تفسير يشوع ابن سيراخ 42 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الثاني والأربعون
أمور يجب عدم الخجل منها

ختم الأصحاح السابق بسرد عشرة أمور يلزم الخجل منها. والآن يكمل هذا العمل بإبراز الأمور التي يجب ألاَّ يخجل منها المؤمن، حتى وإن كان المجتمع يتوقَّع عكس ذلك.

1. أمور يجب عدم الخجل منها

     

[1-8] (ت: 1 –8)

2. التزامات الأب نحو بيته

     

[9 –11] (ت: 9 –11)

3. مؤانسة النساء

     

[12 –14] (ت: 12 –14)

4. خلقة العالم تُمَجِّد الله

     

[15 –25] (ت: 15 –26)

* من وحي سيراخ 42: لأسلك حسب مرضاتك يا خالقي!

1. أمور يجب عدم الخجل منها

لا تخجل من الأمور التالية:

ولا تجعل محاباة الوجوه تقودك إلى خطية [1].

توجد خمسة أمور يجب مناصرتها وعدم الخجل منها، وهي:

  1. التمسُّكبشريعة العلي وميثاقه[2]، ومناصرة المظلوم حتى إن كان وثنيًا (سي 4: 9).
  2. المناصفة في نفقات السفرونوال ما يخصه في الميراث [3].
  3. التجارة بأمانةفي غير جشعٍ [4].
  4. السلوك بلياقةفي العمل كما مع أهل البيت والعمال (العبيد) [5].
  5. السلوك بتدقيقٍ[6- 8].

من شريعة العليّ وميثاقه،

ومن العدالة خشية أن تُبَرِّئ الشرّير [2].

لا نعجب أن يفتتح ابن سيراخ الأمور التي يلزم المؤمن ألا يخجل منها والتي تُحَقِق العدالة في غير محاباة الوجوه ألاَّ وهي شريعة العلي وميثاقه [2]. كان بعض اليهود الذين انجذبوا إلى الفلسفة الهيلينية يُحرَجون من الإعلان عن إيمانهم بالله وينكرون الختان (ا مك 1: 15). صاروا في خجلٍ غير لائق، إذ خشوا أصحاب الثقافة الهيلينية الوثنية التي سادت بعض المجتمعات في ذلك الوقت يستخفّون بالشريعة اليهودية والميثاق مع الله.

اكتشف بعض الآباء والأمهات ما يُسَمَّى “الهوة بين الأجيال” بدرجة لم يسبق لها مثيل عند اليهود. فالأبناء الشباب كانوا يخجلون من الناموس والميثاق. هذا الأمر أَدَّى إلى كارثة حقيقية عند اليهود في اليهودية. الأمر الذي دفع المكابيين أن يثوروا على هذا الوضع كما جاء في أسفار المكابيين و”العصور القديمة Antiquities“” لفلافيوس يوسيفوس المؤرخ اليهودي.

قَدَّم السيد المسيح تحذيرًا ضد مثل هذا الإحراج، إذ قال: “لأن من استحى بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الخاطئ، فإن ابن الإنسان يستحي به متى جاء بمجد أبيه مع الملائكة القديسين” (مر 8: 38). وجاءت العبارتان [1، 2] تتناغمان مع تعليم بولس الرسول: “لأني لست أستحي بإنجيل المسيح، لأنه قوة الله للخلاص، لكل من يؤمن: لليهودي أولًا ثم لليوناني” (رو 1: 16). حدث ما يشبه هذا عندما كرز الرسول بولس بين الأمم، وحدث خلاف بين المؤمنين الذين من أصل يهودي والذين من أصل أممي. فبكل قوة قال الرسول: “لست أستحي بإنجيل المسيح” (رو 1: 16).

ومن المساهمة في نفقات العمل أو رفقاء في سفر،

ومن اقتسام الميراث بين الأصدقاء [3].

بعد أن وجَّه ابن سيراخ المؤمنين نحو شريعة العليّ ودخول المؤمنين في ميثاق مع الله، عالج بعض الأمور العملية التي سادت في ذلك. فإن كانت الشريعة تحثّ المؤمنين على العطاء أكثر من الأخذ، فما هو موقف المؤمن إن قام بعملٍ فيه منفعة له ولبعض إخوته، هل يخجل من مطالبتهم بالمساهمة في تكلفة العمل المربح وفي نفقات السفر التي كانت ضرورية للبلوغ إلى مكسب ينتفع به كثيرون؟ أَكَّد ابن سيراخ أنه لا حاجة للخجل من مساهمة المنتفعين بالعمل في نفقاته. أما بالنسبة للميراث الشرعي، فلا يخجل المؤمن من أخد نصيبه في الميراث، إذ يحصل كل شخصٍ على حقه، أما إذا أراد شخص ما التنازُل عن حقه أو عن نصيبٍ منه لأصدقائه، فهذا يُحسَب درجة أسمى.

ومن الدقة في الميزان والمعيار،

ومن المكسب كثيرًا كان أو قليلًا [4].

بالنسبة لعمل قامت به جماعة، وأنتج ربحًا أو مكسبًا، كبيرًا كان أو صغيرًا، فلا يخجل أحد من أخذ نصيبه من الربح، بشرط ألاَّ يكون هذا المكسب ناتج عن تلاعُب في الميزان أو المعيار أو المواصفات.

ومن الربح في التعامل مع التجار، ومن المبالغة في تأديب الأولاد،

ومن ضرب ضلوع العبد الشرير حتى تنزف [5].

ليس من عيبٍ أن يُمارِس الإنسان التجارة ويربح، ولا من تأديب الأولاد ليسلكوا في البيت بتدبير ونظامٍ لائق. حقًا يبدو أن الحديث هنا عن تأديب العبد الشرير قاسيًا، غير أن من الأمور الهامة في المجتمعات القديمة إذا ما تُرِك العبيد الأشرار بلا تأديبٍ، يرتكبون جرائم بشعة ويهربون.

الإغلاق على الثروة جيد حيث تكون الزوجة غير أهل للثقة،

وحيث تكون الأيدي كثيرة [6].

ماذا يعني بالإغلاق هنا لمنع الزوجة الشريرة من الخروج؟ ربما يعني أن المرأة الشريرة هنا هي التي تمارس خيانة زوجية خاطئة أو تبدد ممتلكاته بجهالةٍ. يبدو من العبارة التالية [7] أن الزوجة غير أمينة في ممتلكاته؛ فالإغلاق عليها هنا يُقصَد به مراقبتها حتى لا تُبَدِّد ممتلكاتهما.

وإذا أودعت شيئًا (من المال) فأودعه بالعدد والوزن،

وسَجِّل كتابةً أيّ شيء تأخذه أو تعطيه [7].

إذا دخل الشك لدى الرجل أن زوجته تُبَدِّد أمواله أو محصولاته أو مقتنياته، فالأفضل تسجيل كل شيءٍ حتى لا يسمح للشك أن يسيطر عليه.

ولا تخجل من تعليم الجاهل والأحمق أو الشيخ المتقدِّم في السنّ الذي يدين الصغير[1].

حينئذ تكون في الحقيقة مُتعلِّمًا، ومقبولًا أمام كل بشرٍ [8].

يبدو أن العبارة هنا مُوَجَّهة للقادة في المجامع اليهودية المُلتزِمين بالتعليم والتوجيه حتى بالنسبة للشيوخ الذين يُسِيئون التعامل مع الصغار، يجب توجيههم حتى يحدُّوا من الفراغ بين الجيل القديم والجيل الحديث. هذا ومن جانب آخر يليق بنا أن ندرك أنه لا يوجد إنسان معصوم من الخطأ حتى وإن كان شيخًا أو نبيًا. فقد أرسل الله لداود الملك ناثان النبي كي يحثّه على التوبة (2 صم 12).

ليس عند الله محاباة، فإن كان قد أقام داود نبيًا وملكًا وقاضيًا، وله تاريخ مجيد في حياة مقدسة، لكنه متى أخطأ استوجب التأديب. يقول القديس إيرينيؤس: [الله غير مُحَابٍ للوجوه، لذا يوقع عقوبة مناسبة على التصرُّفات التي لا تسرّه. وذلك كما في حالة داود الذي عانى الاضطهاد من شاول (1 صم 18) من أجل البرّ، وهرب من الملك شاول ولم يرد أن ينتقم من عدوه، وأنشد بمجيء المسيح، وعَلَّم الأمم الحكمة، وفعل كل شيءٍ بإرشاد الروح، وسُرّ به الله. لكنه عندما دفعته شهوته ليأخذ بثشبع زوجة أوريا يقول الكتاب: “وأما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب”. وأرسل إليه ناثان النبي يشير له إلى جريمته حتى يحكم على نفسه ويدين ذاته، فينال رحمة ومغفرة من المسيح[2],]

2. التزامات الأب نحو بيته

ليس من التزامات للأب مثل اهتمامه بتربية بنيه وبناته. كان المجتمع في ذلك الحين يشغله تزويج البنات. وكانت مسئولية البيت إعداد الفتاة للحياة الزوجية الطاهرة الناجحة.

كان أمام ابن سيراخ أول سيدة في العالم، حواء، جلبت العار على بيتها. لذلك قَدَّم لنا بعض اهتمامات الأب الصالح نحو ابنته، بحبٍ وحكمةٍ وحزمٍ أبويٍ.

الابنة قلق سرّي لأبيها[3]، وقلقه عليها يسلبه النوم.

لئلا يفوتها وقت الزواج في شبابها، ولئلا تكون مكروهة في زواجها [9]

v عدو القداسة دائمًا يضغط على العذارى، ويجعلهن في متاعب، ليعدَّهن فريسة متى ترنحت إحداهن وسقطت. يوجد أناس غادرون كثيرون، بجانب هذا لهم طبيعة متمردة.

يجب على (البتول) أن تستعد لمعركة مزدوجة: أولًا تُهاجَم من الخارج والثانية تفسد الداخل[4].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

وفي بتوليتها لئلا تتدنس أو تحبل وهي في بيت أبيها،

ومن عدم الأمانة إذا كان لها زوج، ومن العقم إذا كانت متزوجة [10].

كانت الفتيات يُمَثِّلن ثقلًا على الأب، إذ يشغله ثلاثة أمور: زواجها في السن المناسب، طهارتها وحفظها لئلا يعتدي أحد عليها أو يقوم بإغرائها، وإنجاب أطفال.

واظب على المتابعة الدقيقة للابنة العنيدة، لئلا تجعلك أضحوكة لأعدائك،

ومصدر إشاعة في المدينة، وسيء السمعة لدى الشعب، وخزي أمام الجمع العظيم [11].

الحديث هنا [9-11] يكشف عن قلق الآباء من جهة مسئولياتهم نحو بناتهم. فإن كانت شابة صغيرة في بيت أبيها، يخشى أن يفوتها سن الزواج فتصير عانسًا. كما يخشى أن يغتصبها أحد فتصير عارًا عليه. وإن تزوجت، يخشى أن تكون غير أمينة لرجلها. وإن كانت أمينة يخشى أن تكون عاقرًا.

بتجسد كلمة الله من البتول القديسة مريم، زالت كل هذه المخاوف، إذ “ليس ذكر وأنثى لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع” (غل 3: 28). وقد فاقت القديسة مريم ليس فقط كل الرجال بل وفاقت الطغمات السمائية.

3. مؤانسة النساء

لا تتفرَّس في جمال أي شخص،

ولا تجلس بين النساء [12].

لم يقل: “لا تنظر في جمال أي شخص”، بل قال “لا تتفرَّس“. فإنسان الله مقدس في نظراته، أما إن تهاون وتفرَّس في النظر، تتخلَّى نعمة الله عنه.

فإنه من الثياب يخرج العث،

ومن المرأة خُبث امرأة [13].

تفسد الثياب التي لا تستعمل لمدة طويلة، حيث يفقس بيض العث المختفي فيها، وهكذا تفسد حياة البشر من الشرور الخفية في النفس مثل الخبث والخداع.

خبث الرجل خير من امرأة تعمل ما هو صالح وهي تجلب الخزي والفضيحة [14].

في كثير من المجتمعات القديمة يوجد تضاد خفي يصعب إدراكه، فعادة الرجل المنهمك في أعماله لا يُمارِس خبثه خفية وبخداعٍ، إنما كلماته تكشف عمّا في داخله، أما المرأة الخبيثة أحيانًا لا يدرك الإنسان ما في نيّتها الداخلية. هذا التضاد لا ينطبق على كل رجلٍ أو امرأة.

جاءت بعض المخطوطات “الابنة الوقورة خير من الابن القليل الحياء[5]”.

4. خلقة العالم تُمَجِّد الله[6]

في القسمين الثاني والثالث من هذا الأصحاح يرثي ابن سيراخ لحال الأب الذي تجلب عليه ابنته الخزي والعار أمام الجميع بعنادها لرجلها أو عدم طهارتها [9-11]. والشاب الذي يحلو له مجالسة النساء بروح الاستهتار والميوعة [12- 14]، فيصير كالثوب الذي تهرأ بواسطة العث، وألعوبة في يد امرأة خبيثة تُحَرِّكه نحو الخزي والعار وهو لا يبالي! الآن في هذا القسم [15- 25] يرى الخليقة غير العاقلة تتحرَّك خلال قوانين الطبيعة، وتشهد بحركاتها وأعمالها لمجد الله وحكمته ورعايته وقدرته.

الخليقة الجامدة التي لم يوهب لها العقل بذكائه وقدراته ولا الإرادة لتحركها، تعمل في تناسق وانسجام فائق. يقول الرسول: “لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مُدرَكة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى أنهم بلا عذر” (رو 1: 20).

الخليقة بما تحويه من بلايين المخلوقات الضخمة والصغيرة، المنظورة وغير المنظورة لم يوجدها مبعثرة، إنما ذات نظام دقيق بديع لا زال العالم حتى هذه اللحظة يبحث في أسرار قوانينها الدقيقة. يقول سيراخ: “العليّ يعرف كل علم، ويتطلع على علامات الأزمنة [18].

كانت العبارات الواردة هنا في ذهن بولس الرسول: “يا لعمق غنى الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء! لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا؟ أو من سبق فأعطاه فيكافأ؟ لأن منه وبه وله كل الأشياء، له المجد إلى الأبد آمين” (رو 11: 33-36).

يرى ابن سيراخ الخليقة مركبة حكمة الله، تُقَدِّمها لكل طالب للحكمة.

v كل أعماله بالأمانة”؛ ماذا يعني هذا؟ إن السماوات وأنظمتها تجدها “مُرشِدًا إلى الإيمان”، فإنها تشهد لصانعها. وإن رأيتم نسق الأرض، فإنها تزيد إيمانكم بالله. مع هذا فإنه ليس من خلالنا نحن بعيوننا الجسدية نؤمن به، وإنما بقوة العقل ندرك غير المنظور خلال دلائل المنظورات[7].

القديس باسيليوس الكبير

والآن أذكر أعمال الربّ وأُخبر بكل أعماله التي أراها،

بكلمة من الربّ خُلقت أعماله وكلها تخضع لمشيئته [15].

إذ يتحدَّث ابن سيراخ عن أعمال الله في الطبيعة، يذكر قول الله أو كلمته، إذ جاء في سفر التكوين: “وقال الله ليكن… فكان…” (تك 1: 3).

يُظهِرُ القديس باسيليوس الكبير أن الخلقة عمل الثالوث القدوس، فحين صدر الأمر الإلهي “ليكن…” لا يعني صدور موجات صوتية في الهواء، بل صدور إرادة إلهنا، بعقلٍ إلهيٍ؛ فالخلقة تَمَّت بكلمة الله “الابن”. وإذ قيل إن الروح كان يرف، لا يعني قيامه بحركة في الهواء. إنما قام “بدور فَعَّال في الخلقة”. إنه يُشْبِه طائرًا يحتضن بيضة بجسمه، وبحرارة جسمه يُقَدِّم قوة حيوية تجلب الحياة.

v خلق الله بكلمته حيوانات من أنواع مختلفة لفائدتنا، نستخدم بعضها كطعام والبعض في خدمتنا.

أما الإنسان، فخلقه الله ليكون شاهدًا لأعمال الله وشاكرًا إيّاه عليها.

هذا ما يجب على البشر أن يُجاهِدوا لأجله، حتى لا يموتوا كالحيوانات العجماوات دون أن يروا أو يدركوا الله وأعماله. كما يجب على الإنسان أن يعرف أن الله قادر على كل شيء، وإنه لا يستطيع أحد أن يقاوم الله القدير.

وكما أن الله أوجد كل شيء بكلمته من العدم إلى الوجود حسب إرادته، هكذا (الآن) يصنع كل شيء لأجل خلاص البشرية[8].

القديس أنطونيوس الكبير

تعطي الشمس ضوءًا وتنظر كل شيءٍ،

وعملها مملوء من مجد الرب [16].

إذ يسير بنا القديس باسيليوس الكبير في رحلة مُمْتِعة مع الخالق، يُقَدِّم لنا لمسات روحية رائعة. نتلامس مع إبداع الخالق، لا لكي يُشبِع احتياجات محبوبه الإنسان فحسب، إنما لكي يعمل فيه، فيُقِيم له عالمًا جميلًا مُفرِحًا، ومدرسة تُهَذِّب سلوكه. نذكر على سبيل المثال الآتي[9]:

أ. كما تُعطِي الشمس نورًا، هكذا بَدَّدَ القديسون في العصور القديمة ظلمة الجهالة[10].

ب. كما أن القمر ينمو فيصير بدرًا، ويضمحل، هكذا ينجح المصير البشري في الفضيلة ويفشل بالتتابع[11].

ج. تكتشف بعض الحيوانات بالغريزة الفصول المُقبِلة وتستعد لها، هكذا يليق بالمسيحيين أن يترقَّبوا الأبدية ويتعجَّلوها[12].

د. تسير الحيوانات مَحْنِية الظهر، تتطلَّع إلى الأرض وإلى بطنها، أما الإنسان فخُلِقَ رأسه إلى فوق ليهتم بالسماويات لا الأرضيات[13].

لم يُمَكِّن الربّ قديسيه أن يَصِفوا كلّ عجائبه،

التي صنعها الربّ القدير، لكي يُثَبِّت المسكونة في مجده [17].

لا يستطيع أحد من الطغمات السمائية أن يُعلِن عن عجائب الله التي تشهد لمجده.

إنه يفحص العمق وقلب الإنسان ويُدرِك أسرارها،

لأن العليّ يملك كل علم، ويتطلَّع على علامات الدهر [18].

يربط بين سبر الغمر a bottomless والقلب، فكما لا يستطيع أحد أن يبلغ إلى أعماق الغمر الذي لا يُقَاس، هكذا يحتوي قلب الإنسان في داخله عالمًا لا يمكن أن يعرف أحد أسراره غير العليّ.

يبدأ القديس باسيليوس عظاته عن “أيام الخليقة الستة” بعمل الله الخالق من أجل الإنسان محبوبه، وفي ختام عظاته (خاصة عظة 9: 6؛ وعظة 11: 14) يؤكد ضرورة الانطلاق في رحلة إلى أعماق النفس، ليكتشف المؤمن العالم المُصَغَّر الأروع بكثير من العالم الخارجي. يؤكد القدِّيس أن التعرُّف على السماء غير المنظورة أسهل من تعرُّف الإنسان على أعماقه. الإنسان الداخلي هو عالم خاص وثمين يلزم الدخول فيه بروح الله القدوس، فنعرف أنفسنا وننمو في معرفة الله.

يُخبر بالماضي والمستقبل ويكشف عن آثار الأمور المستترة [19].

لا يفوته فكر، ولا تخفي عليه كلمة واحدة [20].

زيَّن أعماله العظيمة بحكمته، وهو الكائن منذ الأزل وإلى الأبد،

لا يمكن أن يضاف إليه شيء، ولا يُحذَف منه شيء،

ولا يحتاج إلى أحد ليكون مشيره [21].

الفكرة الرئيسية التي تدور حولها عظات القديس باسيليوس الكبير عن أيام الخليقة، هي أن الجمال الحقيقي للخليقة بكل أنظمتها التي تبدو مُعَقَّدة للغاية، وإبداعها العجيب يُمكِن إدراكه وتحقيقه بالعودة إلى العالم الأبدي غير المنظور الذي ينتظرنا ويُرَحِّب بنا، ونحن نترجَّاه ونترقَّبه خلال حُبِّ الخالق العجيب للإنسان[14]، لهذا عندما خَصَّص Rousseau فصلًا عن الهكساميرون، دعاه: “عودة إلى الوطن القديم” مقتبسًا ذلك من (العظة 6: 1).

ما أثمن جميع أعماله،

كم تتلألأ للنظر [22].

لقد تضاربت قصص الخليقة كما سَجَّلها الفلاسفة وتعارضت فيما بينها، أما ما سجَّله موسى النبي في سفر التكوين، فهو ثمرة لقاء مع الله، وجاء حديثه يُلهِبُ قلوبنا لا إلى معرفة كيف تمَّت الخلقة، إنما كيف نلتقي بالخالق وننعم برؤياه، وندخل معه في حُبٍ مشترك!

للعالم بداية وحتمًا له نهاية، “لأن هيئة هذا العالم تزول” (1 كو 7: 31). فمع قبولنا هذه العطية الجميلة من يد الخالق، يليق بنا أن ترتبط قلوبنا بالخالق الأبدي، لا بالخليقة الزائلة.

يؤكد موسى النبي: “في البدء خلق“، فالعالم لم يُوجِدْ نفسه بنفسه، إنما هو من صُنْعِ الخالق وإبداعه.

كل هذه تحيا وتبقى إلى الأبد لكل احتياج، وجميعها مطيعة [23].

كل الأشياء جُعِلَت اثنين اثنين، كل واحدٍ مقابل الآخر،

ولم يصنع شيئًا ناقصًا [24].

يرى القديس أوغريس من بنطس، أن الصلاة أيضًا تتحقَّق بطريقين، بالعمل والتأمل[15].

كل واحدة منها تقوي صلاح الأخرى،

فمن يقدر أن ينال الكفاية من رؤية مجده؟ [25]

من وحي سيراخ 42

لأسلك حسب مرضاتك يا خالقي!

v تتهلَّل نفسي بشريعتك والدخول معك في ميثاق!

تسمو بي، فأتنازل بفرحٍ حتى عن حقوقي الزمنية.

لن ينحرف قلبي عن الإيمان مهما كان الإغراء.

أسلك أنا وأهل بيتي بلياقة، لأنك قائدنا في الحياة.

v من هي ابنتي الوحيدة التي أحرص على زواجها وعفتها وإنجابها أبناء مقدسين!

إنها نفسي التي قَدَّمتَ مهرها على الصليب. تسكن في الكنيسة بيت الزوجية المقدس.

وأبناؤها هم ثمر الروح القدس!

v من أجلي خلقت المسكونة العجيبة، خلالها أتلامس مع حُبِّك الفائق لي.

خلقت الشمس من أجلي، فتصير نفسي منيرة بك.

رعايتك لكل الخليقة فائقة، فكم بالأكثر ما تُعدّه لأبديتي؟

مشتاق أن أراك في مجدك الأبدي!

_____

[1] بحسب NRSV.

[2] Iren. Ad Haer. 4: 27: 1.

[3] بحسب NRSV.

[4] On Priesthood 3: 37.

[5] cf. Jeremy Carley: Sirach, Liturgical Press, 2013, p. 118.

[6] لدراسة أيام الخليقة الستة Hexamaeron راجع للكاتب: القديس باسيليوس الكبير، ج 3، ب 6.

[7] On Ps. 32. No. 3.

[8] الفيلوكاليا، الجزء الأول، 1993، القديس أنطونيوس الكبير 170 نصًا عن حياة القداسة 47.

[9] Cf. Philip Rousseau: Basil of Caesarea, University of California, 1994, p. 324.

[10] Hexamaeron, homily 1:1.

[11] Hexamaeron, homily 6:2.

[12] Hexamaeron, homily 6:10 f.

[13] Hexamaeron, homily 9:3.

[14] Cf. Philip Rousseau: Basil of Caesarea, University of California, 1994, p. 320.

[15] On Prayer: Prologue.

زر الذهاب إلى الأعلى