منه هذه الأعمال الظاهرة فيهم، فيدفع الذين يرونهم نحو تقليدهم بواسطة الإيمان، فبالحق يضيء نورهم أمام الناس لأن منهم تنبعث أشعة نور المحبة. فليس نورهم مجرد رائحة كبرياء، ففي عملهم يحذرون من أن يظهروا أعمالهم للناس بحيث يفهمون أن هذا البرّ منهم، ولا لكي يظهرون أنفسهم، بل يعرف الله الذي يتمجد في الذين تبرروا، وبذلك يعطي الله الذين يمجدونه الأمور التي يمجدها الآخرون فيها، أي أن الله يجعلهم هم أنفسهم موضع التمجيد.

لاحظوا الرسول أيضًا كيف أنه عندما قال: “كما أنا أيضًا اِرضوا الجميع في كل شيء” (1 كو 10: 33)، فإنه لم يقف عند هذا كما لو كان إرضاء الناس هو هدفه النهائي وإلا كان كلامه باطلاً عندما يقول “لو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبدا للمسيح” (غلا 6: )، بل أردف للحال عن سبب إرضاءه للناس قائلاً: “غير طالب ما يوافق نفس بل الكثيرين لكي يخلُصوا” (1 كو 10: 33). لذلك فإنه لا يُرضي الناس لأجل منفعته الخاصة وإلا فلا يكون “عبدا للمسيح”، بل يرضي الناس لأجل خلاصهم حتى يكون رسولاً أمينًا للمسيح، لأنه يكفيه ضميره في نظر الله بالنسبة لنفسه، ومنه تشع أمورا يقتدي بها الناظرين إليه.

 

مت 5: 22

“من قال (لأخيه) يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”

1. إن فصل الإنجيل المقدس الذي قرأ الآن لابد وأن يكون قد ارعينا عند سماعه إن كان لنا الإيمان، لأنه لا يرغب غير المؤمنين، فإذ لا يرعبهم هذا الفصل يبقون في شعورهم بالسلام الباطل، غير عارفين كيف يميزون بين الأوقات الناسبة للسلام والخوف. فينبغي أن يخاف (الإنسان) في هذه الحياة الوقتية حتى يحصل على السلام في الحياة الأبدية. لذلك نرتعب، إذ من لا يخاف من القائل بالحق، الذي يقول “من قال (لأخيه) يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”، ومع ذلك فإن “اللسان لا يستطيع أحد من الناس أن يقمعه” (يع 3: 8), فالإنسان يروِّض الوحوش الضارية، وأما لسانه فلا يُقمعه. يروِّض الأسد وأما حديث فلا يلجمه. يروِّض كل شيء وأما ذاته فلا يروِّضها. يروِّض كل ما يخافه وكل ما ينبغي أن يخافه حتى يستطيع أن يروِّض نفسه التي لا يخافها. ولكن كيف يكون ذلك؟ إنه نص حقيقي صادر من رسول الحق “وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يقمعه”.

2. إ ذن ماذا نفعل يا أحبائي؟ إنني أرى حقًا أنني أُحَدِثُ جمعًا كبيرًا، ومع ذلك أرى أننا واحد في المسيح. لنتشاور كما لو في الخفاء، فليس من غريب يسمعنا، فإننا جميعنا واحد لأننا قد اتحدنا في واحد. ماذا نفعل إذن؟ “من قال (لأخيه) يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”، إلاّ أن “اللسان لا يستطيع أحد من الناس أن يلجمه”، فهل تدخل البشرية جميعها إلى نار جهنم؟ حاشا لله!

“يا رب ملجأ كنت لنا في دور فدور” (مز 90: 1). غضبك عدل، إنك لا ترسل إنسانًا إلى جهنم ظلمًا. “أين أذهب من روحك” (مز 139: 7)، وإلى أين أهرب منك إلا بالالتجاء إليك؟ إذن فلنفهم أيها الأحباء الأعزاء بأنه إن كان لا يستطيع أحد أن يلجم لسانه، فلنلتجأ إلى الله الذي يستطيع أن يلجمه. إن أردتم أن تلجموه لا تستطيعون لأنكم بشر. “وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يقمعه”، لاحظوا التشبيه المماثل لذلك في الحيوانات التي نروِّضها فالحصان لا يستطيع أن يروِّض نفسه، والجمل لا يروِّض نفسه، والفيل لا يروِّض نفسه والأفعى لا تروِّض نفسها، والأسد لا يروِّض نفسه، هكذا لا يستطيع الإنسان أن يروِّض نفسه. لكن لو أراد الإنسان لأمكنه أن يروِّض الحصان والثور والجمل والفيل والأسد والأفعى. ليتنا نبحث عن الله حتى يروِّضنا.

3. لذلك “أيها الرب قد صرتَ ملجأ لنا. “إليك نسلم ذواتنا وبمعونتك يكون صلاحنا”. لأنه بذاتنا يكون لنا المرض، لأننا تركناك فُتركنا لذواتنا. إذن فلنوجد فيك لأنه بذواتنا نهلك. “أيها الرب قد صرت ملجأ لنا “لماذا نشك أيها الإخوة في استطاعة الله على إصلاحنا إن سلمنا له ذواتنا حتى يروِّضها؟ أنكم تروِّضون الأسد الذي لم تصنعونه أفلا يستطيع خالقكم أن يروِّضكم؟ لأنه من أين أتيتم بالقوة التي بها تروِّضون الوحوش المفترسة؟ ألعلكم متساوون في القوة الجسدية؟ فبأي قوة إذن تستطيعون بها إخضاع الحيوانات الكثيرة؟ إن الحيوانات التي تستخدم للحمل مفترسة بطبيعتها كما تدعونها. إنها إذ كانت في طبيعتها المفترسة لم تكن نافعة، لكن إذ تعودنا أن لا نعرف هذه الحيوانات إلا وهي خاضعة تحت أيدينا، تحت سلطان البشر فهل تظنوا أنها وُلدت بهذه الحالة المستأنسة. على أي حال انظروا إلى الوحوش التي هي بلا شك مفترسة. “الأسد زمجر فمن لا يخاف” (العالم 3: 8)، ومع ذلك أي شيء تجده في نفسك أعظم منه قوة؟ ليس في القوة الجسدية بل في رشد العقل الداخلي أنك أقوى من الأسد في كونك جُبلت على صورة الله. ماذا؟ أيمكن لصورة الله أن تروِّض الأسد المفترس، ويعجز الله عن ترويض صورته (الإنسان)؟

4. أن فيه رجاءنا، لنخضع ذواتنا له ملتمسين رحمته. ليكن رجاءنا فيه. لنحتمل مدربنا حتى نتروَّض، ونروَّض تمامًا أي نصير كاملين. لأنه غالبًا ما يجلب علينا مروِّضنا تأديبات أيضًا. إن كنتم تحضرون أسواطًا تروِّضون بها حيواناتكم المفترسة أفما يصنع الله مع وحوشه التي هي نحن، هذه التي يجعل منها أولادًا له. أنكم تروِّضون حصانكم. ولكن ماذا تعطونه عندما يحملكم بهدوء، ويحتمل تداريبكم ويطيع أوامركم، ويكون لكم حيوانًا مخلصًا مفيدًا؟ كيف تستطيعون أن تكافئونه يا من حتى عند موته لا تدفنونه بل تلقونه خارجًا فتمزقه الطيور المفترسة؟ بينما عندما تُروِّضون يحفظ الله لكم الميراث الذي هو الله نفسه، ومع أنكم تموتون إلى فترة قصيرة فإنه سيقيمكم إلى الحياة مرة أخرى. إنه سيعيد لكم أجسادكم حتى بكامل عدد شعوركم، ويجلسكم مع الملائكة إلى الأبد حتى لا تحتاجون بعد إلى يده المروِّضة بل يغنيكم برحمته المتزايدة لأنه سيكون الله “هو الكل في الكل (1 كو 15: 28)، ولا تعودوا بعد تمتحنون بالشقاء بل تقتاتون بالسعادة وحدها. سيكون إلهنا نفسه راعينا، سيكون إلهنا كأسنا، سيكون إلهنا مجدنا، سيكون إلهنا كنزنا. مهما تعددت مطالبكم في هذه الحياة فإنه هو وحده سيكون كل شيء لكم.

5. إن كان على هذا الرجاء يروِّض الإنسان أفيبدو المروِّض قاسيًا؟ على هذا الرجاء يروِّض الإنسان فهل يتذمر على مدرِّبه المحسن إليه إذا اِستخدم معه التأديب؟ لقد سمعتم نصائح الرسول بولس “إن كنتم بلا تأديب… فأنتم نغول لا بنون” (عب 12: 8)، فأي ابن لا يؤدبه أبوه” ( عب 12: 7)، كما يقول “ثم قد كان لنا آباء أجسادنا مؤدِّبين وكنا نهابهم. أفلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا” (عب 12: 9). ما هي إمكانيات آبائكم في إصلاحكم عندما يستخدمون الضرب عند تأديبكم؟ هل يستطيعون أن يجعلونكم تحيون إلى الأبد؟ إن كانوا لا يستطيعون إصلاح أنفسهم (بإعطائها الحياة الأبدية) فكيف يستطيعون أن يصنعوا لكم هذا؟ لأنهم إذ جمعوا بعض المال بالرباء والعناء يهيئونكم بالتأديب حتى لا تبعثروا نتيجة أعمالهم بتصرفاتكم الشريرة، عندما يتركونها لكم. نعم إنهم يضربون أبنائهم فبمقدار عدم قدرتهم على الاحتفاظ بثمرة أعمالهم هنا أو أخذهم إياها معهم يضربون أبنائهم حتى يحفظونها لهم إنه لا يستطيعوا أن يتركوا لكم ما كان ملكًا لهم، إنهم قد رحلوا وأنتم سترحلون، ولكن ما هي فاعلية تأديبات إلهكم ومخلصكم ومدربكم ومؤدبكم وأبيكم؟ إنها توصيلكم إلى الميراث، حيث لا تحملون آبائكم إلى القبور بل ستأخذون أباكم ذاته كميراثً لكم، أعلى هذا الرجاء تؤدَّبون وتتذمرون؟ إذا ما أصابتكم الأحزان هل تجدفون؟ إلى أين تذهبون من روحه؟ أيترككم لذواتكم ولا يؤدبكم، تاركين إياكم في تجديفكم ولا تختبرون عدله؟ أليس من الأفضل أن يؤدبكم ويقبلكم عن أن ينفصل ويتخلى عنكم؟

6. ليتنا نقول للرب إلهنا “يا رب ملجأ كنت لنا في دور فدور” (مز 90: 1). لقد كنت ملجأ لنا في الجيل الأول والثاني. لقد كنت ملجأ لنا فولدنا نحن الذين لم نكن قبلاً موجودين. لقد كنت ملجأ لنا فولدنا من جديد نحن الذين كنا أشرارًا. لقد كنت ملجأ في إطعامك للذين هجروك، أنت ملجأ فتقيم أطفالك وتقودهم “أنت ملجأ لنا”، إننا لن نهجرك إذ خلصتنا من كل شرورنا وملأتنا بكل أعمالك الصالحة.

لقد وهبتنا إياها الآن وأنت تعاملنا برفق حتى لا نخور في الطريق. أنك تصلحنا وتؤدبنا وتلطمنا وتوجهنا حتى لا نضل السبيل فتعاملنا بحنان حتى لا نخور، أو تؤدبنا حتى لا نحيد عن الطريق.

“أيها الرب ملجأ كنت لنا”

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى