تفسير رسالة كورنثوس الأولى أصحاح ١ للقديس يوحنا ذهبي الفم

تفسير كورنثوس الأولى – الأصحاح الأول

 

 « بولس[1] المدعو رسولاً ليسوع المسيح بمشيئة الله و سوستانیس[2] الأخ . إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين مع جميع الذين يدعون باسم ربنا يسوع المسيح في كل مكان لهم ولنا . نعمة لكم و سلام من الله ابينا و الرب يسوع المسيح (ع ۱ – ۳) .

انظر كيف أن بولس الرسول من البداية أطلق على نفسه مدعواً ، وكأنه يقول : أنني لم أجد ما تعلمته وأدركته بحکمتی ، ولكني دُعيت ، إذ كنت مضطهدًا الكنيسة وهادمها ، كمن يقول إن الأمر كله صدر من الداعي ، وأما عن المدعوين ما صار لهم هذا سوى طاعتهم فقط .

ونرى تواضع بولس الرسول هنا إذ قال : “وسوستانیس الأخ “حيث رتب ذاته مع من هو أصغر منه كثيرًا ، لأن الفرق عظيم بينه وبين سوستانیس وسماها ” کنیسة الله “، موضحًا أنه يجب أن تكون متحدة ، ليس في كورنثوس فقط بل في المسكونة كلها ، لأن اسم الكنيسة ليس هو اسم التفرقة ولا الاختلاف بل الألفة والاتحاد.

وقول بولس الرسول “نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح” حيث إن النعمة الحقيقية والسلام الصادق فهما من الله والذي تكون له النعمة من الله لا يخاف شيئاً ولو صادفته شدائد كثيرة.

انظر بإمعان كيف أن داود النبی کانت له النعمة من الله وأبشالوم كانت له من الناس ، فأي منهما نجح ؟ وانظر أيضًا  لقد كانت النعمة لإبراهيم من الله وكانت النعمة لفرعون عند الناس ، فمن منهما ظهر سعيدًا مشرفًا  ؟ انظر أيضاً كان للإسرائيليين النعمة من الله وكانوا مبغوضين من الناس المصريين ، إلا أنهم استولوا على مبغضيهم بكل افتخار كما هو معلوم للكل .

لذلك سبيلنا أن نحظى بالنعمة من الله.

“أشكر إلهي في كل حين من جهتكم على نعمة الله المعطاة لكم في يسوع المسيح. أنكم في كل شيء استغنيتم فيه في كل كلمة و كل علم”( ع 4 ، 5 )

لقد علمنا بولس الرسول دائماً أن نشكر الله قبل كل شيء لأنه لا يكون محبوبًا عند الله هكذا كالذي يشكر عن ذاته وعن غيره أيضا ولذلك كتب بولس الرسول هذا في كل رسالة تقريباً.

وعلينا أن نشكر الله دائمًا  ليس على النعمة المعطاة حتى الآن فقط بل وعلى الخير الذي يعطيه فيما بعد أيضًا.

كما ذكر بولس الرسول هنا أن النعمة ليست دينًا  ولا جزاء ولا مكافأة بل هي هبة.

“كما ثبتت فيكم شهادة المسيح” ( ع 6 ) .

هذا نوع من المديح والشكر ، إذ ذكر أنهم يشهدون للسيد المسيح ويكرزون به.

“حتى إنكم لستم ناقصين في موهبة ما و انتم متوقعون استعلان ربنا يسوع المسيح ( ع ۷).

بولس هنا سماه « استعلان ، أي أنه وإن كان السيد المسيح لا يُرى فهو موجود وحاضر الآن وسيظهر وقتئذ فيجب الصبر إذًا.

“الذي سيثبتكم أيضاً إلى النهاية بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح » ( ع٨) .

أمعن نظرك كيف أن بولس الرسول يلصقهم دائمًا  في اسم السيد المسيح وليس في اسم أحد من الناس قط لا رسول ولا معلم كما أنه لا يوجد في رسالة أخرى اسم السيد المسيح متواترًا هكذا ، أما في هذه الرسالة فإنه يذكره مرارًا كثيرة .

“أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا” (ع۹).

لم يقل بولس الرسول دُعيتم بفلان وبفلان بل قال “به” أي بالله ولم يقل أيضاً تقدمتم بل قال “دُعيتم”.

ذکر بولس الرسول أن الله وعد أن يصيرنا شركاء الابن الوحيد الجنس لأنه إلى هذا دعانا ودعوته هذه سبق فدبرها ، فالله هنا هو الداعی.

“ولكنني أطلب اليكم أيها الإخوة باسم ربنا يسوع المسيح أن تقولوا جميعكم قولاً واحداً ولا يكون بينكم انشقاقات بل كونوا كاملين في فكر واحد و رأى واحد”( ع ۱۰ ).

يقول بولس الرسول إنه يطلب إليهم ويطلب بالمسيح ، كونه لم يكن كافياً بمفرده للتوسل فاتخذ بولس هنا المسيح مساعداً ومعيناً له.

ولكن ما هو الذي يطلبه بولس هنا ؟ الجواب : أن يقولوا جميعهم قولاً واحداً ولا يكون بينهم انشقاقات.

“لأني أُخبرت عنكم يا إخوتي من أهل خلوى أن بينكم خصومات”(ع11).

على الرغم من وجود خصومات بين الكورنثوسيين إلا أن بولس الرسول يسميهم إخوته ، ولو أن الزلة كانت واضحة لم يكن هناك مانع من أن يسميهم إخوته.

“فأنا أعني هذا أن كل واحد منكم يقول انا لبولس و أنا لأبلوس[3] و أنا الصفا[4] و أنا للمسيح » ( ع ۱۲ ) .

يلاحظ هنا أن بولس الرسول لم يفصل ذاته عن بطرس الرسول وإذ وضع اسم بطرس أخيراً ، لكنه قدم بطرس عن ذاته جداً، إذ وضع اسمه ، أولاً ، لأن الذي يزدرى بنفسه أولاً لا يفعل ذلك لطلب الشرف بل لعظم احتقاره لذاته ، فالناتج أنه قبل الصدمة هو كلها وعند ذلك وضع أبلوس وبعده بطرس الرسول.

“هل انقسم المسيح ألعل بولس صُلب لأجلكم أم باسم بولس اعتمدتم” (ع۱۳).

لم يقل ألعل بولس مات عنكم ، وإنما قال لعله صُلب ، واضعاً نوع الموت ، ولم يقل هل بولس عمدكم لأنه كان قد عمد كثيرين ، إلا أن هذا لم يكن المقصود ممن تعمدوا ، ولكنه قال “باسم بولس اعتمدتم” ، أي أنه لا يقصد من الذي عمد بل باسم من عمد ، لأننا لا نسأل عمن عمد بل عن الداعي إلى المعمودية ، لأن هذا هو الذي يغفر الخطايا.

“أشكر الله إني لم أعمد أحدا منكم إلا كريسبس[5] و غایس » (ع14).

بولس الرسول يشكر الله لأنه لم يعمد كثيراً ليزيل تشامخهم من كونهم يعمدون ، ليثبت أن الموهبة ليست منهم وحيث إن المعمودية عظيمة إلا أن لا يُصيرها عظيمة من يعمد بل الداعي إلى المعمودية .

“حتى لا يقول أحد إني عمدت باسمى” ( ع 15).

یعنی بولس الرسول إنه لو كان عمد كثيرين كان يحق لهم أن يتفقوا لا أن يتسموا باسمه فقط بل كانوا ينسبون له المعمودية أيضاً.

“وعمدت أيضاً بيت إستفانوس[6] عدا ذلك لست أعلم هل عمدت أحدا آخر. لأن المسيح لم يرسلني لأعمد بل لأبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب المسيح” ( ع 16، 17).

أي أن بولس الرسول لم يُرسل للمعمودية بل لما هو ضروری جداً ، فالتعميد يكون لكل من هو كاهن ، أما البشارة مع أحد غير مؤمن فهذا يحتاج تعبأ كثيراً. 

فليس أمرا عظيماً أن تعمد إنساناً وهو مقتنع ، ولكن التعب هنا كثير أن تغير وتنقل ما في ضمير هذا الإنسان وتقلع منه الضلالة وتغرس فيه الحقيقة ، أي أن التعميد ليس فيه مشقة بل في التبشير.

“فإن كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله . لأنه مكتوب سأبيد حكمة الحكماء وأرفض فهم الفهماء . أين الحكيم أين الكاتب أين مباحث هذا الدهر ألم يجهل الله حكمة هذا العالم” ( ع ۱۸ -۲۰)

إن الصليب كان يُستهزئ به من اليونانيين لمقاومته لحكمتهم ولا تتعجبوا من أن قوة الصليب لا تُعرف عند الهالكين إذ يعادی باغضوها الأدوية الخلاصية.

ماذا تقول يا إنسان لأجلك صار المسيح إنساناً ، أخذ صورة العبد وصُلب وقام ، فمن الواجب إذ قد قام أن تسجد له لأن الذي صنعه من أجلك لم يصنعه أبوك أو صديقك وهذه جميعها صنعها من أجلك أنت العدو والمقاوم ، إنه ليس بمستعجب هذا ، لأن من خاصية الهالكين ألا يعرفوا ما يأتي بهم إلى الخلاص ، فلا تضطربوا إذاً لأنه ليس بأمر غريب أن يستهزئ بالأشياء العظيمة من قبل المذهولين.

“لأنه إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة” (ع ۲۱).

يود بولس الرسول أن يقول : أي فيلسوف أو أي مجتهد من العارفين أمور اليهود خلص وعرف الحق ؟ الجواب : ليس ولا واحد بل الأشياء كلها كانت من الصيادين !!

“لأن اليهود يسألون آية و اليونانيين يطلبون حكمة. و لكننا نحن نکرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة. وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله و حكمة الله ” (ع 22- 24) .

یعنی بولس الرسول أن الناس يقولون لنا أقيموا الأموات اشفوا المجانين اصنعوا الآيات والمعجزات ، وأما نحن بماذا تجاوبهم عما يقولونه ؟ نقول : إننا نکرز بمن صلب ومات وهذا يكفي.

ونحن نکرز لهم بالصليب ، الأمر الذي يعتقده اليهود ضعفاً ويحتسبه اليونانيون حماقة ، فإننا لا نعطيهم ما يطلبونه فقط بل نقدم لهم الذي لا يطلبونه، لأن الصليب لا آية فقط بل ونقض الآية ، إننا لا نقدم للذين يطلبون الآيات والحكمة ما يطلبونه فقط بل يسمعون أضداد ما يبتغونه ، ثم بالأضداد يقتنعون ، وذلك ما فعله السيد المسيح بالأعمى ، لأنه إن شاء أن يشفيه بشیء وضع على عينيه طيناً، وكما أنه بالطين شفاه هكذا والعالم بالصليب استمال العالم كله إليه، لأن الصليب يُظن به شیء مشكك إلا أنه لا يشك فقط بل ويجتذب أيضاً.

“لأن جهالة الله أحكم من الناس و ضعف الله أقوى من الناس” ( ع 25).

يعني بالجهالة والضعف : الصليب ، لا لكونه كذلك بل كما يُتوهم به.

فالصليب أقنع الأميين وأطاع المسكونة بأسرها وصير الجميع العديمي المعرفة والأميين فلاسفة.

 “فانظروا دعوتكم أيها الإخوة أن ليس كثيرون حکماء حسب الجسد ليس كثيرون أقوياء ليس كثيرون شرفاء . بل اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الاقوياء” ( ع 26، 27)

أي أن هؤلاء قد يكونون ممتلئين من الكبرياء ، لأنه لا يوجد شيء غير ملائم لقبول حسن العبادة كالتشامخ ورغبة الغني الزائلة ، لأنها تجعل الإنسان يستحسن الحاضرات ولا يهتم قط للعتيدات ، بل إن الله اختار ضعفاء العالم الأمر الذي هو علامة عظيمة للغلبة عندما تكون للأميين ، لأن اليونانيين لا يخزون بهذا المقدار بل ويخجلون إذا ما أبصروا الصنايعي والسوقی متفلسفاً أكثر منهم ولذلك قال “ليخزى الحكماء”.

“واختار الله أدنياء العالم و المزدرى و غير الموجود ليبطل الموجود » (ع ۲۸).

 فما هو غير الموجود الذي ذكره بولس الرسول هنا ؟ الجواب : أي الشيء الذي لا يُحسب شيئا لزيادة حقارته ؛ لأنه قوة عظيمة هي أن المطروحين الذين لم يمارسوا شيئاً من التعاليم نراهم بغتة يهذبون ويصبحون معلمين بالفلسفة التي تخص السماويات.

“لكي لا يفتخر كل ذي جسد أمامه”( ع ۲۹).

يجب ألا نحتسب شيئاً لذواتنا ، بل ننسب الكل لله.

أما أنتم فقد مزقتم ذواتكم ناسبيها لفلان وفلان لأن الله قد أوضح أنه من غير الممكن أن تخلصوا من ذاتكم فقط وهذا ما فعله الله منذ البدء ، لأن وقتئذ لم يكن للناس الخلاص من تلقاء ذواتهم، فالكل يحتاج الحكمة التي من فوق ، فأقام الله البشر، ولم يدعهم أن يكونوا أكفاء لذواتهم.

“ومنه أنتم بالمسيح يسوع الذي صار لنا حكمة من الله و براً و قداسة وفداءً » ( ع30).

المقصود من قول بولس الرسول عن المسيح أنه “من الله” أي أنه عندما يقول الكتاب أقوالاً عظيمة عن المسيح يضم الآب معه فمن حيث إنه قال إنه اقتدر على مثل هذه الأشياء وضع الكل في الابن قائلاً « الذي صار لنا حكمة من الله وبراً وقداسة وفداء ، إذ وجه الأشياء كلها بالابن ونسبها للآب.

“حتى كما هو مكتوب[7] من افتخر فليفتخر بالرب » (ع۳۱).

إن العدل هو الافتخار بالله ، فلتفتخر في كل أمر بالله ، لأن أمور اليونانيين ليست هي هكذا، بل ينسبون الأمور لذواتهم.

فاصل

  1.  بولس : الصغير . 
  2. سوستانیس : اسم یونانی معناه ” سليم القوة”.
  3. أبلوس : اسم یونانی اختصار “أبولونيوس” . 
  4. صفا : علم مأخوذ عن الأرامية أي صخرة أو حجر .
  5. کریسبس : اسم لاتيني معناه  مجعد الشعر
  6. إستفانوس : اسم یونانی معناه إكليل من الزهور
  7. إر 9: 23

فاصل

أقرأ أيضاً

فاصل

فهرس تفسير رسالة كورنثوس الأولى تفسير العهد الجديد
تفسير 2 كورنثوس 2
 القديس يوحنا ذهبي الفم
تفاسير رسالة كورنثوس الأولى تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى