القديس ايسوذوروس الفرمي

 

 ولد في مدينة الاسكندرية سنة ۳۷۰ م من عائلة شريفة نظرًا الى التقوى والغني و كانت بينه و بين البابوين ثاوفيلس وكيرلس صلة قرابة . وقد تربی من حداثته تربية حسنة فنشأ عالماً بأصول الدين و باقي العلوم ولا سيما اللغة اليونانية حتى انه اعتبر احد آباء الكنيسة الجامعة وأحد علماء عصره.

ولكن فضله ظهر واضحا عندما طرح مجد العالم خلفه وازدرى بملذاته وآثر عيشة الوحدة والزهد فاحسن بكل ما يملك على الفقراء والمساكين وهرب ليلًا وانفرد يعيش سائحا مع بعض النساء في جبل صغير قريب من مدينة بيلوسيوس المدعوة الآن فرموس  ولذلك دعي باليونانی وباقي اللغات الغربية ايسوذوروس بیلوسيوطا و بالعربي ایسوذوروس الفرمی.

 وصرف هذا القديس جملة سنين مواظبا على العبادة وكان محبا للصمت ميالا للانفراد للصلاة والتأمل مع الله واظهر قساوة شديدة على جسده فأذله بالتقشفات الشاقة والاصوام الزائدة . وفيما بعد رأى نفسه مدعوا الى الانذار بالتعاليم المستقيمة والمجاهدة عن الحقائق الدينية والآداب فقام بذلك دون أن يخشى عظماء العالم .

وعقب اقتباله  درجة الكهنوت شرع في وضع رسائل عديدة ومتباينة المواضيع و وجه كل خطاب منها الى كل شخص ذى دعوة أو رتبة أو وظيفة خصوصية من كل سن وجنس ورتبة حتى أنه اتصل الى ازمنتنا هذه من رسائله ما يتجاوز الالفين . وفحوى رسائله يدل بالاخص على الروح المسيحية التي كانت تملأ قلبه وتبرهن على تعمقه في معرفة الكتب المقدسة فكان بارعًا في تشويق الناس الى الفضيلة وتكرههم في الرذيلة و بليغا في معرفة تواريخ البيعة والقوانين والتهذيبات الكنسية المختصة بكل ذى وظيفة منها . و كانت رسائله تقابل من الجميع بثناء زائد حتى أن بعض المؤرخين يقول أنها لم تكن أقل اعتبارا من أنفاس القديس يوحنا فم الذهب نظرا الى الغيرة على استئصال الرزائل والعوائد الرديئة وتهذيبها بموجب تعليم الانجيل.

وكان القديس قد طالع ما كتبه القديس يوحنا فم الذهب بكلف زائد وتشبع من روحه لاسيما من كتابه المدعو « واجبات الكهنوت » واقتفى أثره ونسج على منواله حتى أنه استحق أن يدعى تلميذاً خصوصياً له . وكان اعتباره القلبي لفم الذهب شديدا بهذا المقدار حتى انه لم يكتف بان يسلك بموجب تعليمه فقط ولكنه كان يدافع بجرأة أمام قريبه البابا ثاوفيلس البطريرك الاسكندري . وهذه المدافعة هيجت عليه أعداء القديس فم الذهب فأتهموه معه بتهم كثيرة تحمل بسببها اضطهادات قاسية .

وهكذا بعد وفاة البابا ثاوفيلس بذل مجهوداً لدى خليفته وابن اخته البابا کیرلس ليوضح له سمو فضل القديس يوحنا وحمله على أن يضع اسمه بين اسماء القديسين وكان للبابا كيرلس في محاربته للنسطوريين النصير الشديد.

 ومما حرره هذا القديس فيما يختص بواجب ذوي الرتب الكهنوتية أمام الاهانات التي تصادفهم قوله : « اننا نخطىء على حد سواء حينا ننتقم لانفسنا بأخذ الثأر عن الاهانات الصادرة في حقنا وحينا لا ننتقم عن الاهانات الصادرة في حق الله . فيجب علينا إذا أن نحتمل بدعة وصبر الاهانة حينما تلحق باشخاصنا فقط وان نستعمل الحنو والتساهل في غفرانها , واما حينما تلحق  الأهانة بالعزة الالهية فوقتئذ يكون عدلا و واجبا أن نتصف بالغيرة وأن نظهر الغيظ المقدس والغضب المؤسس على حب الله من اننا نحتمل ذلك بجبانة ونخشی بدناءة اغاظة غيرنا ولكن نحن نصنع ما يضاد هذا الأمر على خط مستقيم . أي اننا نتقد غضبا ونشتعل بنار الغيرة ضد اعدائنا فيما يصادفنا وأما فيما يخص الله وكنيسته فنحن فاترون متغاضون خالون من كل حرارة . فموسى الاكثر حلمًا  ودعة من جميع الناس قد احتمی غضبا ضد الشعب الاسرائیلی حینا صنعوا العجل الذهبي ليسجدوا له . وفي هذا الحادث ظهر غضبه أكثر قداسة من أي تنازل وحلم ودعة كانت . وایلیا تسلح بالغيرة المتقدة ضد عابدی الاصنام . والقديس يوحنا المعمدان ضد هيرودس الملك . والقديس بولس الرسول ضد عليم الساحر. فهؤلاء القديسون انتقموا من الاهانة المتصلة بالله في الوقت عينه الذي فيه كانوا يتغاضون عن الاهانات التي تتصل باشخاصهم . فأي نعم أن الله هو أكثر اقتدارا بما يحد على الانتقام لذاته بعدله الرهيب ولكنه مع ذلك أراد تعالی ان الناس الصالحين يشتركون في المحاماة عن الحق منتقمين بقدر ما هو ممكن لديهم عن الافتراء المصنوع في حق عزته الالهية . فهذا هو الترتيب الذي كان القديسون يتصرفون بموجبه و به كانوا يحصلون على ثبات فضيلتهم وفلسفتهم الحقيقية »

وغيرة القديس ایسوذوروس المقرونة بالشجاعة في تهذيب الآخرين أمتدت الى رئيسه اوسابيوس اسقف بیلوسيوس خليفة الانبا آمون فاذ رآه يتصرف تصرفات غير عادلة و ينشىء خطابات بعدم حكمة حتى انه سبب شكوكا كثيرة في كنائس الاقليم المصري أخذ يجابه بالحقيقة و يعلمه بانه شط عن الصواب . وأبلغ من ذلك قيام القديس بتوبيخ حاكم المقاطعة وتنبيه على المظالم التي كان يرتكبها وعلى عدم مراعاة حقوق الكنيسه وقد أتت توبیخاته هذه باثمار تامة و كان أسلوبه في التوبيخ بديعا يتضح من قوله في احدى رسائله « امر ضروری هو ان نوبخ البعض بقساوة والبعض بعذوبة وليونه لانه لا يمكن اكتساب الجميع بنوع واحد ولا يستطاع معالجة الأمراض كلها وشفاؤها بدواء هو بعينه »

والمعلوم أن الأفاضل الذين أخذوا على انفسهم تقويم المعوج واصلاح الفاسد یکثر اعداؤهم والناقمون عليهم ولا عجب أن وجد كثيرون ينقمون على القديس ایسذوروس و يضطهدونه فلم يكن يتألم من اضطهاداتهم لانه كان يعلم أنه في هذا الطريق سار القديسون قبله فكان يتسلح بقوة وصبر وثبات على الاحتمال بدون ضجر . وتمكن أعداؤه من طرده من مكان نسکه و ارسلوه الى المنفي فکانت غبطة القديس ما جرى له شديدة حتى أنه خاطب صديقا له في احدى رسائلة قائلا « انه ان كان من يصنع الواجب عليه و يتمم حسنا التزاماته يقتضي أن يعاملي بالردی وان تحيق به الاضطهادات والمصائب وان من يصنع الشر يلزم أن يمدح و يكافأ بالإنعامات فلا شك بأنه يجب على الإنسان أن يختار النوع الاول بصنيع الخير دون أن يلتفت مطلقا الى الاضطهاد الذي هو يلحق به من جرى ذلك لاننا اذا قطعنا النظر عن المجازاة السماوية عينها التي وعد الله أن يجازی بها الفضيلة ثم عن العقاب المريع نفسه المعد في جهنم للانتقام عن الرزيلة فالفضيلة وحدها و بذاتها اكليل ومكافأة البار . كما أن الشرير يجد قصاصه وعقابه في الشر والرزيلة ولهذا تجد الفضيلة دائما محبوبة على حد سواء ولو انها اضطهدت بالتهم الباطلة نفسها . والرزيلة هي دائما مستحق البغضة مهما  تشرفت من الناس الضالين »

 وقد شاهد القديس مبتدعين كثيرين وانتشرت في أيامه هرطقات متعددة ولكن جميعها لمم تكن كافية لان تبلبل أفكاره اذا كان يعلم أنه لابد أن تأتي العثرات ( مت ۷:۱۸ ) و يتأكد ان هذه الامتحانات التي تتلقاها الكنيسة آيلة لنجاحها ولابد ان تنتصر عليها أخيرا.

ولما أكمل القديس جهاده رأى في نفسه اضطراما شديدا للوصول إلى مقر الراحة الابدية ولهذا حينما داهمه المرض الاخير تعزي وابتهج وهكذا رقد بالرب بهدوء وسلام في ٤ شباط سنة ٤٤٥ م. 

فاصل

القديس شنودة

القرن الخامس العصر الذهبي

القديس مكاريوس

مشاهير وقديسين الكنيسة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

زر الذهاب إلى الأعلى