تفسير إنجيل متى أصحاح 6 – كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة

الأَصْحَاحُ السَّادِسُ
تابع العظة على الجبل – الممارسات الروحية – التجرد

(1) الصدقة (ع 1-4):

1 «اِحْتَرِزُوا مِنْ أَنْ تَصْنَعُوا صَدَقَتَكُمْ قُدَّامَ النَّاسِ لِكَيْ يَنْظُرُوكُمْ، وَإِلاَّ فَلَيْسَ لَكُمْ أَجْرٌ عِنْدَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. 2 فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُصَوِّتْ قُدَّامَكَ بِالْبُوقِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُرَاؤُونَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي الأَزِقَّةِ، لِكَيْ يُمَجَّدُوا مِنَ النَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 3 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ، 4 لِكَيْ تَكُونَ صَدَقَتُكَ فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ هُوَ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.

 

ع1-2: يتكلم المسيح هنا عن أركان العبادة الأساسية، وهي الصدقة والصلاة والصوم. ولعله يبدأ بالصدقة امتدادا لكلامه السابق عن تقديم المحبة وعمل الخير مع الكل، حتى الأعداء.

ويضع شرطا أساسيا لقبول الصدقة، وهي أن تكون من أجل الله، وليس بغرض أن ينظرنا الناس ويمجدوننا، لأنه إن نلنا مديح الناس، فليس لنا أجر عند الله. وقد كان المراؤون قديما لا يتصدقون بسبب محبتهم لله والمحتاجين، بل يتصدقون لمجدهم الشخصى، فيضربون الأبواق لكي يجتمع الناس وينظروا عظمة عطائهم فيمجدونهم.

“أبيكم الذي في السماوات”: يقصد الله الذي يسمو على أفكار المرائين الأرضية الزائلة، والذي نستعد لنكون معه في الحياة الأبدية، وننال مكافأة حياتنا البارة على الأرض بالميراث السماوي الأبدي.

“المراؤون”: من يُظهرون غير ما يُبطنون، فمظهرهم عمل الرحمة، وحقيقتهم الكبرياء وطلب مديح الناس؛ ويقصد هنا الكتبة والفرّيسيّين.

“في المجامع وفي الأزقة”: حيث يكثر الناس ليقدموا مديحا أكبر لهم.

 

ع3-4: الشمال: ترمز إلى العطاء لكسب مديح الناس.

اليمين: ترمز للبركة وطاعة الوصية، أي العطاء لأجل الله. ويقصد أيضًا أن يكون العطاء في الخفاء، حتى يكون مخفيا عن أقرب الناس لنا، مثل قرب اليد من الأخرى، حينئذ تكون الصدقة لأجل الله فقط، فننال المكافأة الأبدية، التي تكون أمام كل الخليقة، بل وأيضا يباركنا الله في حياتنا الأرضية أمام الكل.

وليس معنى هذا أن لا يعطى الإنسان إذا كان هناك من ينظره، فلا نمنع العطاء بسبب عدم أمكانية إخفائه، ولكن ليكن لنا روح الخفاء، وعدم الانشغال برأى الناس.

† اهتم بالمحتاجين الذين لا يستطيعون أن يطلبوا علانية، فهؤلاء المستورين قد يكونوا أحوج من الكل، واشكر الله الذي سمح لك أن تعطيه في شكل هؤلاء المحتاجين.

(2) الصلاة (ع 5-8):

5 «وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ! 6 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً. 7 وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلًا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ. 8 فَلاَ تَتَشَبَّهُوا بِهِمْ. لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ.

 

ع5-6: لم يحدثنا المسيح عن تفاصيل الصلاة الفردية أو الجماعية، بل ترك هذه التفاصيل للكنيسة، ترتبها بروحه القدّوس.

وقد تحدث عن جوهر الصلاة، أن تكون صلة حب شخصية بين الإنسان والله. فكيف تستعرضها أمام الناس لتنال مجدهم، سواء في أماكن يزدحم فيها الناس، مثل المجامع فينظرك المجتمعون، أو في زوايا الشوارع لكي ينظرك الآتين من الشوارع المختلفة؟ بهذا ستنال مجد الناس، وتخسر المكافأة الأبدية.

لذا، ينبغي لأولاد الله أن يصلّوا في الخفاء، ويغلقوا الأبواب حتى لا يراهم أحد. والمقصود أبواب القلب قبل الأبواب المادية، لأنه لو دخل الإنسان مخدعه، وقلبه يود أن يعلم الناس أنه بالداخل يصلى لكيما يمجدوه، فلن ينال بركة الله. وليس معنى هذا أن يتشكك الإنسان إذا نظره أحد وهو يصلى، سواء في حجرته الخاصة أو في الكنيسة أو في أي مكان، ولكن المهم أن قلبه لا يكون مشتهيا أن ينظره الناس ويمجدوه.

 

ع7-8: كان البعض قديما في العبادات الوثنية ثم عند اليهود، يقرأون الصلوات ويكررونها مرات كثيرة، ظنا منهم أنه بكثرة التكرار تستجاب الصلاة، فهذا تكرار باطل لا يفيد شيئًا. ولكن التكرار السليم، هو الإلحاح على الله بتضرع وإيمان، أي يفهم الإنسان ما يقوله، وليس مجرد تكرار الشفاه.

ويؤكد المسيح أن الله يعلم احتياجاتنا، فلا يفيد التكرار في شىء، وكأن الله غير سامع. إن كل ما ينتظره منا، هو الإقبال إليه، وفتح قلوبنا له. فإذ نُظهر بنوتنا وتمسكنا به، يفيض علينا بمراحمه؛ فالله منتظر أن نسأله، لأنه يحبنا، ويعلم احتياجنا، ويود أن يعطينا إذا أحببناه وطلبنا منه.

† إذا انشغلت برأى الناس فيك أثناء الصلاة، واستحسنوا كلماتك، فقد نلت مكافأتك على الأرض، ولا تنفعك هذه الصلاة شيئًا أمام الله. فافتح قلبك في حجرتك الخاصة، أو بعيدا عن العيون، لتعبر عن كل مشاعرك بالكلمات والدموع والسجود، فيتعزى قلبك بنعمة الله الذي يسمعك ويفرح بصلاتك.

(3) الصلاة الربانية (ع 9-15):

9 «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. 10 لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. 11 خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. 12 وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. 13 وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ. لأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ. 14 فَإِنَّهُ إِنْ غَفَرْتُمْ لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، يَغْفِرْ لَكُمْ أَيْضًا أَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ. 15 وَإِنْ لَمْ تَغْفِرُوا لِلنَّاسِ زَلاَتِهِمْ، لاَ يَغْفِرْ لَكُمْ أَبُوكُمْ أَيْضًا زَلاَتِكُمْ.

 

ع9: قدّم لنا المسيح بنفسه المثال الذي نقتدى به في كل صلواتنا، وهو الصلاة الربانية، التي نرددها كثيرًا قبل وأثناء وفي نهاية صلواتنا.

وتشمل الصلاة الربانية ثلاث طِلبات من أجل تمجيد اسم الله، وهي طلبات حب لشخصه وتمتد لتجد كمالها في الأبدية، ثم ثلاث طلبات أخرى من أجل احتياجاتنا المادية، لكي تعلمنا إكرام الله وتمجيده قبل أن نطلب شيئًا لأنفسنا.

“أبانا”: تبدأ هذه الصلاة بإظهار بنوتنا الخاصة لله، فندخل الصلاة بهذه الدالة، وأبونا هذا مرتفع عن كل خطية، فإن كنا أبناءه، فإننا نسلك في نقاوة كسمائيين ونحن على الأرض. وهو ليس مرتفعا في السماء المنظورة، بل ساكن في قلوبنا التي تتطهر بالتوبة وبمحبته فتصير سماءً.

“ليتقدس اسمك”: اسم الله يعني الله كله، فاسم الشخص يدل على كل ما فيه. ونحن لا نطلب قداسة لله لأنه قدّوس في ذاته، بل تقديسه في نظرنا وفي حياتنا، أي تكون قلوبنا نقية ومكرسة له، فتصلح لسكناه، فنرفض كل شر بالتوبة، ونهيئ قلوبنا للصلوات والتأملات وكل عمل خَيِّر.

 

ع10: “ليأت ملكوتك”: الله هو مالك كل شيء في العالم، ولكننا نطلب أن يملك على قلوبنا، لنتمتع بأبوته ورعايته وحبه. وبهذا، نطرد كل خطية مسيطرة علينا، وكل تعلّق أرضى.

وهى تعني أيضا اشتياقنا للملكوت السماوي في الأبدية، حيث يملك الله بلا عائق على قلوبنا ويكمل فرحنا.

“لتكن مشيئتك”: إننا، كأولاد الله، نطلب مشيئته وليس مشيئتنا، لأن مشيئتنا معرضة للخطأ، أما مشيئته فدائما صالحة لمنفعتنا. وهو، بأبوته، يطلب خيرنا ووصولنا إلى أبديته السعيدة.

“كما في السماء كذلك على الأرض”: الملائكة في السماء يخضعون لله، ونحن نود أن نطيع كلامه على الأرض كما يطيعونه في السماء، فهناك يبطل الصراع بين الجسد والروح، فيحيا الإنسان في تمتع دائم بالله. لذا، نتمنى أن تتحول حياتنا الأرضية إلى حياة سمائية، يتفق فيها الجسد مع الر وح في محبة الله وخدمته.

والسماء أيضا ترمز للقداسة، فكما يحيا القديسون طالبين مشيئة الله، نود نحن أيضًا أن نتشبّه بهم.

والسماء تشير روحيا إلى الإيمان، حيث يسعد المؤمنون بالحياة مع الله؛ فنطلب أن تؤمن كل الأرض بالله فتصير سماءً.

 

ع11: “خبزنا كفافنا”: وتترجم أحيانا “خبزنا الذي للغد” أو “خبزنا الآتي” أو “خبزنا الجوهرى”.

“كفافنا”: الخبز الذي يكفينا اليوم، ولا نقلق أو ننشغل بالمستقبل.

خبزنا الذي للغد أو الآتي: أي الطعام الروحي السماوي، نحتاج أن نذوقه من الآن على الأرض.

الجوهرى: أي الطعام الروحي، وهو الأهم، تمييزا له عن الطعام المادي الزائل.

وكل هذه الترجمات تعني فكرة روحية واحدة، وهي: أعطنا خبزنا الضرورى، أي:

(1) احتياجاتنا المادية الضرورية التي تكفينا اليوم، ولا نهتم بالغد إذ نثق في رعايتك، وأنك ستكفى احتياجاتنا دائما، فينشغل قلبنا بالانطلاق في محبتك.

(2) كلمة الله من خلال الكتاب المقدس، والصلاة والتسبحة، فهي تشبعنا أكثر من الطعام المادي.

(3) التناول من الأسرار المقدسة، سواء بتناوله يوميا، أو الإحساس به إن كنا نتناوله على فترات أطول (أسبوعيا مثلا).

نتعلم من كل المعاني السابقة، سواء الخبز المادي الذي نشعر بحلاوته لأنه عطية الله السماوي لنا، أو الإحساس بالمسيح معنا يوميا من خلال وسائط النعمة والأسرار المقدسة، أن هذه كلها عربون الملكوت الذي نذوقه على الأرض لنشتاق إلى السماء.

 

ع12: طلب غفران الخطية، هو اعتراف واضح بأننا خطاة نقدم توبة أمام الله، واثقين من غفرانه، ومحبته التي لا ترفضنا.

وتعنى أيضًا ضعفنا واحتياجنا المستمر للغفران، لأننا، وإن كانت طبيعتنا قد تجددت في المعمودية، معرضين للسقوط في الخطية كل يوم، فننال الغفران في صلاة التوبة وسر الاعتراف.

وتضع الصلاة الربانية شرطا لنوال الغفران، وهو محبة الآخرين والتسامح وغفران خطاياهم، لأنه من غير المعقول أن ينال قاسى القلب غير المتسامح، والديان لغيره، غفرانا من الله.

فإن كان الله مستعد أن يغفر خطايانا في حقه، وهي خطايا غير محدودة إذ أنه غير محدود، فبالأولى نغفر نحن لإخوتنا خطاياهم في حقنا، لأنها خطايا محدودة، إذ أننا محدودون.

فعندما تغفر لغيرك تربح الأكثر، وهو غفران الله لخطاياك غير المحدودة. وغفرانك هذا لأخيك ينقى قلبك لتستحق غفران الله، ولكن يحتاج منه أن يتوب لينال غفران الله.

 

ع13: “لا تدخلنا في تجربة”: عبارة تعني اتضاع الإنسان وشعوره بضعفه، فيطلب من الله أن يُبعد عنه التجارب. ولكن، إن سمحت مشيئة الله أن يمر الإنسان بتجربة، فليطلب من الله، قائلًا:

“لكن نجنا من الشرير”: أي لا تسمح لإبليس أن يسيطر علينا، ولا تتخلى عنا فنسقط في التجربة، لكن بمعونتك، نحتملها ونخرج أنقياء منها، بل نزداد فضيلة. فالتجربة الحقيقية ليست مجرد الضيقة، بل السقوط في الخطية والابتعاد عن الله، وهذا ما نطلب أن يحمينا الله منه.

ثم يختم الصلاة الربانية بتمجيد الله، معترفا، قائلًا: “لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد، آمين”.

“الملك”: أي يملك على القلب كما طلب سابقا.

“القوة”: اعتراف بقوة الله القادرة على استجابة صلاتنا.

“المجد”: فهو مستحق التمجيد والإكرام كل حين.

وهذا الاعتراف معناه الخضوع لله، ليس بالشفاه فقط، بل بالعمل أيضًا.

والطلبات الثلاثة الأخيرة تختص بحياتنا على الأرض، لأننا في السماء لا نحتاج لطعام مادى، أو لعربون الملكوت، لأننا نكون قد وصلنا إليه، ولا توجد خطية، فلا نحتاج إلى غفران، ولا توجد تجربة أو شيطان نخشاه.

 

ع14-15: من أجل أهمية محبة الآخرين،يكرر الله ضرورة الغفران والتسامح معهم، وإلا فقدنا كل بركات الصلاة الربانية ومحبة الله لنا.

ولأهميتها، يكررها مرتين في هذين العددين.

† ليتك تعى معاني هذه الصلاة عندما ترددها كل يوم، فتدخل بدالة البنوة إلى الله وتطلب مجده، وتعلن اشتياقك له. ثم، باحتياج الابن، تطلب كل ما تريد واثقا من محبته.

(4) الصوم (ع 16-18):

16 «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. 17 وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فَادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، 18 لِكَيْ لاَ تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لأَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.

 

ع16: “متى صمتم”: كما أن الصدقة والصلاة أمران ضروريان، كذلك الصوم أيضًا. ويتحدث هنا عن كيفيته، أما تنظيم الأصوام الجماعية فتركها للرسل والآباء القديسين في الأجيال الأولى.

“عابسين”: كان الكتبة والفرّيسيّون إذا صاموا لا يغسلون وجوههم، ويضعون الرماد على رؤوسهم حتى يظهروا صائمين أمام الناس، فينالوا مديحهم.

“استوفوا أجرهم”: أي أن صومهم بلا قيمة أمام الله.

 

ع17: على العكس، أظهر المسيح أهمية إخفاء الصوم، لأنه علاقة حب شخصية بين الإنسان والله، فهو يترك شيئًا من أجله. لذا طلب أن يكون شكل الإنسان عاديا، غير عابس، أي وجهه مغسول، وشعره مدهون.

ومن الناحية الروحية، يرمز غسل الوجه للنقاوة من الخطية بالتوبة، ودهن الشعر للفرح بعشرة الله والممارسات الروحية أثناء الصوم.

 

ع18: يؤكد هنا على أهمية المكافأة الإلهية للصائمين، بالبركات على الأرض، ثم الحياة الأبدية، كما يحدث مع المصلين والمتصدقين.

† وأنت إذا ظهر تذمرك على الصوم أو أية عبادة روحية، فقد أضعت مكافأتك السماوية. فاهتم بإخفاء صومك قدر ما تستطيع، لأنه علاقة حب بينك وبين الله. ولكن، إن عرف أحد أنك صائم، فلا تضطرب، لأنك لم تسعَ إلى ذلك.

(5) الكنوز السماوية والأرضية (ع 19-21):

19 «لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. 20 بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَدَأٌ، وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ، 21 لأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا.

 

ع19-20: يحذرنا المسيح من وضع رجاءنا في الأرضيات، فنسقط في محبة التملّك، لأن كل الممتلكات تتعرض للفساد، إما بفعل الحشرات والصدأ وعوامل الزمن، وإما أنها معرضة للسرقة من اللصوص، فهي متقلبة وزائلة؛ فكيف يكون رجاء الإنسان متقلبا وزائلا؟!

ويدعونا على الجانب الآخر الإيجابى، أن تكون كنوزنا في السماء، بعيدا عن أي تقلّب أو زوال، وذلك ببذل الجهد في العبادة المقدسة وأعمال الرحمة.

وليس معنى هذا أن الادخار والتوفير لأجل احتياجات الإنسان والمشاريع المختلفة يُعتبر خطأً، ولكن الخطأ في تعلق القلب بالمال والاعتماد عليه.

 

ع21: يدل المكان الذي تكنز فيه على شهوة قلبك وانشغالك، فإن كان كنزك سماويا، فإن قلبك متجه للسماء، وبالتالي فإن قلبك يحركك لتنمو وتتقوى روحيا، وتصل للملكوت. والعكس، فإن كنت أرضيا، أي كنوزك في الأرض، فمصيرك الهلاك.

† تغلّب على الماديات وتغيّرها حتى لا تعتمد عليها، فتستخدمها بلا تعلّق، مكتفيا بما عندك، سواء كان كثيرًا أو قليلا، شاكرا كل حين على نعم الله، واثقا أن ما عندك هو احتياجك المناسب الذي أرسله الله لك. وإن كنت تريد شيئًا آخر، فاطلب منه، ولكن باتكال وقبول لمشيئته؛ أي إن أرسل لك فاشكره، وإن لم يرسل فاشكره أيضًا متمتعا بما هو أهم، وهو محبتك له.

(6) النظرة البسيطة (ع 22-23):

22 سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، 23 وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!

 

ع22: يقصد بالعين، ليس فقط العين الخارجية، بل الداخلية أيضا، أي القلب. فإن كانت بسيطة، أي ترى الأمور كما هى، كما يراها الله، ولا ترى الشر، أي ترى كل ما هو صالح، ولا تلتمس الأعذار في الأخطاء وتبتعد عنها، فإن الجسد، أي الأعمال، تصير نَيِّرَةً، أي صالحة.

 

ع23: إذا نظرنا لأخطاء لندينها، نتعرض للسقوط، وبهذا تكون أعمالنا خاطئة، أي مظلمة. فالعين هي مدخل الصالحات إلى الجسد، أي هي التي ترى الله في الأمور المحيطة بها، فتقود الجسد لأعمال الخير. أما إذا كانت العين نفسها شريرة، فستُدخل شرورا جديدة إلى الإنسان، وتصير خطاياه قبيحة جدًا.

† اسأل نفسك كيف ينظر المسيح إلى الأمور لو كان مكانك، حتى تستطيع أن تراها على حقيقتها بدون أغراض شخصية أو أفكار خاطئة، فلا تضلل نفسك.

ابحث عن كل ما هو حسن فيما حولك واشكر الله عليه، وإن رأيت أخطاء في الآخرين، صَلِّ لأجلهم حتى يصلح الله ما فيهم ويكمل نقائصهم، وهكذا لا ترى إلا الله في المحيطين بك، سواء خيرا فيكون منه، أو شرا فيصلحه.

 

(7) محبة المال (ع 24-34):

24 «لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ. 25 «لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ 26 اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟ 27 وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ 28 وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. 29 وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. 30 فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ 31 فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ 32 فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. 33 لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ. 34 فَلاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ، لأَنَّ الْغَدَ يَهْتَمُّ بِمَا لِنَفْسِهِ. يَكْفِي الْيَوْمَ شَرُّهُ.

 

ع24: يقصد بالمال هنا، كل المقتنيات التي في العالم، من طعام ولباس وأي شيء مادي نستخدمه ونشتريه بالمال.

وإن كان المال بركة من الله، فإن التعلق به يجعلنا مستعبَدين له، وننفصل عن عبادة الله. لا يمكن الجمع بين المحبتين، فإما أن نحب الله، وإما أن نحب العالم والماديات التي فيه. وعندما نحب الله، نستخدم كل طاقاتنا لمجد اسمه، أما إذا أحببنا المال، فتتجه حياتنا كلها لجمعه والتلذذ به.

 

ع25: يوضح لنا الله أهمية الحياة معه، فلا نخسر حياتنا ونوجهها لاقتناء الطعام واللباس، بل على العكس، نكتفى بأقل ما يمكن منها، لنتفرغ للحياة مع الله والتمتع بها بين يديه، مقدمين دليلا على ذلك، وهو أن حياتنا نفسها أفضل من هذه الماديات الزائلة. والله الذي منحنا هذه الحياة وهذا الجسد، قادر بالطبع أن يهبنا ما هو أقل أهمية، وهو احتياجاتها.

 

ع26-27: يدعونا الله للاتكال عليه، ويقدم دليلا ثانيا، هو النظر إلى طيور السماء التي تنطلق تغرد بتسبيحه، دون أن تقلق لأجل احتياجاتها الجسدية والتخزين للمستقبل، فالله يقوتها يوما فيوما.

وبالطبع، الإنسان، رأس الخليقة، يهتم به الله ويعطيه احتياجاته إذا اتكل عليه.

ثم يقدم دليلا ثالثا، هو: ماذا استفاد المهتمون بالأمور المادية، هل استطاعوا أن يزيدوا طولهم ذراعا واحدة (حوالي 50 سم)؟ فالله هو الذي يعطى طول الجسد وشكله، ويحفظه إذا اتكلنا عليه.

 

ع28-30: يعطينا الله دليلا رابعا يدعونا للاتكال عليه، وهو التأمل في زنابق الحقل، أي أنواع الأزهار المختلفة التي لها أشكال جميلة جدا، يحاول الإنسان تقليدها في أشكال ملابسه، ولكنه لا يصل إلى جمالها، فسليمان الملك، رغم عظمته وكثرة أمواله، لم تصل ملابسه إلى جمال هذه الأزهار، مع أنها مجرد أعشاب تنمو لبضعة شهور ثم تذبل وتُحرَق بالنار في التنور، أي الفرن.

فكم هي قيمة الإنسان في نظر الله؟… إنها أعظم بكثير، والله يهتم أن يلبسه ويكفي احتياجاته. فإن آمن بالله، مهما كانت موارده أو أعماله قليلة، فسيدبر الله احتياجاته، كما يعطى جمالا للزهور التي لا تستطيع أن تنقب (تحفر) أو تغزل، فيعطيها منظرا منقوشا جميلا، أفضل من كل الثياب المغزولة بيد بشرية.

 

ع31-33: خلاصة القول، لا تهتموا باحتياجاتكم المادية كما يفعل باقي البشر، ولكن اطمئنوا أن الله، أبوكم السماوي، يعلم احتياجاتكم وسيوفرها لكم، واهتموا أنتم فقط بطلب أن يملك الله على قلوبكم وتتمتعوا بعشرته، واثقين أن باقي الأمور من السهل جدًا أن يوفرها الله لكم، أفضل من أن توفروها بانشغالكم الكثير؛ على أنه يجب علينا القيام بواجباتنا وعدم التكاسل.

 

ع34: يُستنتَجُ من هذا أن نعمل واجباتنا اليومية، ولا ننشغل بالمستقبل وأتعابه (أي شرّه)، حتى يتفرغ القلب للتمتع بالله اليوم، وهو سيدبر الغد.

† انظر كم من الوقت تقضيه في الاهتمام بالماديات، وكم من الوقت تنشغل بالوجود مع الله؟

لا تنس أن هدفك هو الله، فرتب يومك ليكون لله الأولوية، بل في كل شيء تعمله، انظر أن يكون مرضيا لله، وكذا كلامك وأفكارك.

وليكن لك الطموح الروحي والأفكار البناءة، واثقا من تدبير الله لاحتياجاتك، وحمايته لك.

زر الذهاب إلى الأعلى