ما قبل ظهور المعمدان والمسيح

[كان السكوت بين البشارة بميلاد المسيح وظهور المسيح للخدمة، ثلاثين سنة، هذا تدبير إلهي تسجل في الإنجيل، وكان يوحي بأشد ما يكون الإيحاء أن ما سيأتي الحديث عنه أصيل وإلهي وملهم. كما يعطي توضيحاً أن ما سبق هذا الصمت هو تاريخ خــاص للغاية في حــدود الأخصاء جداً، لم يُسمح له بالانتشار بالرغم من مظاهره السماوية العلنية. وكــــان لإعـــداد المسيح فيما لذاته.

وأخيراً انكسرت موجة الصمت التي طالت بإعلان يوحنا المعمدان لنظام وخدمة محيرة للغاية كخدمة إيليا تماما في زمانه. وفي الحقيقة كلا النبيين لهما سمات واحدة، خاصة بمجتمع مزدهر وباذخ، ولكن بآن واحد متدهور نحو الهلاك بأمراض مستعصية خبيثة أصابت النخبة الدينية بالأساس، تُنبئ بانقلاب حتمي لا رجاء فيه. وبالرغم من بأسه وبؤسه فهو يحمل بذار تجديد ممكن احتماله، حتى أنه استلزم ظهور إيليا والمعمدان كل في زمانه. ظهر كل منهما ليهدد بدينونة مخيفة ولكن بآن واحد إمكانية صلاح يبدو غير محتمل، لأن ظهورهما جاء في وقت لا يحتمل فيه صلاح، ولا يُرْجَى بأي حال، فهو يتطلب أخلاقاً غير موجـــودة وغــــير متوافقة مع واقع أليم. يوحنا جاء فجأة . البرية في اليهودية، كما جاء إيليا في براري جلعاد. وجاء الثاني حاملا صفات ومميزات الأول. فرسالة يوحنا ، مكملة لرسالة إيليا، ومعمودية يوحنا جاءت في فرادتها وعجبها كالذي ابتدعه إيليا على جبل الكرمل حينما ذبح أربعمائة نبي على نهر قيشون ليتوازى النبيَّان في نوع انفتاح الوعي والذاكرة على الرجــاء المنتظر. وبالرغم من دقة المشابهة بينهما إلا أن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه. فهو دائماً أبداً يكمل بالنهاية ما بدأه بالبداية. لذلك فالذي نراه ونستطيع أن نقوله إن يوحنا المعمدان هـو تكميل لإيليا عندما اكتمل الزمان.]

وللأسف اكتمال الزمان لم يُعرف بتحديد ميعاده من المسئولين عن معرفة الأزمنة والأوقات، ولكن عُرف سواء في روما أو فلسطين بشدة الحاجة إليه.

[وإن الاعتقاد الشديد الذي اعتنى به .ق. لوقا ليُحدّد زمان مجيء المعمدان وعمله، لم يكن في حقيقته اعتناء تاريخياً محضاً بل لكي يحدد مدى دقة الوقت اللازم لظهور ملكوت الله، أو الإعلان عن ظهوره!!]

[ أما بخصوص ملكوت الله الذي كان هو رسالة المعمدان الأولى وعمل المسيح الأعظم، نقول هنا: إنها هي بعينها العهد القديم كله في حالة الارتقاء به وهي بآن واحد العهد الجديد عندما يتحقق فيه هذا فحقيقة الملكوت لم تكن مخفية في العهد القديم لتستعلن فقط في العهد الجديد؛ بل من المعروف أن حكم السموات وملكوت يهوه كان هو طبيعة العهد القديم وعلى أساسه قامت دعوة إسرائيل ورسالتها، ومعنى كل وصاياه سواء في الأمور المدنية أو الدينية. فملكوت الله كان هو القاعدة التحتانية لقيام كل معاملات يهوه معا والمنظور الذي يُرى منه ويصفه الأنبياء، وبدون مُلك الله في إسرائيل يصعب فهم العهد القديم. فكل تعاليم العهد القديم امتدَّت على أساس الملكوت ودامت وأخذت سلطانها وهيبتها. وكل هذا الملكوت الذي لله في شعب إسرائيل هو الذي يفرق ويميز شعب إسرائيل عن بقية شعوب العالم، ويعطيه امتيازه الحقيقي. ولذلك يُحسب العهد القديم كله إنمـا هـو إعداد وتقديم لحكم السماء وتملك الله.] 

أما الذي ميّز العهد الجديد بصورة عظمى وجهارية هو أنه تحدد ظهور الملكوت بمجيء الله ذاتــــه ودخوله إلى العالم، الذي رفع مستوى الملكوت في الحال من وضعه الخاص لشعب إسرائيل إلى وضعه العام للعالم كله. وبعد أن كان الله في القديم يدبر الملكوت بواسطة الأنبياء والكهنة، أصبح في العهد الجديد يدبره بنفسه الذي كان قد ألمح عليه يهوه بأنبيائه أنه “مسيَّا”. فمسيا لم يكن إلا صورة ليهوه نفسه يأتي ويدخل العالم ويستعلن عمل ملكوته بروحه القدوس فأصبحت العلاقة بين يهــــوه والشعب، حيث يهوه هو الله والشعب هو العالم كله قائمة لا بنبي ولا بكاهن، وإنمـا بنفسه وروحه القدوس بلا حواجز مادية أو عنصرية أيا كانت وهذا ما رآه دانيال النبي: «كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سُحب السماء مثل ابن إنسان أتى وجاء إلى القديم الأيام فقربوه قدامه. فأعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول. وملكوته ما لا ينقرض.» (دا 7 : 13و14)

[وهذه هي صفات ملكوته: أولاً: عامة عالمية شاملة ثانياً : سماوية، ثالثاً: دائمة دوام الأبـــد! فاتساعها باتساع مُلْك الله، مقدَّسة كقداسة السماء بالنسبة للأرض والله بالنسبة للإنسان، دائمة دوام الأبد.]

[وها هو الملكوت حيث يدبر الله ويحكم ظاهراً وباطناً بالمسيح (المسيا): منظوراً من خــلال عمل الكنيسة، ينمو تدريجياً وسط العوائق، منتصراً بالمجيء الثاني للمسيح حيث تُعلن النهاية، ليكمل الملكوت في الحياة الأخرى.]

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى