تفسير سفر إشعياء – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

 

كنت أقرأ كتابًا عن إشعياء النبي، وإذا بي أشعر كأن سفر إشعياء يسحب قلبي ليملأ أعماقي تعزية وسط المتاعب. وكانت المفاجأة العجيبة أنني اكتشف في الصباح أن تلك الليلة كانت عشية استشهاد إشعياء النبي، هذا ما دفعني أن أبدأ في دراسة السفر لنوال بركة كلمة الله مع إشعياء.

لقد أخذت بالمنهج الآبائي الدراسي ليصير مكملاً لسلسلة كتب الأب المحبوب القس لوقا سيداروس في ذات السفر الذي اتسم بمنهجه الوعظي وأسلوبه العذب.

الرب قادر أن يستخدم هذا العمل لمجد أسمه القدوس.

شيكاغو في سبتمبر 1988.

القمص تادرس يقوب ملطي

 

الأنبياء

تُدعى الأسفار من إشعياء حتى ملاخي “أسفارًا نبوية”. هذا لا يعني أن النبوة قد بدأت بإشعياء، إنما وجدت منذ بداية ظهور موسى النبي كأول قائد لشعب إسرائيل، وإن كان بعض الآباء يرون أن النبوة تمتد منذ بدء الحياة البشرية، فيحسبون آدم نفسه نبيًا.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإن الأسفار النبوية لا تقف عند عرض النبوات وإنما ضمت تاريخًا ونواميس وحكمة وشعرًا الخ…

الأنبياء:

لا يفهم تعبير “أنبياء” بمعنى أناس يتنبأون بأحداث مستقبلية بقدر ما تعني الكشف عن فكر الله وإرادته من جهة الإنسان، خاصة خلاصه الأبدي الذي يتحقق خلال السيد المسيح. لقد أقام الله أنبياءه كرجاله الذين يشهدون له بقوة وشجاعة بفعل روحه القدوس في وقت انحرفت فيه القيادات الدينية والمدنية من كهنة وملوك. فقد انشغل كثير من الكهنة بالسلطة والكرامة مع الانغماس في حياة الترف والبهرجة، لهذا اهتموا بإرضاء الملوك والعظماء على حساب خدمة النفوس، وانشغلوا بالحرف القاتل كتغطية للفساد الداخلي. أما الملوك والأشراف فانشغلوا بالمجد الباطل معتمدين على خطط بشرية متجاهلين عنصر الإيمان بالله والاتكال عليه… لهذا ظهر الأنبياء يقاومون فساد القيادات والشعب أيضًا؛ الأمر الذي أثار الكل ضدهم لاضطهادهم.

جاء الخط واضحًا في كل كتابات الأنبياء، وهو:

  1. التوبة والرجوع إلى الله بالقلب لا بالممارسات الشكلية هو طريق علاج للمشاكل الداخلية والخارجية، الاجتماعية والسياسية والروحية.
  2. فضح الأخطاء خاصة التي ترتكبها القيادات الدينية والمدنية لا للتشهير بهم وإنما لطلب العلاج الروحي الحق.
  3. التنبوء عن أحداث محلية مستقبلية قريبة لتأكد تأديب الرب لهم بسبب فسادهم وعدم الثقة فيه، أو لتأكيد رجمته بسبب توبتهم، مثل السبي والرجوع منه.
  4. التنبوء عن أحداث مستقبلية بعيدة مركزها مجيء المسيا المخلص، الذي يُقيم مظلة داود الساقطة، ويُقيم مملكة روحية تضم الشعوب والأمم.
  5. الله وحده هو المخلص… والخلاص هو الموضوع الأوحد الذي يلزم أن يشغل فكر الكل.

نبوات الأنبياء مع كثرتها تشبه قيثارة يلعب على أوتارها روح الله القدوس الذي لا يخطئ العزف، فيقدم سيمفونية حب الله المعلن خلال عمل المسيح الخلاصي.

الأنبياء الكبار والصغار:

اعتاد الدارسون أن يقسموا أسفار الأنبياء إلى أنبياء كبار [إشعياء، إرميا، حزقيال، دانيال] وأنبياء صغار [بقية أسفار الأنبياء]، هذا التقسيم لا يقوم على أساس التمييز بين الأنبياء أنفسهم وإنما بين الأسفار حسب حجمها. يشبه البعض بعض أسفار الأنبياء الصغار بالقنابل الذرية الصغيرة في حجمها لكنها تحمل طاقات جبارة[1].

جدول

الفترة

اسم النبي

الملوك المعاصرين

الظروف المحيطة

غاية السفر

 

مـا قـبل السـبي

1. يونان

2. يوئيل

3. عاموس

4. هوشع

5. إشعياء

6. ميخا

يربعام الثاني (مملكة إسرائيل).

ربما عاصر الملك يوشيا.

يربعام الثاني.

عزيا، بوتام، آحاز، حزقيا [يهوذا]؛ يربعام 2.

عزيا، بوتام، أحاز، حزقيا.

بوتام، أحاز، حزقيا [يهوذا].

أُرسل إلى نينوى ليتوبوا.

التوبة القائمة على تجديد القلب.

الخطايا الجماعية.

الله يطلب زوجته الخائنة لترجع إليه.

الانجيل الخامس (العصر المسياني).

يعلن التأديب مع نبوات مسيانية.

الله للجميع: لليهود كما للأمم 4: 11.

يوم الرب 3: 18.

التأديب (نبي الويلات) 5: 13.

هلم نرجع إلي الرب: لأنه أفترسنا فيشفينا 6: 1.

القدوس المخلص 53: 5.

من هو مثلك غافر الإثم ؟! 7: 18.

 

بين سبي إسرائيل وسبي يهوذا

7. ناحوم

8. صفنيا

9. أرميا

10. باروخ

11. حبقوق

حزقيا [هرب إلى يهوذا عند سبي السامرة].

أوائل ملك يوشيا.

يوشيا، يهوياكين، يكنيا، صدقيا.

[عصر أرميا صديقه الشخصي].

كتب بعد معركة كرمشيش في أيام يهوياقيم.

يتحدث عن إدانة نينوى ويطمئن شعبه.

يتحدث عن قرب مجيء سبي يهوذا.

يؤكد تحقق السبي ويطالب بالاصلاح القلبي.

يبدو أنه سافر إلى المسيين ليسندهم.

أسئلة حول تأديب الشعب بالكلدانيين.

نهاية الشر 1: 8.

الإله الغيور 1: 18.

تأديبات الرب ممتزجة بحنوه 3: 12-13.

الحفاظ على الإيمان 4: 1-3.

الحوار مع الله 1: 3.

 

سبي

يهوذا

12. دانيال

13. حزفيال

خدم أيام ممالك: بابل، مادي، فارس، في السبي.

عاصر دانيال.

شهد أمام الملك الوثني بسيرته وحكمته.

فتح باب الرجاء ببناء الهيكل المسياني.

إدانة الظلمة بالنور 2: 22.

مجد الرب 10: 4، 18.

 

بعــد الســـبي

14. حجي

15. زكريا

16. عوبديا

17. ملاخي

داريوس الملك 

داريوس الملك 

التشجيع على البناء الداخلي للهيكل (القلب).

تشجيع الشعب على اعادة بناء الهيكل.

الله يؤدب أدوم لكبريائه، كراهيته.

يعلن عن مجيء السيد المسيح بسبقه إيليا.

بناء بيت الرب الداخلي 2: 15.

غيرة الله 1: 14.

كما فعلت يُفعل بك 1: 15.

محبة الله العملية للبشرية 1: 11.


 

مقدمة

في سفر إشعياء

دُعي إشعياء: “النبي الإنجيلي”، ودُعي سفره: “إنجيل إشعياء”، أو “الإنجيل الخامس”. من يقرأه يظن أنه أمام أحد أسفار العهد الجديد، وأن الكاتب أشبه بشاهد عيان لحياة السيد المسيح وعمله الكفاري خاصة “الصليب”؛ يرى صورة حية للفداء وأسراره الإلهية العميقة.

يقول القديس جيروم: [إني أتمثل في سفر إشعياء – عند قراءته – إنجيليًا يصف حياة يسوع المسيح، فضلاً عن كونه نبيًا يتكلم عن الأمور الآتية[2]].

يقول عنه H. A. Ironside: [أكثر من أي كتاب نبوي آخر، يحوى أكمل النبوات المسيانية التي وجدت في العهد القديم، يشهد بطريقة أكيدة عن آلام المسيح وما يتبعها من أمجاد[3]].

اهتم به آباء الكنيسة خاصة في حوارهم مع غير المؤمنين لأجل ما تضمنه من نبوات كثيرة وصريحة عن شخص السيد المسيح وعمله الفدائي وكنيسته وعطية روحه القدوس الخ…[4].

بعد تحول القديس أغسطينوس إلى الإيمان المسيحي بفترة قليلة سأل القديس الأسقف الشيخ أمبروسيوس عما يقرأه، فأجابه”إشعياء”[5].

إشعياء:

كان إسم إشعياء شائعًا بين اليهود، فنجد في الكتاب المقدس على الأقل سبعة أشخاص يحملون هذا الاسم.

“إشعياء” يُقابل “يشعيا” (عز 7: 8؛ نح 11: 7؛ 1 أي 3: 21)؛ يعني “خلاص الله” أو “الله يُخلص”. وقد جاء اسمه يكشف عن رسالته، فالسفر في مجمله يحمل خطًا واضحًا عن خلاص الله العجيب الذي يتحقق بمجيء المسيا الذبيح مقيم الملكوت وواهب المجد.

دُعي “إشعياء بن آموص” لتمييزه عن بقية الأشخاص الحاملين ذات الاسم. هذا ويرى الكثير من الدارسين أن آموص هنا غير عاموس النبي[6]، وبحسب التقليد اليهودي هو أخو أمصيا ملك يهوذا وأنه نبي أيضًا.

نشأ في أورشليم وعمل فيها (إش 7: 3؛ 22: 1، 15؛ 37: 2؛ 38: 5؛ 39: 3). على خلاف إرميا تزوج وأنجب أولادًا؛ إرميا مُنع من الزواج حتى لا تُعاني أسرته من الضيق المُرّ الذي يحل بالشعب ومن الفساد الذي حلّ بالجميع كوباءٍ معدٍ، أما إشعياء فتزوج ودُعيت زوجته: “النبية” (إش 8: 3) لا لممارستها النبوة وإنما لمشاركتها رجلها جهاده الروحي ومشاعره، فكانت خير رفيق له في تحقيق رسالته. أنجبت على الأقل ابنين حملا أسمين رمزيين؛ دُعى الأكبر “شآريشوب” معناه “البقية سترجع” (إش 7: 3)؛ والثاني “مهير شلال حاش بز” معناه “عجل النهب، اسرع الغنيمة” (إش 8: 3). وكان الاسمان متناسبين مع نبوات إشعياء كما سنرى.

اعتز إشعياء النبي بأسرته المقدسة في الرب، وأيضًا بتلاميذه الروحيين الذين حسبهم أبناء له وكأفراد أسرته، فقال: “هأنذا والأولاد الذين أعطانيهم الرب آيات وعجائب في إسرائيل” (إش 8: 8). وقد استخدم الرسول بولس هذه العبارة كرمز لربنا يسوع الذي يقود تلاميذه إلى المجد (عب 2: 13).

ظروف إشعياء الدينية والاجتماعية والأخلاقية:

  1. نشأ إشعياء – كأحد أعضاء العائلة الملكية – في أورشليم، في جوٍ أرستقراطي، يُجالس الملوك ويصادقهم، ويقدم لهم المشورة الصالحة. كان نبيًا في مملكة يهوذا، وربما كان يشغل مركزًا سياسيًا هامًا في البلاط الملكي، كما يظهر من إلمامه بالتيارات السياسية في ذلك الحين بجانب إلمامه بالتيارات الدينية والاجتماعية. فقد كشف عن جماعة أنصار التحالف مع مصر (إش 29: 15؛ 30: 1) واستطاع أن يطرد شَبْنَا من مركزه الخطير (إش 22: 15).

باشر عمله النبوي في السنة التي مات فيه عُزّيا ملك يهوذا (سنة 740) أو 739 ق.م)، هذا لا يعني أنه بدأ بعد موت الملك وإنما ربما قبل موته في ذات العام الذي مات فيه؛ وقد استمر في خدمته حتى وفاة حزقيا ( 697 أو 696 ق.م)، وبحسب التقليد اليهودي باشر عمله النبوي في عهد منسي بن حزقيا، بهذا تكون مدة عمله النبوي أكثر من 50 عامًا، يرى بعض الدارسين أنها بلغت الستين عامًا. انتهت حياته على الأرض بنشره بمنشار خشبي كأمر الملك منسي إمعانًا في تعذيبه كما جاء في التقليد اليهودي وبعض كتابات آباء الكنيسة[7]، وربما قَصدَه الرسول بولس عندما تحدث عن الذين نُشروا (عب 11: 37).

  1. شاهد إشعياء في شوارع العاصمة – أورشليم – مركبات الملك والأسرة الملكية والعظماء المتعجرفين، يركبونها في زهو وغرور، خاصة نساؤهم المدللات في حياة ترف فاحش وبذخ شديد. تطلع إلى الولائم اليومية التي تُقام في القصر الملكي بغير انقطاع، تُدعى إليها القيادات العسكرية والمدنية والدينية، الكل يشرب الخمر بلا حساب لتتحول إلى مجالس هزء قانونها المداهنة والرياء. وفي نفس الوقت كان يُشاهد الأغنياء يدخلون الهيكل ليقدموا تقدمات وذبائح بلا حصر ليجدوا تكريمًا من القيادات الدينية الجشعة، ويخرج هؤلاء الأغنياء من الهيكل ليمارسوا الرجاسات الوثنية بالقرب من الهيكل! هذه هي صورة المدينة التي نُسبت لله وأُقيم فيها هيكله المقدس، بينما كانت صرخات الأرامل والأيتام والفقراء والمظلومين تدوي في أذني النبي بل ترتفع إلى عرش الله.

أُصيب يهوذا بالفساد، من جهة قياداته كما من جهة الشعب، “كل الرأس مريض، وكل القلب سقيم، من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُلين بالزيت” (إش 1: 5-6).

يرى بعض الدارسين أن ما حلّ بيهوذا يصيب العالم الآن بشكل أو آخر مثل:

أ. تكتلات من أجل التمتع بالسلطة البشرية لا الاتكال على عمل الله (إش 8: 9-13).

ب. الجهل الروحي، فبينما تخضع الطبيعة غير العاقلة بالغريزة لصاحبها وراعيها يجهل الإنسان خالقه المعتنى بخلاصه وأبديته (إش 1: 2-4).

ج. فساد القيادات وانحلالها بتصرفات صبيانية غير ناضجة مع دخول العنصر النسائي بطريقة تسلطية منحرفة حتى في بعض القيادات الدينية (إش 3: 12)، وتفشِّى روح المداهنة والمجاملة وغير موضوعية الحق ذاته.

د. الأنانية ومحبة المال وما يتبع ذلك من ممارسة للظلم وحب الرشوة (إش 1: 23).

هـ. ميوعة الإيمان، يقبل الإنسان الدين وينكر عمل الله الخلاصي أو الالتزام بالحق أو الاعتراف بالدينونة الأبدية…

الظروف السياسية[8]:

عاش إشعياء النبي في وقت قيام القوى العظمى في العالم والصراع بينها. بدأ هذا الصراع بين مصر وأشور على السيطرة على العالم في ذلك الحين، وفي أيام إشعياء الأخيرة كان الصراع بين أشور وبابل، وكان مبدأ هذه الدول هو: “القوة هي الحق”.

أما أثر هذا الصراع على إسرائيل (مملكة الشمال) ويهوذا فيظهر مما ورد في ملوك الثاني (15-17):

v     قدم منحيم ملك إسرائيل فضة لفول الآشوري ليتركه في مملكته (2 مل 15: 19-20).

v     في الأيام الأخيرة من عزيا حيث تسلم إشعياء رسالته، غلب تغلث فلاسر الآشوري فقح ملك إسرائيل (2 مل 15: 29)؛ وقام الأخير بتخريب جيش آحاز ملك يهوذا حيث قتل 120 ألفًا وحمل 200 ألفًا إلى السامرة كمسبيين، كما تحالف مع رَصِين ملك سوريا ضد يهوذا، وذلك لأسباب سياسية. فقد أرادا من يهوذا أن يتحالف معهما ويستندا على فرعون مصر لمقاومة أشور، لكن يهوذا رفض ذلك، مفضلاً الالتجاء إلى أشور ضدهما.

لا أريد الدخول في تفاصيل الأحداث السياسية، إنما ما حدث هو أن هوشع قتل فقح، وأن الأول خضع للجزية لأشور (2 مل 17: 3) غير أن شلمنأسَر الآشوري لم يثق فيه فسجنه وحاصر السامرة 3 سنوات ثم سبى إسرائيل (2 مل 17: 4 6)، وكان ذلك سنة 722 ق.م.

إن كانت السامرة عاصمة الأسباط العشرة في أنانية تحالفت مع آرام سوريا ضد يهوذا، فإن يهوذا من جانبه أخطأ فقد أرسل آحاز إلى تغلث فلاسر يقول له أنه عبده وابنه يطلب نجدة ضد سوريا و إسرائيل (2 مل 16: 7)، مقدمًا خزائن الهيكل والقصر هدية لأشور. وبالفعل سنده، لكن تغلث فلاسر احتقره فيما بعد ولم يسنده (2 أي 28: 20-21). بعد ذلك قام سنحاريب بجيش عظيم ليستولي على يهوذا في أيام حزقيا بن آحاز وقد سمح الله بتدمير كثير من المدن لكنه حافظ على أورشليم إلى حين.

عاش إشعياء النبي في هذا الجو بقلب ناري ملتهب حبًا نحو شعبه. فكانت نفسه مُتمرّة بسبب الانقسام بين أفرايم ويهوذا الذي بلغ أقصاه بتحالف إحداهما مع دول غريبة ضد الأخرى. هذا من جانب ومن جانب آخر فقد شاهد إشعياء يهوذا يرى بعينيه ما حدث للسامرة التي تبعد حوالي 35-40 ميلاً من أورشليم، وما حدث لها من خراب (إش 22: 1) ومع هذا ازداد يهوذا في الشر والعناد.

كان إشعياء – كرجل قومي – منشغلاً بأورشليم عاصمة يهوذا ومدينة الله، كانت مركز أحلامه وآماله، كثيرًا ما يتحدث عنها، لكنه في صراحة يصف نجاساتها وفجورها، معلنًا نضاله لا لأجل حمايتها سياسيًا فحسب وإنما لأجل تقديسها لحساب الله القدوس.

إشعياء، كرجل سياسي حكيم وبإرشاد روح الله القدوس، أدرك شئون عصره والأحوال التي كانت سائدة. فقد تنبأ عن سقوط دمشق والسامرة وامتداد سلطان أشور على الشرق الأوسط (إش 7)، كما امتد نظره – بروح النبوة – إلى مستقبل أبعد ليرى بابل وخطرها المحدق بيهوذا (إش 39)، وبروح الرجاء يعلن عن عودة الشعب كله     – جميع الأسباط – من السبي البابلي.

رأى إشعياء في أشور (وبعد ذلك بابل) أداه تأديب إلهي لإسرائيل وأيضًا ليهوذا، ولم يكن بنو يهوذا قادرين على تصديق غزو أشور لأورشليم. لقد أكد النبي أن التاريخ كله والشعوب في يدّ الله يستخدمهم من أجل توبة شعبه ورجوعه إليه… وأنه لا علاج حتى لمشاكلهم السياسية بغير التوبة.

تمسك إشعياء بكلمة الحق في قوة وبسلطان الروح، ففي شجاعة يقول لآحاز الملك: “هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهي أيضًا؟!” (إش 7: 13)، كما وبخ الشعب كفاعلي شر (إش 1: 4)، ودعى العظماء “قضاة سدوم” (أش 1: 10)، وسخر بالأعداء الثائرين في وقت كانت فيه أورشليم ترتعب منهم حاسبًا إياهم كشعلة مدخنة (إش 7: 4)… ومع هذا نراه يئن قلبه لأنَّات موآب (إش 15: 5) ويرثى لسقوط بابل (إش 21: 4، 10؛ 22: 4).

سماته:

  1. منذ القدم دُعى إشعياء بالنبي العظيم بسبب شخصيته وأعماله وكتاباته[9]. حمل في شخصيته شجاعة دانيال ورقة حس إرميا وآلام هوشع وثورة عاموس، وفاق الكل في قدرته الأدبية الفريدة على النقد المقدس اللاذع مع فتحه باب الرجاء على مصراعيه لا لشعبه وحده وإنما لكل بشر.
  2. تحدث الله مع إشعياء النبي بالطرق الثلاثة الشائعة الخاصة بالإعلان الإلهي[10]:

أ. خلال الرؤيا المجيدة (إش 6)؛ وقد دُعى بالرائي (إش 30: 10). رأى السيد المسيح القادم وقد ملأ مجده الروحي كل العالم، فاهتزت السماء لتسبحه من أجل قداسته ومجده. هذه الرؤيا سيطرت على حياته وأفكاره وتصرفاته وكلماته؛ فنجد القداسة مع المجد هما الخط الواضح في السفر، مصدرهما ليس الذراع البشرى وإنما عمل المسيح الخلاصي. هذا الخط صبغ على السفر روح الرجاء بالرغم مما أعلنه عن بغض الله للخطية وسقوط الأمم تحت التأديبات القاسية بسببها.

ب. عمل الروح في حياة إشعياء، الذي أمسكه كما بيدٍ قوية (إش 8: 11)، وألهب حياته، فصارت كلمة الله أشبه بنار تلتهب في عظامه.

ج. الإعلان خلال الحديث الأبوي؛ فيتحدث رب الصباؤوت المهوب في أذني إشعياء كما يتحدث الصديق مع صديقه، يحدثه فمًا لفم (إش 8: 11؛ 20: 2؛ 22: 14)، ويعتبر هذا النوع أسمى أنواع الإعلانات الإلهية، إذ يقدم روح الصداقة الإلهية.

وكما تسلم النبي النبوة بهذه الوسائل الثلاثة، قدمها بدوره خلال ثلاث وسائل:

أ.  الكرازة العلنية في الهواء الطلق من أجل توبة الجميع.

ب. العمل الرمزي؛ جاء في (إش 20: 2-3) أنه صار علامة وأعجوبة، فقد سار حافي القدمين عاريًا لمدة 3 سنوات ليؤكد ليهوذا سبيه وتسليمه للعبودية تحت نير أشور.

ج. خلال الكتابة بإعلان واضح في مكان عام مثل الهيكل للتحذير.

  1. تمتع إشعياء بسّر الله في وقت طغت فيه الشكلية في العبادة على حياة القادة والشعب، واتسم الكل بالرياء مع فساد الحياة الداخلية. لقد فشل الكهنة والملوك في تحقيق رسالتهم في ذلك الحين لإصلاح إسرائيل ويهوذا، لذلك استمر الله يخدم شعبه خلال الأنبياء. جاء إشعياء ليعلن أنه لا طريق للإصلاح أو النصرة أو المجد إلاَّ خلال الحياة المقدسة؛ وأن الله القدوس يترفق بالخطاة ويشعر بضعفاتهم ويشتاق إلى خلاصهم.

لقد قدم إشعياء نبوات عن أحداث مقبلة، لكن غايته الأولى هي الاعلان عن فكر الله العامل عبر الزمن في الماضي والحاضر، والمستقبل، العامل خلال كل الشعوب حتى المقاومة له. وكأن هذا السفر يُجيب على الأسئلة التالية[11]:

v   هل القوة تعطى الأمم “الحق”؟

v   ما هو دور الله في العالم؟

v   هل دينونة الله أو عقابه يعنى رفضه الإلهي للشعب؟

v   ما هي طبيعة الاتكال عليه والثقة فيه؟

v   ما هو مستقبل مملكة داود؟

  1. يعتبر هذا السفر من أروع الكتابات النبوية في أسلوب أدبي رائع. فالسفر كله شعري باستثناء الأصحاحات (36-39)، يدعوه De Costa “هبة الشعر”[12].

لقد سمع بنفسه تسابيح السمائيين (إش 6) ورأى السماء والأرض مملؤتين من المجد الإلهي فاهتزت أعماقه لتسبح الرب، وسكب نفسه مستخدمًا بروح الله القدوس كل قدرته الأدبية الفائقة وبلاغة أسلوبه وغنى أفكاره ليهز كل نفس تستمع إليه لحساب ملكوت الله. قدم أنواعًا مختلفة من التسابيح تحمل حمدًا وفرحًا ووصايا ودموعًا وحزنًا ومجدًا لله! جاء كتابه حديثًا نبويًا فيه يسكب نفسه في نفوسنا بحب فائق، عجيب في لغته، عذب في تشبيهاته، يتحدث بلغة الحب والإخلاص بروح نبوي مستقبلي مع واقع يعيشه، معبرًا بصراحة وشجاعة عن أحاسيسه تجاه القيادات المدنية والدينية والشعب خاصة المحرومين والمظلومين، مما جعل كتاباته حية وفعالة.

قدم إشعياء الطبيعة غير العاقلة كالجبال والغابات والأنهار والوديان كلها تُشارك الإنسان حياته.

لم يترك تشبيهًا أو تصويرًا إلاَّ واستخدمه.

يذكر H. Bultema التعليقات التالية على لغة هذا السفر[13]:

[يستحيل على أية ترجمة (للسفر) إلى لغة أخرى أن تحتفظ بزهرة هذا الطابع دون ضرر] القديس جيروم.

[إن كانت لغة الوجدان ecstasy غريبة عليّ تمامًا، فإنني لن أتجاسر وأترجم شعرًا مثل إشعياء] Van Der Palm.

[( إشعياء ) فنان كامل في كلماته] Dillmann.

[إشعياء الملائكي والأمير] De Costa.

  1. يتميز إشعياء بكثرة النبوات عن السيد المسيح، من جهة ميلاده من عذراء  (7: 14)، لاهوته (9: 6)، من نسل يسّى (11: 1)، ممسوح لأجلنا (11: 2)، معلن الحق للأمم (42: 1)؛ يسلك بالوداعة (42: 2)، واهب الرجاء للكل (42: 3)، هروبه إلى مصر وإقامة مذبح كنيسة العهد الجديد هناك (19)؛ آلامه وصلبه (50: 6؛ 53: 1-12)؛ فتح طريق الفرح للمفديين بقيامته (35: 8-10)، إقامة عصر جديد مملوء سلامًا يجمع المؤمنين من اليهود والأمم معًا. كما أفاض عن العصر المسياني كعصر ملوكي داخلي يحمل بركات فائقة.

تحدث أيضًا عن الروح القدس وعطيته الفائقة في العصر المسياني (11: 2؛ 32: 15؛ 40: 7؛ 42: 1؛ 44: 3؛ 61: 1 الخ).

ليس في الكتاب المقدس مواجهة مع الصليب في أعماق أسراره أروع مما سجله إشعياء. أما مياه الروح القدس، مياه الخلاص التي نادى عنها السيد المسيح في يوم العيد العظيم “إن عطش أحد فليقبل إليّ” فقد سجلها العظيم في الأنبياء إشعياء في الأصحاح (55)[14].

إشعياء في العهد الجديد:

لسفر إشعياء أهميته الخاصة فقد حسبه ابن سيراخ “تعزية صهيون” ابن سيراخ (48: 24)؛ وقد اقتبس منه كتّاب العهد الجديد – أغلبهم من اليهود – 21 نصًا مباشرًا بجانب تلميحات كثيرة[15].

منذ بدء انتشار المسيحية يُنظر إلى سفر إشعياء كسفر هام للشهادة عن شخص السيد المسيح (أع 8: 27 39؛ 1 بط 2: 22-25). وقد قرأ السيد المسيح في إشعياء مشيرًا إلى شخصه (مر 1: 11).

إشعياء والليتورجيات القبطية:

لما كان سفر إشعياء قد ركز على عمل السيد المسيح الخلاصي والكشف عن عصره الذي اتسم بعطية الروح (المشار إليه بالماء والمطر ) لهذا غالبًا ما تقرأ فصل من إشعياء في طقس باكر من كل أيام الصوم الكبير، وأيضًا في صلوات اللقان في خميس العهد وعيد الرسل والغطاس المجيد.

الفكر اللاهوتي عند إشعياء:

يرى بعض الدارسين أن منهج إشعياء اللاهوتي يمكن تقديمه تحت أربعة عناوين: “الله، البشرية والعالم، الخطية، الخلاص[16]. ويمكن إجماله في العبارة التالية: [الله القدوس يُدين الخطية التي أفسدت البشرية تمامًا فسقط العالم كله تحت الدينونة، وقد حمل مخلصنا الدينونة في جسده ليُقيمنا فيه قديسين نتمجد معه].

جاء السفر يحمل مقابلات عجيبة مثل: المجد الإلهي – الانحطاط البشري؛ الدينونة الجامعة المرعبة – خلاص الله الفائق؛ تنزيه الله غير المدرك – عجز العبادة الوثنية؛ حكمة الله الشاملة – غباوة الأوثان؛ غنى عطايا الله –  تدمير الخطية للبركات.

خلال هذه المقابلات وأمثالها يعلن الله عن حبه الخلاصي نحو الإنسان، ليرفعه إليه ويهبه ميراثًا لجبل قدسه (إش 57: 13)، مع حكمة ونصرة وأمجاد.

  1. الله “قدوس إسرائيل”[17]

كثيرًا ما يستخدم إشعياء النبي هذا الاسم “قدوس إسرائيل” الذي لم يُستخدم في الأسفار الأخرى سوى ست مرات (إر 50: 29؛ 51: 5؛ حز 39: 7؛ مز 71: 22؛ 78: 14، 89: 18).

استخدامه بكثرة خلال السفر كله يكشف عن وحدة السفر (إش 1: 4؛ 5: 19، 24؛ 10: 17، 20؛ 12: 6؛ 17: 7؛ 29: 19، 23؛ 30: 11، 12، 15؛ 31: 1؛ 37: 23؛ 41: 14، 16، 20؛ 43: 3، 14، 15؛ 45: 11؛ 47: 4؛ 48: 17؛ 49: 7 (مرّتان)؛ 54: 5؛ 55: 5؛ 60: 9، 14).

ماذا يعنى بقدوس إسرائيل في هذا السفر إلاَّ شخص السيد المسيح خالق إسرائيل وموحده ومجدده خلال عمله الخلاصي ليحميه ويمجده. في كل أصحاح من هذا السفر يتجلى السيد المسيح كمركز الحديث.

لقد رأى إشعياء في بدء عمله النبوي السيد المسيح المخلص جالسًا على عرش مجده والسارافيم يسبحونه: قدوس، قدوس، قدوس (إش 6). وقد شاهد القديس يوحنا في رؤياه الأربعة مخلوقات الحية حاملي العرش الإلهي ينشدون ذات التسبحة في السماء (رؤ 4: 8).

كما سبق فقلنا إن إشعياء تعلم ألا يفصل بين قداسة الله المطلقة وأمجاده الأبدية؛ أما دعوته الله “قدوس إسرائيل”، فلأنه القدوس الذي يقيم شعبًا مقدسًا له ليشاركه أمجاده الأبدية. هو قدوس في ذاته، لكن قداسته تمس علاقتنا به في صميمها.

تأكيد فكرة قداسة الله تُحطم الفكرة الوثنية التي سادت بان الله مجرد “بشر فائق Superhuman” أو “جد grand father عظيم في السماء”. الله مختلف تمامًا عن خليقته، هو عال، يُغاير عالمه، هو القدوس وحده[18]… لكنه في نفس الوقت غير معتزل خليقته بل هو مقدسها.

بقدر ما أبرز النبي مدى فساد البشرية حتى الشعب الذي أختاره الرب، أكّد أمانة الله الواحد القدوس والقدير من جهة الخلاص (41: 14؛ 43: 3، 14-15؛ 47: 4؛ 48: 17 الخ )، ليهبهم شركة سماته (35: 8؛ 48: 2؛ 60: 14؛ 62: 12).

وبقدر ما أبرز بطلان الأوثان وعجزها أكّد أن القدير هو الخالق والمعين والقائد والدينان، في يده الزمن، وبقدرته يحرك الأمم لتحقيق إرادته المقدسة من جهة مؤمنيه.

  1. البشرية والعالم:

نظرة إشعياء نحو البشرية والعالم انعكست على شخصيته، فقد آمن أن الإنسان الكائن العجيب موضع حب الله وتدبيره من أجله يحرك الله كل شيء ليقدسه بل يقوم بنفسه بخلاصه، وفي نفس الوقت يرى الإنسان في ذاته ضعيفًا كل الضعف، صار كلا شيء، حطم نفسه بنفسه، لا يقدر على الخلاص خارج العمل الإلهي.

هذا ما نراه في شخصية إشعياء نفسه، فقد وقف أمام الله يعلن: “ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين” (إش 6: 5). لكنه إذ تمتع بلمسة من الجمرة التي قدمها أحد السارافيم من المذبح الإلهي ينطلق ليعمل بطاقات جبارة: حمل شخصية قوية جذابة تجمع روح النبوة مع اتساع الأفق، الحركة المستمرة للعمل مع عذوبة أسلوبه وسحر كلماته، يوبخ وينتهر بشجاعة مع فتح باب للرجاء، أمين لقوميته ومحب لكل البشرية، واقعي يدرك ما يحوط به في زمانه أما قلبه فمنطلق نحو المستقبل حتى يبلغ الأبدية عينها.

هكذا تكشف شخصية إشعياء النبي عن نظرته نحو الإنسان والعالم، أيضًا طريقة تعامله مع الغير تكشف ذات نظرته هذه. فهو لا ينشغل كثيرًا بالألقاب ولا بالمراكز، مدركًا أن القوة الحقيقية تنبع في اللقاء الخفي الداخلي مع الواحد القدوس، لذا لا يخف من الحديث بكل جرأة مع الملوك أو ضد الأمم وفي نفس الوقت بكل رقة وحنان مع الأيتام والأرامل والمظلومين… لقد عرف قيمة النفس البشرية مجردة عن الأمور الزمنية والشكليات الخارجية.

  1. الخطية:

الخطية – في نظر إشعياء النبي – أيا كانت أشكالها هي “عصيان” ضد الواحد القدوس كما يظهر من افتتاحية السفر وختامه[19]. هذه النظرة واضحة في كل السفر، فإن القدوس يعمل لأجل تقديسنا لنشاركه سماته، وكل خطية أشبه بثورة ضده.

  1. الخلاص:

إن كانت الأصحاحات الأولى (1-39) تؤكد كراهية الله للخطية وتأديب الخطاة العاصيين فإن الأصحاحات التالية (40-66) تعلن خلاص الله العجيب للخطاة من كل الأمم والشعوب.

الله الديان هو بعينه المخلص، يكشف الجراحات لا لتشهير بها وإنما لمعالجتها برقة وحنو مهما كلفه الثمن. لهذا في كل مرة يعلن حزمه ضد الخطية سرعان ما يكشف عن عمله الخلاصي ليبعث في النفس الرجاء المفرح. لقد تحدث إشعياء بفيض عن الحياة الجديدة التي صارت لنا في المسيح (إش 43: 18، 19؛ 62: 2؛ 41: 15، 16؛ 65: 17 الخ…).

عبد يهوه (عبد الرب):

من أهم المشاكل التي تقف أمام النقاد هي تعبير “عبد يهوه” أو “عبد الرب” الذي أشير إليه في الأصحاحات ما بين (40-50) قرابة عشرين مرة: (إش 41: 8، 9؛ 42: 1، 19؛ 43: 10؛ 44: 1، 2، 21، 26؛ 45: 4؛ 48: 20؛ 49: 5، 6؛ 50: 10؛ 52: 13؛ 53: 11، 54: 17). وتتلخص المشكلة في أمرين:

  1. أغلب الإشارات قدمته بكونه إسرائيل أو يعقوب.
  2. تارة يظهر أنه عبد يهوه غير الأمين وتارة العبد المختار موضع سرور الأب، المتألم لأجل خلاص البشر.

من يكون هذا العبد ليهوه؟

  1. في بداية العصر المسيحي وُجد بعض اليهود يفسرون “عبد يهوه” بكونه المسيا، لكن البعض الآخر رفضوا ذلك لأنهم لم يكونوا يتوقعون في المسيا ابن داود الذي يقيم المملكة الغالبة أن يتألم، لذا رأوا أن هذا العبد هو رمز لأمة اليهود[20]… هذا التفسير الأخير لا يقبله المنطق ولا يتفق مع ما ورد في السفر فقد أعلن النبي بوضوح أنه يتألم لأجل الخلاص، ويعمل من أجل ذلك (إش 49: 5-6؛ 53: 5-11)، فهل تألمت الأمة اليهودية من أجل خلاص العالم؟
  2. حاول بعض النقاد تفسير هذا الشخص بكونه شخصية تاريخية أو فكرة أسطورية لتقديم مفهوم لاهوتي معين، وقد رفض C. R. North التفسيرين. عن الأول يتساءل: من يكون هذا الشخص التاريخي؟ هل هو النبي نفسه أم آخر؟! واضح أن الحديث لا ينطبق على شخصية تاريخية في العهد القديم. أما التفسير الثاني فغير مقبول لأن العهد القديم لم يستخدم قط الأساطير التي أتبعها الشرق الأدنى في ذلك الحين[21]. وقد رأى North أن ما ورد عن عبد يهوه إنما يجب تفسيره مسيانيًا، أي ينطبق على المسيا.
  3. يرى البعض أن North قد ركز على تسابيح العبد (إش 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13-53: 12) التي لم يذكر فيها العبد بكونه إسرائيل أو يعقوب إنما تركز على العمل الخلاصي لهذا قبل التفسير المسياني[22].
  4. إن عدنا إلى الكتاب المقدس نجد فيلبس الرسول يفسر هذا العبد بكونه يسوع المسيح (أع 8: 30-35). فكيف يقدمه السفر تارة العبد غير الأمين وأخرى العبد المختار موضع سرور الآب. يُجيبIronside[23]  بأن إسرائيل هو عبد الله الذي لم يستطع أن يَخْلُص بنفسه فاحتاج إلى المختار من قِبَل يهوه العبد الذي جاء ليحقق رسالة الخلاص. آدم الأول قَبِل مشورة العدو فخل تحت العقوبة وصار في مذلٍة لتغرّبه عن الله لذا جاء آدم الثاني ليُحطم العدو ويقيم كنيسته (إسرائيل الجديد) ويعلن حضوره فيها (إش 8: 18؛ 12: 6؛ 30: 29؛ 31: 9).

إذن ما ورد عن عبد يهوه تارة يتحدث عن آدم الأول أو الإنسان الذي حطمته الخطية وتارة عن آدم الثاني ابن الإنسان الذي حطّم سلطانها.

هذا ويرى القديس أغسطينوس أن عبد يهوه يرمز للسيد المسيح، كما يُشير أحيانا إلى كنيسته، إسرائيل الجديد، بكونها العروس المتحدة به، وجسده المتمتع بخلاصه[24].

نسبة السفر لإشعياء ووحدته:

يحاول بعض النقاد المحدثين أن ينكروا وحدة السفر ونسبته بأكمله لإشعياء النبي. فيدّعى البعض أن إشعياء كتب القسم الأول منه (إش 1: 39)، وأن آخر اصطلحوا على تسميته “إشعياء الثاني” كتب بقية السفر. وادعى آخرون أن المدعو إشعياء الثاني كتب فقط الأصحاحات (40-55) بينما ثالث كتب الأصحاحات (56-66). وقد بدأت هذه النظرية (تجزئة السفر) بتعليقات J. C. Doderlein عام 1775م و J. G. Eichhorn عام (1780-1783). ومنذ بدء القرن العشرين بدأ بعض المفسرين يفصلون بين هذه الأجزاء ككتب مستقلة.

وأما حججهم في ذلك فهي:

  1. الخلفية التاريخية: لا يقبل الناقدون إمكانية روح الله في الكشف عن المستقبل أمام رجال الله لبنيان الجماعة، ولا يدركون قول ابن سيراخ عن إشعياء أنه تحدث عن المستقبل (ابن سيراخ 48: 24). لذا يؤكدون أن كاتب الأصحاحات (40-60) كان معاصرًا للإمبراطورية البابلية وعن أنهيارها أمام كورش (إش 44: 28، 45: 1)…

كما سبق أن قلنا في مقدمات الكثير من أسفار العهد القديم أن المشكلة تقوم أساسًا على إنكار النقاد للنبوة ورفضهم للمعجزات الإلهية.

  1. الخلفية الفكرية: يرى بعض النقاد أن الأصحاحات (1-39) تمثل كتابًا مستقلاً له فكر واحد هو تأديب شعب الله على خطاياهم خاصة اتكالهم على الذراع البشرية وانغماسهم في الرجاسات الوثنية كسائر الأمم المحيطة بهم، ثم فجأة تتحول الأصحاحات (40-66) إلى فكر آخر وإلى طابع مغاير، فيها يعلن الكاتب عن خلاص جديد خلال عهد جديد يقوم به الخالق المهتم بتجديد خلقته التي فسدت.
  2. الخلفية اللغوية والأدبية: يرى بعض الدارسين أن الطابع اللغوي والأدبي في الأصحاحات (1-39) يختلف عما جاء في الأصحاحات (40-66).

الردّ على القائلين بإشعياء ثانٍ وثالث:

  1. يقول[25]Bultema بأنه أمر غريب للغاية أن يُكتشف وجود إشعياء ثانٍ في تاريخ متأخر بواسطة بعض اللاهوتيين العقلانيين بينما لم يخبر بهذا الأمر أحد من حاخامات اليهود القدامى وآباء الكنيسة الأولى حتى الذين قادوا الحركة البروتستانتية لم يفكروا في هذا، فكيف كان إشعياء الثاني هذا مخفيًا عبر كل هذه العصور؟!
  2. نسبت الترجمة السبعينية في القرن الثالث ق.م السفر كله لإشعياء النبي دون تجزئته.
  3. يقدم لنا المؤرخ اليهودي يوسيفوس شهادة خارجية عن أصالة هذا الجزء (إش 40-66) ونسبته لإشعياء، وأنه كتب في وقت مبكر جدًا عن عصر كورش، إذ قال أن كورش نفسه قرأ ما ورد في سفر إشعياء فدهش وتحركت فيه رغبة قوية أن يحقق ما كتب عنه في هذا السفر[26]. واضح هنا أن يوسيفوس لم يعرف سوى إشعياء واحد.

لو أن الكاتب غير معروف في أيام كورش لكان هذا يعنى أحد أمرين، إما أن ما كتبه يوسيفوس عن كورش ليس بذي قيمة، أو أن كورش كان غبيًا خدعه اليهود.

  1. نسب يشوع بن سيراخ السفر بأكمله إلى إشعياء النبي، وقد شهدت أسفار العهد الجديد لذلك باقتباس عبارات منه نسبتها إلى إشعياء النبي.
  2. من جهة اختلاف الفكر بين أقسام السفر. فكما يقول Oswalt أن محاولة تجزئة السفر في العصر الحديث هي التي خلقت تجاهلاً لوحدة الفكر الذي يجرى في السفر كله[27]. وقد قدم لنا مثالاً لوحدة الفكر في السفر نقدمه هنا مع شيء من التصرف.

يُجيب السفر كله على تساؤلين هما:

ما هي طبيعة شعب الله؟

وما هو مصيرهم؟

في (إش 1-6): يعرض النبي المشكلة: الخطاة مدعوون، والحل هو رؤية الله.

وفي (إش 7-39): يكشف عن الاتكال على الله لا على الأمم المجاورة، وأنه عوض الاتكال عليهم في ضعف يلزم أن يدركوا رسالتهم ألا وهي أن يكونوا نورًا للأمم. وقد بدأ بنو يهوذا بالاتكال على الله لكنهم لم يستمروا.

وفي (إش 40-48): يُجيب على التساؤل: ما هو الحل لعدم استمرار يهوذا؟ حثهم على ذلك ولو بالتأديب والسبي. فالله يسمح بالسبي لكنه لا يزال يعلن “أنا هنا”، مجده يملأ السماء والأرض كما رأى إشعياء (إش 6).

وفي (إش 49-55): يُجيب على التساؤل: هل يمكن لإسرائيل الخاطئ أن يصير عبد يهوه؟ كما فعل الله بإشعياء مقدسًا شفتيه بالجمرة (إش 6) هكذا يفعل بالمؤمنين مقدسًا إياهم بعمله الخلاصي.

هنا يقدم مقابلة بين إسرائيل عبد يهوه والمسيا المخلص.

في إش (56-60): الله الذي يختار شعبه ويخلصهم من خطاياهم يبقى عاملاً حتى يتحقق مجده فيهم كما سبق ففعل مع إشعياء في الرؤيا (إش 6).

هكذا يظهر الخط واضحًا في السفر كله، خط خلاص الله العجيب الذي يحققه بدعوة الخطاة وتقديسهم خلال المسيا مخلص العالم.

  1. 4. ما يدعيه النقاد – أي نظرية تفتيت وحدة السفر – يواجه مشاكل كثيرة بلا حل، نذكر على سبيل المثال[28]:

أ. أن آراءهم تفقد الوحدة بصورة صارخة، فيرى Radday أن الأصحاحات   (49-66) تمثل وحدة لغوية واحدة مقابل الأصحاحات (40-48)؛ فان كان هذا صحيحًا فانه يعارض فكرة إشعياء الثاني (40-55). هذا ويرى أن الأصحاحات (23-35) ليست من قلم إشعياء الأول وهذا يعارض فكر أغلب النقاد.

ب. لو كان هذا السفر هو من عمل ثلاثة أشخاص، فإنه يصعب جدًا تفسير كيف جاء السفر بشكله الحاضر. في كل المخطوطات السابقة للمسيحية لم تُوجد قط أجزاء منه قدمت ككتاب مستقل، إنما قدمت الأصحاحات الـ 66 كوحدة واحدة.

ج. يقول Morgalioth إنه لم تستطع هذه النظريات أن تقدم تفسيرًا لوجود مفاهيم مشتركة بين الأجزاء مثل (إش 1-7) مع (60-66؛ 7-12) مع (36-39)[29].

د. وجدت دراسات إحصائية لغوية للسفر تؤكد وحدته مثل عمل L. L. Adam[30].

فيما يلي أمثلة قليلة لتشابه الأفكار والأسلوب خلال الأجزاء التي يدعى النقاد أنها كُتبت مستقلة[31]:

* تسمية الله “قدوس إسرائيل” وردت 13 مرة في (إش 1-39)، 16 مرة في (إش 40-66)، بينما استعلمت 7مرات في بقية أسفار العهد القديم.

* تسمية الله “عزيز إسرائيل” في (إش 1: 24)، وأيضًا في (إش 29: 26؛ 60: 26).

* استخدام تعبير: “فم الرب تكلم” (إش 1: 20؛ 21: 17؛ 22: 25؛ 24: 3؛ 25: 8)؛ (40: 5؛ 58: 14).

* العلاقة بين الله و إسرائيل في الأصحاحات (1-39) مطابقة في الصور والأفكار بما ورد في الأصحاحات (40-66).

من جهة الأفكار:

أ. بنو إسرائيل أولاد الله وشعبه المحبوب (1: 2، 3؛ 2: 6؛ 3: 12)؛ ( 40: 11؛ 41: 8، 9؛ 43: 1،15 ).

ب. عصيانهم (1: 17، 23؛ 3: 12، 15؛ 5: 7، 23)؛ (59: 8، 13).

ج. سقوطهم في الوثنية (1: 29؛ 2: 8، 20؛ 31: 7)؛ ( 40: 19، 20؛ 41: 7؛ 44: 9-20؛ 57: 5).

د. سفك الدماء البريئة (1: 15، 21؛ 4: 4) (9: 3، 7).

هـ. رفض الله لهم لعصيانهم (1: 15؛ 2: 6؛ 3: 8؛ 4: 6)؛ (42: 18-25؛ 43: 28).

و. الحكم عليهم بالسبي (5: 13؛ 9: 11، 12؛ 14: 3)؛ (42: 22؛ 43: 5، 6؛ 45: 13).

ز. السبي إلى بابل بالذات (14: 2-4؛ 39: 6، 7)؛ (47: 6؛ 48: 20).

ح. الرب يُبقى له بقية (6: 13؛ 10: 20-22؛ 11: 12؛ 14: 1، 3)؛ (43: 1-6؛ 48: 9-20). فكرة البقية التي تخلص كخيط ذهبي خلال السفر كله.

ط. الوعد بالعودة وغرسهم في الأرض المقدسة (14: 1؛ 35: 10)؛ (44: 26؛ 45: 3؛ 51: 11).

ى. انضمام الأمم إليهم (11: 10؛ 25: 6)؛ (42: 6؛ 49: 6؛ 55: 5).

ك. الوعد بملك عظيم (9: 6، 7؛ 24: 23؛ 32: 1؛ 33: 17)؛ (42: 1-4؛ 49: 1-12).

ل. يملك في جبل الله المقدس (2: 2؛ 11: 9)؛ (56: 7، 57: 13؛ 65: 11).

م. يكون فاديًا ومخلصًا (1: 27؛ 25: 9-10؛ 35: 4)؛ (41: 14؛ 53: 5 12؛ 59: 20).

ن. استخدام الاسم الرمزي لمصر “رهب” في الجزئيين (إش 30: 7)؛ (إش 51: 9).

من جهة الصور والتشبيهات:

أ. كثرة استخدام صور النور والظلام كرمز للمعرفة والجهل؛ استخدم النور مجازيا 18 مرة على الأقل والظلام 6 مرات، وقابل بين الاثنين 9 مرات (إش 5: 20، 30؛ 13: 10)؛ (إش 42: 16؛ 50: 10؛ 58: 10؛ 59: 9؛ 60: 1-3).

ب. استخدم أيضًا العمى والصمم في حالات متشابهة (إش 6: 10؛ 29: 10، 18؛ 22: 3؛ 35: 5)؛ (إش 42: 7، 16، 18، 19؛ 43: 8؛ 44: 18؛ 56: 9).

ج. تصوير البشرية بالزهرة أو ورقة سرعان ما تذبل (إش 1: 30؛ 18: 15)؛ (إش 40: 7؛ 64: 6).

د. تشبيه الإصلاح براية (إش 11: 12؛ 18: 3)؛ (إش 49: 22؛ 62: 10؛ 66: 19).

هـ. دعوة المسيا الغصن أو القضيب (إش 11: 1، 2؛ 53: 2).

و. العصر المسياني كعصر ماء (إش 30: 25؛ 33: 21؛ 35: 6)؛ (إش 41: 17، 18؛ 43: 19، 20؛ 55: 1؛ 58: 11؛ 65: 12).

ز. تشبيه الله بالفخاري والإنسان بإناء خزفي (إش 29: 16)؛ (إش 45: 9؛ 64: 8).

ح. تشبيه أورشليم بخيمة ذات أوتاد (إش 32: 20)؛ (إش 54: 2).

ط. تشبيه تطهير إسرائيل بتنقية الفضة (إش 1: 25)؛ ( إش 48: 10).

هذه أمثلة قليلة من كثير من وجود تشبيهات وتعبيرات مشتركة بين الـ 39 أصحاحًا الأولى وبقية السفر… مما يدل على وحدة السفر وان الكاتب شخص واحد. هذا ويلاحظ أنه لا يخلو أصحاح في كل السفر من تشبيه حيّ وتصوير رائع خاصة في الأصل العبري الذي يعطى سمو اللغة رونقًا خاصًا لهذه التشبيهات والتصويرات.

مع هذا إن وُجد شيء من الاختلاف في الأسلوب بين ما ورد في (إش 1-39)؛ (إش 40-66) فانه أمر طبيعي لتطور الأسلوب بالنسبة لنفس الكاتب خلال حقبات حياته المختلفة، خاصة وأن مدة نبوته طويلة، تبلغ حوالي الستين عامًا.

  1. كاتب كلا الجزئيين يظهر أنه صاحب معرفة كاملة بتاريخ شعبه.
  2. كاتب الجزء الثاني (إش 40-66) ليس كما يدعى النقاد أنه إنسان يعيش في أرض السبى، إنما واضح أنه كان مقيمًا في الأراضي المقدسة، وكما يقول H. Bultema:

أ. بينما يكرر إرميا النبي إسم بابل أكثر من 160 مرة نجد هنا في هذه الأصحاحات السبعة والعشرين (إش 40-66) يُذكر ثلاث مرات فقط. كما لم يشر الكاتب إلى المدن المحيطة ببابل ولا إلى قٌراها أو حصونها. أما بالنسبة لكنعان فكثيرًا ما يُشير إليها وإلى بعض المناطق التي فيها.

ب. لا يُشير الكاتب إلى الأمم المحيطة ببابل بينما يُشير إلى جبال كنعان وتلالها وصخورها وكهوفها وطرقها الجبلية ووديانها.

ج. يتحدث عن حجارة لا توجد في بابل بل في كنعان (إش 48: 19؛ 57: 6؛ 62: 10؛ 51: 1؛ 50: 7).

د. بالنسبة للنباتات أشار إلى نوع واحد من أشجار بابل “الصفصاف” (إش 44: 4)؛ أما أشجار كنعان فيكررها مرات ومرات مثل الأرز والزيتون والصنوبر والآس والزان والسرو الخ…

هـ. بالنسبة للأخشاب، كان البابليون يستخدمون أشجار النخيل في البناء كما في الوقود بينما يُشير إشعياء إلى الأخشاب الكنعانية مثل الأرز والسرو وسنديان والصنوبر (إش 44: 13-16).

و. لم تذكر هذه الأصحاحات نوعًا واحدًا من محاصيل بابل إنما أشارت إلى المحاصيل التي تنمو في كنعان مثل البهرات والكتان والقصب.

ز. ورد بهذه الأصحاحات أكثر من 25 نوعًا من الحيوانات لا يوجد من بينها نوع واحد من الحيوانات الخاصة ببابل، وهكذا بالنسبة للطيور والأسماك.

ح. عندما تحدث عن الأصنام أشار إليها بكونها مُقامة تحت الأشجار (إش 57: 5-7) وفي الكهوف وعلى الجبال والتلال؛ هذا يناسب كنعان أما في بابل فوجدت الأصنام في هياكل ضخمة جميلة.

ط. في تشبيهاته المتعددة عبر السفر كله لم يشر إلى عجائب الدنيا في بابل مثل أسوار بابل الفريدة في سمكها، ومعبد بيل والقصر الملكي لـ Neriglisser و الحدائق المعلقة.

من هذا كله واضح أن الكاتب يعيش في كنعان وليس في بابل أرض السبي كما أدعى النقاد ليعزلوا الأصحاحات (40-46) عن بقية السفر بكون كاتبها إشعياء آخر في أرض السبي جاء في وقت متأخر عن إشعياء الأول.

التفسير الألفي لسفر إشعياء:

بينما ركز آباء الكنيسة الأولى على نبوات إشعياء النبي بكونها شهادة صادقة وأمينة عن شخص السيد المسيح وعمله الخلاصي، يحاول كثير من المفسرين المحدثين صبغه بالفكر الألفي، متطلعين إلى كثير من نبواته على أنها ستتحقق عندما يأتي الرب ليملك ألف سنة على الأرض قبل حلول الضيقة العظيمة.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى الآتي:

  1. تفسير النبوات بطريقة حرفية، مثل إعادة مجد صهيون و أورشليم وغلبة المخلص على الأمم والشعوب المقاومة الخ… هذه المفاهيم ليست إنجيلية، فإن صهيون وأورشليم إنما هما كنيسة العهد الجديد، التي تدعى “إسرائيل الجديد”. أما الغلبة على الأعداء فإشارة رمزية لغلبته على قوات الظلمة بالصليب.
  2. عدم إدراكهم أن الرب قد ملك فعلاً بالصليب على القلوب وأنه أقام مملكته المملوءة فرحًا وسلامًا لا ينطق به.
  3. إن الشيطان قد قُيد بالنسبة للمؤمنين بالصليب، وأننا قد أُعطينا سلطانًا أن ندوس على الحيات والعقارب. (راجع تفسيرنا لسفر الرؤيا ص 19).

أقسام السفر:

يرى علماء اليهود وآباء الكنيسة الأولى أن النبوات الواردة في هذا السفر جاءت حسب ترتيب إعلانها للنبي، وإن كان بعض النقاد الحديثين يرفضون هذا الرأي.

          نبوات في أيام عزيا                   [ص 1-5].

          نبوات في أيام يوثام                   [ص 6].

          نبوات في أيام آحاز                   [ص 7-14].

          نبوات في أيام حزقيا                  [ص 15-66].

ويمكن تقسيم السفر حسب موضوعه إلى ثلاثة أقسام متكاملة تبرز عمل الله الخلاصي. ففي القسم الأول يعلن النبي تأديب الله لكل البشرية – اليهود والأمم – لأن الطبيعة البشرية قد فسدت وصارت في حاجة إلى تدخل إلهي لتقديسها. وفي القسم الثاني يعلن الله القدوس عن إمكانية الغلبة على الأعداء (إبليس وجنوده) وعلى الموت وعلى الأنا بالله نفسه. هذا القسم تاريخي نبوي يظهر أن ما ننعم به من نصرة يتحقق بواسطة ابن داود الذي يموت ويقوم [قصة حزقيا الملك الذي أنعم عليه بـ 15 سنة كرمز لموت المسيح وقيامته]. وفي القسم الأخير يعلن الله القدوس عن تمتع البشرية بالخلاص في مفهومه الواسع، أي شركة المجد الإلهي خلال آلام المسيح وصلبه.

هذه الأقسام الثلاثة هي:

أولاً: القدوس المؤدب                                    [ص 1-35].

  1. نبوات خاصة بيهوذا وأورشليم              [ص 1-12].
  2. نبوات خاصة بالأمم المحيطة                [ص 13-23].
  3. نبوات خاصة بالعالم                        [ص 24-35].

ثانيًا: القدوس واهب النصرة                    [ص 36-39].

  1. نصرة على الأعداء                         [ص 36-37].
  2. نصرة على الموت                          [ص 38].
  3. نصرة على الأنا                            [ص 39].

ثالثًا: القدوس المعزى بالخلاص                         [ص 40-66].

  1. عزوا عزوا شعبي                           [ص 40-44].
  2. هجوم كورش على بابل                     [ص 45-47].
  3. أحاديث الخلاص                            [ص 48-59].
  4. بناء مدينة الرب الجديدة                     [ص 60-66].

يرى البعض أن هذا السفر يمثل الكتاب المقدس كله بعهديه، القسم الأول منه (إش 1-39) يتحدث عن حال إسرائيل قديمًا وما بلغ إليه من فساد وحاجة العالم إلى مخلص إلهي وهو بهذا يمثل العهد القديم، أما الأصحاحات السبعة وعشرون (إش 40-66) فتُشير إلى أسفار العهد الجديد السبعة وعشرين تعالج سرّ الفداء بكل وضوح وتعلن الملكوت المسياني وعطية الروح القدس لإقامة مدينة الرب الجديدة.

فاصل

فاصل

فهرس تفسير سفر إشعياء
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير إشعياء 1
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى