تأملات في سفر نشيد الأناشيد للبابا شنوده الثالث – الأصحاح الأول

كَمْ رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب! (نش 4: 1)

عبارة الطيب تتكرر كثيرًا في سفر النشيد: فهي في أوله، و في أخره، و خلال إصحاحاته الثمانية:

ففي أوله “رائحة أدهانك الطيبة”، “اسمك طيب مسكوب” (1: 3).

وفي أخره “أهرب يا حبيبي وكن كالظبي.. على جبال الأطياب” (8: 14).

وفي داخله “كم رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب” (4: 10). وأيضًا “حبيبي نزل إلى جنته إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات” (6: 2) “قطفت مري مع طيبي” (5: 1).

يضاف إلى هذا، ذكر كثير من مركبات الطيب:

وأخصها (المر) وهو عطر سائل، طعمه مرَ، ورائحته زكية جدًا.. مثال ذلك “اذهب إلى جبل المرَ، وإلى تل اللبان” (4: 7) “يداي تقطران مرًا” (5: 5). ومجموعة كبيرة من مركبات الطيب في (نش 4: 14): “ناردين وكركم، قصب الذريرة وقرفة، مع كل عود اللبان. مر وعود، مع كل أنفس الأطياب” (4: 14).

في العهد القديم:

هذا الطيب يذكرنا بالدهن الذي للمسحة المقدسة في العهد القديم.

هذه المسحة التي كان يتم بها مسح الملوك والكهنة والأنبياء في العهد القديم، فيحل عليهم الروح القدس وبمواهبه.

كما كان يمسح بها بيت الله ومذابحه وكل أوانيه، فتصير مقدسة للرب.. حقا إننا ننظر إلى هذا الدهن المقدس وفاعليته، ونقول لكنيسة العهد القديم “رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب”.

 عن هذا الدهن قال الرب لموسى النبي “و أنت تأخذ لك أفخر الأطياب: مرًا قاطرًا.. و قرفة عطرة..

وقصب الذريرة.. وسليخة.. و زيت الزيتون. و تصنعه دهنًا مقدسًا للمسحة. عطر عطارة، صنعة العطار.

دهنًا مقدسًا للمسحة يكون. و تمسح به خيمة الاجتماع، و تابوت الشهادة، و المائدة وكل آنيتها، والمنارة وكل آنيتها، و مذبح البخور، و مذبح المحرقة وكل آنيته، والمرحضة وقاعدتها”. “و تقدسها فتكون قدس أقداس. كل ما مسها يكون مقدسًا”. “و تمسح هرون وبنيه، و تقدسهم ليكهنوا لي. وتكلم بنى إسرائيل قائلاَ: يكون هذا لي دهنًا مقدسًا للمسحة في أجيالكم” (خر 30: 22 – 31) “مقدس هو، و يكون مقدسًا عندكم” (خر30: 32).

 حقًا، ما أعجب أدهانك أيتها الكنيسة، التي هي قدس أقداس، و كل ما مسها سيكون مقدسًا! إنها “أطيب من كل الأطياب”.

 وفعل موسى حسب كل ما أمره الرب، هكذا فعل” (خر 40: 16). “أخذ موسى دهن المسحة، و مسح المسكن وكل ما فيه وقدَسه. و نضح منه على المذبح سبع مرات، ومسح المذبح وجميع آنيته..”، “وصب من دهن المسحة على رأس هارون ومسحه لتقديسه..” (لا 8: 10 – 12).

 إنه دهن، طيب عطر، مقدس، كان الروح القدس يعمل من خلاله، للتقديس..

 ونسمع بعد ذلك أن صموئيل النبي “أخذ قنينة الدهن، و صب على رأس شاول ومسحه” (1 صم10: 1).

فكانت النتيجة”أن الله أعطاه قلبًا آخر ” “و حل عليه روح الله فتنبأ”حتى قال الشعب “أشاول أيضًا بين الأنبياء” (1 صم10: 9 – 11). و صار شاول بهذه المسحة ملكًا..

 كذلك مسح صموئيل الفتى داود بهذا الدهن المقدس “فحل روح الرب على داود من ذلك اليوم فصاعدًا” (1صم16: 13)

 حقًا، إن رائحة أطيابك أفخر من كل الأطياب”.

 والدهن المقدس في العهد القديم كاب يمسح به الأنبياء أيضًا، كما مسح إيليا أليشع نبيًا عوضًا عنه (1 مل 19: 16).

في العهد الجديد:

* أول طيب نذكره هو اسم الله، وبه ننال المعمودية.

 يقول سفر النشيد -حسب الترجمة البيروتية- “اسمك دهن مهراق” (نش 1: 3). ولكن أفضل من هذه الترجمة، الترجمة التي نستخدمها في طقسنا القبطي “طيب مسكوب هو أسمك (القدوس)”.

 اسم الله هو طيب عطر، نستخدمه في كل صلواتنا. وبهذا الاسم نتعمد. كما قال الرب لتلاميذه القديسين “و عمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19). كما قال القديس بطرس الرسول لليهود في يوم البندكستي “توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا..” (أع 2: 38).

 وهكذا في المعمودية، أخذنا طيب التبرير والميلاد الثاني (تى 3: 5) وغفران الخطايا (أع 2: 38).

 إن اسم الرب الذي دُعي علينا، نأخذ البنوة له في المعمودية. وبه نبدأ كل عمل، وكل صلاة. وباسمه نبدأ كل يوم من أيام حياتنا. ونذكر قول المرتل في المزمور (مز 63: 4، 5).

 “باسمك ارفع يديَّ، فتشبع نفسي كما من شحم ودسم”.

 حقًا إن “اسم الرب برج حصين، يركض إليه الصديق ويتمنع” (أم 18: 10). و ما أجمل ما نقوله للرب في التسبحة “اسمك حلو ومبارك: في أفواه قديسيك”.

 “الطيب المقدس الذي نأخذه بعد ذلك، هو دهن الميرون المقدس.

 ونلاحظ أنه يشتمل على الأطياب التي وردت في مركبات مسحة العهد القديم في (خر 30) وأيضًا ما ورد في أطياب سفر النشيد (نش 4: 14).

 وبهذا الدهن المقدس ننال التقديس وسكنى الروح القدس فينا.

 نصبح هيكلًا للروح القدس، والروح القدس يسكن فينا (1 كو 3: 16) (1 كو 6: 19). ويعمل فينا روح الله، و ندخل في شركة الروح القدس. ألا يليق بنا، و نحن نرى هذا، أن نقول للكنيسة المقدسة “رائحة أدهانك أفخر من كل الأطياب”.

 ذلك لأن الأب الكاهن، فيما يرشم المعمد بهذا الدهن المقدس (زيت الميرون) يقول هذه الصلوات:

 مسحة الروح القدس، آمين.. مسحة عربون ملكوت السموات، آمين.. مسحة مقدسة للمسيح إلهنا، وخاتم لا ينحل، آمين.

 كمال نعمة الروح القدس، ودرع الإيمان والحق آمين.

 وبهذا الدهن المقدس، يقدس كل أطراف المعمد، ومفاصله وفتحات جسمه. ويبدأ الروح يعمل فيه، بقوته، و مواهبه، وإرشاده.

 حقًا: رائحة أدهانك -أيتها الكنيسة- أفخر من كل الأطياب.

“الطيب الرابع الذي نأخذه من الكنيسة، هو عمل الكهنوت.

 وكان عمل الكهنوت.. في العهد القديم – يبدأ بسكب الطيب المقدس على رأس رئيس الكهنة، كما يقول المزمور”.. كالطيب الكائن على الرأس، الذي ينزل على اللحية، لحية هرون النازلة على جيب قميصه” (مز 132 [133]).

 لاشك أن الكهنوت هو طيب في الكنيسة، ننال به كل نعم الأسرار المقدسة، وننال به الرعاية والعناية.

 ننال به مغفرة الخطايا، حسب قول الرب لتلاميذه “من غفرتم خطاياه، غُفرت له” (يو 20: 23) “ما حللتموه على الأرض يكون محلولًا في السماء” (مت 18: 18). وننال بالكهنوت نعمة العماد (مت 28: 19)، “و الميلاد الثاني، وتجديد الروح القدس” (تى 3: 5). والمسحة التي لنا من القدوس (1 يو 2: 20)، والتناول من جسد الرب ودمه (1 كو 11).

 وبالكهنوت ننال التعليم الصحيح (تى 2: 1)، حيث من فم الكاهن تطلب الشريعة (ملا 2: 7) وهو يفصل كلمة الحق باستقامة (2 تى 2: 15).

 أيتها الكنيسة المقدسة، هذه هي “رائحة أدهانك الطيبة” (نش 1: 3).

 بل من الكهنوت أيضًا، نأخذ البركة في ختام كل اجتماع، بل البركة في كل وقت. كما علّم الرب موسى “هكذا تباركون.. قائلين لهم: يباركك الرب ويحرسك. يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك. يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا” (عد 6: 23 -26).

 وطيب الكهنوت لا يشمل فقط الأسرار والتعليم والبركة، وإنما يشمل أيضًا العمل الروحي كله.

 ومنه خدمة المصالحة، كما قال القديس بولس الرسول “.. وأعطانا خدمة المصالحة.. إذن نسعى كسفراء عن المسيح، كأن الله يعظ بنا. نطلب عن المسيح: تصالحوا مع الله” (2 كو 5: 18، 20). وفي هذه الخدمة كل ما يتعلق بالرابطة الروحية بين الله والناس. كل ما يتعلق “بتكميل القديسين، وعمل الخدمة، وبنيان جسد المسيح” (أف 4: 11، 12).

 حقًا يا كنيستنا المقدسة، “رائحة أدهانك أطيب من كل الأطياب”.

 “طيب آخر تقدمه لنا الكنيسة المقدسة، وهو رائحة المسيح الزكية في حياتنا:

 وهكذا تكون الكنيسة مصدرًا للطيب، لرائحة الحياة الطيبة، كما يقول الرسول “شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته.. ويُظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان”، “لأننا رائحة المسيح الزكية لله” (2 كو 2: 14، 15). “رائحة حياة لحياة” (2 كو 2: 16).

 رائحة الحياة الطيبة، هي طيب تقدمه الكنيسة إلى العالم.

 وهي -في قداستها وطهرها- “معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6). يرى الناس أعمالها الحسنة، فيمجدون الآب الذي في السموات (مت 5: 16).

 إن أستير الملكة، كانت مثالًا، حينما بدأت حياتها كملكة، بأن وضعوها في العطور والأطياب مدة ستة أشهر (إس 2: 12).

 ورقم ستة في الكتاب المقدس يرمز إلى كمال العمل. كما خلق الله العالم في ستة أيام، وقام بعمل الفداء في اليوم السادس وفي الساعة السادسة..

 وكانت الملكة أيضًا – كما في حياة أستير: توضع أيضًا في زيت المر ستة أشهر. والمر عطر، له رائحته الطيبة وطعمه المر، يرمز إلى طيب الكنيسة في آلامها.

 وعن طيب الحياة، قيل عن الكنيسة في قدسية حياتها:

“المر والميعة والسليخة من ثيابك” (مز 45).

 يعطينا هذا مثلًا عن ثوب البر الذي ينبغي أن نلبسه أمام الله، والثياب البيضاء التي نظهر بها هنا، وكان يظهر بها كما في ظهوراتهم في قصة القيامة (يو 20: 12). وكما يخدم الآباء الكهنة في الهيكل بثياب بيض..

 ثياب القديسين “غير المدنسة من الجسد” (يه 23) كانت طيبًا أمام الله، وكانت بركة أمام الناس. ونذكر في هذا المجال أنه قيل عن القديس بولس الرسول “كان يؤتى عن جسده بمناديل ومآزر إلى المرضى، فتزول عنهم الأمراض، وتخرج الأرواح الشريرة” (أع 19: 12).

 إنها معطرة روحيًا أمام الله.

 وقد أشاد الله بالعطر ورائحته في كتابه المقدس:

 فقد أمر الرب موسى النبي من جهة البخور الذي يجب إعداده لتقديمه للرب إنه يكون “بخورًا عطرًا صنعة العطار” (خر 30: 25). كما يرمز الطيب إلى الحياة الطيبة.

 إن الكنيسة بالطيب الذي تظهر به في حياتها الطيبة، تبدو كما قيل في سفر الرؤيا “كعروس مزينة لعريسها” (رؤ 21: 2).

 ولعل هذا يذكرنا بقول أبينا إسحق أبى الآباء في مباركة ابنه يعقوب: “رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب” (تك 27: 27).

 حقًا إن الرب يحب الرائحة العطرة ويريدها:

 والطيب أيضًا يظهر في التقدمات والذبائح التي تقدمها الكنيسة للرب.

 وقد قيل عن أبينا نوح بعد رسوّ الفلك: إنه “أصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضًا بسبب الإنسان..” (تك 8: 20، 21).

 آخر طيب في حياتنا هو الطيب الخاص بتكفين الإنسان بعد موته:

 إن المرأة التي سكبت على السيد زجاجة طيب من ناردين غالى الثمن، ولامها بعض التلاميذ قائلين “لماذا هذا الإتلاف؟! لأنه يمكن أن يُباع هذا الطيب بكثير ويعطى للفقراء”، فقال لهم الرب “لماذا تزعجون المرأة. فإنها قد عملت بي عملًا حسنًا.. فإنها إذ سكبت هذا الطيب على جسدي، إنما فعلت ذلك لأجل تكفيني” (مت 26: 8-12).

 وحدث هذا فعلًا في تكفين السيد المسيح أن أتى نيقوديموس “وهو حامل مزيج مرّ وعود نحو مئة منّا” فأخذ هو ويوسف الرامي جسد السيد، ولفاه بأكفان مع الأطياب كما لليهود عادة أن يكفنوا” (يو 19: 39، 40). كذلك في فجر الأحد جاء إلى القبر النسوة “حاملات الحنوط الذي أعددنه” (لو24: 1).

 أجساد القديسين الطاهرة التي عاشوا بها على الأرض كانت طيبًا صاعدًا إلى السماء استقبلتها الملائكة قائلين “من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).

 أجساد كانت طيبًا يعطر الكنيسة، ولما تنيح أصحابها، صعدت أرواحهم إلى السماء كطيب عطر، و بقينا نضمخ رفاتهم بالطيب.

 المقصود أن الإنسان كما تكون حياته على الأرض طيبًا، فإن الطيب يفوح من جسده أيضًا عند تكفينه ودفنه.

 وهكذا نفعل مع رفات القديسين، إذ يضمخ الرفات بالأطياب والحنوط حتى تصبح رائحة رفات القديس عطرة باستمرار..

أنا سوداء وجميلة (أ) (نش 1: 5)

 

هذه العبارة تقولها كنيسة الأمم.

التي تعتبر سوداء لأنها كانت غريبة عن رعوية شعب الله بلا ناموس, لا أباء ولا أنبياء, بلا وعود من الله, وبلا عهود منه, وبلا معرفة إيمانية به (أف 2: 12). فهي من هذه الناحية سوداء في نظر اليهود ولكنها تخاطبهم قائلة “أنا سوداء يا بنات أورشليم” من وجهة نظركم أنتم ولكني جميلة في عيني الرب.

النفس البشرية الخاطئة, هي أيضا سوداء.

سوداء من جهة ضعفها وسقوطها ولكنها جميلة بدم المسيح الذي يطهرها من كل خطية (1 يو 1: 7) فهي تقول أنا سوداء في حالة الخطية ولكن جميلة في حالة التوبة, سوداء في حاضري وماضي ولكني جميلة في المستقبل, بالرجاء.. آنا سوداء وآنا بعيدة عن الله ولكني أؤمن بقوة الله الذي سينتشلني مما أنا فيه وهو الذي سوف يتوِّبني فأتوب (أر 31: 18) وأصبح جميلة, لأن الجمال هو طبيعتي التي خلقت بها كصورة الله على شبهة ومثالة (تك 1) باعتباري نفحة خرجت من فم الله, واستقرت في ترابي (تك 2). 

أنا جميلة -كصورة الله- أما الخطية فهي دخيلة على طبعي.

هذه الخطية زحفت إلي من سبب خارجي “لأن الشمس قد لوَّحتني” ولكني جميلة باعتبار أن نعمة الله لابد ستفتقدني في يوم ما, وسيعمل في روحه القدوس ولن يتركني إلي سوادي.

لقد كنت سوداء بخطيتي الجدية المورثة.  ثم تجددت في المعمودية.

دخلت جرن المعمودية، حيث صُلِبَ إنساني العتيق (رو 6: 6) “ليبطل جسد الخطية”.  وخرجت من جرن المعمودية بيضاء وجميلة.

ثم اسودَّت بشرتي، لأن الشمس قد لوَّحتني.  ولكني واثقة أنني سأدخل جرن التوبة، حيث يغسلني الرب فأبيض أكثر من الثلج (مز 50) وأصبح جميلة.

الله الحنون سوف ينضح عليَّ بزوفاه فأطهر.  سيخلق فيَّ قلبًا نقيًا.  وأيضًا سوف يجدد روحًا مستقيمًا في أحشائي (مز 50).  وبنعمته سوف يردني إلى رتبتي الأولى، الجميلة.

أنا سوداء لأني في مرحلة من التخلي “طلبته فما وجدته”.

ولكني واثقة بالرجاء أني لابد سأجدهُ ولو بعد حين. وحينئذ سيلقي على بره, فأصبح جميلة مرة أخرى.

أنا سوداء يا بنات أورشليم البيض الجميلات.. ولكني أحذركن:

لا تشمتن بي، ولا تهزأن بسوادي كأنه عار.

فالرسول يمنعكن إذ يقول ” أذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم. واذكروا المذلين كأنكم انتم أيضًا في الجسد” (عب 13: 3). كما يقول من هو قائم، فلينظر لئلا يسقط (رو 11)، كلكم معرضون أن تلوحكم الشمس مثلي.

لقد كانت لي أخت سوداء وصارت جميلة. أنها الأرض!

قيل في اليوم الأول أن الأرض “كانت خربة وخاوية، وعلى وجه الغمر ظلمة” (تك 1: 2) تلك الظلمة تعني أنها سوداء.. “ثم قال الله: ليكن نور, فكان نور”. وصارت الأرض الخربة جميلة، وامتلأت بالثمار والأزهار ” ورأى الله ان ذلك حسن”.

وأنا أيضًا أنتظر اليوم الذي يقول فيه الرب: ليكن نور.

فيكون نور. ويرى الله النور إنه حسن. وأصير جميلة.

إنني أعيش برجاء ذالك اليوم لست أعيش في ظلمتي الحاضرة, وألا خنقني اليأس!.. إنني بالرجاء انتظر النور الآتي. انتظر أن يغسلني الرب, فابيض أكثر من الثلج. أن عبارة “أبيض أكثر من الثلج” عبارة معزية مملوءة بالرجاء. سأعيش فيها.

إن كنيسة الأمم عندما قالت أنا سوداء وجميلة, كانت في عمق الإيمان بالخلاص الأتى.

كانت مؤمنة بمجيء من يحمل خطايا العالم كله.

وعندما قالت أنا جميلة ذكرتني بقول المرتل في المزمور: ” أرحمني فأني بار” (مز 86)، وفي قوله هذا، لم يتكلم عن بره الذاتي، إنما عن البر الأتي بالدم المسفوك، الذي سيطهره فيبيض أكثر من الثلج “متبررًا مجانا بالنعمة” (رو 3: 24) وبنفس الوضع تقول عذراء النشيد عن نفيها إنها جميلة فالرسول يقول ” لان جميعكم الذين اعتمدتم للمسيح قد لبستم المسيح (غل 3: 27) أي لبستم البر الذي له.

لي أخت أخرى كانت سوداء وجميلة. هل تعرفنها يا بنات أورشليم؟ إنها أورشليم نفسها كما وصفها سفر حزقيال.

قال لها الرب وهي مطروحة بنجاستها على الأرض “مررت بك ووجدتك مدوسة بدمك. فقلت لك بدمك عيشي” (حز16). هكذا كانت حياتها وهي سوداء.. ثم يقول لها الرب بعد ذلك ” فمررت بك ورأيتك وإذ زمنك زمن الحب. فبسطت ذيلي عليك وسطرت عورتك ودخلت معك في عهد, فصرت لي. فحممتك بماء. (أي المعمودية) وغسلت عنك دمائك (بمغفرة خطاياك), ومسحتك بزيت, (أي بزيت الميرون في المسحة المقدسة) وألبستك مطرزة. وكسوتك بزًا أي حرير (بسر التوبة) وحليتك بالحلي (بالفضائل) فتحليت, وجملت جدا فخرج لك أسم في الأمم لجمالك لأنه كان كاملا ببهائي الذي جعلته عليك” (حز 16).

هذه قصة السوداء التي صارت جميلة، إذ افتقدها الرب.

وكان ذلك في “زمن الحب” أي الزمن الذي رآه الرب مناسبا لإظهار حبة، وما أدق عبارة “جمالك كان كاملًا ببهائي الذي جعلته عليك” إنه جمال من الله وليس جمال من تلك النفس، إنه بر المسيح وليس برها الذاتي. إنه منحة الله للنفس، وليس عمل الذراع البشري.

نفوس كثيرة كانت سوداء وصارت جميلة.

مثل نفوس التائبين جميعا, مثل موسى الأسود, وأغسطينوس، وبيلاجية، ومريم القبطية، وأريانوس والي أنصنا، واللص اليمين..

ولكن هذه النفوس لا تقول “أنا سوداء وصرت جميلة” وإنما تقول “أنا سوداء وجميلة” لأنها تعيش بالرجاء. فترى المستقبل كأنه قائم أمامها, إنها نفس واثقة, إنها غالية عند الرب, مهما سقطت!

هناك نفوس أخرى ترونها أنتم سوداء ويراها الرب جميلة!

مثال ذلك شاو ل الطرسوسي المضطهد للكنيسة. كم كان أشد سواد هذه النفس في نظر المؤمنين, حينما كان يهجم ويقتاد رجالا ونساء إلي السجن. أما الرب فنظر إلي نفس شاول السوداء, بل التي كانت جميلة في غيرتها وإن كانت غيرة ليست حسب المعرفة وقال له ” صعب عليك أن ترفس مناخس” (أع 9).. إنني أغسلك وأنت ترفض الصابون والماء والليف! ومع ذلك سأظل أغسلك إلي أن تبيض أكثر من الثلج فيما تغسل خطاياك (أع 22: 16) وبعد ان تبيض سأريك كم ينبغي أن تتألم من أجلي, سيرجمونك, وسيضربونك بالسياط, ويسيل الدم على نفسك البيضاء.. وأغني لك أنشودتي ” حبيبي أبيض وأحمر”.

أنا نفسي سوداء قد أكون مائتة مثل الابن الضال.

حسبما قيل عنه “ابني هذا كان ميتا فعاش” (لو 15: 24).

 وقد يقال عني “قد أنتن” مثل لعازر (يو 11: 39).

أنا واثقة من إني سأخرج من القبر, وسأرجع إلي بيت عنيا. وهناك سيزورني الرب ومعي مريم ومرثا..

أنا نفسي ساقطة, ولكنني لست ضائعة..

سيمسك واحد من السارافيم جمرة من على المذبح, ويمسح بها شفتي, قائلًا: قد طهرت. قد كفر عن خطيئتك. لن تموت.. وسيأتي الرب بلقان, وسيأتي بمئزر ويغسل قدمي, لكي أصير طاهرا كلي، كباقي التلاميذ، وكباقي النفوس التي هي مثلي سوداء. ويقول “ها أنتم الآن طاهرون” (يو 13: 10).

أنا سوداء وجميلة, والخطية تلطخني من الخارج فقط . أما قلبي فهو في داخلي يحب الله!

مثل بطرس الذي أنكر سيدة ثلاث مرات, وسب ولعن وقال لا أعرف الرجل (مت 26: 72) ومع ذلك قال للرب بعد القيامة: أنت يا رب تعرف كل شيء. أنت تعلم أني أحبك (يو 21: 17).

 الخطية غريبة عني, وأنا غريب عنها, أنها سقطة ضعف وليست خيانة!

إرادتي في الخارج سوداء, أما نفسي من الداخل فهي بيضاء, كل ما كان مني من إنكار هو نفسي الخارجية الضعيفة السوداء, أما الحب الذي في قلبي، فهو نفسي الحقيقية الجميلة , نفسي الخارجية يلطمها الشيطان فتسود، أما قلبي من الداخل فجميل، وهذا السواد الخارجي سوف أخلعة حتمًا, سأخلعه الآن. وسأخلعه عندما ألبس جسدًا نورانيًا روحانيًا لا يخطئ (1كو15: 44, 49) جسما لا يتصل بالمادة بعد.

أنا سوداء وجميلة كخيام قيدار، كشقق سليمان. وكأنة قيل عني, كنت خلال ذلك أكافح، نفسي وأجاهد, حتى كأنني اثنان في واحد, هذا يدفعني, وذلك يمنعني.

هذه النفوس المجاهدة التي تحارب حروب الرب. فتسقط حينا، وتقوم حينا أخر، وقد يجرحها الشيطان وقد يشوه بعض أعضائها، هي على الرغم من سقوطها، سوداء وجميلة، مهما جرحت في الحرب، هي جميلة، لأنها لا تلقي سلاحها، ولم تستسلم نهائيا للعدو. ولم تفقد إخلاصها الداخلي للرب، مهما جرحت.

كلما عاش الإنسان في حياة الاتضاع، يجد نفسه سوداء وفي نفس الوقت جميلة!

مثل نفس العشار الذي لم يجرؤ أن ينظر إلي فوق.. وإنما بانكسار قلب وبخجل, قال: ارحمني يا رب فأني خاطئ (لو 18: 13) حقا إنها نفس سوداء وجميلة, ما أعظم وأعمق هذه المقابلة:

العشار نفسه سوداء وجميلة, والفريسي لم يكن جميلًا وهو أبيض.

نفس أخرى كانت سوداء وجميلة, هي نفس اللص اليمين على الصليب, كان لصا ومازلنا نسميه باللص, وهي كلمة ترمز لسواده، وكلمة اليمين ترمز لبره في المسيح.

راحاب الزانية -كذلك اللص- كانت سوداء وجميلة.

كانت امرأة مشهورة إنها خاطئة، ولكن الحبل القرمزي كان يقول إنها أكثر جمالًا من كل سكان أريحا (يش 6).

كل نفس سوداء وجميلة تناديكم: لا تحكموا حسب الظاهر.

إن الظاهر لا يقدم الحقيقة مطلقا. لما رأى صموئيل النبي الابن البكر ليسى قال “هوذا أمام الرب مسيحه”، بينما قال الرب ” أنا قد رفضته” وقال لصموئيل: “لا تحكم حسب الظاهر “، بينما اختار الرب داود الذي كان يقول ” صغيرا كنت في بيت أبي، ومحتقرا عند بني أمي”. هذا الصغير الذي صار مسيحًا للرب وحل علية روح الرب (1 صم: 16).

عبارة ” أنا سوداء وجميلة ” يمكن أن يقولها كل ضعيف اختاره الرب.

فالرب قد أختار تلك النفوس السوداء الجميلة “أختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء, وأختار الله ضعفاء العالم ليخزي الحكماء, وأختار أدنياء العالم والمزدري وغير الموجود.. (1كو1: 27, 28) أختار مجموعة من الصيادين ليكونوا رسله، وأختار موسى الأغلف الشفتين ليكون كليمه، وأختار أرميا الصغير ليكون نبيا للشعوب.. واختار العشار متى بين لأثنى عشر، وتوما الشكاك أيضًا بينهم. إنها نفوس كانت تبدو للكثيرين سوداء في ضعف مكانتها، ولكنها كانت في نظر الله جميلة. نعم إنه الله الذي قيل عنة: الساكن في الأعالي، والناظر إلي المتواضعات.

المقيم المسكين من التراب والرافع البائس من المزبلة, لكي يجلس مع رؤساء شعبة. الذي يجعل العاقر ساكنة في بيت, أم أولاد فرحة (مز 113). نعم هذه النفس الخارجة من التراب ومن المزبلة تصلي إليه قائلة في شكر: أنا سوداء وجميلة.

أنا ضعيفة أعمل بقوة الله،وجاهلة أتكلم بحكمة الله

أنا المزدري وغير الموجود, ولكن الله منحني وجودًا..

في إحدى المرات اختار الله حفنة تراب مدوسة في الأرض, ونفخ فيها نسمة حياة، فصارت نفسا حية (تك 2)، وجعلها الله على صورته ومثاله وإذ صارت كذلك، انطبقت عليها عبارة:

“أنا سوداء وجميلة”.

ألست ترى معي أيها القارئ العزيز أن هذا الموضوع له بقية طويلة؟ نعم إنه لكذلك..

أنا سوداء وجميلة (ب)

 

يمكن أن تستخدم عبارة “أنا سوداء وجميلة” للدلالة على الإنسان الذي هو في حالة ضعيفة ومحتقرة أمام البشر.

مثل الآباء الرسل الذين كانوا صيادين من جُهَّال العالم، حيث قيل عن بطرس ويوحنا إنهما “إنسانان عديما العلم وعاميان” (أع 4: 12). وكما كانت القديسة العذراء في نظر الناس إنسانة فقيرة خطيبة رجل نجار، ومع ذلك جعلها الله أسمى من الشاروبيم وأعلى من السارافيم وقبل رؤساء الملائكة.

ويمكن لعبارة ” أنا سوداء وجميلة ” أن تكون وصفا لغير الإنسان:

كقرية بيت لحم التي كانت تعتبر أنها “الصغرى بين رؤساء يهوذا” ولكنها صارت من أعظم المدن إذ “خرج منها مدبر يرعى شعب إسرائيل” (مت 2: 6) هو المسيح الرب. وكذلك يمكن أن يوصف بنفس العبارة “مزود البقر” الذي ولد فيه رب المجد. أماكن سوداء ولكنها جميلة. ومثل مدينة الناصرة التي قيل عنها في تعجب “أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟!” (يو 1: 46). ومع ذلك كل تلك الأماكن مواضع مقدسة: سوداء كما كانت في نظر ذلك الزمان. ولكنها صارت جميلة.

مزود البقر الذي تعافه النفس، أتى إليه أباطرة وملوك لكي يتباركوا منه ويسجدوا فيه. وكل حبة تراب من أرضه تغنى قائلة: أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم.

عبارة “سوداء وجميلة” تستخدم أيضا في مجال الفضائل والمثاليات.

فكثير من الفضائل تبدو للإنسان سوداء، بينما هي جميلة. ومن أمثلة ذلك الباب الضيق والطريق الكرب (مت 7: 14) وهكذا الصليب الذي ينبغي أن تحمله كل من يسير وراء الرب (مت 10: 38).

وقد تبدو سوداء، الأمور التي يتعب فيها الإنسان نفسه، وتضغط على إرادته: مثل تقديم الخد الأخر لمن يلطمه اللطمة الأولى (مت 5: 39). وكأن يبارك لاعنيه، ويحسن إلى مبغضيه (مت 5: 44). ويقبل الظلم في صمت. كشاه تساق إلى الذبح، ولا يفتح فاه ” (أش 53: 7).. كل هذه تبدو أمامه أمورًا ضاغطة. و لكنها تهمس في أذنيه “أنا سوداء وجميلة”..

هكذا كل أنواع التعب التي يتحملها الإنسان من أجل الخير:

ليس في الروحيات فقط، وإنما حتى في جميع الواجبات كتلميذ يسهر الليل، ولا يخرج لاهيا مع أصحابه. إنما يحبس نفسه في بيته، ويذاكر لكي ينجح. وأيضا رب الأسرة الذي يكدح ليلا ونهارا لأجل الحصول على قوت أسرته. أمثله كلها تعب، ولكنها جميلة.

الجلجثة عموما تبدو في نظر الناس سوداء، وكذلك الصليب.

سواء كان ذلك لأجل الفضيلة، وفي محيط الخدمة. انظروا ماذا يقول القديس بولس الرسول عن خدمته وخدمة معاونيه: مكتئبين في كل شيء، ولكن غير متضايقين. متحيرين ولكن غير يائسين. مضطهدين لكن غير متروكين. مطروحين لكن غير هالكين.. نسلم دائما للموت لأجل يسوع، لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت (2كو 4: 8-11).

وما عبارات: مكتئبين، متحيرين، مضطهدين، نسلم دائما للموت، إلا عبارات تبدو سوداء، وهي جميلة.

كذلك يقول بنفس المعنى عن الخدمة “كمضلين ونحن صادقون. كمجهولين ونحن معروفون. كمائتين وها نحن نحيا.. كحزانى ونحن دائما فرحون. كفقراء ونحن نغنى كثيرين”.. (2 كو 6: 8 10).

ونحن ننظر إلى عبارات: مضلين، ومجهولين، ومائتين، وحزانى، وفقراء.. فتهمس في أذننا “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”.

وعبارة “بنات أورشليم” إنما ترمز إلى أولاد الله السائرين في طريقة. الذين ينتمون إلى أورشليم “مدينة الملك العظيم” (مت 5: 35)

إن أورشليم ترمز كثيرا إلى الكنيسة المقدسة. والأبرار سوف يسكنون في أورشليم السمائية، النازلة من السماء كعروس مزينة لعريسها (رؤ 21: 2) وبنات أورشليم هي النفوس المنتمية إليها التي تتحدث إليها عذراء النشيد. ” أنا سوداء”. أنا الباب الضيق الذي يوصل إلى الملكوت. أنا الوصايا الصعبة التي تبدو ضاغطة على ” الأنا “، على الذاتية، على الكرامة البشرية، على الإرادة التي يناديها الرسول بقوله “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1 يو 2: 15)، بينما هي لم تتخلص بعد من محبة العالم..

إننا مدعوون جميعا لأن نمشى في طريق الجلجثة حاملين الصليب.

ولا يوجد طريق إلى القيامة سوى الجلجثة. وإن نتألم مع المسيح، فلن نتمجد معه (رو 8: 17). ألام الزمان الحاضر قد تبدو سوداء، ولكنها لأنها تؤدى إلى المجد العتيد الذي سُيُسْتَعْلَن فينا (رو 8: 18).

وجميع صلبان الحياة الروحية تصيح قائلة: أنا سوداء وجميلة.

هذه الصلبان (السوداء!) خاف من سوادها بطرس الرسول، فقال للرب “حاشاك يا رب أن يكون لك هذا” (مت 16: 21، 22). وظن بطرس أن الجمال يكون على جبل التجلي فقال للرب “يا سيدي، جيد أن نكون ههنا” (مر 9: 5).. كلا، أيها الرسول العظيم. إن المسامير والجلدات والأشواك، كلها سوداء، ولكنها جميلة، لأنها عن الحب، وفيها البذل والفداء.

أيضا فضيلة الزهد والموت عن العالم، هي سوداء وجميلة.

قد يبدو صعبًا ومتعبًا، أن يحرم الإنسان نفسه من كل ملاذ العالم، حتى الحلال منها ويحيا في الوحدة، والصوم، وفي العوز والفقر، متجردا من كل الرغبات والشهوات.. ولكنها حياة جميلة.

صدقوني، إن الحياة الروحية كلها، يمكن أن تندمج تحت هذه العبارة: “سوداء وجميلة”. إنها تذكرنا بقول الرب:

“مَنْ وجد حياته، يضيعها. ومن أضاع حياته من أجلى، يجدها” (مت 10: 39).

من ذا الذي يقبل أن يضيع نفسه؟! في نظره هذه العبارة سوداء. ولكنها جميلة، لأنها الطريق الوحيد الموصل إلى الله. ولهذا ذكرها الله كبداية للسير وراءه، فقال “إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني” (مت 16: 24).. نعم، لابد أن تختفي ذاته، لكي يظهر الله في حياته.. تموت ذاته، لكي يحيا الله فيه..

إن الحياة مع الله تبدأ بالموت. فتموت لكي نحيا.

ندفن معه في المعمودية، لكي نقوم في جدة الحياة. يموت إنساننا العتيق، لكي يولد إنسان جديد على صورة الله (رو 6: 3-8).

وهكذا يصرخ الطفل حينما نغطسه في الماء، ولكننا نلبسه بعد ذلك ملابس بيضاء، رمزا للحياة الطاهرة الجديدة التي يحياها. ونهنئ أهله على أن ابنهم قد مات مع المسيح. ماتت طبيعته القديمة. وكل شيء صار جديدا.

التجارب والضيقات هي أيضا في المفهوم الروحي سوداء وجميلة.

أنظروا إلى تجربة أيوب كمثال. كانت تبدو سوداء للغاية، إذا قد تم تجريده من كل شيء: من الأولاد والمال وكل غناه، ومن صحته ومن راحته. حتى من أصحابه الذين عيروه ظلما. حتى من كرمته أيضا، إذ يقول أيوب “أقاربي قد خذلوني، والذين عرفوني نسوني. نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا. صرت في أعينهم غريبا. عبدي دعوت فلم يجب. بفمي تضرعت إليه. نكهتي مكروهة عند امرأتي، وخممت عند أبناء أحشائي.. كرهني كل رجالي، والذين أحببتهم انقلبوا على (أى 19).

وبقدر ما كانت تجربة أيوب سوداء، إلا أنها كانت جميلة. إذ قال فيها لله: بسمع الأذن سمعت عنك. والآن رأتك عيني (أي 42: 5).

دخل في التجربة السوداء. فخرج أبيض أكثر من الثلج. خرج منها بخيرات مضاعفة (أي 32: 10، 12). وبخبرات روحية عميقة (أى 40: 4) (أى 40: 4) (أى 42: 2 6). كما كانت تجربة جميلة، كقدوة للآخرين ومثال (بع 5: 10، 11).

إننا نصلى إلى الله قائلين “لا تدخلنا في تجربة” (مت 6: 13). ولكن جمال التجارب التي نخافها، يظهر في قول يعقوب الرسول:

“أحسبوه كل فرح يا أخوتي، حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2).

خذوا تجربة ثانيه هي تجربة أبينا إبراهيم: كم كانت شديدة وحساسة جدًا، إذ قال له الرب “خذ أبنك، وحيدك، الذي تحبه نفسك، إسحق.. وأصعده لي محرقة على أحد الجبال الذي أريك إياه” (تك 22: 2). أمر صعب، ويبدو فوق الاحتمال. وأخبار تبدو سوداء. حتى أن إبراهيم لم يستطيع أن يقولها لزوجته سارة، خوفًا من أن تسقط ميتة عند سماعها..! ومع ذلك كانت هذه التجربة جميلة، في أنها أثبتت إيمان إبراهيم وطاعته، وجعلته مثلا في الطاعة. كما كان من نتيجتها قول الرب له ” من أجل أنك فعلت هذا الأمر، ولم تمسك ابنك وجيدك عنى، أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيرا كنجوم السماء، وكالرمل الذي على شاطئ البحر..” (تك 22: 16، 17)

مع أن تجربة إبراهيم في ذبح ابنه كانت تبدو سوداء، إلا أنها كانت جميلة، كمثال للفداء، وللطاعة، وللإيمان. صورة رائعة..

بالفهم البشرى كل تجربة تبدو سوداء. ومن الناحية الأخرى لا بد أن وراءها خيرًا. أول معرفة ابرام بالله، كانت تبدو تجربة، حيث قال له ” اذهب من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك، إلى الأرض التي أريك” (تك 12: 1).. حرمان من الأهل ومن الأقارب والوطن. ومع ذلك كانت التجربة جميلة، إذ قال له الرب فيها: ” فأجعلك أمة عظيمة، وأباركك وأعظم أسمك، وتكون بركة.. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض” (تك 12: 2، 3).

إن سواد التجربة يكمن في الفهم البشرى الخاطئ لها. أما جمالها فهو في القصد الإلهي منها، والفهم الروحي لها.

الطاعة أيضًا قد تبدو سوداء أحيانًا، عندما تضغط على الإرادة.

صعب أن يتخلى الإنسان عن مشيئته ورغبته، وربما عن فكره الخاص، وينفذ مشيئة غيره.. كالطفل الذي يحرمه أبوه من ألعابه وأصحابه، ليجلس إلى دروسه.. ولكن الطاعة جميلة، لأن فيها الخير. وبها تتدرب نفوسنا وتكبر. وما أخطر ان يسلك الإنسان حسب هواه، كما يفعل الابن الضال! وكما يفعل الوجوديون الملحدون الذين يطيعون هواهم ليتمتعوا بوجودهم!!

أيضا من الأشياء التي تبدو سوداء وجميلة: التوبيخ والتأديب:

صعب على الإنسان المهتم بكرامته، أن يسمع كلمة توبيخ وكلمة انتهار، وأن توقع عليه عقوبة..! بينما نرى النفس التي تسعى إلى خلاصها، ترحب بكلمة التوبيخ وتفرح بها، لأنها تكشف لها أخطاءها، لكي تعالجها فتخلص..

إن التأديبات جميلة “لآن الذي يحبه الرب يؤدبه” (عب 12: 6).

ولكنها سوداء في نظر الذين لا يحتملونها. إذ تخدش “الذات” التي يحرصون عليها، وتحرم من المديح الذي يحبونه!

عندما قال الرب لبطرس “اذهب عنى يا شيطان. أنت معثرة لي، لأنك لا تهتم بما لله، لكن بما للناس” (مت 16: 23).. لم يغضب بطرس، بل سمع عبارة التوبيخ في محبة، لخلاص نفسه.

إن الله يعلمنا الحياة: بكلمات الحب حينًا، وبكلمات التوبيخ حينا أخر. بالبشارة المفرحة حينا، وبالصليب حينا أخر.. بالخيرات التي تنسكب من السماء حتى نقول كفانا كفانا، وأيضا بالتجارب والضيقات..

أيضا فضيلة التعب من أجل الرب، هي كذلك سوداء وجميلة..

سواء التعب في السهر والصوم والنسك والمطانيات metanoia وضبط النفس.. ما أسهل أن يستريح الإنسان، ويسترخى تحت فراشه الدافئ.. ولكن الجميل هو أن يقوم ويصلى صلاة نصف الليل، فيجد التعزيات الجميلة. كذلك الذين يمارسون المطانيات لا يشعرون فيها بتعب إنما بلذة روحية. و الصوم أيضا ليس حرمانا للجسد بل هو نشوة للروح. كما أنه مفيد للجسد من نواح متعددة..

نفس الكلام نقوله عن العشور والبكور، والعطاء عن احتياج.

ما أصعب ممارسة البعض لهذه الوصية، مع شعورهم باحتياجهم لكل قرش يدفعونه! ولكن ما أجملها في البركة وفي البذل، وفي المحبة التي نظهرها نحو الفقراء، وفي إطاعة الوصية..

إن الفضيلة قد تكون صهبة وسوداء بالنسبة إلى المبتدئين، الذين يشتهى فيهم الجسد ضد الروح. أما عند القديسين فهي جميلة ومحبوبة.

إن الكاملين الذين ذاقوا حلاوة الحياة الروحية ولذة العشرة مع الله، لا يرون الفضيلة سوداء مهما بدت صعبة! بل هي في نظرهم جميلة يشتهونها بكل قلوبهم. وهكذا يقول القديس يوحنا الحبيب “ووصاياه ليست ثقيلة” (1 يو 4: 3). ويتغنى داود كثيرا بوصية الرب فيقول إنها “مضيئة تنير العينين” (مز 19). وإنها أحلى من العسل في فمه، وأغلى من الجوهر (مز 119).

إن النفس التي تعبت من أجل الرب وعاشت في العالم كسوداء، “لا صورة لها ولا جمال” (أش 53: 2) في مذلة الاتضاع والاحتمال، لا متعة لها بالعالم وكل ما فيه، ولا غنى فيه وجاه، “خسرت كل الأشياء وهي تحسبها نفاية لكي تربح المسيح” (في 3: 8)، وأضاعت نفسها لكي تجدها.

هذه النفس عندما تصعد إلى فوق، ستقول لنفوس الأبرار في الفردوس “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”.

أنا سوداء وجميلة (ج)

 

“أنا سوداء يا بنات أورشليم، كخيام قيدار، كشقق سليمان. لا تنظرن إلىّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني” (نش 1: 5، 6).

“أنا سوداء” عبارة جميلة، تقولها النفس المتواضعة المعترفة بأخطائها. لا تجد حرجًا من ذكر نقائصها.

كلما تعترف هذه النفس بشيء من سوادها، يمحوه الله بدمه، ولا يعود يحسبه عليها. يغسلها الرب، فيبيضّ أكثر من الثلج..

“أنا سوداء”. تقول ذلك أمام الله والناس، وأمام ذاتها.

أمام الله: حينما تقول “إليك وحدك أخطأت، والشر قدامك صنعت” (مز 51). وأما الناس: إذ لا تتفاخر ولا تتباهى. وأمام ذاتها: إذ هي نفس منسحقة في الداخل، ليست بارة في عيني نفسها..

فالنفس البارة في عيني نفسها، لا يمكن أن تقول “أنا سوداء”! أمنا حواء لم تستطع أن تقول هذه العبارة، ولا أبونا آدم استطاع.

أنا سوداء بإرادتي وحريتي، وجميلة بمحبة الله التي تطهرني.

أنا سوداء، لأن الشمس قد لوحتني.

الشمس هي شمس البر، أي الله تبارك اسمه. وكلما تقترب النفس من الله الكلي القداسة الكلي البر، تشعر بأخطائها، وترى أنها لا شيء.. حتى إن كان لها برّ، فهو إلى جوار كمال الله يبدو كخرقة الطامث (حز 36: 17). فتصرخ هذه النفس قائلة: “أنا سوداء.. لأن الشمس قد لوَّحتني”. بهاء الله أشعرني بسوادي..

حقًا إنه أمام الله، يتضاءل الكل “السموات ليست طاهرة أمامه وإلى ملائكته ينسب حماقة” (أي 4: 18).. فكم بالأكثر نحن الأذلاء!!

إننا إن تأملنا برّ القديسين والرسل والملائكة، نجد أننا لسنا شيئًا. فكم بالأولى إن تأملنا كمال الله وقداسته..

هذا الكمال الإلهي غير المحدود، قد لوّحني، فأصبحت أرى نفسي في الموازين إلى فوق (مز 62: 9).. ولكني على الرغم من هذا جميلة. لأن الرب سوف يلبسني ثوبًا أبيض، ويهبني إكليل البر، ويمنحني التجلي الذي أعطاه لتلاميذه، ويعيد إلىّ الصورة الإلهية التي خلقت بها وفقدتها..

“أنا سوداء وجميلة” عبارة تصوّر حالة القديسين الذين -إمعانًا في الاتضاع- كانوا يتظاهرون بالجهل والتهاون والخبل!!

مثل القديسة العظيمة التي كشف سرّها القديس الأنبا دانيال، التي كانوا يدعونها (الهبيلة). وكانت تلقي بذاتها في تراخ وكسل خارج الكنيسة، ولا تحضر الصلاة مع الراهبات، ولا تقوم أمامهن بأي عمل من أعمال العبادة. فإذا نمن كلهن، قامت في ظلام الليل، وانتصبت أمام الله في صلوات عميقة طول الليل. حتى إذا ما استيقظت الراهبات تتراجع إلى صورة التراخي، وتتعرض للاحتقار والإهانة.

كانت في نظر الناس سوداء، لأنها أخفت برّها عنهم. ولكنها كانت في حقيقتها جميلة، وأجمل من الكل.

القديس الأنبا رويس، كان -في أيامه- يبدو أمام الناس رجلًا حافيًا، يسير وراء جمله، بلا لقب ولا وظيفة ولا كهنوت. يزفه الأطفال قائلين: المجنون المجنون!!

صورته سوداء، ولكنها جميلة.

ويعوزني الوقت، إن سردت قصص القديسين الذين ساروا في هذا الطريق.. كأولئك الذين قالت لهم القديسة سارة:

“بالحقيقة إنكم إسقيطيون. لأن ما عندكم من الفضائل تخفونه! وما ليس فيكم من النقائص تنسبونه إلى أنفسكم!

صورة تبدو أمام الناس سوداء. وهي في حقيقتها جميلة..

صورة الذين باستمرار يأخذون المتكأ الأخير، محتقرين ومرذولين من الناس. وقد ماتت نفوسهم عن المجد الباطل ومحبة المديح.

العشار وهو واقف من بعيد في مذلة الخطاة، لا يجرؤ أن يرفع نظره إلى فوق، كانت نفسه في نظر الفريسي سوداء، وهي جميلة!

كذلك الخاطئة التي بللت قدمي المسيح بدموعها (لو 7). كانت في نظر سمعان الفريسي سوداء! وفي نظر المسيح كانت جميلة.

إنها النفس المنسحقة التي تدين ذاتها، وهي غارقة في دموعها. التي يقول لها الرب حوّلي عينيك عني، فإنهما غلَبَتاني.

يمكن أن عبارة (سوداء) تطلق على حياة الحرمان والتجرد، التي يحياها النساك وأشباههم من أجل الرب..

إن لعازر المسكين الذي كان يشتهي الفتات الساقط من مائدة الغني، وكانت الكلاب تلحس قروحه (لو16)، قطعًا كانت نفسيته تبدو سوداء في نظر الغني وأهل بيته. ولكنها كانت نفسًا جميلة حملتها الملائكة إلى حضن إبراهيم (لو 15: 22).

فإن كان من احتمل حرمانًا وقع عليه بغير إرادته، قد حسب أهلًا لهذا المجد، فكم بالأكثر من يتجرد بإرادته..!

أولئك الذين باعوا أملاكهم لُتعطى للفقراء، وعاشوا في جوع وعطش. وقد خسروا كل الأشياء، وهم يحسبونها نفاية لأجل معرفة المسيح (في 3: 8). ووضعوا أمامهم قول الرسول “لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم” (1يو 2: 15).. لاشك أن حياة أولئك وهي خالية من كل مباهج الدنيا، كانت تبدو لغيرهم سوداء! ولكنها كانت حياة روحية جميلة..

هكذا الفتاة التي ترفض الملابس الخليعة، وما يناسب تلك الملابس من زينة، تبدو هذه الفتاة في نظر الأخريات فلاحة ومتأخرة! ولكنها جميلة..

إن النفس البارة التي لا تتشبه بأهل العالم “ولا تُشاكِل أهل هذا الدهر” (رو12: 2)..

تستطيع أن تقول لنظائرها “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”. أنا لا أتمتع بشيء من مباهج الدنيا، ولكنني لا أشعر بحرمان! إنما يشعر بالحرمان، الشخص الذي يشتهي الشيء ولا يناله. أما الذي لا يشتهيه، فهو لا يشعر بحرمان. بل هو سعيد بما فيه. حياته في تجرده جميلة في عينيه..

فضيلة التجرد في نظر الناس سوداء، وكذلك إخلاء الذات.

السيد المسيح أخلى ذاته، وأخذ شكل العبد (في 2: 7). وُولد في مزود بقر، وعاش في بيت رجل نجار فقير، ومن أم يتيمة وفقيرة، ومن قرية صغيرة. وُدعي ناصريًا نسبة إلى الناصرة التي كانوا يتعجبون أن يخرج منها شيئًا صالح (يو 1: 46). وهرب في طفولته إلى مصر. ثم عاش لا يجد أين يسند رأسه (مت 8: 20). وكان “رجل أوجاع، ومختبر الحزن” (أش 53: 4). وأخيرًا حكم عليه بالموت، واستهزأوا به وصلبوه كفاعل إثم بين لصين..

صورة تبدو سوداء. وربما في نظر الناس تمثل المهانة والضعف! ولكنها كانت جميلة، تمثل الحب والبذل والفداء وإخلاء الذات.

المحبة وهي صاعدة على الصليب، تقول للناس: لا تنظروا إلىّ لكون صورتي على الصليب تبدو سوداء في نظركم. لأن الشمس قد لوّحتني. عملية الإخلاء صيرتني سوداء.

وكذلك البذل والفداء جعلني “كشاه تساق إلى الذبح، كنعجة صامتة أمام جازيها” (أش 53: 7). إنها صورة سوداء وجميلة.

صدقوني إن قصة التجسد والفداء، في هذه العبارة العميقة “أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم”.

هذه الصورة التي حاول البعض أن يتبرأ منها: “ملعون من عُلِّقَ علي خشبة” (غل 3: 13).. صارت أبهى وأجمل صورة في الوجود، يمجدها ويقبّلها الجميع. وتزين الناس والأماكن. ولا ينظرون إليها لكونها سوداء. فإن الشمس قد لوّحتها.. وكيف لوّحتها؟

لقد غيّر السيد المسيح موازين العالم. غير الإيديولوجيات التي يؤمن بها الناس. وجعل هذه السوداء تبدو جميلة.

وهكذا كثير من الفضائل تبدو سوداء وهي جميلة.

ربما تبدو أمامك صورة سوداء، أن تحوّل الخد الأخر، وتمشي الميل الثاني. وتكون دائمًا مراضيًا لخصمك مادمت في الطريق (مت 5: 25). ولكنها صورة جميلة، تدل على نقاوة القلب من الداخل، وخلوه من الحقد ومن الرغبة في الانتقام.

إن التسامح أكبر وأقوى من الإهانة التي تصدر من أشخاص مغلوبين من أعصابهم!

ولذلك فإن الرسول يطلب من الأقوياء أن يحتملوا ضعف الضعفاء (رو 15: 1).

قوة الاحتمال تبدو كأنها ضعف، وكأنها سوداء وهي جميلة!

مثل مياه النيل المحملة بالطمي، هي أيضًا سوداء وجميلة.

كذلك فضيلة الصبر، فضيلة تبدو سوداء وُمرة. ولكن ما أجمل الصبر. يقول الكتاب “من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت 24: 13).

عبارة (سوداء وجميلة) تنطبق أيضًا على أولئك المظلومين، الذين لا يدافعون عن أنفسهم، ويظهرون كأنهم مذنبون، وهم أبرياء!

صورة أمام الناس سوداء، وهي جميلة. وليست فقط جميلة لأنهم أبرياء، بل بالأكثر لأنهم لم يدافعوا عن أنفسهم، ولم يهتموا أن يظهروا أمام الناس أبرياء.

مثال ذلك يوسف الصديق الذي كان في نظر الناس عبدًا، وقبل الأمر في صمت وعلى الرغم من إخلاصه الشديد لسيده، أتهمته المرأة ظلمًا، وألقى في السجن كفاجر.. بصورة سوداء، ولكنها في أعماقها أجمل الصور روحيًا.

لو دافع يوسف عن نفسه وقت بيعه، لأحرج أخوته الذين كانوا يبيعونه. ولو دافع عن نفسه في تهمة الزنا، لأحرج امرأة فوطيفار. وهكذا فضّل ألا يحرج أحدًا، وليكن هو الضحية وكبش الفداء.

صورة جميلة لنفسِ نبيلة، على الرغم مما فيها من العبودية والظلم.

عكس الصورة التي تبدو سوداء وجميلة، الصورة التي تبدو جميلة وهي في حقيقتها سوداء.

مثل القبور المبيضة من الخارج، وفي الداخل عظام نتنه (مت 23: 27).

أما أولاد الله، فلا يهمهم الخارج ماذا يكون “ليكن أسود في نظر الناس، إنما المهم هو القلب من الداخل كما يراه الله الذي قال “يا ابني أعطني قلبك” (أم 23: 26).

إنهم يهتمون بالداخل الذي يراه الله، وليس بالخارج الذي يراه الناس. وهكذا يخفون صومهم وصلاتهم وصدقتهم، كما أمر الرب. وأبوهم الذي يرى في الخفاء، هو يجازيهم علانية (مت 6).

أنا سوداء وجميلة (د)

كنيسة الأمم:

إنها عبارة تتوجه بها كنيسة الأمم إلى بنات أورشليم، أي إلى كنيسة اليهود الذين يحتقرون الأمم، ولا يعترفون بهم شعبا لله..

يرون أن جماعة الأمم سوداء، لأنها قد حُرمت من أصل الآباء، ومن الناموس والأنبياء، بلا شريعة إلهية، بلا تقاليد، بلا عهد مع الله، وبلا وعود إلهية، بلا تاريخ، بلا نسب إلى أب الآباء إبراهيم.

لذلك فإن كنيسة الأمم تقول لهم أنني وإن كنت سوداء، إلا أنني جميلة في المسيح يسوع والانتساب إليه..

إن كنت سوداء، ليس لي إبراهيم أبًا، فأنا جميلة لأن لي أبًا في السماء. وأمي هي المعمودية التي وُلدت فيها من الروح القدس والماء.

إن كنت سوداء لم أتعلم في مدرسة الناموس والأنبياء، فأنني جميلة إذ تدربت في مدرسة النعمة. لم أدرك الحرف، لكنني أدركت الروح “جعلنا الله كفاة لأن نكون خدام عهد جديد، لا بالحرف بل بالروح. لأن الحرف يقتل، ولكن الروح يحيي” (2كو 3: 6).

أنا لم أدرك الوصايا العشر، لكني أدركت العظة على الجبل وتعليم الإنجيل وسفر الأعمال وكتابات الرسل القديسين.

 

أنا سوداء في نظر بعض البشر، لكنني جميلة كما يراني الرب.

سوداء في حكم قسوتكم كبشر. لكنني جميلة بحنان الرب ورحمته. إن الرب قد بسط علي جماله (حز 16: 14). وساواني بكم على غير استحقاق.

ماذا أقول للرب الذي أعطاني دينارًا، كالذين جاءوا إليه من أول النهار، أنا الذي أتيت في الساعة الحادية عشرة (مت 20: 9 – 15).

“بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟! كأس الخلاص آخذ، وباسم الرب أدعو..” (مز 116: 12، 13).

أنا سوداء لأنني زيتونة برية..

ولكنني جميلة لأنني طُعمت في الزيتونة الأصلية، فصرت شريكة في أصل الزيتونة ودسمها (رو 11: 17). هي قُطعت من أجل عدم الإيمان وأنا بالإيمان ثبت وأصبح الأصل يحملني. ولن أفتخر على الأصل (رو 11: 18).

أنا سوداء بالنسبة إلى حياتي الماضية، ولكنني جميلة وأنا مغسولة بدم الذي أحبنا وغسلنا من خطايانا بدمه (رؤ 1: 5)

وهكذا صرت بيضاء كالثلج.. سوداء بطبيعتي الترابية المادية. وجميلة بحلول الروح القدوس في هيكلي (1كو 3: 16). فأناره وقدسه ودشنه.

سوداء كخيام قيدار (حفيد إسماعيل) التي لها شعر الماعز الأسود. ولكني جميلة كشقق سليمان، كستائر الهيكل التي من أسمانجوني وقرمز وأرجوان.. من الداخل. “وكل مجد ابنة الملك من داخل” (مز 45).

أنا سوداء كالعشار في نظر الفريسي (لو 18: 11).

وكالمرأة الخاطئة في نظر فريسي آخر هو سمعان (لو 7: 39). وكالمرأة السامرية في نظر التلاميذ الذين تعجبوا من أن الرب كان يتكلم معها (يو 4: 27). نعم سوداء، كالمولود أعمى الذي شتمه اليهود قائلين له: أنت تلميذ ذاك (أي المسيح).. في الخطايا وُلدت بجملتك” (يو 9: 28، 34).

ولكنني جميلة في نظر الرب الذي برَّرني كل أولئك..

أنا سوداء كالمرأة الكوشية التي أتخذها موسى النبي امرأة له (عد 12: 1).

ولكنها صارت باتحادها بهذا النبي، حسب تعليم الرب (1كو 7: 14). وعلى الرغم من أن مريم وهارون قد تكلما على موسى بسبب تلك الكوشية، إلا أن الرب لم يوافقهما على ذلك، بل وبخهما وامتدح موسى.

وقد كانت تلك المرأة الكوشية رمزًا لي، أنا كنيسة الأمم.

وكالمرأة الكوشية، كانت ملكة سبأ، كلتاهما سوداء وجميلة.

وكل منهما كانت رمزًا. ومع أن ملكة سبأ (ملكية التيمن) كانت سوداء، إلا أنها كانت جميلة. لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان. وقد طوبها الرب وقال أنها ستقوم في يوم الدين مع ذلك الجيل وتدينه (مت 12: 12).

كذلك مدينة نينوى كانت رمزًا لي أيضًا: سوداء وجميلة.

كانت سوداء في خطيتها، التي بسببها أرسل الله يونان النبي لكي ينادي عليها بالهلاك (يون 1: 1، 2). وكانت أممية أيضًا مثلي. ولكنها كانت جميلة في توبتها وصومها. حتى أن الله لما رأي أن أهلها قد “رجعوا عن طريقهم الرديئة، ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم، فلم يصنعه” (يون 3: 10). بل قال ليونان”.. أفلا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة؟!” (يون 4: 11).

وأكثر من هذا أن الرب قدَمها كمثال يوبخ بها اليهود، فقال لهم: “رجال نينوى سيقومون في يوم الدين مع هذا الجيل ويدينونه، لأنهم تابوا بمناداة يونان. وهوذا أعظم من يونان ههنا” (مت 12: 11).

أنا سوداء وجميلة، معترفة بحالتي. لست أنكر أصلي ولا شكلي. ولكنني جميلة في حياة الرجاء التي قدمها لنا الرب.

لي رجاء في الله الذي قبل إليه الابن الضال، قائلا أنه كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوُجد” (لو 15: 24). ولم يكتفِ بهذا، بل ذبح له العجل المسمَن، وقال كان ينبغي أن نفرح ونُسر” (لو 15: 32).

حياة ذلك الابن الضال كانت سوداء في سقطتها، وجميلة في توبتها.

بل إن قصة هذا الابن الضال، كانت أيضًا رمزًا لكنيسة الأمم، التي بعدت أولًا عن الرب ثم عادت إليه، وفرح الله بعودتها بينما الابن الأكبر كان يرمز إلى كنيسة اليهود التي افتخرت بخدمتها له، ولم تفرح برجوع الأمم إليه (لو 15: 15 – 30).

أنا سوداء، ولكن لي رجاء في الله الحنون الطيب.

الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز 18: 23). الله “الذي لم يصنع معنا حسب خطايانا، ولم يجازنا بحسب آثامنا. وإنما مثل ارتفاع السموات على الأرض، قويت رحمته على خائفيه. كبعد المشرق عن المغرب، أبعد عنا معاصينا.. لأنه يعرف جبلتنا، يذكر أننا تراب نحن” (مز 103: 10-14).

أنا سوداء في اعترافي بخطاياي. وجميلة بما آخذه من غفران وحل.

كذبيحة الخطية تُحرق خارج المحلة لأنها حاملة خطايا (عب 13: 11). ومع ذلك فهي جميلة لأنها قدس أقداس للرب (لا 6: 34).. وكذبيحة المحرقة التي تأكلها النار كلها حتى تتحول إلى رماد (لا 6: 10). ولكنها مع ذلك فهي جميلة، لأنها “رائحة سرور للرب” (لا 1: 9، 13، 17).

أنا سوداء كفحمة في المجمرة، جميلة كلما اشتعلت بالنار.

تتوهج كلما أتقدت النار فيها، ولا نعود نبصر سوادها. وتتحول من فحمة إلى جمرة. وكل من يراها لا يقول عنها إنها فحمة. وإنما يقول: هذه نار، نار طاهرة.. صارت جميلة..

أنا سوداء كسحب الدخان، التي ترتفع من بخور عطر يحترق.

سوداء في لونها، ولكنها جميلة في رائحتها الزكية، وفي رموزها، وفي ارتفاعها إلى فوق، كصلوات القديسين.. كالمر غير المقبول في مذاقه، ولكنه جميل في رائحته الزكية، وفي رمزه لآلام المسيح.

أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم، هكذا تقول كنيسة الأمم.

ولكنها في بعض الأوقات كانت أكثر جمالًا من بنات أورشليم.

كان ذلك حينما قبلت الإيمان، في الوقت الذي رفضته فيه أورشليم التي أحبت الظلمة أكثر من النور (يو 3: 19). وهكذا قال الرب لبولس الرسول “اذهب فأني سأرسلك بعيدًا إلى الأمم” (أع 22: 21).

بل قبل ذلك حينما قال الرب مطوبًا إيمان قائد المائة:

“الحق أقول لكم: لم أجد ولا في أورشليم إيمانًا بمقدار هذا” (مت 8: 10).

وأضاف “وأقول لكن إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب، ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيطرحون في الظلمة الخارجية..” (مت 8: 11، 12). ومن هم أولئك الذين أتوا من المشارق والمغارب، إلا أبناء تلك السوداء الجميلة.

يذكرني هذا بسوداء جميلة أخرى هي المرأة الكنعانية.

كانت سوداء لأنها تنتمي إلى شعب قد لُعن من قبل (تك 9: 5). ولكنها كانت جميلة حينما لجأت إلى السيد. وكانت جميلة بالأكثر حينما قالت له في انسحاق قلب “وأيضًا الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها”. وقد طوَب الرب جمال نفسيتها قائلًا لها “عظيم هو إيمانك” (مت 15: 27، 28).

أخيرا فإن هذه السوداء الجميلة في سفر النشيد، تقول:

أنا سوداء، ولكني لن أبقى سوداء إلى الأبد.

أنا سوداء في هذا الجسد المادي، ولكنني سأصير جميلة في الجسد النوراني الروحاني الذي سآخذه عندما يلبس الفاسد عدم فساد، ويلبس المائت عدم موت، فيقوم في مجد وفي قوة (1كو 15: 43-24).

سأصير جميلة، وأنا آكل من شجرة الحياة، وأطعم المن المخفي (رؤ 2: 7، 16) ويعطيني الرب اسمًا جديدًا، ويلبسني ثيابًا بيضاء (رؤ 2: 16) (رؤ 3: 5).

شبَّهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون، مرهبة كجيش بألوية
(نش 6: 10؛ 1: 9)

 

شبهتك يا حبيبتى بفرس في مركبات فرعون مرهبة كجيش بألوية (نش6: 10) (نش1: 9)

يشرح سفر النشيد قوة الكنيسة وقوة النفس المؤمنة، في عديد من الآيات، منها الجبابرة الذين حول تخت سليمان (3: 8). وفي تشبيهها بفرس في مركبات فرعون (1: 9) وفي قوله عنها إنها مرهبة كجيش بألوية” (6: 10).

وكل هذه العبارات لا تدل أن الكلام موجه من شاب إلى عروسه! فمن من العرائس تقبل وتوصف بهذه الأوصاف وما يشابهها؟! إنما هي موجهة من الرب إلى كنيسته، وإلى النفس البشرية التي يريدها أن تكون دائمًا قوية في إرادتها.

فعبارة “جيش بألوية”، تعنى جيشًا مكونًا من عدة لواءات. وكل لواء يشمل جملة من آلايات. وكل آلاي يتكوَّن من عدة كتائب. وكل كتيبة تشمل أكثر من سرية، والسرية، أكثر من فضيلة.. وهكذا يكون الجيش بألويته جيشًا منظمًا مرهبًا قويًا. وبخاصة لو كان جبابرة متعلمين الحرب. كل رجل سيفه علي فخده من هول الليل (نش3: 8).

وهكذا تكون الكنيسة والنفس في قوتها ومحاربتها لعدو الخير.

قد يفهم البعض الوداعة والاتضاع فهمًا خاطئًا يقود إلى الضعف! أما المؤمن الحقيقي فهو إنسان قوى، يحارب ضد الخطية وينتصر.

إن المؤمنين يكونون جيش الله الذي يقف ضد مملكة الشيطان وكل جنوده. لذلك فعندما أمر الرب بإحصاء الشعب في سفر العدد، طلب منهم أن يحصروا “كل ذكر ابن عشرين سنة فصاعدًا، كل خارج للحرب” (عد1: 2، 3). وتكرر هذا الوصف بالنسبة إلى المنتخبين من كل سبط. وهكذا كان المختارون المعدودون هم فقط جماعة الأقوياء القادرين على القتال، من كل خارج للحرب (عد1).

لذلك لم يسمح السيد المسيح لتلاميذه أن يبدأوا عملهم الكرازي، إلا بعد أن يلبسوا قوة من الأعالي (لو24: 49). وبعد ذلك يخدمون.

وهكذا قال لهم “ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم. وحينئذ تكونون لي شهودًا.. ” (أع1: 8). وبهذه القوة التي أخذوها من الروح القدس، رأينا سفر أعمال الرسل سفرًا للقوة، يشرح كيف أن ملكوت الله كان قد أتى بقوة (مر9: 1). “وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت علي جميعهم” (أع4: 33). “وكانت كلمة الرب تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم..” (أع6: 7).

ونسمع أن ثلاثة مجامع تحاورت مع أسطفانوس الشماس “ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به” (أع 6: 10).

 

إنها صورة للكنيسة المرهبة كجيش بألوية.

صورة أولاد الله الغالبين المنتصرين، أو علي الأقل المقاتلين.

أو علي أقل الأقل: هم المستعدون للحرب الروحية. هم الجبابرة الخارجون للحرب، الذين لا يخافون إبليس ولا جنوده، بل أن كل واحد منهم سيفه علي فخذه، من هول الليل (نش3: 8). هؤلاء الذين يقودهم الرب في موكب نصرته (2كو2: 14).. هؤلاء هم الساهرون المستعدون: أحقاؤهم ممنطقة، ومصابيحهم موقدة وينتظرون الرب (لو12: 35).

كل أسلحتهم روحية (أف6: 11). والله هو الذي يعلمهم القتال.

وفي ذلك يقول داود النبي “مبارك الرب.. الذي يعلم يدي القتال وأصابعي الحرب” (مز144: 1). وهكذا لا تكون أسلحته بشرية، بل إلهية. هؤلاء هم القديسون الغالبون باستمرار، الذين ينشد لهم الرب أغنيته المحبوبة” من يغلب فسأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة (رؤ2: 7) “من يغلب، فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا، وان أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته” (رؤ3: 5) “من يغلب، فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ3: 21)

فترة وجودنا في العالم هي فترة حرب وجهاد. كل من يغلب، سينال المواعيد. والذين غلبوا نسميهم الكنيسة المنتصرة.

نحن نحارب. وعدونا المقاتل لنا -أي إبليس- مثل أسد يزأر، يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1بط5: 8). لذلك يشجعنا القديس بطرس الرسول قائلًا ” فقاوموه راسخين في الإيمان” (1بط5: 9). كما يقول القديس يعقوب الرسول أيضًا “قاوموا إبليس فيهرب منكم” (يع4: 7).. لاشك أنه يهرب بسبب القوة التي أخذناها من الله، والتي نستطيع بها أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو10: 19).

حقًا إن الحرب للرب (1صم17: 47). والرب يحارب معنا وبنا.

والفرس -مثل السيف- قوة تستخدم في الحرب.

وقد قال سليمان الملك في أمثاله “الفرس معد ليوم الحرب. أما النصرة فمن الرب” (أم21: 31). وليس كل فرس، بل الفرس المدرب المعد ليوم الحرب. وكانت لسليمان “مدن للفرسان” (1مل9: 19). ولعل أقوي الأفراس كانت تلك التي أهداها له فرعون حينما تزوج ابنته، تلك التي كانت تقود مركبات فرعون.

كل فرس منها كان قويًا، ومدربًا علي القتال، وطيعًا في يد الفارس، ويخوض والحرب لا خوف وسط سيوف العدو، وينتصر..

وهكذا تشبهت الكنيسة في سفر النشيد بفرس في مركبات فرعون.. ليس فرسًا عاديًا، بل الفرس المحارب المعد ليوم الحرب، الذي يقوده الرب في يوم نصرته. إنه لا يتحرك في ساحة الحرب من ذاته، بل الله الذي يوجهه، ويكون الفرس مطواعًا في يديه.

إن الكنيسة تشبه الفرس، وأعنتها في يد الله.

والمؤمن يحارب حروب الرب، والله هو الذي يقوده.

إنه لا يحارب وحده، بل الله يحارب به، ويمنحه القوة.

وهكذا قال الرب لأرميا النبي “هأنذا قد جعلتك اليوم مدينة حصينة، وعمود حديد، وأسوار نحاس علي كل الأرض.. فيحاربونك، ولا يقدرون عليك. لأني أنا معك – يقول الرب لأنقذك” (أر 1: 18).

إن المؤمنين أشخاص مسلحون بسلاح الله الكامل. لهم قوة من الله ونصرة “أخضع كل شيء تحت أقدامهم” (مز8). منذ أن خلق الله الإنسان، منحه سلطانًا. نجد هذه القوة في أنشودة داود الحلوة:

“إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي، وإن قام عليَّ قِتالٌ، ففي هذا أنا مطمئن” (مز27: 3).

أنا مطمئن: الحصاة والمقلاع في يدي، وجليات تحت قدمي” الله أعطاني سلطان عليه.. “هؤلاء بمركبات، وهؤلاء بخيل، ونحن باسم الرب ننمو. هم عثروا وسقطوا، ونحن قمنا واستقمنا” (مز20: 7، 8).

نحن مثل “جيش ألوية”. كل فرد منا كأنه “فرس في مركبات فرعون”.

إن النفس القوية، المرهبة كجيش بألوية، يفتخر بها الرب. وهكذا قال الرب للشيطان “هل جعلت قلبك علي عبدك أيوب؟ فإنه ليس مثله: رجل كامل ومستقيم” (أع1: 8) أتستطيع أن تقوي عليه؟!.. فحاربه الشيطان بأنواع حروب عنيفة جدًا. ولكنه وجده طاهرًا كالشمس، مرهبًا كجيش بألوية، قويًا كفرس في مركبات فرعون.

أين هذا من النفوس الضعيفة، التي تقول يئست تعبت تعقدت!!

تلك النفوس التي لأتفه الأسباب ترتبك وتضطرب وتحتار..! ليست هذه صفات الجبابرة المتعلمين الحرب، ولا هذا كلام الأقوياء الذين يلبسون سلاح الله الكامل ويصارعون أجناد الشر الروحية (أف6).

إن القديسين كانت تخافهم الشياطين، وترتعب أمامهم وتصرخ!

نذكر أنه عندما ذهب القديس آبا مقار الكبير إلى جزيرة فيلا، أن الشياطين فزعت منه وصرخت قائلة “ويلاه منك يا مقاره، أما يكفيك أننا تركنا لك البرية، حتى جئت إلى هنا لتزعجنا”؟!

نذكر أيضًا قصة ذلك القديس الذي جاءت الشياطين لتحاربه، فربطهم خارج القلاية، فظلوا يصرخون: لا يستطيعون دخول قلايته، ولا أن يتحركوا من مواضعهم. فقال لهم أمضوا واخزوا، وصرفهم.

إن الله ينظر إلى هذه النفس التي ربطت الشياطين ثم صرفتهم، ويقول لها ” شبهتك يا حبيبتي بفرس في مركبات فرعون”..

أيضًا النفس القوية تكون قوية في كل شيء..

ليست في حياتها الروحية فقط، بل في خدمتها أيضًا:

كل كلمة تخرج من الفم، تكون قوية وفعالة (عب4: 12)، فيها قوة الروح” لا ترجع فارغة، بل تعمل ما يسر الرب به” (أش55: 11). وهكذا يتشبه المتكلم بالسيد المسيح، الذي كان يتكلم كمن له سلطان (مت7: 29).

القديس بولس الرسول كان أسيرًا. وكان يتحدث عن الإيمان بالمسيح. أمام فيلكس الوالي. “وبينما كان يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون، ارتعب فيلكس الوالي” (أع24: 25).

هنا أمير يرتعب أمام أسيره، بسبب قوة هذا الأسير وتأثيره.

ومن الناحية الأخرى، هناك إنسان تشعر أنه قوي، يقدر أن يحملك ويحمل متاعبك وضعفاتك ومشاكلك. وإنسان آخر تجده يتعثر في الطريق، ويحتاج أن تحمله طول الطريق علي كتفيك.

خذوا قوة من الروح القدس، قوة في الصلاة، قوة في الخدمة قوة في السلوك. قوة في التواضع الذي يغلب الشياطين، وتصبح به النفس مرهبة كجيش بألوية.

ليست القوة قوة عالمية كما في جليات، قوة سلاح وجسم. إنما هي قوة في الروح. هي قوة الله العاملة في الإنسان، كما تغني بها داود النبي فقال: “أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد، والتهبوا كنارٍ في شوك، وباسم الرب انتقمت منهم.. يمين الرب صنعت قوة، يمين الرب رفعتني. فلن أموت بعد بل أحيا” (مز118). هذه أغنية فرس في مركبات فرعون. تغني داود أيضًا فقال “قوتي هي الرب”.

إن كانت قوتك هي الرب، فحلول روحك فيه يعني حلول القوة.

كان الشهداء يقدمون لألوان من التعذيب، ويتعرضون للتهديد وللإغراء، ولم يفقدوا قوتهم قط. بل كانوا أقوياء في تحملهم.

فأطلب من الرب قوة: القوة التي تقيم المسكين من التراب، والبائس من المزبلة ليجلس مع رؤساء شعبه (مز113: 7، 8).. قل له ارفعني من التراب، وألبسني سلاحك الكامل، وأعطني قوة..

أنا لا شيء قدامك. ولكنني بك استطيع كل شيء (في4: 13).

إن أولاد الله لهم قوة، حتى في علاقتهم مع الله نفسه:

إنها قوة الدالة. الدالة التي بها يعقوب أبو الآباء جاهد مع الله وغلب. وجرؤ أن يقول لله “لا أتركك”.. “لا أتركك حتى تباركني”.. وفعلًا أخذ البركة، أخذ اسمًا جديدًا (تك32: 24 – 28).

نفس الصراع والدالة كانا بين موسى النبي ورب المجد نفسه بعد أن عبد الشعب العجل الذهب وقال الرب لموسى “أتركني ليحمي غضبي عليهم وأفنيهم، فأصيرك شعبًا عظيمًا” وبعد حوار بينهما قال موسى للرب “والآن إن غفرت (لهذا الشعب) خطيتهم، وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت” (خر 32: 1، 32).

وكما تشفع موسى في الشعب، تشفع أبونا إبراهيم في أهل سادوم، وعاتب الرب في قوة قائلا “أديان الأرض كلها لا يصنع عدلًا؟! حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تُميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم” (تك18: 25)

هذه أمثلة من أشخاص كانت لهم قوة في الحوار مع الله. يدخلون في محاجة مع الله، ويجادلونه في دالة.. ويكون الله فرحًا بذلك، لأنه يجد راحته فيهم.

إن المؤمنين يصيرون جيشًا بألوية، حينما يتحولون إلى صورة الله ويكونون أبناء حقيقيين له. فكل ابن حقيقي لله له قوته.

عيشوا إذن في حياة النصرة الروحية. ولا يكن لكم روح الفشل ولا روح الخوف واليأس.. إنك تخاف حقًا، إذا ما ارتفع قلبك، وظننت أنك قوي بذاتك..!! حينئذ تخاف..

قل: أنا أضعف الناس.. لكن الله سيعطيني قوته.

وحينما يعطيني قوته، أصير فرسًا في مركبات فرعون.

أنا لا أملك سلاحًا. ولكنني بسلاح الله الكامل سوف أنتصر.

إن الذين عاشوا مع الرب، تركوا قوتهم، وأخذوا من قوته.

مثل موسى الذي ترك قوته كأمير، ورفض أن يدعي ابن ابنة فرعون.. (عب11: 24)

وقال “أنا لست صاحب كلام منذ أمس، ولا أول من أمس.. أنا ثقيل الفم واللسان” (خر4: 10). “وأغلف الشفتين” (خر6: 3). حينئذ أخذ قوة من الرب. وصار كليم الله. وأعطاه الرب فمًا وحكمة (لو21: 15).

كن قويًا إذن: بالمعني السليم، وليس بالمعني العلماني.

لأن هناك من يظن أنه قوي بالذكاء والحيلة والسياسة والعمل البشري. ولكن هذه ليست قوة حقيقية. إنها عملة زائفة.. ! لا تستطيع بها أن تشتري ذهبًا مُصفَّى بالنار (رؤ3: 18).

فلتكن لك قوة الانسحاق أمام الله، وقوة الجهاد ضد الشياطين..

ليست القوة أن تبرر ذاتك، وإنما القوة في اعترافك بخطئك.

ليس القوي من يهزم عدوه. إنما القوي من يحول العدو إلى صديق.

ليست القوة أن ترد الكلمة بكلمتين، إنما القوة هي أن تحول الخد الآخر، وأن تمشي الميل الثاني (مت5: 39، 41)، وأن تحتمل كل شيء (1كو13: 7) وأن تغفر الإساءة وأن تنسي. وكما قال الرسول “يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعف الضعفاء، ولا نرضي أنفسنا” (رو15: 1).

بهذا تصير كفرس في مركبات فرعون، يصل في قوة إلي هدفه، دون أن يتعثر في الطريق.

ها أنتِ جميلة يا حبيبتي، عيناك حمامتان (نش 1: 15)

 

قال الرب للكنيسة, وللنفس البشرية القديسة:

ها أنت جميلة يا حبيبتي,

عيناك حمامتان (نش1: 15).

 

شهادة من الله:

هوذا الرب يقول في سفر النشيد للكنيسة وللنفس البشرية القديسة “ها أنت جميلة يا حبيبتي. ها أنت جميلة. عيناك حمامتان (نش1: 15).

ها أنت جميلة:

أول ما ملاحظة هنا أن الله يشهد للنفس البشرية, وهي شهادة صادقة, عكس شهادات الناس التي قد تكون باطلة.

البعض قد يمدحونك تملقا, ورياء, ومجاملة, وكذب, وإرضاء, وتشجيعا, ولغرض, وبدافع الحب.

وقد لا يكون المديح صادقا. أما شهادة الله فصادقة.

السيد المسيح قال” مجدا من الناس لست أقبل”. ولكنه لم يقبل إلا شهادة الأب. لذلك ما أجمل قول الكتاب عن يوحنا المعمدان إنه “يكون عظيما أمام الله”.. فالمهم أن يكون الإنسان عظيما في نظر الله وليس في نظر الناس.

كل ما نرجوه أن يقول الله لنفس كل واحد منا في اليوم الأخير “ها أنت جميلة يا حبيبتي” أدخلي إلي فرح سيدك (مت25: 21،23).

كثيرون سيقولون له “يا رب. أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين, وباسمك صنعنا قوات وعجائب” فيقول لهم ” اذهبوا عني يا ملاعين، لا أعرفكم”. شهاداتهم عن أنفسهم لم تكن تكفي ولا تنفع. المهم إذن هو شهادة الرب الذي قال لكل ملاك من ملائكة الكنائس السبع “أنا عارف أعمالك” (رؤ2: 3).

أنظروا إلي شهادة الرب لملاك كنيسة أفسس “أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك.. وقد احتملت ولك صبر, وتعبت من اجل أسمي ولم تكل (رؤ2: 2, 3).

الفريسي لام المرآة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها ومسحتها بشعر رأسها، أما الرب فقال لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي” إيمانك قد خلصك” (لو7: 50). وقال عنها أيضا ” إنها أحبت كثيرا. لذلك غفرت لها خطاياها الكثيرة” (لو7: 47). وقال الرب مثل هذه العبارة للمرآة الكنعانية التي قالت إن الكلاب تأكل من الفتات الساقط من مائدة أسيادها. قال لها ” عظيم هو إيمانك” (مت15: 28).

بعد أن تكمل النفس أيام غربتها على الأرض. بعد أن تكمل أيام جهادها, يقول لها الرب ” ها أنت جميلة يا حبيبتي” وبهذه العبارة نطمئن على مصيرها الأبدي.

ومقياس الجمال عند الرب, غير مقاييسه عند البشر.

العروس التي قال عنها الرب إنها جميلة, كانت سوداء. ومع ذلك ” سوداء وجميلة”. كإنسان أنهكه الصوم والنسك، وبدا نحيلًا ضعيفًا, تبكي أمة على ضعفه, وبينما يقول عن نفس هذا الإنسان “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

القديسون الذين شوهتهم عذابات الاستشهاد, فقطعوا أعضائهم, وفقأوا عيونهم, يراهم الناس مشوهين, بينما يقول الله لنفس كل واحد منهم “ها أنت جميلة يا حبيبتي”

إنسان يعترف بخطاياه, فيقول كلاما قد يظهر نفسه بشعة يشمئز منها الناس, أما الله فينظر إلي هذه النفس المنسحقة الباكية المذلولة ويقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

النفس التي تلطم على خدها فتحول الأخر، ويسخرونها ميلا فتمشي في الصخرة ميلين, قد يراها الناس ذليلة مسكينة مهانة. أما الله فيقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

لاحظوا إن الرب كرر العبارة تأكيدا لشهادته بجمال النفس.

فقال: ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة” بينما لفظة واحدة من الله تكفي. ولكنه يجد لذة في التحدث عن جمال أبنائه.

كان أيوب مملوء بالقروح من قمة رأسه إلي أخمص قدميه. قد أصبحت رائحته كريهة عند امرأته, وهرب منه عبيدة وإمائه. وأما الله فكان ينظر إلي هذه النفس الصبورة ويقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

إن مقاييس الناس في الجمال لا تهمنا، المهم مقاييس الله.

الله ينظر لجمال النفس المتواضعة, فيقيم المسكين من التراب, والبائس من المزبلة. ليجلسه مع رؤساء شعبة. ينظر إلي أتضاع أمته.. وقد نظر إلي القديسة الهبيلة, التي كانت تتظاهر بإهمال العبادة والكسل والتراخي أمام الراهبات فإذا نمن جميعا تقوم في منتصف الليل تصلي بحرارة عجيبة.

فكانت الراهبات يلقبنها بالهبيلة. أما الله فيقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

وبنفس الوضع كانت القديسة مارينا..

في نظر الناس كانت تعتبر راهبا زانيا مطرودا من الدير، بينما كانت فتاة، وكانت جميلة أمام الله الذي يعرف حقيقتها.

ونفس الوضع ينطبق على يوسف الصديق وهو كمذنب في السجن.

في نظر الناس كان مذنبا, وفي نظر فوطيفار كان مذنبًا، ولكن الله العارف بحقيقة نفسه البارة, كان يقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي” إذن المهم أن نعرف حكم الله علينا لا حكم الناس..

عيناك حمامتان:

الحمامة ترمز للروح القدس, والعينان ترمزان للرؤية.

أي إنه لك رؤية روحية, تبصرين بالروح القدس.

والحمامة عمومًا لها مكانة عجيبة في الكتاب المقدس كما سنرى:

من أجل صفات الحمامة الجميلة, لقبت العذراء بالحمامة الحسنة.

يبخر الكاهن على يمين المذبح, حيث توجد أيقونة العذراء, وهو يقول “السلام لك أيتها الحمامة الحسنة”. فما هو حسنها؟

الحمامة من الطيور الطاهرة التي دخلت إلي الفلك, وهي التي هنأت أهل الفلك بانحسار الماء على الأرض، ورجوع الخضرة..

وحملت في فمها غصن الزيتون, رمز إلي السلام..

فكأن العذراء بهذا الرمز كانت تمثل السلام الأتي على الأرض, وزوال غضب الطوفان, ورجوع الحياة إلي العلم.. وهكذا كانت العذراء بشيرًا بالخلاص الذي يتمتع به العلم..

“عيناك حمامتان” كل عين منها بشرى طيبة, تبشر بالسلام، تبشر بالخلاص, تحمل غصن زيتون لكل أحد, إنها النفس المسالمة.

إنسان خاطئ, كاد أن يحطمه اليأس, يأتي إلي أحد الآباء الروحيين, يشرح له يأسه, فيطيب هذا الأب خاطرة, ويفتح له نافذة من رجاء, ويحدثه عن محبة الله وغفرانه فينظر هذا الخاطئ إلي الأب الحنون, ويقول له ” عيناك حمامتان”.

الحمامة أيضًا ترمز إلي البساطة” كونوا بسطاء كالحمام”..

العين البسيطة -التي كالحمامة- تمثل البراءة, ولهذا يقول السيد المسيح ” إن كانت عيناك بسيطة, فجسدك كله يكون نيرًا” (مت 6: 22).

عندما خلق الله النفس البشرية قال لها ” ها أنت جميلة يا حبيبتي”

كانت طاهرة لا تعرف شرا ولا خبثا, ولا تنظر بشهوة, بل تنظر إلي كل شيء في براءة,” كل شيء طاهر للطاهرين” (تي1: 15).

أما الآن فقد فسدت العين, وأصبحت تنظر نظرات أخرى, فقدت بساطتها وبراءتها, وفقدت مشابهتها للحمامة.. هناك عيون كلها مكر ورغبة, وحسد وغيرة, وغضب, وشهوة.

هناك إنسان عينة كالصقر, مخيفة لا وداعة فيها.. أما هذه فقال لها ” عيناك حمامتان”.

أي تمثلان اللطف والوداعة والطيبة والود.. تمثلان النفس الجميلة الهادئة البسيطة الروحية الحرة.. محال أن يكون أحد فيكم رأى حمامة عابسة متجهمة!

الحمام أيضًا يهدل دائمًا، فيرمز إلي حياة التسبيح الدائمة, حتى كنا نشبهه مساكن الرهبان الدائمي الصلاة بأبراج الحمام.

لذلك فرح داوود وقال إن “الحمامة وجدت لها عشا, مذابحك أيها الرب إله القوات”.. والحمام أيضا كان يسكن المغارات وشقوق الجبال, فهو بهذا يرمز إلي حياة الوحدة والعبادة, ولهذا قال داوود النبي: “ليت لي جناحا كالحمامة فأطير وأستريح.. وأبعد هاربا وأسكن البرية”. فالحمام يرمز للوحدة والعبادة.

والله ينظر إلي كل حمامة في مغارتها وجحرها ويقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”.

والعجيبة إن الحمامة ترمز إلي الجماعة الناجحة كما ترمز إلي حياة الوحدة.

ونجاح الحمامة في حياة المجتمع, ترمز إليه أسراب الحمام.

أسراب الحمام التي تطير متآلفة, متضامنة, في اتجاه واحد. ينظر الله إلي الكنيسة في أسرابها المتآلفة التي تعمل معا في محبة وتضامن واتجاه واحد, ويقول لها “ها أنت جميلة يا حبيبتي”. نقول هذا لئلا يظن أحد أن الحمامة ترمز للمتوحدين فقط..

بل إن الرب قال عن الكنيسة أيضا عبارة جميلة في المزامير وهي “كأجنحة حمامة مغشاة بالفضة, ومنكباها بصفرة الذهب”.

الحمامة أيضا ترمز إلي المحرقة وإلي الذبيحة.

كان الفقير يقدم فرخي حمام, أحدهما محرقة لإرضاء قلب الله, والثاني ذبيحة خطية يمثل المغفرة. وكان الرب ينظر إلي هاتين الذبيحتين ويقول للنفس “عيناك حمامتان”.

لذلك فان الرب عندما طهر الهيكل, لم يقلب أقفاص الحمام مثلما قلب موائد الصيارفة, وإنما قال “ارفعوا هذه من هنا” (يو 2: 16). ليس فقط من أجل عملية البيع في الهيكل.. وإنما أيضًا تقديرًا للحمام كرمز..

كملخص لما قلناه: يرمز الحمام للبساطة، وللسلام، وللوداعة، وللتسبيح، والذبيحة، والوحدة, والود في حياة المجتمع, كما يرمز للروح القدس الذي حل كحمامة وقت العماد.

لذلك هناك أشخاص لا يأكلون الحمام أبدآ نظرا لرموزه وصفاته, لذلك لم يكن غريبا في ظهور العذراء في كنيسة الزيتون أن يبصر الناس الحمام يطير بالليل، رمزا للحمامة الحسنة (السيدة العذراء).

وعندما يقول الله للنفس البشرية “عيناك حمامتان”، إنما يقصد كل هذه الصفات معا, وربما غيرها أيضًا.

أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟ (نش 1: 7)

 

أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟

إنه نداء من النفس البشرية، التي بعدت عن حظيرة الرب، ولكنها ما تزال تحبه وتبحث عن طريقه..

فهي تناديه قائلة: أين ترعى؟ أين أجدك؟ أين الطريق إليك “يا مَنْ تحبه نفسي”.

أنا وإن بعدت عنك بالعمل لم أبعد عنك بالحب.

ما أزال احن إليك، وأشتاق إلى الأيام التي عشتها معك، واسأل أين أنت؟ كيف أصل إليك؟ أين ترعى؟ وأين تربض وقت الظهيرة.

وقت الظهيرة:

“وقت الظهيرة”، عندما تشتد حرارة الحر، ولا تستطيع الطبيعة أن تحتمل، أين أجدك لتحميني من ضربة الشمس بالنهار؟ هذه الشمس التي لوحتني، فصرت سوداء، أين ظللك الذي يحميني منها، لأنه “تحت ظلك اشتهيت أن أجلس” (نش 2: 3). أنا أعرف أنك تحمى رعيتك في ذلك الوقت، فلا تضربها الشمس، فأين تربض وقت الظهيرة.

إنها نفس بعيدة عن الله، ولكن تشتاق إليه..

هناك نفوس متمتعة بالرب ولذة عشرته، تقول في غمرة الحب الإلهي “شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني” (نش 2: 6)، “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نش 2: 6)، “أنا لحبيبي وحبيبي لي” (نش 6: 3). وهناك نفوس أخرى بعيدة عن الرب، ولكنها غير مهتمة، لا تشتاق إلى الله، وإن اشتاقت إلى الله، وإن اشتاقت يدركها اليأس..

أما هذه فتشتاق إلى الرب، على الرغم من الخطية.

هذه النقطة تجعلنا لا ندين الآخرين، ولا ننظر في اشمئزاز إلى البعدين عن الرب.

فهناك نفوس تحبه على الرغم من بعدها.

مثل بطرس الذي أنكر الرب ثلاث مرات، ومع ذلك قال له “أنت يا رب تعلم كل شيء، أنت تعلم إني أحبك” (يو 21: 17). كذلك هذه النفس تقول “يا من تحبه نفسي”.

كيف تحبه وهي بعيده والرب يقول “من يحبني يحفظ وصاياي”.

إن الخطية عندها قد يكون سببها الضعف، وليس عدم الحب.

أين تربض وقت الظهيرة، عندما أحتاج إلى ظلك، أنا الذي قد يفرحني ظل يقطينه (يون 4: 6)، فكم بالأولى ظلك أنت؟!

أولادك في وقت التجربة ولهيبها، أنت تظلل عليهم بجناحيك فيستريحون في كنفك. كيف أستريح أنا أيضًا؟

هذه العذراء بعدت عن الرب بالجسد، ولم تبعد بالروح، بعدت بالعمل ولم تبعد بالعاطفة.

الأخطاء التي تقع فيها دخيلة عليها، وليست في طبيعتها.

إن طبيعتها على صورة الله ومثاله، لذلك تشتاق إلى الله بالطبع، وإن كانت تخطئ بالضعف وبالضغط الخارجي.

حسن أن الإنسان في فترات فتوره وضعفه، يتذكر أيامه الجميلة الحلوة مع الله، ويقول له أين ترعى؟

أنت يا من ترعى الكل، إرعاني أنا أيضًا معهم.

هناك أشخاص في حالة الخطية يقطعون صلتهم بالله، ويبعدون عنه، ويهربون منه، فلا كنيسة، ولا صلاة، ولا اجتماعات، ولا أية واسطة من وسائط النعمة. وحجة الواحد منهم بأي وجه أكلم الله في خطيتي؟

مثال ذلك آدم الذي هرب من الله عندما أخطأ..

اختفى وراء الشجرة، وقال له “سمعت صوتك في الجنة فخشيت، لأني عريان فاختبأت” (تك 3: 10).

أين ترعى؟

أما هذه النفس ففي بعدها تبحث عن الرب: أين يرعى؟

نسمع إجابة عن هذا السؤال في آيات كثيرة من سفر النشيد تقول “الراعي بين السوسن” (نش 2: 16)، “حبيبي نزل إلى جنته، إلى خمائل الطيب، ليرعى في الجنات ويجمع السوسن” (نش 6: 2).

أنا عارف يا رب أنك نزلت إلى خمائل الطيب، وسط قديسيك.

هؤلاء الذين لحياتهم رائحة ذكية، نشتم منهم رائحة المسيح. خميلة منهم اسمها “خميلة التأمل والعبادة” نزلت إليها. وأخرى اسمها “خميلة التعب والجهاد” نزلت إليها. وثالثة اسمها “خميلة الخدمة والسعي وراء النفوس الضائعة”. وخمائل أخرى خاصة بالفضائل الجميلة.

 أنت يا رب وسط قديسيك، في خمائل الطيب ، ترعى في الجنات. كل قديس منهم عبارة عن شجرة موثقة ثمرًا، تطرح ثلاثين وستين ومائة (مت 13: 23).

 ولكن ماذا عن شخص مثلى، يعيش في الأشواك؟ هل تنزل إلى أشواكه يا رب كما نزلت إلى الجنات وخمائل الطيب؟

 أم هذا الإنسان لا نصيب له عندك، إذ ليس في حياته شيء من السوسن؟

أنا أومن يا رب أنك في بحثك عن الخروف الضال مشيت على الجبال والتلال والأشواك..

أنا لست في مستوى الجنات وخمائل الطيب. ربما أصل إليها عندما أصطلح معك، وأتحول إلى خميلة طيب، وإلى غصن في شجرة مثمرة في جناتك. أما الآن، فكيف الطريق إليك! أين ترعى؟

يجيب الرب في محبته: أنني أرعى في كل مكان..

كنت في أتون النار، أرعى الثلاثة فتية، في أرض بابل.

اهتممت بهم، فلم تحترق شعرة من رؤوسهم، ولم تدخل رائحة النار في ثيابهم، ولم ينزعجوا. أم يرَ الناس مع الثلاثة فتية شخصًا رابعًا شبيهًا بابن الآلهة؟! (دا 3: 25).

لا تخف إذن يا حبيبي إن كنت في أتون النار، كم بالأولى إن كانت مجرد ضربة شمس وقت الظهيرة..!

إنني أرعاك وسط النار. ولست أرعى فقط وسط السوسن.

قيل عن يهوشع في سفر زكريا إنه “شعلة منتشلة من النار” (زك 3: 2). كاد يحترق وسط النار، ولكن يد الله الذي يرعى وسط النار انتشلته..

مبارك أنت يا رب، حتى الذين يقعون في النار ويشتعلون، لا تتركهم، بل ترعاهم هناك وسط النار، وتنتشلهم..!

وليس وسط النار فقط، بل أيضا وسط الوحوش..

قال بولس الرسول “حارَبت وحوشا في أفسس”. ووسط الوحوش قال له الرب “لا تخف. لا يقع بك أحد ليؤذيك” (أع 18: 10).

إن الله يقوم بعمله الرعوي في جب الأسود أيضا، كما قام به في أتون النار، كما كان يرعى يونان النبي حتى وهو في بطن الحوت (يون 2)!! أتسأل أين ترعى؟

إنني أرعى حيثما توجد أنت. حيث الرعية هناك الراعي.

كنت في أتون النار، في جب الأسود، في جوف الحوت، أنا معك، أرعاك، “لا أهملك ولا أتركك”.

“ها أنا معكم كل الأيام، وإلى انقضاء الدهر”.

في وسط البحر الهايج، السفينة تلاطمه الأمواج، وتكاد تغرق. ولكن الرب أيضا يرعى وسط الأمواج، ينتهرها، وينتهر البحر والرياح، وينقذ التلاميذ (مت 14: 24 33)..

الله كان يرعى في وسط البحر الأحمر، وفي البرية، وفي أرض السبي. أتسأل أين يرعى؟ هناك في قلبك..

إنه يبحث عنك، أكثر مما تبحث عنه. وفيما ترفع صوتك، هو يستجيب ومهما كنت مغتربا، هو يرعاك في أرض غربتك، كما رعى يوسف في أرض مصر، ودانيال وحزقيال في أرض السبي. كل الأرض هي له..

أين ترعى؟ سؤال تسأله نفس تريد الوصول إلى الله. هل أصل إليك بالمعرفة، بالقراءة، بالصلاة، بالطقس، بالألحان، بالاجتماعات؟..

أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟ لقد جربت كل هذه الوسائل ولم أصل إليك! فما السبب؟

غالبا تكون قد طلبت الطريق، ولم تطلب الله الذي يوصل إليه هذا الطريق ّ طلبت العبادة والمعرفة ولم تطلب الله!

كثير من الناس ينشغلون بالوسيلة عن الهدف! يصلون ويصومون ويرنمون ويقرأون، ولكن الله ليس في قلوبهم، وليس في أهدافهم. فاطلب الله وحده، حينئذ تجده..

يقول الرب للنفس التي تبحث عنه ” إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء فاخرجي على أثار الغنم” (نش 1: 8).

تتبعي آثار الغنم التي مشت قبلك في الطريق نحوى.

القديس موسى الأسود، كان واحدًا من الغنم التي تاهت، ثم عرفت الطريق فتتبعي آثاره. كذلك أوغسطينوس وبلاجيوس، ومريم القبطية.

هناك غنيمات سارت في طريق التأمل ووصلت، وأخرى في طريق الخدمة ووصلت.. كل طريق روحي تحبينه ستجدين آثار الغنم فيه، فتتبعيها. وسير القديسين لا تنتهى..

كما سلك هؤلاء، فلنسلك نحن أيضًا..

“اخرجي على آثار الغنم، ارعي جداءك عند مساكن الرعاة”.

قال لها جداءك ولم يقل خرافك، لأنها نفس خاطئة. ثم حولها إلى مساكن الرعاة، لأنه أقام قادة روحيين لشعبه..

 أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟ (نش 1: 7)

 

قالت العروس للرب، الذي هو الراعي الصالح: “أخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة؟. فأجابها إن لم تعرفي أيتها الجميلة بين النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة” (نش1: 7،8).

أين ترعى؟

هنا نجد نفسا تبحث عن الله, وتسأل عن طرقة, وتقول له: “أين أنت يا رب؟” إنني أبحث عنك؟ أين أجدك؟”.

العجيب إن هذه النفس التي تبحث عن الله، ليست باستمرار نفسا خاطئة، إنما هي نفس تحب الله وقد دعاها “الجميلة بين النساء”. إنها تذكرني بداود النبي الذي قال الرب: “عرفني يا رب طرقك, فهمني سبلك,، أين تربض وقت الظهيرة؟ طلبت وجهك, ولوجهك يا رب ألتمس. لا تحجب عني”..

هذا النداء. هو نفس نداء النفس التي في مفترق الطرق.

أخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين أجدك؟ هل في البتولية أم في الزواج؟ في العمل أم في التكريس؟ في الخلوة أم في الخدمة؟ في الدير أم في العالم؟ أين تربض.. ؟ أين ألتقي بك. في الصلاة؟ في الصوم؟ في التداريب الروحية؟ في التناول؟ في الكنيسة؟ أين ترعى.. ؟

وقد تقول هذا الكلام النفس البعيدة عن الله.

إنها تذكرني بأوغسطينوس الذي كان بعيدًا لفترة طويلة، ثم أخذ يبحث عن الله، أين يجده؟ هل بالعقل؟ بالفلسفة بالمنطق؟ أم بالإيمان, بالقلب؟ أين ترعى؟ فأجابه الرب: هناك في داخلك, تجدني. وأعترف أغسطينوس قائلًا: نعم لقد كنت معي، ولكني من فرط شقاوتي لم أكن معك..

حقًا هناك أشخاص يسألون أين الرب. وهو معهم.

كان المسيح مع تلميذيّ عمواس, ولم تكن عيونهما منفتحة لمعرفته, كذلك ظهر لمريم المجدلية، وهي لا تزال تسأل عنة: أين هو. وقيل عن معاصري السيد وقت ميلاده أن “النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه”.. حقًا, كثيرًا ما تسأل الرب (أين ترعى), ويكون الرب في داخلنا ونحن لا ندري!

ما أعجب قول المسيح لفيلبس “أنا معكم زمانًا هذه مدته, ولم تعرفني يا فيلبس”؟ وكذلك المولود أعمى قال له السيد “أتؤمن بابن الله؟ فأجابه ” من هو يا سيد؟ كان الرب يكلمه, وقد شفاه, ومع ذلك لم يكن يعرفه, ويسأل أين يرعى؟ (يو9).

أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟

لوط لم يقل للرب أين ترعى؟ وإنما اختار لنفسه مكانًا معشبًا يعيش فيه, لذلك ضاع منه كل شيء, بعكس إبراهيم الذي ترك للرب أن يختار له، فقال له “أترك أهلك وعشيرتك, وأذهب للأرض التي أريك إياها (تك 12: 1). سأذهب إليه يا رب, مادمت سترعاني هناك. نعم هناك “أباركك وتكون بركة, وبك تتبارك جميع قبائل الأرض” (تك12: 2, 3).

حينما تسأل عن الله أين ترعى؟ يقول أحيانًا: هناك عند الجلجثة. ويرينا طرقًا ما كنا نظن إطلاقًا إنه سيرعانا فيها..

وكأنه يقول ليوحنا الحبيب: أتسألني أين أرعى.. هناك في المنفى في جزيرة بطمس, سأرعاك, وسأكشف لك بابًا مفتوحًا في السماء, وأريك العرش الإلهي والقوات السمائية, وما لابد أن يكون.

وكأني بالثلاثة فتية قد سألوه أين ترعى؟ فقال لهم هناك في أتون النار.. وفرحوا بالأتون, وعندما ألقوهم فيه رأوا معهم رابعًا شبيهاُ بابن الآلهة, يتمشى معهم في الأتون. وشعرة من رؤوسهم لم تحترق, ولا رائحة النار كانت في ثيابهم.. (دا 3).

وبنفس الوضع كان جب الأسود بالنسبة إلي دانيال النبي. رعاه الله هناك، وأرسل ملاكه فسد أفواه الأسود. (جا 6).

في إحدى المرات أثناء المجاعة, لم يقل إبرام للرب ” أين ترعى؟ أين تربض وقت الظهيرة؟” بل ذهب من تلقاء نفسه إلي مصر يلتمس المعونة. وهناك أخذوا امرأته سارة, وكاد يضيع لولا تدخل الرب لإنقاذه..

ونفس الوضع عندما سكن بين قادش وشور وتغرب في جرار (تك 20: 1) دون أن يسأل هل يرعى الرب هناك فكانت النتيجة أنه وقع في تجربة ثقيلة, وأخذوا امرأته سارة. لأن ذلك الموضع لم يكن فيه خوف البتة” (تك 20: 1).

هناك عبارة جميلة في سفر النشيد، يقول فيها الرب: “تعال يا حبيبي لنخرج إلي الحقول, ونبيت في القرى”.. هناك أريك حبي (نش2: 12).

نعم هناك وليس في أي مكان أخر.. إذن يا رب فليكن لي كقولك .. سأذهب إلي الحقول وإلي القرى وإلي أقاصي الأرض, مادمت هناك ستريني حبك. سأدخل إلي أتون النار, وسأنزل إلي جب الأسود, مادمت أعرف أين ترعى..

سأسير بمبدأ “حيث قادني أسير” سأترك كل شيء من أجلك, وأتبعك حيثما كنت.. مثلما تركت رفقة بلادها وأهلها وذهبت وراء إسحق (تك24: 58), وكما يقول المزمور للنفس البشرية: أسمعي يا ابنتي، وأصغي, وإنسي شعبك وبيت أبيك, فأن الرب قد أشتهى حسنك, وله تسجدين (مز 45: 10،11).

أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى, لأنك في مراع خضر تربضني, وإلي ماء الراحة توردني. ترد نفسي وتهديني إلي طرق البر (مز 23).. لقد التحقت نفسي وراءك فقل أين ترعى, وأنا سأتبعك حتى إن سرتُ في وادي ظل الموت لن أخاف شرًا، لأنك ستكون معي, هناك تريني حبك..

أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعى أين تربض وقت الظهيرة؟

أين تربض وقت الظهيرة؟

في وقت الظهيرة, حيث يريد كل إنسان أن يستظل, وأنا تحت ظللك اشتهيت أن أجلس, وأخشى من شيطان الظهيرة (مز 91: 6), وأتعب من هذا اللهيب, لأن الشمس قد لوحتني وقت الظهيرة.

أحيانًا يستغيث الإنسان بهذه العبارة, أين ترعى؟ يقولها في أوقات الفتور والجفاف, وفترات تخلي النعمة الإلهية..

يشعر الإنسان إن نفسه ليست كما كانت قبلًا، لم تعد لهل الحرارة الأولى, ولا الصلة ولا الدالة الأولى, ولا الحب القديم, فتقول نفسه للرب: “لماذا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك” (نش1: 7)

أين أيام شبابي الروحي, حينما كنت أقول “شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني”.. أين الأيام التي كنت أصلي فيها بعمق وكلماته حلوة في حلقي (نش2: 3), كالعسل والشهد في فمي. أيام كنت أرفع يدي, فتشبع نفسي كما من لحم ودسم (مز63: 4).. أشعر كما لو كنت ضللت الطريق, فاخبرني يا من تحبه نفسي: أين ترعى؟ أين تربض..؟

أريد يا رب أن أرجع إليك, فأخبرني أين ترعى؟

أنا بعيد عنك, ولكني أحبك, بعدت عنك سلوكًا, ولم أبعد عنك قلبًا “أنت تعلم يا رب كل شيء, أنت تعلم إني أحبك”.. من الجائز أنني تركت نشاطي, وتركت ممارستي, وعباداتي، وخدمتي, ولكني لم أترك محبتك.. ربما تكون صورتي قد تشوهت, ولكن لا تزال تشتاق إلي شبهك ومثالك, أنا أحبك على الرغم من خطيئتي, ليتك تردني إليك, وتخبرني أين ترعى..

ربما تقول هذه العبارة “نفوس في السبي، قد جلست على أنهار بابل، ولكنها تبكي كلما تذكرت صهيون” (مز 137: 1).

لم تعد تستطيع أن تسبح تسبحة الرب في أرض غريبة، قيثارتها على الصفصاف (مز 137: 2, 4). وهي تصرخ من عمق القلب, ومن عمق الرغبة, استغاثة غريق إلي قارب النجاة, تقول اخبرني يا من تحبه نفسي, أين ترعى؟ أين تربض عند الظهيرة..

أريد أن أدخل إلي هيكلك, إلي مذابحك, لكي تنضح عليَ بزوفاك فأطهر، وتغسلني فابيض أكثر من الثلج..

أين ترعى أيها الراعي الصالح؟ ضللت مثل الخروف الضال, فأطلب عبدك (مز 119: 176).

أسرع وأعني, لأنه على ظهري جلدني الخطاة وأطالوا إثمهم (مز 129: 3).. أحاطوا بي مثل النحل حول الشهد, والتهبوا كنار في شوك (مز 118: 12).. في الطريق التي أسلك أخفوا لي فخًا (مز140: 5)..

ولكنني مشتاق إليك, أريد أن أصل إليك, ولا أعرف..

ما أعجب الله الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع إليه, الذي كل من يقبل إليه، لا يخرجه خارجًا, إنه يقول لهذه النفس الباحثة عنه, على الرغم من إن الشمس قد لوحتها: إن لم تعرفي أيتها الجميلة بيت النساء, فأخرجي على أثار الغنم, وإرعي جداءك عند مساكن الرعاة..

عجبًا يا رب أن تسميها “جميلة” وهي خاطئة! أنا أسميها جميلة, ليس من أجل خطيئتها, وإنما من اجل توبتها.. من أجل سعيها وطلبها, من أجل عبارة أين ترعى؟

أخرجي على أثار الغنم:

غنيمات كثيرة, سرن في طريقي من قبل, ووصلن إليَ, أثار هذه الغنيمات لا تزال ثابتة على الطريق, فتتبعيها (ومن سار على الدرب, وصل).

وما أثار الغنم, سوى سير القديسين.. وقت ترك لنا القديسين نموذجًا في كل مجال لكي نحتذي به. متشبهين بأعمالهم.

وقد يجد إنسانًا نفسه بلا مرشد في الطريق, والذين بلا مرشد يسقطون كأوراق الشجر.. هذا الإنسان لا ييأس، هناك أثار الغنم إن تعذر وجود الرعاة..

لم يطلب إلينا الرب أن نقبع في مكاننا, وندرس سير القديسين, إنما أن نخرج ونسير متبعين أثارهم.

لا تجلسي في مكانك متأملة وتقولي ما أجمل الغنيمات القديسات, وما أحلى طرقها, كلها بر وكمال, وتعب وجهاد.. ! كلا, بل أخرجي على أثار الغنم, وأرعى جداءك عند مساكن الرعاة.. جداءك هي خطاياكِ, اذهبي إلي مساكن الرعاة, تجدي هناك حلًا وحلًا.

أخرجي على أثار الغنم, لا تبتدعي طريقًا جديدًا, ولا تنقلي التخم القديمة, وإنما اتبعي ما رسمه الآباء من طرق..

“إن بشرناكم نحن وملاك من السماء, بغير ما بشرناكم به, فليكن أناثيما” (غل1: 8).

“إن كان احد يأتيكم ولا يجئ بهذا التعليم, فلا تقبلوه في البيت, ولا تقولوا له سلامًا, لأن من يسلم عليه, يشترك في أعماله الشريرة (2يو1: 11).

إذن ماذا نفعل؟ “كونوا متمثلين بيَّ, كما أنا أيضًا بالمسيح” (1كو11: 1). نعم أيتها الجميلة “أخرجي على أثار الغنم”.

وإن لم تسيري على أثار الغنم, لا تكوني جميلة بين النساء.

“إن لم تعرفي أيتها الجميلة.. فأخرجي على أثار الغنم”. ترينا هذه العبارة, أنة حتى النفس الجميلة, هناك أشياء لا تعرفها, هناك جداء قد اختلطت بغنمها, تحتاج أن تذهب بها إلي مساكن الرعاة. لا تعتمدي على نفسك, فهؤلاء الرعاة قد أقامهم الرب, لأجلك.

تفسير سفر نشيد الأنشاد – مقدمة  نشيد الأنشاد 1 تفسير سفر نشيد الأنشاد تفسير العهد القديم تفسير سفر نشيد الأنشاد 2
البابا شنوده الثالث
تفاسير نشيد الأنشاد 1  تفاسير سفر نشيد الأنشاد تفاسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى