كيف نتعرف على صفات الله

١ – المنهج

عندما نحاول أن تحدد صفات الله ، يجب أن نؤكد ان الكتاب المقدس يعتبر المصدر الأساسى والمعصوم ، للتعرف على الصفات الإلهية. ويتم هذا التحديد بواسطة العقل المستنير بالإعلانات الإلهية فوق الطبيعية . وانطلاقا من علاقة الله بالعالم ، وبالنظر في المخلوقات وفاعلية الله فيها ، يمكن القول أن هناك منهجين بحسبهما نحدد صفات الله :

المنهج الأول (Apagogy):

وهو الانتقال من العام إلى الجزئى ، وقد استخدمه بعض الفلاسفة واللاهوتيين . ويقوم من هذا المنهج على أساس اختيار صفة الصفات الأساسية عند الله ، مثل صفة الوجود بذاته أو الجوهر القائم بذاته ، ومن هذه الصفة يتم بالتدريج استنتاج الصفات الأخرى .

فمثلاً من صفة الوجود القائم بذاته يمكن استنتاج ان الله هو المحرك الأول الذى لا يتحرك . ومن هذه الصفة الأخيرة نستنتج أن الله لا يتغير . ثم صفة السرمدية والبساطة وعدم المحدودية ، وهكذا بالتتابع. 

 

المنهج الثاني (Epagogy) :

وهو الأكثر استعمالا ، فهو يقوم على النظر إلى الخليقة المحسوسة ، ومنها يصل إلى استخلاص الكمالات الإلهية .

ويتحقق هذا المنهج حسب اللاهوت المدرسى ، من خلال ثلاثة طرق :

-1 الإيجاب ( الاثبات ) Via affirmationis

الإيجاب في اللغة هو الإثبات ، وهو فى الفلسفة الحكم بوجود محمول الموضوع ، وهو نقيض السلب ، كما أن الإثبات نقيض النفى، ويسمى أيضا بالسبب Via causalitatis.

والمقصود بالسبب هنا ، ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم.

٢ – السلب Via negationis

 والسلب مقابل للإيجاب . والمراد به انتفاء شيء عن شيء ، وهو الحكم بعدم وجود محمول لموضوع. وهناك كلمات كانت تدل على النفى أو السلب ، مثل : ما ، لم ، لن ، لا ، ليس ، فهى عندما تدخل على القول تجعل معناه سلبيا ، مثل قولنا : ما هذا بشر . لم يأكل . اللامحسوس . اللانهاية . والواقع أنه لا يمكننا أن نتصور السلب بمعزل عن الإيجاب، لأننا لا نستطيع أن ننكر وجود الشيء إلا إذا كان معناه متصوراً في أذهاننا وكما يقول بيرجسون : لولا توهمى أنك تعتقد أن المنصة بيضاء ، أو أنك كنت تعتقد ذلك من قبل ، لما قلت لك أن المنصة ليست بيضاء. ومعنى ذلك أن الحكم السلبي في نظر بيرجسون حكم مشتق أو حكم على حكم ، تنفى به وجود الشيء رداً على القائل بوجوده. فالإيجاب إذن بديهى ، وهو الأصل فى الأشياء ، أما السلب فإنه إضافى.

3- الرفعة والعلو ‏Via eminentiae

والواقع أن هذا الطريق ليس ثالثاً بل هو تكميل للطريق الأول ، بمعنى يخلص الصفات الإلهية من محدوديتها وينسبها إلى الله فى صورتها الكاملة ونموذجها الأسمى . فمثلاً صفة الكمال عندما تنسب إلى الله ، لا تنسب إليه فى المعنى النسبي الذي ينسب إلى المخلوقات ، بل تنسب إليه فى معناها المطلق .

ويعبر ديونيسيوس الأريوباغي عن هذه الطرق الثلاثة على النحو التالي:

1 – التجريد aphersis

2 – التفوق – الامتياز ‏uperochy

3- العلة  أو السبب aitia

وبلا شك ، فإن هذه الطرق الثلاثة ترتبط معا . فإذا كان الله هو علة كل شيء ، أصبح من اللازم أن ينسب إلى الله كل ما هو صالح ومتميز ، مما ينسب إلى الخليقة ذلك لأنه من المستحيل أن تكون العلة أضعف أو أدنى مما تنتجه. 

وعن طريق السلب نبعد عن الله كل نقص ، وكل عدم كمال ، مما يوجد في الخليقة وهكذا نصف الله : بلا بداية لا يفسد ، لا يموت ، غير المحدود ، غير المرئى ، غير المدرك . انظر

‏1- Damasc. mnym. A’4, M. 94, 800.

‏2- Theodor. Hellen. Therap. Pathym. 11, M. 83, 856.

‏3- Dion. Areop. Myst. Theol. 11 . 3, 105.

‏4- M. Basil, against Eunom. 1, 10 M. 29, 533.

 

 

۲ – تصنيف وتقسيم الصفات الالهية

+ بصفة مبدئية ، نقول أن هذا التقسيم لا يوجد بصفة موضوعية في الذات الإلهية . فالصفات الإلهية لا تتميز موضوعيا فيما بينها إلى صفات أعلى وصفات أقل ، أو إلى صفات جوهرية وصفات عرضية ، ولكن هذا يرد إلى محدودية الذهن البشرى ، الذي لا يستطيع أن يدرك فى نظرة واحدة جملة هذه الصفات وعمقها . فالتقسيم إذن هو بسبب مطالب الدراسة والفهم، وهو من صنع الذهن .

يقول الأب جبرائيل فرح :
إننا بحسب فهمنا وتقديرنا للأمور ، نميز بين كمالات الله . فإذا كان هذا التمييز له ما يبرره في مفاهيمنا البشرية ، فإنه لا وجود له فى الله ، إذ أنه كائن بسيط لا تمييز فيه بين كمالاته ، ولا بين طبيعته وكمالاته، فالواقع أن الله ليس فيه الصلاح أو العدل ، بل العدل والصلاح ، وعدله هو صلاحه. أن جميع هذه الكمالات واحدة ، فإذا ما عددناها ، فالأمر يعود إلى عجز عقلنا الذى لا يتمكن بنظرة واحدة أن يتناول الكل الذى هو لا محدود وواحد. 

ويمكن أن نقسم الصفات الإلهية ونصفها على النحو التالي :

أ – صفات سلبية وصفات إيجابية:

والصفات السلبية هي التي تنسب إلى الله عن طريق السلب أو النفى لصفات الخليقة المحدودة والناقصة مثل : بلا ندم – ليس شريراً – غير مضطرب ـ لا يغضب . عديم التأثر . بلا عيب ، وهكذا . انظر : –

‏Greg. Nys. against Eunom. XII, M. 45, 957

وأما الصفات الإيجابية ، فهي التي تعبر عن الكمال الإلهي ، وهى أيضا تستنتج من الخليقة ، ولكن تسند إلى الله فى صورتها الأكمل غير المحدودة وبلا قياس ، مثل : صالح – بار – حی ، انظر :

‏1- Theodor. Hellen. Therap. Pathym. 11, M. 83, 856. 2- M. Basil, against Eunom. 1, 10, M. 29, 533.

وبالنسبة للصفات السلبية ، هناك ملاحظتان :

1- لكى يمكن تمييز الصفات السلبية ، يجب ألا نستند فقط إلى الشكل الحرفى للصفات ، بل نلجأ أيضا إلى المعنى الداخلى لها ، الذى يمكن أن يكون معنى سلبيا ، على الرغم من الشكل الإيجابى للصفة . فمثلاً صفة بسيط ، على الرغم من شكلها الإيجابي ، فإنها تتضمن معنى سلبيا، لأن هذه الصفة، عندما تسند إلى الله ، فهى في نفس الوقت تنفى عنه التركيب والإنحلال .

2- الصفات السلبية بوجه عام ، تميز الله عن المخلوقات المحدودة. وعلى ذلك فهى سلبية من ناحية الشكل ، ولكنها إيجابية من ناحية المضمون والمعنى ، وتناسب بصورة أفضل كمال الله البسيط وغير المحدود ، لأنها تبعد عن معناها كل نقص وكل تحديد ، مما تتصف به الخليقة المحدودة. فالصفات السلبية إذن يعبر عنها في عبارات سلبية ولكنها في نفس الوقت تحمل كمالا إيجابياً .

وهذا أيضا ما يمكن أن نلاحظه بدرجة ما ، بالنسبة للصفات الإيجابية . أنظر :

‏Greg. Nys. against Eunom XII, M. 45, 953.

ب-  صفات تمنح وصفات لا تمنح أو صفات يمكن أن يهبها الله للبشر ، وصفات تختص بالله ولا يشاركه فيها البشر :

 ويتفق هذا التقسيم مع التقسيم السابق للصفات ، فالصفات التي لا تعطى للبشر هي التي تختص بسمو  الله و امتيازه (مثل : البساطة . عدم المحدودية – الوجود بذاته ) ، الصفات التي تدخل ضمن مدلول الصفات السلبية – كما أشرنا سابقاً ـ أي التي ترفع عن الله كل نقص وتحديد تتصف به المخلوقات. أما الصفات التي توهب للبشر، فهي التي تدخل ضمن الصفات الإيجابية مثل : ( القداسة – الصلاح – الحق المحبة ) ، وهي التي يمكن – بدرجة ما ـ أن توهب للكائنات العاقلة.

والبعض يطلق على هذا النوع من التقسيم ، بالصفات المشتركة وغير المشتركة.

ج- صفات تختص بالوجود الإلهى ، ويسميها البعض بالطبيعية natural وصفات تتصل بفعل الله (energy) فى الخليقة ، وتتضمن صفات أخلاقية وأخرى عقلية :

وبلا شك ، إن هذا الفصل بين الوجود والفعل ، هو فصل وتمييز عقلى ، لأنه لا يمكن أن يفهم الوجود الإلهى بلا فاعلية أو عمل

د – صفات نسبية وصفات مطلقة :

ذكرنا أن هناك صفات نتصورها من خلال علاقة الله بالخليقة . وهنا يكون التمييز بين الصفات النسبية والمطلقة . الصفات النسبية تشير إلى علاقة الله نحو ما هو في الخارج ، أما المطلقة ، فهى التى تخص الله ، والتى تتسم بما فيها من امتياز وتفوق . على أننا نلاحظ أن الصفات النسبية هي مثل الصفات المطلقة ، ضرورية وسرمدية . ففعل الخلق مثلاً يكون أيضاً ضمن ما هو ثابت غير متغير ولا يضيف أية إضافة على الجوهر الإلهى.

والواقع ، إننا لا نجد في الكتاب المقدس نهجاً لتقسيم صفات الله ، وإنما لجأ اللاهوتيون إلى مثل هذا التقسيم فى محاولة تفهم الذات الإلهية وصفاتها .

وعلى هذا النحو ، سوف ندرس نحن صفات الله ، وسوف نتبع منهجاً تشترك فيه الطوائف جميعها ، الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية ، من حيث أنها تدرس هذه الصفات بالنسبة للوجود الإلهى فى ذاته ، والصفات الإلهية فى علاقتها بالخارج. 

ولسنا نستطيع الزعم بأن هذا التقسيم كامل ، ويخلو من كل نقص ، ذلك لأن الصفات الأقنومية التى تختص بكل أقنوم على حدة ( مثل الميلاد ، الذي يخص الابن ) ، تدخل ضمن الصفات التي تتصل بالوجود الإلهى. ولكننا آثرنا لحاجتها إلى دراسة مفصلة واضحة ، ان نتناولها فى دراسة مستقلة ، عندما نتحدث عن الثالوث القدوس.

 

3 – الصفات الالهية في علاقتها بالوجود الالهى

 الصفات الإلهية التى تتعلق بالوجود الإلهى ، هي تلك الصفات التي تعطى من قبلنا للطبيعة الإلهية فى ذاتها ، ونحن ننظر إليها منفصلة عن الخليقة . وهذه الصفات تتخذ أساسها من النظر إلى الله ككائن مطلق يكفى ذاته بذاته، ويتجاوز حدود المكان والزمان . وهو الذى بلا احتياج والمغتبط ، وبسبب طبيعته الروحية المطلقة ، لا يرى ولا يدرك من العقل البشرى المحدود. وبكلمات أخرى، فإن الله ذات الكمال غير المحدود ، هو فوق كل ما هو محدود وناقص ، ويملك كل كمال بشكل مطلق ، وتبعا لذلك ، ، فإن الله من حيث أنه لا يعتمد على أحد أو شيء ما ، فهو له وجود ذاتى ، ليس فقط من حيث أنه يوجد بذاته ولا يعتمد في وجوده على آخر ، ولكن من حيث أنه أيضا يعطى الوجود لكل ما هو خارج عنه وقد خلقه من لا شيء . ثم ان الله ، من حيث أنه يتجاوز الزمن فهو بلا بداية ولا نهاية ، سرمدى (أزلى وأبدى) وليس فيه الماضى والمستقبل بل هو حاضر دائم بلا انقطاع ، ولذلك فهو لا يتغير ، لأن كل تغير يعنى الزمن. والله بعيد عن جريان الزمن، لأنه هو الذى خلق الزمن بفاعليته الحرة وبتدخله فى خلقة العالم . والله من حيث أنه يتجاوز المكان المحدود ، فهو لا يسعه مكان، ويوجد في كل مكان ، ولا يحتويه شيء ، ولكنه هو فوق كل شيء ، ويحوى كل شيء دون أن يختلط بشيء ، وهو يملأ الكل. وهو من حيث أنه روح مطلق غير محدود الكمال ، لا يرى ولا يدرك حتى من الملائكة. والله من حيث أنه يملك كل كمال فيه ، دون أن يكون فيه ما يؤسف أو ما هو ليس مرغوب فيه ، فهو لذلك مغتبط اغتباطا مطلقاً. 

هذه هي بعض الصفات التي ترتبط بالوجود الإلهى والتى سوف نتناول الحديث عنها في شيء من التفصيل .

١ – الله غير المحدود وغير المتناهى :

يدعى الله غير محدود ، فهو لا يمكن أن يحده لفظ، وهو مجرد عن كل ما هو محدود و ناقص ، وهو يملك بصورة مطلقة غير محدودة وغير مقيدة كل كمال . له جوهر غير محدود وغير متناه ، أنظر :

‏1- Dion. Areop. M, 4, 41
2- Greg. Naz. Log. 38, 7, M. 36, 317

ويؤكد الكتاب المقدس غير محدودية الله ، على نحو ما يبدو من الآيات التالية :

“عظيم هو الرب وحميد جداً ، وليس لعظمته استقصاء” ( مز ٣:١٤٥ )

“عظيم هو ربنا وعظيم القوة ، لفهمه لا إحصاء ” (مز ٥:١٤٧ )

“هوذا الله عظيم ولا نعرفه ، وعدد سنيه لا يفحص” ( أيوب ٢٦:٣٦ )

وقد نسبت لله وحده الصفات الصالحة بصورة مطلقة ، باعتباره هو مصدرها الوحيد ، كما يبدو من الآيات التالية : 

“المبارك العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب” (١تى ١٥:٦ )

” ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله ” ( مر ۱۸:۱۰ )

“لله الحكم وحده ” (رو ٢٦:١٦ )

“ليس قدوس مثل الرب، لأنه ليس غيرك” ( اصم ٢:٢ )

وهو عظيم جداً لدرجة أن “كل الأمم كلا شيء قدامه ، من العدم والباطل تحسب عنده” ( إش ١٧:٤٠ ) .

وهذا ما أكده الآباء أيضا ، فقد تحدثوا عن عدم محدودية الله . الله بالطبيعة غير محدود ولذلك لا يمكن الإحاطة به ، ولا يمكن لأى لفظ أن يحتويه ، أحد لا يستطيع أن يدرك الله ، فهو خارج عن كل تحديد ولا يمكن أن يحد بأى اسم أو صفة ، وهو على الدوام ملىء بالصلاح ، بل هو ملء الخيرات والصالحات ، وهو كامل بل فوق الكمال وقبل

الكمال . أنظر

‏1- Greg. Naz. Log. 38, 7. M. 36, 317.

‏2- Greg. Nys: against Eunom. 111, M. 5, 601 + 1X, M. 45, 808. about not being three Gods, M. 45, 129.

3- Damas. mnym. A. 5, M. 94, 801.

ويرتبط إدراكنا بعدم محدودية الله ، بإدراكنا لعدم محدودية الكمال الإلهى . إن الله هو الكمال غير المحدود الذى فيه يقوم كل كمال . هو كامل فى النظم ، كامل فى القدرة. كامل في العظمة. كامل فى المعرفة . كامل فى الصلاح . كامل في البر . كامل في المحبة. ليس كاملاً في شيء وناقصاً في شيء آخر، بل هو متشابه مع نفسه في كل شيء. ليس عظيماً في المحبة وصغيراً في الحكمة – بل تتساوى فيه المحبة والحكمة . والواقع ان الله مهما حاولنا أن نصفه ، فليس من الحكمة لنا أن ندركه . ليس نحن فقط ، بل وحتى هو الملائكة ، تعجز عن ذلك . انظر :

‏Cyril. Jer. Catech. V1, 8, 5, 10, M. 33, 552, 542, 553.

٢ – الوجود الذاتى لله (قيام الجوهر الإلهى بذاته):

يرتبط بعدم محدودية الله ، كونه ذاتى الوجود، أو كما ذكرنا سابقاً ، يقوم جوهره بذاته (autousia) . هذه الصفة تختص بالله، ولا يمكن أن تعطى لكائن آخر إلا لله غير المحدود ، الذى له الحياة في ذاته “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته ، كذلك أعطى الابن أن تكون له حياة فى ذاته” ( يو ٢٦:٥ ) “إذ هو يعطى الجميع حياة ونفسا وكل شيء ، وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على وجه الأرض .. لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد ” ( أع ٢٥:١٧- ٢٨ ) .

ويشير القديس أوغسطينوس ، كما لو أن الله هو وحده الذى يوجد ، حتى أنه بالمقارنة به ، فإن الموجودات التي خلقها لا تكون موجودة :

‏August: Psalm. 134, 4, M. 37, 1741.

ويتكلم القديس اكليمنضس الاسكندرى عن الله باعتباره الموجود الوحيد ، الذي كان والكائن والذي سيكون :

‏Clem. Alex. Paid. 1, V111, B. 7, 112.

وتحدث ديونيسيوس عن الله باعتباره الكائن بالحق وعلة المخلوقات :

‏Dion. Areop. about Gods’ names 5, 1V, M.3, 818.

وتحدث القديس أثناسيوس الرسولى عن الله بما يتصف به من حكمة ذاتية وحق ذاتى ، ونور ذاتى وفضيلة ذاتية، وقوة ذاتية وبر ذاتي :

‏Athanas. against Hellen. 46-47, M. 25, 93.

ويتحدث ديونيسيوس الأريوباغي عن الله ، أيضا بصورة مشابهة للقديس أثناسيوس  الرسولى ، فهو حى بذاته وصالح بذاته وحكيم بذاته :

‏Dion. Areop. ibid 2, 1, 8+ 5, 5, M. 3, 636, 645, 820.

 ويوحنا الدمشقي ، بالإضافة إلى الحديث عن الله ، باعتباره حياً بذاته ونوراً بذاته . وصالحاً بذاته ، يستعمل أيضا كلمة الجوهر القائم بذاته (autousia) :

‏Damas. mnym. A, 8, M. 94, 808.

وكان أنسلم أول من أدخل فى الغرب الكلمة المرادفة “aseitas” التي تعنى القيوم أو القائم بذاته

وفى المعاجم الفلسفية ، فإن الموجود بذاته، هو الذى لا يستمد وجوده إلا من نفسه ، وليس له سبب متقدم عليه ، لا فاعل، ولا صورة ولا مادة ، ولا غاية ، وهو المحرك الأول والواجب الوجود ، وهو الموجود الذي لا يجوز مطلقاً افتراض أنه غير موجود ، وهو المبدأ الأول.

3 – مكتف بذاته :

ومن بين الصفات التي يدركها الإنسان بعقله عن الله ، الاكتفاء الذاتى لدى الله الله مكتف بذاته . ويؤكد الكتاب المقدس هذا المعنى كما يبدو من الآيات التالية :

“أنت يا إله الجميع الذى ليس لك احتياج إلى شيء”  (مكا ٣٥:١٤ )

“ولا يخدم بأيادى الناس كأنه محتاج إلى شيء ، إذ هو يعطى الجميع حياة ونفساً وكل شيء” ( أع ٢٥:١٧ )

“لأن لى المسكونة وملأها. هل أكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس” ( مز١٣:٥٠)

ونحن نعبد الرب ، ليس لأن الرب فى حاجة إلى عبادتنا ، بل لأننا نحن الذين نحتاج إلى المشاركة فى نعمه وهباته السماوية . انظر :

‏Chrys. Psalm. 144, 4, Monf. 5, 560

على ان الإكتفاء الذاتى لدى الله ، لا يفهم فهما أنانياً ، كما هو الحال عند بعض الفلاسفة ، حيث يكون الله مغلقاً على ذاته ، بل على عكس ذلك ، فإن الله يهب محبته لخليقته  دون أن يظهر أى احتياج لشيء مقابل : 

‏Athanas. against Hellen. 28, M. 25, 56.

وعلى الرغم من أن “الرب عال فوق كل الأمم ، فوق السموات مجده ” “الساكن في الأعالى” ، إلا أنه هو أيضا “الناظر الأسافل فى السموات وفى الأرض . المقيم المسكين من التراب ، الرافع البائس من المزبلة ليجلسه مع أشراف ، مع أشراف شعبه المسكن العاقر فى بيت أم أولاد فرحانة ( مز ١١٣: ٤-٨) “لأنه هكذا قال العلى المرتفع ، ساكن الأبد ، القدوس اسمه . فى الموضع المرتفع المقدس اسكن ، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين” ( إش ٥٧: ١٥)

إن الكتاب المقدس يؤكد على أمرين:
الأمر الأول، هو عدم احتياج الله واكتفائه بذاته.
الأمر الثانى ، أنه يهب للجميع كل شيء . انظر :

‏Cyril. Acts 38, 3, Monf. 9, 321.

٤- الله سرمدى ( أزلي أبدى):

إن الله ، هذا الكائن المطلق الذى يوجد بذاته وليس له احتياج للغير ، لا يمكن تصوره ، إلا أنه – من الناحية السلبية – يتجاوز الزمن الذى فيه تقوم وتتحرك الموجودات التي خلقها ، و ـ من الناحية الإيجابية – فهو يملأ الزمن وهو حاضر الزمن في أية – لحظة من اللحظات.

وفي كلمات أخرى : الله بلا بداية وبلا نهاية . الله يختلف عن الإنسان ، فهو لم يولد ولم تكن له بداية فى زمن ، ولن تنتهى حياته مثل الإنسان ليبدأ فيما بعد حياة أخرى تتبع هذه الحياة . انظر :

‏Curil of Jer. Catech. 1V, 4 M. 33, 457.

الله إذن أزلى أبدى ، ويعبر الكتاب المقدس عن سرمدية الله في العبارات التالية : “قبل أن تولد الجبال أو أبدأت الأرض والمسكونة ، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله” (مز ۲:٩٠)

“أما أنت يارب فإلى الدهر جالس وذكرك إلى دور فدور” (مز ۱۰۲: ۱۲ )

“إلى دهر الدهور سنوك. من قدم أسست الأرض، والسموات هي عمل يديك. هی تبيد وأنت تبقى وكلها كثوب تبلى كرداء تغيرهن فتتغير. وأنت هو وسنوك لن تنتهى” (مز ٢٤:١٠٢-٢٦ )

“الذي وحده له عدم الموت” (١تى ١٦:٦ )

“لأن ألف سنة فى عينيك مثل يوم أمس بعد ما عبر ، وكهزيع من الليل” ( مز ٤:٩٠ ) (أى أن كل الزمن ليس شيئاً أمام الله)

“إن يوماً واحداً عند الرب كألف سنة ، وألف سنة كيوم واحد ” (٢بط ٨:٣ )

+ عندما نتحدث عن الأبدية ، فنحن ككائنات محدودة نتحرك في زمن ، نعجز عن أن نكون التصور السليم عن الأبدية ، ونتصورها كمجرد تتابع غير محدود وغير نهائى للحظات الزمنية . لكن الله يتجاوز الزمن بصورة مطلقة ، ولا يوجد بالنسبة له زمن ولا جزء من الزمن، فهو لا يخضع للحساب الزمني :

‏Greg. Theol. Log. 38, Ch 8+ 7, M. 36, 320, 317.

 وكما يلاحظ Bartmann ، ان مفهوم الأبدية ، تكون لدينا من خلال إدراكنا للزمن ، وهو فى تصورنا أطول مدة من الزمن ، ومن أجل ذلك، فإننا لا نعبر تعبيراً سليماً عندما نتكلم عن الله الذي هو بلا زمن وبلا بداية وبلا نهاية ، فنتحدث أبدية الله فقط في مقابل المخلوقات الزمنية.

وكما تشير المعاجم الفلسفية ، فإن الأبد هو مقابل للزمان. فكل حادث وكل موجود ومتناه هما فى الزمان . أما الموجود الأبدى فليس حادثاً وليس له قبل ولا بعد ، بل هو الحاضر الأبدى وهو فوق الزمان. وعلى ذلك ، فالفرق بين الأبد والزمان ليس بالرتبة والمقدار (كالفرق بين العدد الغير متناهى والعدد المتناهى) وإنما هو بالطبع ، لأن أحدهما غير منقسم والآخر منقسم إلى غير نهاية ، وليس بينهما مقياس مشترك . إن هذا الأبد اللازماني هو المعنى الذى أخذ به توما الاكوينى وديكارت ومالبرانش وليبنتز وكانت وغيرهم.

إن الأبدية حسب رأى القديس أوغسطينوس هي جوهر الله ، وهو لا يقبل التغير وليس فيه ماض ولا مستقبل ، بل هو حاضر دائم :

‏August: Psalm. 101, 2, 10. m. 37, 1311. Conf. X1 C. 13, 16, m. 32, 815.

يقول الأب جبرائيل فرح :

التعاقب ليس له محل فى وجود الله . وديمومته لا تخضع للزمن مع ماضيه ومستقبله ، فإنه يتمتع بنوع كامل في حاضر دائم بكل حياته. والعنصر المقوم الأساسي لهذه الأزلية هو امتلاك الكيان امتلاكاً يشمل فى آن واحد الماضى والحاضر والمستقبل ، حتى إن كل ما في الزمن حاضر لدى الله منذ الأزل . إن الله هو خارج الزمن في حاضر دائم أبدى والبرهان على ذلك أن الوقت قابل للتجزئة ومعناه التبدل والتتابع والصيرورة ، وهو مكون من ماض قد انقضى ومستقبل لم يحن بعد ، ومن حاضر يتهرب بين الماضى والمستقبل، فهو إذن غير كامل ، والله هو الكمال بالذات. ويقول أيضا : مما يساعدنا على تكوين فكرة عن مفهوم الأزلية ، الحقائق الأبدية ، التي هي هكذا في الماضى والحاضر والمستقبل، والتي تفلت من إطار الزمن. فهذه الحقيقة مثلاً ( الجزء أصغر من الكل ) ، تتملص من الزمن ، فإنها حقيقة قبل وبعد ألوف السنين ، وستبقى حقيقة في حاضر دائم أبدى.

يقول الرسول بولس “وملك الدهور الذى لا يفنى” (١تى ١٧:١ ).

وبالنسبة إلى أوشليم السماوية ، يقول الرسول يوحنا و لا يكون زمان بعد » ( ١٠: ٦)

+ وإذا كان الزمن لا يوجد بالنسبة لله ، فليس فى الله تغير أو تتابع لأن هذه الأمور تخص الزمن فإن الله عندما خلق العالم ، أخذ الزمن بدايته ، ولذلك فإن الله هو ملك الأزمنة والدهور ) انظر :

‏Dion. Arepop. about Gods’ names. Ch. 5, 1V, M. 3, 817.

+ هناك جانب إيجابى لأبدية الله. فإن الله الذى هو فوق الزمن ويتجاوزه ، يتجه في محبة ورفق نحو المخلوقات الزمنية التي أخذت وجودها منه حسب مشيئته . وهكذا فإن أبدية الله غير الزمنية لا تعوق فاعليته في مجرى الأحداث التي تتم في زمن . إنه ينظر إلى المخلوقات الزمنية من خلال نوره الأبدى ، ولكن ليس للزمن أى تأثير عليه .

ه – الله لا يتغير :

+ إن التغير من الوجهة الفلسفية – هو كون الشيء بحال ، لم يكن له من قبل ذلك ، أو انتقال الشيء من حالة إلى حالة أخرى . ومن التغير ما يكون في الجوهر، وهو الذي يسمى بالكون المطلق والفساد المطلق ، ومنه ما يكون فى الكيف وهو الذي يسمى استحالة، ومنه ما يكون في الكم وهو الذي يسمى انتقالا ، ومنه ما يكون في الزمان وهو الذي يسمى تتابعا.

وعلى ذلك يمكن القول ، إن صفة الثبات وعدم التغير ، ترتبط مع صفة السرمدية ، ارتباطا لا ينفصل . فالجوهر الإلهى لا يتعرض لأى نوع من أنواع التغير ، وكما يشير القديس كيرلس الأورشليمى ، لا تعتريه أية زيادة أو نقصان ، بل يظل على الدوام كما هو وعلى النحو الذي كان عليه :

‏Cyril of Jer. Catech. 1V, 4, 5. M. 33,457, 460.

والرسول يعقوب ، يعبر عن هذه الصفة فيقول “الذى ليس عنده تغيير ولا ظل دوران” ( یع ۱: ۱۷ ) .

وجاء في نبوة ملاخى “لأنى أنا الرب لا أتغير” ( ملا ٦:٣ ) .

+ إن عدم التغير ـ كما قلنا – يرتبط ارتباطاً جوهرياً بسرمدية الله ، ذلك لأن أى تغير في الذات الإلهية يعنى أننا ندخل فيها عنصر الزمن . فإذا قلنا بسرمدية الله ، نقول حتماً وفى نفس الوقت بعدم التغير . انظر :

‏1- Greg. Nys. against Eunom. 1, M. 45, 434.
2- Tertull. adver. Prax. XXVII. m. 2, 214.

إن عدم المحدودية التي يتصف بها الله لا تقبل زيادة أو نقصان ، فإذا كانت اللامحدودية تقبل زيادة ، فقد توقفت عن أن تكون كذلك ، كذلك فإن اللامحدودية لا تقبل النقصان ، فهى من حيث أنها كمال غير محدود ، لا تطرح شيئاً منها ، وليس فيها ما يطرح . انظر :

Greg. Nys: against Eunom X11, M. 45, 933 + 11, M. 45, 471.

وإذا قيل أن الله يقبل الحركة “اقتربوا إلى الله فيقترب إليكم”( يع ٨:٤ ) ، فهو إذن متغير، فيرد على ذلك الأسقف إيسيذوروس فيقول : نسلم أن الحركة تنسب إلى الله بطريق المجاز فقط ، لأن الحركة من مستلزمات المادة وما يقابلها كالروح المخلوقة فقط ، ولكن الله منزه عن المادة ، وليس هو في مقام الروح المخلوقة ، وهذه لا تتحرك إلا بما لها من القوة على الحركة ، ولذا فهي في امكانها أن تتحرك وأن لا تتحرك ، كما كان فى الإمكان أن توجد مبدئياً وأن لا توجد ، وذلك بخلاف الله ، الذي هو فعل محض لا تخالطه قوة ولا تنسب إليه حر ركة ما ولا تغيير . والرسول يعقوب ما عنى بقوله هذا أن  يشير إلى الحركة والانتقال ، بل العناية والحفظ والنعمة التي يشمل بها الله الطائعين ، ويحجبها عن العاصين المتمردين، وذلك على قياس قوله “دخلت الشمس الغرفة وخرجت من الغرفة”. وأنت تعنى بذلك ، نورها واشعتها فقط دون قرصها.

+ إن التغيرات التي ترتبط بفعل الله فى الخلقة وفى تدبيره للعالم ، ترتبط بالعالم وبالإنسان ، أما بالنسبة لله ، فهو يظل دائماً لا يتغير . ولقد تحدث owen في هذا الشأن فقال : هو هو

إذا ظن البعض أنه بميلاد الكلمة ابن الله ، وبخلقة العالم ، حدث تغير في طبيعة الله ، فإننا نجيب بالآتى :

إن ميلاد الإبن هو ميلاد جوهرى وأزلى فى جوهر الله وهو ليس له بداية ولن ينتهي أبداً. وعلى ذلك فإن هذا الميلاد لا يتسبب عنه أى تغيير في طبيعة الله . وأما بالنسبة إلى الخليقة ، فإنها تغيير علاقة وليس تغيير طبيعة ، كما يلاحظ يوحنا الدمشقى ( ٨:١ ) . وانظر ايضاً :

‏Origen: against Cels. IV, 14. B. 9, 242.

وبلا شك ، فإن عدم تغير الله ، عند علاقته بأمور زمنية ، مثل خلقة العالم وخلقة الإنسان، تظل بالنسبة لنا سراً غامضاً يصعب إدراكه . إنه يصعب علينا أن ندرك كيف أن أعمال الله الحرة التي تتم فى زمن، تتفق مع العمل الإلهى الأزلي الخالص البسيط (actus purus) وتكون معه وحدة لا تنفصم ولا تنقطع ، وعلى أية حال ، فإن الله لا يتغير بمجرى الأحداث التي تختص بالعالم وبالإنسان . إن عمل الله بسيط ولا تتغير بساطته بسبب خلقته وتدبيره للعالم ، مثل الشمس التي تسقط أشعتها فى كل مكان ودائماً ، ودون أن تتغير طبيعة أشعتها ، فإن تأثيرها يختلف من شيء إلى شيء ، حسب طبيعة هذا الشيء ، فقد تكون مبعث حياة بالنسبة لشيء وموت بالنسبة لشيء آخر. ومع ذلك فإن التأثيرات المختلفة لأشعة الشمس لا تتعارض مع طبيعة أشعة الشمس الواحدة ، فأشعة الشمس هى هى على الرغم من تأثيرها المختلف. هكذا الأمر أيضا بالنسبة لبساطة العمل الإلهى الأزلى ، فهو هو لا يتغير على الرغم من الأعمال الإلهية المختلفة التي تتم في زمن .

إن كل ما يفعله الله فى زمن ، هو معروف لدى الله منذ الأزل في خطته السرمدية . وأيضا فى تجسد الكلمة لم يحدث أى تغيير فى الطبيعة الإلهية باتحادها بالطبيعة الناسوتية ، وفق ما نقول ( بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ) . إن خطة الله للخلاص بواسطة المسيح وجدت عند الله منذ الأزل و لم تنشأ فيما بعد ، أى لم تحدث إضافة أو زيادة في خطة الخلاص الإلهى ، حتى يقال أنه قد حدث تغيير في الله ، بل ـ كما لاحظ القديس أوغسطينوس ـ أن محبة الله أيضا نحو البشر لم تتغير ، لأن الله كما يبدو من ( رو ٨:٥ ) “بين محبته لنا . لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا”، أي أن محبة الله لنا لم تنشأ فيما بعد عندما تجسد المسيح وصلب عنا ، بل قبل تكوين العالم . انظر :

‏August, in John. 110, 6 m. 35, 1923.

+ فإذا تحدث الكتاب المقدس عن غضب الله وندامته ، فهذه وغيرها انفعالات بشرية ، استعملت للتعبير عن مواقف الله تجاه البشر ، ولا تعنى مطلقاً أن تغييراً ما قد دخل من الخارج على الطبيعة الإلهية ، التي كما قلنا هي طبيعة لا تتغير ولا تتأثر بشيء ما.

إن العمل الإلهى، الذى يظل كما هو على الدوام، ولا ينتقل من حال إلى حال أو لا يصير شيئاً لم يكنه من قبل هذا العمل الإلهى على الرغم من أنه عمل واحد في طبيعته ، يؤثر على البشر تأثيراً يختلف من شخص إلى شخص ، تبعاً لأختلاف الأشخاص كما يحدث بالنسبة لأشعة الشمس الواحدة ، التي يختلف تأثيرها تبعاً لأختلاف الأشياء التي تقع عليها ، فنتحدث عن تأثيرات مختلفة لأشعة الشمس ، دون أن نتحدث عن اختلاف في أشعة الشمس ذاتها.  

إن العمل الإلهى يحيى الإنسان وينيره ، إذا كان الإنسان يستجيب لهذا العمل ويتقبله ويفتح قلبه لروح الله فتعمل في داخله ، ولكن من ناحية أخرى ، فإن هذا العمل الإلهى بعينه ، يظلم هذا الشخص عينه ويظهر فى صورة غضب إلهى ينزل عقابه عليه ، عندما يتغير هذا الشخص ويغلق قلبه عن العمل الإلهى ، ويقاوم روح الله القدوس . وعلى هذا فإن التغيير يحدث فى الإنسان نفسه وليس في الله . انظر :

‏August, Sermon XX11. 6, 38, m. 152

وكما يقول القديس أوغسطينوس ، فإن أشعة الشمس تبدو هادئة إذا سقطت على العيون السليمة ، بينما تكون كالسهم المؤلم للعيون المريضة :

‏August, Ps. 72, 7. m. 36, 918.

وعلى هذا النحو ، فإن العمل الإلهي يظهر في صور مختلفة ، فهو يختلف في علاقته مع الإنسان الخاطيء عنه في علاقته مع الإنسان ذات الاستعداد الطيب ( أو مع الإنسان التائب). لكن العمل الإلهى نفسه يظل عملاً ثابتاً لا يتغير ولا يمس ، فما يوصف به الله من رضی أو غضب ، يعكس أحوال الإنسان المختلفة من فضيلة أو رذيلة ، دون أن يعنى ذلك أن تغييراً ما قد حدث فى الله أو في الطبيعة الإلهية . انظر : 

‏Damasc. against Manich. 80, M. 94, 1580.

ويقول الأب جبرائيل فرح : إن المرآة تُظهر لنا تارة وجها غاضبا ، وطورا ، وجها حكيما ساكنا. إن التبدل الطارىء لا يعزى في هذه الحال إلى المرآة التي لا تتبدل ، بل إلى الإنسان ذاته المتبدل.

٦ – حضور الله فى كل مكان :

الوجود في كل مكان Ubiquity ، هو اصطلاح لاهوتي يرادف لاصطلاح الحضور الكلى omnipresence ، أى أن الله موجود بكليته في كل مكان.

وكما أن الله يتجاوز كل تحديد زمنى ، هكذا فإن الله هو فوق كل تحديد مكاني. الله إذن لا يوصف فقط بكونه بلا زمن ، وأبدى وغير متغير، بل أيضا هو حاضر في كل مكان كروح مطلق غير محدود .

إن كون الله غير محدود ، يجعل صفة “الوجود فى كل مكان” تحسب ضمن الصفات التي تتصل بالوجود الإلهى أو بالكيفية التي يوجد عليها الله. إن صفة الوجود في كل مكان ، هى بعينها صفة لا محدودية الجوهر الإلهى.

إن الله غير المحدود ، منظورا إليه فى ذاته ، يدرك على أن الابن في الآب والروح القدس ، والآب والروح القدس فى الابن ، والروح القدس في الابن والآب. ولا يجب أن تدرك الأقانيم كأنها أوان فارغة يمتلىء بعضها ببعض، كما لو ان الابن مثلا يملأ فراغ الآب ، والآب يملأ فراغ الابن ، وأن واحد من الأقانيم الثلاثة ليس ملئا وليس كاملاً، فهذا يجعلها تشبه الأجسام ، ولكن الآب ملء وكامل ، والابن ملء اللاهوت ، وكذلك الروح القدس . انظر :

‏Athanas. Log 111 against Arian, 1. M. 26, 324.

وأما بالنسبة إلى الخليقة ، فإن الحضور فى كل مكان ، يمكن أن يفهم أولاً سلبيا ، بمعنى ان الله لا يسعه مكان ، وليس مغلقا في أماكن معينة ، وهو ليس محتوى بواسطة شيء ما ، ولكنه هو كائن فوق الكل ، لا يحصره مكان ما . انظر :

‏1- Clem. Alex.: Strom. VII, 35. ‏Strom. 11, 6, B. 8, 261 + 7, 309.

‏2- Athanas Nic, 11, M. 25, 433.

‏3- Damas. A, 13, M. 94, 852.

وأما إيجابيا ، فهو يعنى أن الله يوجد فى كل مكان ويملأ الكل ويحوى كل شيء ، دون أن يحويه شيء . وهو يوجد فى كل شىء بقوته وصلاحه ، وفى نفس الوقت يكون خارجا عن كل شيء بطبيعته . ولا يوجد مكان فى الخليقة يخلو منه . انظر :

‏1- Damas., ibid.

‏2- Athanas, Incarnation of the Divine Word, 8 M. 25, 109.

ويفرق زيكوس الروسى بين الصفتين : “لا يسعه مكان”، و “حاضر في كل مكان”. فالأولى يمكن أن ينظر إليها كصفة مطلقة لله ، والثانية ينظر إليها كصفة نسبية لأنها تتحدث عن علاقة الله بالنسبة للعالم الذى يوجد في كل مكان . والأولى الله ترفع عن وحدة الوجود وكونه مختلطا ومتحدا بالعالم ، والثانية ترفع عن الله القول بوجود مبدئين أو إلهين . الأولى تظهر الله فى سموه عن العالم ، والثانية تشير إلى حضور الله في العالم.

+  و من شواهد الكتاب المقدس ، عن حضور الله فى كل مكان ، نذكر بعض الأمثلة:

“هكذا قال الرب. السماوات كرسى والأرض موطىء قدمي. أين البيت الذي تبنون لى ، و این مکان راحتی” (إش ٦٦: ١)

“لأنه هل يسكن الله حقا على الأرض. هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك ، فكم بالأقل هذا البيت الذي بنيت” (١مل ۲۷:۸ )

“العلى إله من قريب يقول الرب ، ولست إلهاً من بعيد . إذا اختباً إنسان في أماكن مسترة ، أفما أراه يقول الرب . أما أملا أنا السماوات والأرض يقول الرب” (إر ٢٣:٣٣، ٢٤ )

“أين أذهب من روحك ، ومن وجهك أين أهرب. إن صعدت إلى السماوات فأنت هناك. وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصى البحر ، فهناك أيضا تهدينى يدك وتمسكنى يمينك” ( مز  ٨:١٣٩ -.١ )

إن حضور الله فى كل مكان ، يجب أن لا يؤخذ على أنه فقط حضور بالقوة أو أنه حضور مختلط ومتحد بالعالم ، كما هو الحال فى مذهب وحدة الوجود . وبالنسبة للرأى الأول الذى يحدد الحضور الإلهى فى ( قوة الله ) تمتد فى كل مكان ، كما لو أنها مرسلة للعالم من بعيد ، أو الرأى الثانى الذى بحسبه يتجزأ الله ليقابل أجزاء العالم المتحد به . هذان الرأيان : يرفضهما آباء الكنيسة الذين علموا بحضور الله في كل مكان ، ليس بقوته فقط ، بل أيضا بجوهره . وفى نفس الوقت فإن الله يسمو عن المادة ولا يختلط بالعالم ، فهو روح بسيط غير قابل للتجزئة والانقسام . انظر :

‏1- Damas. mnym. A, 13. M. 94, 852.
2- Athanas. against Arian. 111, 22, M. 26, 369.

ويشير الايغومانس ميخائيل مينا ، ان حضور الله فى كل مكان يتحقق على النحو التالي :

أولاً : بقدرته وعنايته
 ثانياً:  بمحاضرته ، لأنه يرى جميع ما في الكون كرؤية العين ما يقابلها .
ثالثاً : بذاته وجوهره (دون أن يقصد هنا ما قصده أصحاب مذهب الحلول ، وهو الاعتقاد بأن الله حال فى كل شيء ، وفى كل جزء من كل شيء ، حتى صار يصح أن يطلق على كل شيء أنه الله ، فذلك باطل . كذلك ليس المراد أمتداد جوهر الله وأنبساطه كالنور والهواء ، حتى يكون منه جزء فى مكان وجزء فى مكان آخر ، فالله ليس جسما قابلا للامتداد والانقسام ولكنه حاضر فى كل مكان بكمال جوهره وذاته لأنه غير متناه ) . وقد يشبه وجود الله بكليته فى كل مكان كوجود النفس بكليتها في كل جزء من الجسم.

وكتب الأب جبرائيل فرح :
الله الذي هو خارج حدود الزمن بأزليته ، يفلت أيضا من حدود الفضاء بحضوره اللا محدود. انه في كل مكان ، ليس على طراز الأجسام التي هي محددة بمساحتها ، بل على طراز روح تنفذ كل الجسم الذى تحييه بدون ان تختلط به . الله حاضر في الكون وفى خلائقه الكائنة بقدرته التى يخضع لها كل شيء ، وبمعرفته التي يعرف بها كل شيء، 
وبجوهره الذى به كعلة ضرورية مستمرة يمنح الوجود لكل شيء . ولا تحرم جهنم من وجود الله ، فإنه يحكم ويوجد فيها بعدله . والله الذى يملأ الفضاء ليس محصوراً به . أنه أوسع من الفضاء بنوع لامتناه . والله كله فى الفضاء وفى كل نقطة منه ، ، فإن البسيط المطلق الذي هو الله غير قابل للتجزئة . فكما أن النفس البشرية من جرى بساطتها . هي في كل الجسم وفى كل جزء منه ، كذلك الله تعالى، فإنه ، نظراً لبساطته المطلقة حاضر فى الكون كله وفى كل جزء منه.

ويقول الأسقف إيسيدوروس:
لقد قلنا ان الله حاضر فى كل مكان. وهذا القول يتطلب أن يكون الله بسيطا وينفى أن يكون الله مركباً . لأن ما هو مركب لا يمكن أن يشغل كل مكان، ما لم تكن بعض الأجزاء المركبة له ، موجودة فى مكان وبعضها الآخر فى مكان آخر . وهذا دليل التناهي ، ان الله عديم التناهى …. إن بساطة الله – إذا قسناها بالمادة والجسم، تعنى ان الله يخلو من أجزاء أو عناصر، مما تتركب منه المادة، وإذا قسناها بالنفس العاقلة ، فإنها تخلو من القوة والفعل نظير النفس ، لأن الموجود بالقوة ) بالطاقة – بالإمكان ) لا يخرج إلى الفعل ، إلا بموجود بالفعل ، فلا معلول بلا علة. وعلى ذلك ، فالمبدأ الأول موجود بالفعل دون القوة، وهو خال من التركيب، وبسيط . ( المطالب النظرية ص ٢٩٥ ، ٢٩٣ ، ٢٩٤)

وجاء في كتاب علم اللاهوت النظامى للكنيسة الإنجيلية. عن حضور الله في كل مكان : إنه موجود مع كل خلائقه فى كل زمان ومكان ، وذلك بجوهره التام ، لا بمجرد صفاته فقط ، كعلمه وقوته ، وإلا فيكون جوهره محدوداً . فتعليم البعض أن الله موجود بجوهره في السماء فقط وفى بقية الأماكن بمجرد صفاته ، مناقض لكمال اللاهوت والتعليم الإلهى . أما من جهة حضوره باعتبار إظهار ذاته أو إجراء قوته ، فذلك يختلف زماناً ومكاناً ، لأنه يظهر قوة عجيبة في زمان ومكان لا يظهرها في غيرهما . وبهذا المعنى ، الله يحضر في كنيسته دون العالم، ويحضر فى جهنم بإجراء القصاص على الشياطين والأشرار ، على هيئة تختلف عن حضوره فى السماء حيث يظهر محبته ومجده (ص ٢٤٣)

+ وحسب المدرسيين ، هناك أنواع ثلاثة لحضور الله :

۱ – Localiter ( أو Circumscriptive) مكاني ، وهو الحصر في مكان أو موضع أو دائرة مخصوصة. جعل الشيء محليا. حد. تحديد 

‏۲ – definite محدد

‏- repletive مالئ

هذا عن الله وفى هذا المعنى الثالث ، يكون الله حاضراً فى كل مكان . فالله حاضر ولكن ليس مكانيا localiter ، مثل الجسم الذى يملأ كل جزء من أجزائه امتداد ما وليس حضوراً محدداً محصوراً ، مثل حضور النفس في الجسد ، فهى توجد بكاملها في كل جزء من أجزاء الجسم ، كما توجد بكاملها فى الجسم كله ، ولكن لا يمكن أن يقال ، وإن كان بصورة ما ، يُشبه وجود الله فى العالم بوجود النفس فى الجسم . وحقيقة ، مثل النفس فى الجسد ، هكذا الله فهو حاضر فى كل مكان بكامل جوهره . على ان النفس ليست أيضا خارجه عن الجسم ، بينما أن لا محدودية الله ، وعدم تحديده ، لا يقبل أن يكون الله مثل النفس – محصوراً فى مكان . لأن الله يسمو ويعلو عن العالم ولا يمكن أن يحصر فيه. ان الله فى حضوره يملأ كل شيء (replitive) دون أن يحصر فى مكان ما. والواقع ان هذه الحقيقة الخاصة بحضور الله ـ قد نبه عليها – قبل المدرسيين – يوحنا الدمشقى : –

‏Damas. A, 13, M. 94, 856

– ان حضور الله فى كل مكان كما قلنا يجب أن لا يدرك حسب المفهوم الرواقى ، أو حسب قول أصحاب مذهب وحدة الوجود ، الذين ينظرون إلى الله كأنه نفس العالم، ويكون فى هذه الحالة محصوراً بالعالم. إن الله حسب العلامة أوريجينوس ، روح ، ويجب أن لا يفهم فهما ماديا :

‏Orig. against Cels VI, 71, B, 10, 114.

وعلى الرغم من أن الله حاضر فى كل مكان ، فإن جوهره يظل نقيا غير مختلط بشيء آخر . انظر :

‏1- Cyril of Alex. Thys. Log. VI, M. 75, 73.
2- Chrys Ps. 143, 2 Monf. 5, 556.

+عندما نقول ان الله حاضر بقوته، يجب أن لا ننسى أن الله بسيط في جوهوره وليس مركباً أو مكونا من صفات. وعلى هذا النحو، فحيث تكون قوة الله، هناك بالضرورة أيضاً يكون جوهره. وإذا قلنا أن الله حاضر في كل مكان بجوهره، فيجب أن نحذر من الأنزلاق في رأي أصحاب مذهب وحدة الوجود الذي يخلط الله بالمادة، وهكذا نعطى الله معنى الكمية والمقدار . وبحسب القديس كيرلس الاسكندرى ، فإن الله لا يحصر في مكان ولا يخضع للكم، وليس هو جسداً.

‏Cyril Alex. Abbakoum XXXX, 1, M. 71, 897.

+ وعندما نقول ان الله يسكن فى السموات ، وهناك يوجد عرشه ، فإن الكلمات هنا لا تؤخذ بالمعنى الحرفى ، بل بما ترمز إليه ، من حيث أنها تشير إلى سمو الله وإلى قوته . ففى السماء يعمل الملائكة حسب مشيئة الله ويمجدون اسمه . انظر :

‏1- Chrys. Ps. 9, 6 Monf. 5, 122.
2- Damas. mnym. A, 13, M. 94, 852.
3- Athanas. against Hellen. 42, M. 25, 84.

7 – الله لا يرى ولا يدرك :

ان الله باعتباره جوهراً روحياً خالصاً ، فهو لا يدرك ولا يرى . ولقد تحدثنا فيما سبق ، بما يكفى عن عدم القدرة على إدراك الله إدراكاً تاماً . وبالنسبة لعدم رؤية الله فهذا أمر طبيعي ، بسبب طبيعة الله الروحية .

والقديسان أثناسيوس الرسولى وأغريغوريوس النزينزي ، يشيران إلى أن الله روح لا جسم ، لا يرى ولا يحد . انظر : 

‏1- Athanas. against Hellen. 26, M. 25, 56.

‏2- Greg. Naz. Log. 28, 7, M. 36, 33.

إن الله ليس شبيها “بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعة واختراع إنسان” ( أع ۲۹:۱۷ ) ، ولأجل هذا ، شدد الله على بني إسرائيل قائلاً و لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً ولا صورة ما ، مما في السماء من فوق وما فى الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن ) ( خر ٥،٤:٢٠ ). 

هناك من أخطأ فنسب لله جسما مضيئا بسيطا لا يفسد :

‏Tertull. Adver. Masc 1, 16, m. 2, 289.

إن الله ليس له جسم على الإطلاق، مهما أمكن تصور هذا الجسم . وهو لا يرى . ومن يطلب رؤية الله فهو يجهل طبيعة الله لأنه يجعل غير المرئى مرئياً :

‏Chrys. Ps. 143, 2 Monf. 5, 555.

وأكد السيد المسيح أن أحداً لم ير الله. وما يشار فى الكتاب المقدس عن رؤية الله أو ظهوره ، فإن من يقال عنه أنه رأى الله ، فإنه لا يراه في طبيعته اللاهوتية ، بل يرى ما هو على مثال الله ، أو يرى ما يظهر فيه الله على مثاله :

‏1- Zigabynos, M. 129, 1128.
2- Theoph. M. 123, 1164.

وهكذا فإن إبراهيم لم ير الله كإله، بل رآه كإنسان. وعلى هذا النحو ، يمكن أن يقال عن يعقوب وإيليا وإشعياء وحزقيال ، فهؤلاء لم يروا الرب نفسه . لقد رأى حزقيال ما يشبه مجد الرب لا مجده الحقيقى نفسه . انظر :

‏1- Greg. Naz. Log. 28, 18, 19, M. 36, 49.
2. Cyril Jer. Catech. IX, 1 M. 33 637

إن عيون البشر المحدودة لا تستطيع أن ترى الله. وإذا كان يستحيل علينا أن نرى الشمس بصورة مباشرة ، فكيف يكون الأمر بالأكثر بالنسبة لله . إن حزقيال النبي لم ير مجد الله نفسه ، بل رأى ما يشبهه ، ومع ذلك سقط من الخوف ( حز ۱: ۲۸ ) ، فكيف نجرؤ على القول بإمكانية رؤية الله ، وقد قال الله نفسه “لا تقدر أن ترى وجهى لأن الإنسان لا يرانى ويعيش . وقال الرب . هوذا عندى مكان فتقف على الصخرة ، ويكون متى اجتاز مجدى أنى أضعك في نقرة من الصخرة وأسترك بيدى حتى أ أجتاز . ثم أرفع يدى فتنظر ورائى، وأما وجهي فلا یری ” ( حز  ٢٠:٣٣-٢٢ ) . وحتى الملائكة ، على الرغم من سمو طبيعتهم، فإنهم لم يروا الله إلا بقدر ما تسمح لهم قدراتهم وإمكانياتهم . فقط الابن مع الروح القدس ، يرى كما ينبغى ، ويكشف لكل من البشر بالروح القدس حسب ما يمكن للإنسان وحسب ما تسع إمكانياته : 

‏Cyril Jer. Catech. VI, 7. M. 33, 545.

ومن أجل هذا ، ظهر الملائكة، فى رؤيا إشعياء النبى ، وهم يغطون وجوههم السرافيم واقفون فوقه، لكل واحد ستة أجنحة ، باثنين يغطى وجهه وباثنين يغطى رجليه ، وباثنين يطير » ( إش ١:٦-٢ ) .

إن الله لا يكشف جوهره ، ولكنه يظهر نفسه بقدر ما يستطيع الإنسان :

‏Chrys: akatalyps. 111, 3. Monf. 1, 569. John 1, 18 homil. 15, 1, Monf. 8, 98.

8- غبطة الله :

بلا شك، إن الكائن ذو الكمال المطلق ، يكون على الدوام في حالة اغتباط ، فهو لا يحزن ولا يتألم ولا يحتاج “المبارك – أى المغتبط – العزيز الوحيد ملك الملوك ورب الأرباب، الذى وحده له عدم الموت ، ساكنا فى نور لا يدنى منه … الذي له الكرامة والقدرة الأبدية” ( ١تى ١٦،١٥:٦ ) .

ويقول النبي داود “أمامك شبع سرور ، فى يمينك نعم إلى الأبد” ( مز ١١:١٦ ) . وفى الرسالة إلى فيلبي يقول الرسول بولس “وسلام الله الذى يفوق كل عقل … ” ( في ۷:٤)

الله محبة . وهو يحب ابنه الوحيد حباً كاملاً ، وهو مغتبط اغتباطاً مطلقاً . وهذه هي الغبطة الذاتية لدى الله . انظر :

‏Chrys. 1 Tim. hom. 18, 1 Monf. 11, 704.

 

٤ – صفات الله في صلتها باعماله

يُظهر الله جلاله وعظمته البالغة من خلال أفعاله ، التى تتجه إلى خارج ، سواء ما يتصل منها بفكر الله أو إرادته.

وترتبط بفكر الله صفات : المعرفة الشاملة والحكمة الكاملة.

وترتبط بإرادة الله صفات : القدرة الكاملة – القداسة – البر – الصلاح أو المحبة – الحق أو الصدق.

وعلى الدوام يجب أن نضع في اعتبارنا ، ان التمييز بين الفكر والإرادة في الله ، هو من قبل التصور الإنسانى . أما عند الله ، فإن الفكر والإرادة لا يتتابعان كما هو عند الإنسان. وعلى العموم، فإن أعمال الله إلى الخارج تتميز فقط في أذهاننا المحدودة ، فتبدو لنا مختلفة متميزة ، بينما هي في الحقيقة غير متميزة ، لأن فعل الله هو فعل واحد بسيط لا ينقسم.

والصفة الأولى التى ترتبط بفكر الله هى : المعرفة الشاملة . فالله يعرف نفسه بمعرفة وفكر مطلق، لأن جوهره مطلق. كذلك يعرف كل ما هو خارج عنه، ليس فقط ما هو موجود ، بل أيضا ما يمكن أن يوجد ، وذلك بمعرفة لا تعتمد على التقدم والنمو وحركة الفكر من القوة إلى الفعل كما يحدث مع الإنسان . إن الله يعرف معرفة أزلية أيضا تلك الأفعال الحرة التي تصدر من كائنات مستقلة مختارة ، مهما كانت تبدو لنا هذه المعرفة غامضة وغير مفهومة.

وترتبط هذه المعرفة الشاملة ، حكمة الله الكاملة التى تعنى الوسائل الممتازة لتحقيق أهداف ممتازة ، لتدبير الخليقة كلها، وقبل كل شيء ملكوت النعمة.

وهناك أيضا صفة الحرية والاستقلال. الله ليس مجبراً على الصلاح، ولكنه يفعل كل شيء حسب مشيئة إرادته. إن إرادته أبدية. وهي إرادة خالصة، بمعنى أنها لا تخضع لأى عامل آخر.

وترتبط مع حرية الله وإرادته، قدرته المطلقة . فليس عند الله شيء مستحيل أو غير مستطاع. كل ما يريده الله فإنه يفعله. بإرادة سامية خلق العالم ولم يحقق ما هو ضد طبيعته ، لأن مثل هذا الشيء لا يشاؤه الله ولا يريده. وبالطبع فهذا لا يدل على ضعف بل على قوة الله العظيمة . ثم ان التمييز فى القوة الإلهية هو فقط تمييز بشرى . أما بالنسبة لله فلا يجوز مطلقاً الأعتقاد بأن قوة الله تنتقل من حالة القوة إلى الفعل والتنفيذ .

وتلى القدرة، صفة القداسة الإلهية، والتى تعنى أن الله بالطبيعة وبصورة مطلقة قدوس ومصدر كل قداسة.

 إن عبارات الكتاب المقدس عن قساوة قلب الخاطيء ، كأنها صادرة من الله بطريق مباشر “قسى قلب فرعون”، يجب أن تؤخذ على أنها تعنى أن الله تخلى عن هذا الخاطىء بسبب انغماسه في الخطيئة ، فترك الخاطىء لنفسه ، وهكذا يكون الخاطيء هو الذي يقسى نفسه وهو الذي يمتنع عن التوبة ويرفضها.

 ويرتبط بالقداسة ، بطريق مباشر، بر الله. ومن أجل هذا وصف الله في الكتاب المقدس بالقاضي البار. ويظهر الله بره فى شريعته ، فيثبت الذين يحافظون عليها ويعاقب الذين يخالفونها.

ووصف الله فى كتابات القديس يوحنا بالمحبة. ومن أجل هذا فإن قوة الله توصف بأنها قوة المحبة . وكذلك معرفة الله الشاملة وحكمته، ترتبطان برحمته وصلاحه . وبره يوصف بأنه بر المحبة . وغبطته ترتبط بمحبته. والله نفسه هو الصلاح ( الخير ) الأسمى الذى يفيض من كنز الصالحات على خليقته

وأخيراً، فقد قدم الله فى الكتاب المقدس ، باعتباره إله الحق الصادق في مواعيده ، والذى لا يحب الكذب والأمين في كل شيء .

ا – المعرفة الشاملة :

+ إن الصفة الأولى التي ترتبط بالفكر الإلهى – كما قلنا – هي العلم الكلى الشامل. إن الله يعرف ذاته معرفة تامة ، وكذلك يعرف كل ما هو صادر عنه. والدليل على معرفة الله لذاته، لا يقول به الكتاب المقدس فقط بل نستنتج ذلك أيضا، من كون الله، باعتباره هو الكائن الأسمى والجوهر غير المحدود ، والروح المطلق، فلابد أن يرتبط مع هذا، كونه يشعر بذاته. وكيف يمكن للشخصية الروحية المطلقة أن تنقصها المعرفة والشعور الشخصى. على أن هذه المعرفة الشخصية لله نفسه، لا يترتب عليها تحديداً ما في شخصه، وهي لا تتنافى مع عدم محدودية الله وعدم تحديده ، لأنه كما أن جوهر الله وكيانه غير محدود، هكذا فإن المعرفة التى لدى الله عن ذاته ليست محدودة، وكذلك تفكيره عن ذاته ليس محدوداً. وكما أكد السيد المسيح ، ليس أحد يعرف الابن إلا الآب، ولا أحد يعرف الآب إلا الابن، ومن أراد الابن أن يعلن له ( مت ۲۷:۱۱ ) . والرسول بولس أكد أن الروح القدس وحده هو الذي يعرف الله، لأنه من طبيعة الله وجوهره. انظر : 

‏1- Damasc. A, 14, M. 94, 860.
2- Clem. Alex. Strom. VI, 17, B. 8, 238.

وفى كلمات أخرى : في مقابل المعرفة البشرية التي تقوم على التجريد والانتقال من الجزئى إلى الكلى والقياس المنطقى والاستنتاج . ، فإن الله يرى كل شيء ويعرف كل شيء معرفة مباشرة كما لو بنظرة واحدة.

يقول الأب جبرائيل فرح :
إن الله يعرف كل شيء . ذاته والكائنات الموجودة حقا والكائنات الممكنة . يعرف كل هذا بحس واحد لا تتابع فيه ، وبدون أدنى خضوع للحواس والعالم الخارجي ، وبدون أدنى لجوء للأحكام والاستدلال والبرهنة وعرض الصعوبات وتحليلها ( ص ١٤ ) .

إن معرفة الله لا تتم على نحو المعرفة البشرية بإيقاظ ملكة التفكير والانتقال بها من القوة إلى الفعل . لكن الله بفعل خالص يعرف كل شيء معرفة كاملة ، وهى معرفة لا تقع في زمن بل هي معرفة أبدية على الرغم من أن المخلوقات ليست أبدية ، بل زمنية ومتغيرة. بالنسبة لله ، فهو يعرف منذ الأزل كل مخلوقاته ، وليس هناك جديد بالنسبة له ، بل منذ البدء ، منذ الأزل ) معلومة عند الرب جميع أعماله ) ( أع ١٨:١٥ ) . أنظر :

‏Chrys. Hom. Acts 33, 1 Monf. 9, 280.

وجاء فى نبوة إرميا ( أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى لأعطى كل واحد حسب طرقه حسب ثمر أعماله ) ( أر ٧:١٧ ).

إذا أختباً إنسان في أماكن مستترة أفما أراه يقول الرب . أما أملا أنا السموات والأرض يقول الرب ، ( إر ٢٤:٢٣ ) .

وفى الرسالة إلى العبرانيين يقول الرسول بولس ( وليست خليقة غير ظاهرة قدامه ، بل كل شيء عريان ومكشوف لعينى ذلك الذى معه أمرنا (عب ١٣:٤ ) .

إن الله من حيث أنه أزلي ، تتكشف له كل الأمور واضحة عارية ولا يفلت شيء من معرفته . والله ايضا من حيث أنه لا زمن فيه ، فليس له ماض ولا مستقبل ـ بل هناك حاضر دائم ، لذلك فإنه يعرف كل الأمور معرفة سبقية ، دون أن تعنى هذه المعرفة الغاء الحرية الشخصية أو تحديد المصير الإنسانى ، سواء للخير أو للشر . فالمعرفة السابقة لا تعنى مطلقا ان الله يفرض سلوكاً معينا على الإنسان ، وأن الإنسان ليس حراً في تصرفه وإنما يسلك بحسب ما تفرضه هذه المعرفة السابقة عليه

ولقد سبق ان عالجنا هذا الموضوع بالتفصيل وباسهاب فى بحثين لنا ، نرجو الرجوع إليهما ، وهما :

١ – مشكلة الاختيار في ضوء الأصحاح التاسع من الرسالة إلى رومية ( انظر تفسيرنا لرسالة رومية : الأصحاح التاسع ) .

٢ – تعيين الله السابق ( من مذكرات الكلية الإكليريكية ).

ويعالج الأب جبرائيل فرح ، الصلة بين المعرفة السابقة والحرية البشرية فيقول :

١- المهم أولاً أن نتفق على معانى الكلمات أو العبارات :
– إن العبارة “معرفة سابقة أو نظرة سابقة” ليست من الاصطلاحات المناسبة حين تطبق على الله . فالله ليس له ماض ولا مستقبل ، بل حاضر دائم. فالله إذن لا يسبق ويعرف بل يرى ويعرف.

– والعبارة « إن كل ما يراه الله مسبقا سوف يحدث بالضرورة » ليست أكثر صحة. إن علم الله هو، بلا شك، متصف بالعصمة الضلال، وكل ما يراه الله منذ الأزل، سوف يحدث بكل تأكيد في الزمن. ولكن لا نضل ، فإن الشيء يحدث بنوع ضرورى ، إذا كان الموضوع الكائنات المحرومة من العقل والخاضعة خضوعا أعمى لقوانين طبيعتها . وبنوع اختيارى إذا كان الموضوع ، الكائنات العاقلة الروحية.

٢ – ولكن لنسلم جدلا ان الاصطلاح “المعرفة السابقة” هو صحيح ، في حال تطبيقه على الله، أفلا يكون من الواضح أن الرؤية السابقة و الحادث ليست سبب هذا الحادث. ها أن أحد المراقبين يرى أعمى يتجه شطر هوة ، سيقع فيها ويقتل، فهل يقال إن معرفة المراقب السابقة كانت علة سقوط الأعمى في الهوة وموته فيها ، فمعرفة الله السابقة إذن ، رغم أزليتها ، ليست هي سبب أعمالنا بل نتيجة لها.

والأسقف ايسيدوروس ، يعرض أيضا لمشكلة الصلة بين المعرفة السابقة وحرية الإنسان. وقد أثير الإشكال على هذا النحو :

يشك المتسائل ويقول :
أعلم أن علم الله بالأمور المزمعة بحسب الحال والزمان والمكان، لا سيما أفعال الإنسان ، يضاد الحرية البشرية. فإنه لو قدر أنه تعالى يعلم أن بطرس ينكره ويهوذا يسلمه لأيدى القاتلين ، ثم يقتل نفسه، لكان فعل كل منهما ما هو لازم ومحتم ومقدر، وكل من يفعل مضطرا لا لوم عليه ولا عتب ولا عقاب في الآخرة.

ويجيب الأسقف إيسيذوروس على هذا الشك ويقول :
أسلم أن علم الله يضاد الحرية البشرية فى ما إذا كان سبحانه يعلم كل ما يصدر من الطبيعة البشرية ويريده. وأما إذا كان تعالى يعلم ما يصدر منها ولا يريده ، فلا أسلم بأن علمه بما يصدر منها يضاد حريتها. فإنه تعالى لا يريد المعلومات التي تضاد كمالاته الإلهية ولا يجبر الإنسان على العمل بعكسها .

ويشير إلى قول الشيخ اسحق ابن العسال فى كتاب أصول الدين في الرد على هذا الشك ، على النحو التالي :

لا يلزم من كونه تعالى عالما بأن فلانا يموت مؤمنا وفلانا آخر يموت كافرا ، أن يكون مريدا لذلك أو محركا له على فعله ، لأنه يوجد فرق بين العلم بالشيء وبين الإرادة لذلك الشيء . والدليل على عظم إنكاره للقبائح وفعل مالا يجوز شرعا وعقلا ، ووصفه تعالى لذاته بالبراءة منه ، وذلك بقوله ( وعملوا أعمالا لم آمرهم بها ، وقال إرميا ( وعملوا مذابح ليحرقوا بنيهم للشياطين ، مالم آمر هم به. لكن فعلوه من تلقاء أنفسهم ».

ويواصل الأسقف ايسيدوروس رده على هذا الشك فيقول :

إن المولى كما أنه يعلم هذه المعلومات المصنوعة ، يعلم أيضا الحرية الإنسانية المطلقة الصانعة لها . وكما أن هذه الحرية لا تخل بعلمه بها ولا تضاده ، كذلك لا تضاد أفعال الإنسان علمه بها. ان علم البارى ليس هو علة معلوماته ، لأنه تعالى سبق فعلمها، بل معلوماته علة علمه، فإنه كما أن العلم بالأمور الماضية ليست علة كونها ماضية، بل حدوثها هو علة العلم بها ، كذلك علم البارى السابق بالمعلومات المستقبلة، فإنه ليس علة كونها مستقبلة.

نعود فنقول: إن معرفة الله معرفة بسيطة. وهو لا يعرف الأمور على التتابع ، فيعرف أمراً ما قبل معرفة أمر آخر، أو يعرف هذا أولاً وذاك ثانياً. كما يحدث بالنسبة إلى الإنسان، ولكن ينظر إلى جميع الأشياء التي حدثت وسوف تحدث ، كما لو كانت حاضرة أمامه ، لأن الله كما قلنا “حاضر دائم”.

يجب ان نفرق بين معرفة الله وإرادة الله. فكون ان الله يعرف سابقاً ان فلانا سوف يكون شريراً، فإن هذا لا یعنی أنه أراد لهذا الإنسان أن يكون شريراً . كذلك كونه أنه يعرف أن فلانا سوف يكون خيرا، لا یعنی ذلك أنه فرض الخير على هذا الإنسان أى أن معرفة الله السابقة لا تحدد مصير الإنسان.

 + بما أن الله سرمدی أى أزلي ودائم، فيلزم أنه يعرف كل حوادث الأزمنة معرفة واحدة وتامة . فلو قدر أنه لا يعلم ما حدث فى الزمان الماضى لما كان أزليا ، ولو قدر أيضا أنه يجهل حوادث الزمان الآتى لما كان أبديا ولا قتصر وجوده على الزمان الحاضر واقتصرت معلوماته على ما يحدث فيه فقط ، ولكان لا فرق بينه وبين الإنسان المحدود في الزمان والمكان . والحال ان البارى سرمدى، والذى هو كذلك تكون كل الأزمنة في نظره باعتبار واحد . ويكون كل ما حدث ويحدث فيها ، يعلمه بحال واحدة ، فليس عنده ماض أو حال (حاضر ) أو مستقبل ( الأسقف ايسيدوروس ، المطالب النظرية – ص ٣٠٤ ).

+ الحرية البشرية ، هى التى تحدد المصير الذى يختاره الإنسان. فالإنسان حر في أن يختار الخير أو الشر، الملكوت السماوى أو العذاب الأبدى، أى أن الإنسان مسئول عن نفسه وتصرفاته ومصيره . انظر :

‏1- Orig: against Cels. 11, 20, B. 9, 141. Prayer 6, 4, B. 10, 244.

‏2- Damas: dialog. against Manich. 79, M. 94, 1577.

2 – حكمة الله الكلية :

+ ترتبط بمعرفة الله الشاملة ، حكمته الكلية . وهذه الصفة تعنى أن الله يضع أهدافا (غايات) سامية. ويختار لها الوسائل الممتازة التي تعمل على تحقيق هذه الأهداف. وعلى ذلك يمكن النظر إلى الحكمة الإلهية باعتبارها هى نفسها المعرفة الإلهية. منظورا إليها فى علاقتها بالأهداف أو الغايات ، وبهذه الوسائل التي يضعها الله لتحقيق هذه الأهداف. وبصورة ما، يمكن أن يقال ان الحكمة الإلهية هي الجانب العملي الأخلاقي للمعرفة الإلهية.

وهناك البعض ، مثل سبينوزا . الذى ينكر ان تكون هناك غاية فى العمل الإلهى . على أن هذا الإنكار لا يرتبط بفكرة وحدة الوجود التى توحد الله بالعالم وتنكر على الله نفسه الشعور الذاتي.

الذين ينكرون إذن وجود غاية فى الخليقة ، ينكرون أن يكون الله روحاً مطلقاً له فكر وإرادة. ولكن الذين ينظرون إلى الله باعتباره العقل غير المحدود والذي يعرف كل شيء ، فإنهم بالضرورة يقبلون ليس فقط القول بحكمة الله ، بل بأنه الحكيم الوحيد بالمقارنة بالحكمة البشرية الهزيلة الناقصة .

 ويشير الكتاب المقدس لحكمة الله كما يبدو من الأمثلة التالية :

الله الحكيم وحده بيسوع المسيح له المجد إلى الأبد” (رو ٢٧:١٦ )

“الإله الحكيم وحده له الكرامة والمجد إلى دهر الدهور”( ۱تي ۱۷:۱ )

“وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطى الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطى له » ( يع ٥:١) 

“بحكمة الله المتنوعة” ( أف ١٠:٣ )

وانظر أيضا ( دا ۲۱:۲ ، أم ٦:٢ ، مز ٢٤:١٠٤ ) ، كذلك انظر :

‏Didymos, Rom. 11, 33, Theop. M. 124,496.

3- حرية الله :

الله ، من حيث هو روح كامل مطلق وكائن شخصى مطلق ، هو بالضرورة كائن حر مستقل . فهو بحرية يريد ، وبحرية يفعل ما يريد ، وليس هناك ما يحده أو يحدده . انظر

‏Damas: 3.1, 13,14, M. 94, 1033, 1041.

لقد أنكر أصحاب مذهب وحدة الوجود ، هذه الصفة على الله. وليس هناك أسوأ يقال على الله ، أكثر سلب حريته والنظر إليه ككائن فاقد الشعور بذاته. وإن الخلقة نمت بدوافع طبيعية ضرورية ، نحو أهداف وغايات مجهولة. إن النظر إلى العالم – كأنه يخضع لقوانين طبيعية عمياء ، يسلب الله من صفات الكمال الإلهية. ولا يعد هناك حاجة للدين والتدين ، ولا مجال للأمل والرجاء .

على أن الأمر لا يجرى على هذا النحو. فإن الله يهب من يسأل ويعطى لمن يطلب ويفتح لمن يقرع. إن الله لا يتصرف بدافع من الضرورة ، ولا يفعل الخير بدافع من الحتمية ، ولا تقوده قوانين طبيعية عمياء ، ولكنه يفعل بمشيئة حرة مريدة مستقلة :

‏Clem. Alex. who is the rich man 10, 2, Strom. Vill, 7, 11, 16, B, 8, 355,264 + 7,335

 والرسول بولس يقول “الذى فيه أيضا نلنا نصيبا معينين سابقا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأى مشيئته” ( أف ۱: ۱۱). “لأنه من يقاوم مشيئته، فإنه هو يرحم من يشاء ويقسى من يشاء” ( رو ۱۸:۹ ، ۱۹) ، ولكن بالطبع، هو يفعل كل شيء في بر ودون محاباة

+ إن الحرية كصفة أو كعمل داخلى للمشيئة ، تتحد مع الجوهر الإلهي الذي هو بسيط ولا يقبل أى تقسيم أو تجزئة فالمشيئة الإلهية بسيطة سرمدية غير متغيرة، مستقلة وليس فى الله تمييز، ولكن هذا التمييز هو من قبلنا نحن بسبب محدودية الذهن البشرى. المشيئة الإلهية مطلقة ولها أساسها فى الله ذاته ، ولا تحدد بأى عامل أو علة خارجية. إنها لا تتحرك بموجب دافع آخر ، وهى فوق كل تغير وفوق الزمن وأحواله.

ويتكلم الكتاب المقدس ، وعلى الأخص العهد القديم عن غضب الله وحزنه ومحبته ورضاه ، ولكن هذه كلها انفعالات وتصورات بشرية، مرجعها إلى محدودية العقل البشرى ومحدودية إدراكه ، فالله لا يتأثر ولا ينفعل :

‏Chrys. to theodoros 1, 4, Monf. 1, 6.

ونحن نضطر لاستعمال الصور والتشبيهات البشرية ، حتى يمكننا بقدر ما أن ندرك الله

‏Damasc. 1, 11, M. 94, 841.

 وهكذا فإن الحديث عن مشيئة الله وحريته لا يمكن أن يخلو من الانفعالات البشرية. فإذا كنا نتكلم عن محبة الله وكراهيته ، أو عن رضاه وحزنه ، فيجب على الدوام أن نضع في اعتبارنا أن المشيئة الإلهية تظل دائما فعلا خالصاً أو فعلا محضا ( actus purus) لا تعتمد على أي أمر آخر.

 + وعلى الرغم – كما قلنا- من أنه لا يوجد أى تمييز أو تركيب في الجوهر الإلهي البسيط . فإننا بسبب ضعف الذهن البشرى وقصور إدراكه تحدثنا عن التمييز في المعرفة الإلهية ، وكذلك نتحدث الآن عن تمييز في المشيئة الإلهية على النحو التالي :

أ ـ طبيعية ( أو ضرورية ) وحرة :

لما كانت المشيئة الإلهية لا تنفصل عن المعرفة الكلية التى لدى الله ، فإن الله إذ يعرف أيضا الممكنات ، فإنه لا يريدها ، لأنه لو أرادها ، فإنها سوف تتحقق . وعلى ذلك فإن المشيئة الطبيعية أو الضرورية لدى الله ، تشير من ناحية إلى الضرورة المطلقة لوجود الله ، ومن ناحية أخرى تشير إلى مجال الممكنات ، وهو معروف لدى الله معرفة أزلية ، وله أساس كفكرة أزلية فى الجوهر الإلهى. وتشير حرية المشيئة الإلهية إلى ما قد أوجده الله في الخليقة حسب مشيئته.

يقول الأسقف ايسندوزوس:
 الله يريد ذاته بالضرورة بسبب كونه الخير الأسمى ، إذ لو أمكنه ألا يريد ذاته لأمكنه ألا يريد الخير السامي ، ولأمكن أن تكون إرادته غير كاملة ومحدودة . وبما أن علم الله بسيط وواحد وكلى الكمال ، فكذلك إرادته بسيطة وواحدة وكلية الكمال . فإذن لا يمكن أن تكون إرادته ناقصة وغير كاملة ، وبالتالى لا يمكنه ألا يريد الخير السامي الذي هو ذاته.

 والله يريد، ما سواه بالحرية، لان كل الموجودات يمكنه أن يريدها ويخلقها، وأن لا يريدها ولا يخلقها، فيقدر أن يفعل الأول لأنه يقدر أن يريد بتفضله واحسانه ابداع الموجودات ويظهر فيها خيراً هو مبدأه وقد فعل ويفعل ذلك ، ويقدر أن يفعل الثاني لأنه لا حاجة به إلى غيره إذ يحوى بذاته السعادة الكاملة لأنه الخير السامي ( المطالب النظرية – ص ٣١٤ ) .

ب ـ مشيئة سابقة ولاحقة :

ونجد هذا التمييز عند آباء الكنيسة. فالله يريد سابقا أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ، لأن الله لم يخلقنا للعقاب والدينونة بل للأشتراك في غبطة الأبدية. ولكن حيث أن الناس يخطئون بإرادتهم، فإن الله كبار وعادل ، يعاقبهم على خطاياهم. وهذه هی المشيئة اللاحقة :

‏Damasc. 11, 29, M. 94, 969.

مشيئة مطلقة ومشيئة نسبية ( مشروطة ) :

 والمشيئة المطلقة تتصل بالخليقة غير العاقلة التى يوجهها الله نحو غاية سامية. وأما المشيئة النسبية فهى التى تتصل بالكائنات الحرة. فهؤلاء أيضا يريد الله لهم أن يحققوا غاية وجودهم. ولكن هذا يتوقف على مدى استجابتهم للمشيئة الإلهية وتعاون إرادتهم الحرة مع الإرادة الإلهية. 

د مشيئة فعالة وغير فعالة :

فالمشيئة المطلقة تعتبر فعالة ، والنسبية تعتبر غير فعالة. وفى هذا يقول الأسقف ايسيدوروس : الفعالة هى التى يقصد بها تعالى المعلول ، بحيث يزيل أمامه كل الموانع ، والثانية هي التي يشاء بها أمرا بدون أن يدفع من أمام فاعله ما يعترضه ويعيقه مقتصرا على تفويض الأمر إلى فاعله ( ص ٣١٤ ) . 

4- قدرة الله الكلية :

قدرة الله قدرة مطلقة . الله يقدر على كل شيء ، وليس هناك شيء يعجز الله عنه أو لا يقدر عليه . فكل ما يشاؤه الله يصنعه ، سواء فى السماء أو في الأرض . وإليك بعض شواهد كتابية للتدليل على قدرة الله المطلقة : ( لو ٣٧:١ ، تك ١٤:١٨ ، مز ٦:١٣٥ ، تث ۱۷:۱۰ ، مز ٥،٤:١٤٨ ، ١٣٣: ٦-١١ ، إش ١٢:٤٠ ) .

الله يدعو غير الموجود كأنه موجود ( رو ١٧:٤(( وبكلمته يهب الوجود للعدم .

انظر

‏1- Oik oum, ilbid. M. 118, 404.
2- Theophil. ibid. M. 124, 397.

“والقادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا” ( أف ٢٠:٣ ) .

ما يشاؤه الله يفعله ، ولا يجوز أن يقال أن هناك بعض أمور يقدر عليها الله ، وبعضها لا يقدر عليها . الله خلق العالم وهو يحفظه فى قوته غير المحدودة . والواقع أن كلمة الله “Theos” تشتق من الفعل Tithenai أو Theein ، ولذلك فهى تتضمن المدلولات التالية :

أ- دعى الله Theos لأنه يضع Tithenai كل شيء في ضمانه وأمنه.

ب ـ والفعل Theein يعنى : يركض ويحرك ويعمل ويطعم ويعتنى ويحكم ويحيى كل شيء ويضبط كل شيء ، ولذلك سمى بضابط الكل :

‏1- Clem. Alex: exhortation IV, B. 7, 49. Proph. 16, 3, B. 8, 340. 2- Chrys. akatalyp. Log. B, 4 Monf. 1, 560..
3- Theophil. ibid A, 4.

+ فإذا كان كل ما يشاؤه الله يقدر عليه ، فإننا يجب من ناحية أخرى أن لا نغفل أنه ليس هناك ما يبرر أن يفعل الله شيئاً يضاد طبيعته وصفاته ، وبكل بساطة لأنه المستحيل أن يشاء الله هذا الأمر. وعلى ذلك فإن كل ما يشاؤه الله يقدر عليه ولكن ليس كل ما يقدر عليه يشاؤه . ولذلك فهناك فى الكتاب المقدس يشار إلى أمور لا يقدر عليها الله مثل الكذب أو ان ينكر ذاته. على أن الكتاب المقدس هنا لا ينسب ضعفا لله بالنسبة لهذه الأمور ، ولكنه يتحدث عنها باعتبارها أموراً لا تناسب الله ، فالله الحق لا يناسبه أن يكذب، والله الأمين لا يمكن أن يخلف مواعيده ، أى أن عدم القدرة على فعل هذه الأمور المشيئة ، هو دليل القوة الفائقة لدى الله ، يقول الرسول بولس “حتى بأمرين عديمي التغير ( المواعيد والقسم ) لا يمكن إن الله يكذب فيهما ، تكون لنا تعزية قوية ، نحن الذين التجأنا لتمسك بالرجاء الموضوع أمامنا” ( عب ٦: ١٨ )، “إن كنا غير أمناء فهو يبقى أمينا ، لن يقدر أن ينكر نفسه ، ( ۲ تی ۱۳:۲ ) . انظر :

‏1- Clem. Alex. Strom. VIl, 7, B. 18, 263.
2- Isid. Pylous. III, epist. 335, M. 78, 993.

وهكذا عندما نقول : ان الله لا يقدر أن يخطىء ، فنحن هنا لا نحكم بضعف الله ، بل على العكس ، نشهد بقوته التي لا يمكن أن يعبر عنها :

‏Chrys. John 4 hom. 38 Monf. 8, 255.

ويقول زيكوس الروسى : إن عدم قدرة الله على أن يفعل ما هو مضاد للعقل والأخلاق ، ليس هو دليل الضعف بل دليل القوة ، ذلك أن عمل ما هو مضاد للعقل والأخلاق هو بعينه الضعف

 و معنى هذا أن لا يفعل قدرة الله المطلقة ، تحد بمشيئة الله الذاتية ومسرته ، حتى أنه كل ما يقدر عليه ولكن فقط ما يريده . أن ما يريده هو الذي يفعله ، كما يقول النبي دارد ” كل ما شاء الرب صنع في السماوات وفى الأرض ، في البحار وكل اللجج ” (مر ٦:١٣٥ )

 إن الله يتصف بالكمال المطلق ، ولذلك لا يناسب هذا الكمال المطلق فعل ما هو ناقص . وعلى ذلك يمكننا أن نقول ان الله لا يستطيع أن يكون شريراً أو يخطىء أو أن يكذب أو ينكر ذاته، كما قال الرسول بولس ، لأن كل هذه من أعمال النقص. وإذا أراد الله أن يكون شريراً أو أن يكذب أو أن ينكر نفسه، فإن معنى هذا أنه لم يرد أن يكون قادراً قدرة مطلقة ، لأن هذه الأعمال هي أعمال ناقصة لا تدل على القدرة المطلقة، يقول القمص ميخائيل مينا فى كتابه علم اللاهوت “لا يوجد شيء غير مستطاع عند الله إلا الذى لا يريده ، كالنقائص والرذائل ، لأنها من أعمال الضعف” ( المجلد الأول ص ۱۳۰ ) .

و بسبب هذه القدرة المطلقة ، فإن الله لا يقدر – فيما يقول القديس أوغسطينوس – أن يموت أو أن يكذب أو أن يخدع ، ذلك لأنه لو كان من الممكن أن يموت ، فإنه لن يكون قادراً قدرة مطلقة. وكذلك لو كان من الممكن أن يكذب أو يخدع ، فلن يكون قادراً قدرة مطلقة. أن الله يفعل ما يريده . هذه هي القدرة المطلقة ، أنه يفعل الخير الذي يشاؤه ، أما الشر الذى يحدث فإنه لا يريده :

‏August, Serm. ad Catech. de Symbolo 2, m. 40, 627.

+ لما كانت قدرة الله المطلقة ، يعبر عنها فى مناحى مختلفة ، فإن اللاهوتيين يميزونها إلى قدرة مباشرة وقدرة غير مباشرة ، قدرة مطلقة وقدرة نسبية ، قدرة معجزية وقدرة اعتيادية يعبر عنها فى القوانين الطبيعية . وبلا شك فإن هذا التمييز يفيد في البحث وفى فهم قدرة الله غير المحدودة ، مع ملاحظة أن هذا التمييز ليس هو من جانب الله ، بل من جانب الإنسان . ويجب أن نأخذ فى الاعتبار أن هذه القدرة الإلهية المطلقة ، تميز عن الجوهر الإلهى فقط منظورا إليها كفعل يتجه إلى الخارج ، يخلق ويحكم العالم ، ولكن تظل هذه القدرة الإلهية على الدوام فعلا محضا ( خالصا ) وليست مجرد قوة أو طاقة فى الإرادة الإلهية ، تتحول بعد اتخاذ قرار ، من القوة أو الطاقة إلى الفعل ، لأنه كما قلنا سابقا ، أن هذا يقتضى علة فاعلة تحول القوة أو الطاقة إلى فعل ، لأن الموجود بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بموجود بالفعل.

5- قداسة الله :

القداسة هی عندما تلك الصفة الإلهية التي بموجبها يكون الله متحرراً من كل نقص أخلاقي، ويحب فقط كل ما هو بار وصالح وعلى ذلك فإن إرادة الله المطلقة تتحرك نحو الصالحات ، وقوته غير المحدودة تعمل على الدوام فى مجال القداسة. وكلمة ( قديس ) في الكتاب المقدس، استعملت أولاً لتدل على كل ما يفرز الهدف مقدس ويكرس لله وعلى ذلك فيفترض بصفة مبدئية أن هذا الشيء لم يكن مقدساً، ولكنه تقدس أفرز وكرس لله. وعندما يوصف الله بالقداسة ، لا يجب أن تتخذ الصفة معنى سلبيا ، فيفهم منها أن الله قد تنقى من الشر أو مما هو غير مقدس . بل وأيضا لا يجب أن تؤخذ الصفة بالمفهوم الإيجابى ، بمعنى أن الله يحاول أو يجاهد ليكتسب الصلاح وينمو فيه ولكن فقط ، بالمماثلة لما فى عالم البشر ، يمكننا أن نتكلم عن قداسة الله منسوبة إليه في صورتها الأكمل أو فى كمالها غير المحدود ، بالقياس إلى كمال الإنسان المحدود. وبالنسبة للإنسان ، فالقداسة هي هبة معطاة له من فوق ، تنقيه من الخطية وتطهره من حالات الدنس والنجاسة بينما ان الله هو قدوس بذاته وبجوهره. الله هو القداسة المطلقة الحقيقية. هو بالطبيعة قدوس وهو مصدر كل قداسة. يأخذ الجميع قداستهم 

 ويصيرون قديسين . أما نحن فلسنا قديسين بالطبعية ولكن نوهب القداسة من الله ونشارك فيها . نحن البشر نخطىء ونتعرض للخطاً . أما الله فإنه من غير الممكن أن يخطىء . أنظر :

‏1- Clem. Alex. Strom. VI, 7, B. 8. 199

‏2- Cyril Jer. myst, Catech. 5, 19, M. 33, 1124

‏3- Tatian. Hellen. 11, B. 4, 249.

+ في الكتاب المقدس ، آيات كثيرة تتحدث عن قداسة الله :

يقول الرسول يعقوب “لا يقل أحد إذا جرب أنى أجرب من قبل الله ، لأن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحدا ” ( يع ۱۳:۱ ) .

ولما كانت الخطية ترتبط بالعقاب كما يتضح من قصة السقوط ، ومما أصاب البشرية فى أيام الطوفان ، وما أصاب سدوم وعمورة ، فقد وصف الله في موقفه تجاه الخطية والخطايا بأنه “نار آكلة” ( عب ۲۹:۱۲ ) ووصف أيضا بأنه “نور وليس فيه ظلمة البتة “( ١يو ٥:١ ) ، ويكمل الرسول يوحنا فيقول “إن قلنا إن لنا شركة، وسلكنا فى الظلمة نكذب ولسنا نعمل بالحق. ولكن أن سلكنا في النور كما هو فى النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية” (١يو ٧،٦:١ ).

وجاء في سفر اللاويين ، إلى أنا الرب الذى أصعدكم من أرض مصر ليكون لكم إلهاً ، فتكونون قديسين لأنى أنا قدوس » ( لا ٤٥:١١ ) .

وفى نبوة إشعياء “قدوس قدوس قدوس رب الجنود . مجده ملء كل الأرض” (إش ٦: ٣).

وفى المزامير “رنموا للرب ترنيمة جديدة لأنه صنع عجائب. خلصته يمينه وذراعقدسه” (مز ۱:۹۸ ) .

وفى الرسالة إلى رومية “إذا الناموس مقدس والوصية مقدسة وعادلة وصالحة” (رو ٧: ١٢ ) .

وفى الإنجيل للقديس يوحنا “قدسهم فى حقك. كلامك هو حق. كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا للعالم. ولأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم أيضا مقدسين في الحق” ( يو ۱۷:۱۷-۱۹ ) .

وفى الرسالة الأولى إلى بطرس “وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي أمة مقدسة شعب اقتناء ، لكى تخبروا بفضائل الذى دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” ( ۱بط ٩:۲)

هناك بعض الآيات، يبدو كما لو أنها تنسب الشر إلى الله ، فكيف نفهمها ؟ ومن هذه الآيات :

“وقال الرب لموسى عندما تذهب لترجع إلى مصر انظر جميع العجائب التي جعلتها في يدك واصنعها قدام فرعون . ولكنى أشدد قلبه حتى لا يطلق الشعب” (خر ٢١:٤) (وانظر أيضا خر ٣:٧ ، ١٦:٩ ) .

“لأنه يقول الكتاب لفرعون أنى لهذا بعينه أقمتك لكي أظهر فيك قوتى ولكي ينادي باسمى في كل الأرض” ( رو ۱۷:۹ ).

“والآن هوذا قد جعل الرب روح كذب فى أفواه جميع أنبيائك هؤلاء ، والرب تكلم عليك بشر” ( مل ۲۳:۲۲ ) .

“وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ، ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب” ( ۲تس ۱۱،۱۰:۲ ) .

” في ذلك الوقت أجاب يسوع وقال أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض ، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال ) ( مت ٢٥:١١). 

“فقال لهم قد أعطى لكم أن تعرفوا سر ملكوت الله ، وأما الذين هم من خارج فبالأمثال يكون لهم كل شيء ، لكى يبصروا مبصرين ولا ينظروا ويسمعوا سامعين ولا يفهموا ، لئلا يرجعوا فتغفر لهم خطاياهم” ( مر ١٢،١١:٤ ) .

كما هو مكتوب ، اعطاهم الله سبات وعيونا حتى لا يصروا ، وآذانا روح حتى لا يسمعوا إلى هذا اليوم » ( رو ٨:١١ ) .

على أن هذه الآيات ، لا تشير إلى الله كفاعل ، بل تشير إلى سماح الله بوقوع الشر،
انظر :

‏Damas. mnym. 4, 19, M. 94, 1192.

عندما يصر الخاطيء على خطيئته ، وتبوء معه جميع المحاولات بالفشل. يترك الله الخاطيء ويتخلى عنه. وما يصدر عن الخاطىء فى هذه الحالة من خطيئة ، اعتاد الكتاب المقدس أن يتكلم عنه بأسلوب قد يعني أن الله علة الخطية ، بينما يراد في حقيقة الأمر أن الله سمح فقط بالخطيئة دون أن يكون هو علتها ، كما يقول الرسول بولس في رسالته إلى رومية “اسلمهم الله إلى أهواء الهوان” (رو ٢٦:١ ) “وكما لم يستحسنوا أن يتقوا الله فى معرفتهم ، اسلهم الله إلى ذهن مرفوض ليفعلوا مالا يليق” ( رو ۲۸:۱ ) . وفى الأصحاح التاسع من الرسالة إلى رومية ، يتحدث الرسول عن سلطان الله المطلق الذى « يصنع من كتلة واحدة إناء للكرامة وآخر للهوان ، ( رو ۲۱:۹ ).

إن التوفيق بين هذه الآيات يوضح أن الخطيئة هي من عمل الإنسان وليس من فعل الله ، وإن كان بسماح من الله . وحتى فى هذه الآية الأخيرة ، فإن الرسول بولس يكمل ويقول “فماذا إن كان الله وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك” (رو ۲۲:۱ ) ، فالدليل على أن الإنسان هو علة هلاكه لنفسه بنفسه ، وإن الإنسان هو الذى يهيىء آنيته ( نفسه ) للهلاك ، ما يقال عن الله هنا أنه احتمل بأناة كثيرة، فلو ان الله هو علة هذا الهلاك لما قيل عنه ذلك. ويتضح هذا بالأكثر في الرسالة الثانية إلى تيموثاؤس حيث يؤكد الرسول حرية الإنسان ومسئوليته تجاه نفسه فيقول ولكن في بيت كبير ليس آنية من ذهب وفضة فقط ، بل من خشب وخزف أيضا ، وتلك للكرامة وهذه للهوان . فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء للكرامة مقدساً نافعاً للسيد ومستعداً لكل عمل صالح ) ( ۲ تی ۲۱،۲۰:۲ ) . انظر : 

‏M. Basil, about God being not responsible of evils, 5, M. 31, 340.

6- بر (عدل) الله :

من الضروري ان ينبثق عن قداسة الله ، أيضا بره، كما هو واضح مما ذكرناه سابقاً عن مقت الله وكراهيته وعقابه للخطيئة والإثم ، ويتم ذلك دون محاباة ودون أن يأخذ بالوجوه (رو ۱۱:۲ ) . وهو البار الوحيد الذى يقيس كل شيء ويزنه بمقاييس العدل . انظر :

‏Clem. exhort. VI, 69, B. 7, 52-53.

ولقد وصف الكتاب المقدس الله ، باعتباره “قاض عادل” (مز ۱۱:۷ ) ، “الرب عادل ويحب العدل” (مز ٧:١١ ) “الرب بار فى كل طرقه” ( مز ١٧:١٤٥ ) ، “يدين الشعوب بالإستقامة” ( مز ١٣:١٩٦ ) ، وهو “يقضى للمسكونة بالعدل” (مز ۸:۹ ) و “ناموس الرب كامل يرد النفس . شهادات الرب صادقة تصير الجاهل حكيماً ، وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب . أمر الرب طاهر ينير العينين . خوف الرب نقى ثابت إلى الأبد . أحكام الرب حق عادلة كلها . أشهى من ا الذهب والإبريز الكثير وأحلى من العسل وقطر الشهاد” ( مز ۱۰۷:۱۹ ) .

 وقد أرسل الله ابنه إلى العالم “لإظهار بره فى الزمان الحاضر ، ليكون باراً ويبرر من هو من الإيمان بيسوع” (رو ٢٦:٣ ) ، وأعطى الدينونة للابن “لأن الآب لا يدين أحداً بل قد أعطى كل الدينونة للابن” ( يو ٢٢:٥ ) ، “فإن ابن الإنسان سوف يأتى في مجد أبيه مع ملائكته ، وحينئذ يجازى كل واحد حسب عمله” ( مت ٢٧:١٦ ) “لأنه لابد أننا جميعا نظهر أمام كرسى الله لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب صنع خيرا كان أم شرا” ( ٢كو ١٠:٥ ) “الذى يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحد” ( ۱بط ۱۷:۱ ) “فى اليوم الذى فيه يدين الله سرائر الناس حسب إنجيلي بيسوع المسيح” (رو ١٦:٢ ) “واستعلان دينونة الله العادلة الذي سيجازي كل واحد أعماله. أما الذين بصبر فى العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الأبدية ، وأما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون الحق بل يطاوعون للإثم فسخط وغضب” ( رو ۲: ٨٥ ) ، فالرب ( ديان عادل ، ( ٢تی ٨:٤ ) .

+ وكما قلنا سابقاً، فإن ما ينسب إلى الله من سخط وغضب ، يجب أن لا يؤخذ إلا کمجرد تعبيرات بشرية ، لأن الله عديم التأثر لا ينفعل لشيء ما . ويقصد بهذه التعبيرات ، الإشارة إلى أن الله كقدوس مطلق يمقت الشر ويعاقب عليه . وبدون هذا الغضب ، لا يكون الله مطلق الكمال ولا يمكن أن يدعى قدوساً بل ولا يكون الله محبة . ان المحبة التي لا تغضب بل تظل غير مكترثة بالشر ، لا تكون محبة . وماذا يكون إنجيل المسيح إذا لم يكن المسيح قد جاء ليرفع عنا الغضب الآتى ( ١تس ١:١ ) . وإذا كان يقال أن الله فى العهد القديم، يظهر أكثر غضبه ، بينما في العهد الجديد ، يظهر أكثر أبوته ورحمته ، فإنه يجب أن يضاف إلى هذا ، ان الغضب في العهد القديم ، كان يظهر بالأكثر فى الحياة الحاضرة ، أما فى العهد الجديد ، فيبدو بالأكثر مرتبطاً بالحياة الأخرى .

+ وعلى كل ، فإن دينونة الله لا تسير حسب مقاييس بشرية ، بل إلهية . فهو لا يرى الأمور من زاوية البشر المحدودة “ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء” ( رو ۳۳:۱۱ ) .

– وهذا يمكن أن يقال ، بالنسبة للعقاب الأبدى ، على الخطايا الزمنية ، مما سوف نتناوله – بمشيئة الله بالتفصيل فيما بعد ، عندما نبلغ الحديث عن الأمور الاسخاتولوجية ( الخاصة بالمستقبل ( ، وأما الآن فيكفي أن نقول أن عقاب الخطايا يكون أبدياً ، لأن الخطية تخلق فى النفس الخاطئة غير التائية حالة ثابتة ، تجعل الخطية أبدية بالصورة التي يكون فيها العقاب الأبدى . ، هو نتيجة لخطايا أبدية وبقاء مستمر فيها

7- محبة الله وصلاحه:

من خلال عقلنا المحدود ، الذى يعجز عن تكوين فكرة واضحة عن بساطة الله ، نعتبر المحبة ـ التى هى رباط الكمال بالنسبة للفضائل البشرية – نعتبرها أيضا ، بالنسبة لله ، رباط الكمالات الإلهية. كل صفة من صفات الله ، يمكن أن نعتبرها ـ من خلال عقلنا المحدود – كصفة لمحبته. وهكذا فإن قوته هي قوة محبته . والمعرفة الشاملة والحكمة الكلية ، هي أيضا معرفة وحكمة صلاحه ورحمته ، يهدفان لأن يقودا كل شيء نحو تحقيق هدفهما الكامل ، الذى هو بالنسبة للكائنات العاقلة ، التمتع والمشاركة في الغبطة الإلهية. وبر ( عدالة ) الله، هو أيضا بر محبته، يهدف لأن يقود البشرية في طريق السعادة والسلام. والغبطة غير المحدودة تهدف لأن تصير ميراثا للبشرية. 

وفي كلمات قليلة ، الله هو الخير الأسمى الذى لا يظل محدودا فى نفسه ، ولكن ، كما ينتشر النور ، وتمتد الحياة وتتسع ، وهو الذى خلقهما ، هكذا أيضا يشاء لصلاحه أن يمتد خارجاً عنه ، ولغبطته أن تتسع ، لكي يفيض من غنى مجده على المخلوقات التي خلقها ، من أجل أن يشركها فى نعمه وخيراته الوفيرة، تماماً كما تبعث الشمس بضيائها وحرارتها إلى كل المسكونة .

‏1- Dionys. Divine names IV, 1, M. 3, 694. 2- Strom. VII, 7, B. 8, 264

والرسول يوحنا ، الذي تعمق سر تجسد الابن وحيد الجنس أكثر من غيره ، يصف الله بالمحبة فيقول “الله محبة ، ومن يثبت فى المحبة يثبت فى الله . والله فيه” ( ١يو١٦:٤)

+ عندما نتكلم عن محبة الله وصلاحه ، يجب أن نأخذ في أعتبارنا. أن صلاح الله هو فريد في نوعه، ويختص به وحده فقط ، وهو الصلاح الأسمى وبدء ومصدر كل صلاح. وصلاح البشر لا يقاس بصلاح الله، لأن الصلاح يوجد جوهرياً فقط عند الله. فهو صالح بطبيعته. انظر :

‏1- Greg. Nys. about Moses, M. 44, 301..

‏2- Didym. Act 11, 24, M. 118, 192.

3- Theoph. Math. 19, 17, M. 123, 353.

‏4- Orig. De Princip, 1, 2, 2.

+ عندما نصف الله بالصلاح وبالرحمة ، وعلى العموم بالمحبة ، لا يجب أن ننظر إلى هذه الصفات كعواطف، فالله كما قلنا لا ينفعل ولا يتغير ، بل ينظر إليها جميعها كفعل خالص (actus Purus) صادراً عنه.

+ إن محبة الله تتجه أولاً نحو نفسه، كمركز ومصدر للكمال غير المحدود وللجمال الأخلاق . وهنا يكون الابن الوحيد ، موضوع محبة الآب ، ولذلك سمى “بالمحبوب” (أف ٦:١ ) ، و”ابن محبته” ( كو ١٣:١ ) . وفيما يقول القديس أوغسطينوس عن الابن : لقد أحبه الآب “أما بالنسبة لطبيعته اللاهوتية ، لقد ولده الآب مساوياً له ، وهو يملك كل الكمال الذى فى الآب وفى الجوهر الإلهى ” “وأما بالنسبة للطبيعة الناسوتية” في زمن ” لأن الكلمة الوحيد صار جسداً، وبسبب اتحاد هذا الجسد بالكلمة ، صار الجسد في الزمن محبوباً من الآب :

August. Joan. Tract, 110, 5m. 35, 1923.

أما بالنسبة لصلاح الله ومحبته فى اتجاهها نحو الخارج، أى نحو المخلوقات ، فإن محبة الله بدت كصلاح ، لأن الله خلق ما شاء هو أن يخلقه ، ولم يكن هناك أى دافع آخر للخلقة إلا ذاته ، أي صلاحه :

‏Orig. De Princip. 11. 9, 6.

وإليك ما يقوله الكتاب المقدس عن صلاح الله ومحبته نحو خليقته التي شاء أن يخلقها ، فخلقها بدافع صلاحه :

“الرب صالح للكل ومراحمه على كل أعماله” ( مز ٩:١٤٥ )

” تفتح يدك فتشبع كل حي رضى” ) (مز ١٦:١٤٥)

“الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها” ( مز ٢١:١٠٤ )

“كلها إياك تترجى لترزقها قوتها في حينه ، تعطيها فتلتقط ، تفتح يدك فتشبع خيراً” (مز ٢٨،٢٧:١٠٤ )

“المعطى للبهاهم طعامها ، لفراخ الغربان التي تصرخ” ( مز ٩:١٤٧ )

“انظروا إلى طيور السماء ، أنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن ، وأبوكم السماوى يقوتها . ألستم أنتم بالحرى أفضل منها” ( مت ٦: ٢٦ )

“إذ هو يعطى الجميع حياة ونفسا وكل شيء” ( أع ٢٥:١٧ )

“الرب عاضد كل الساقطين ومقوم كل المنحنين ” ( مز ١٤:١٤٥ )

“أحمدوا الرب لأنه صالح ، لأن إلى الأبد رحمته” ( مز ۱:۱۱۸ )

( انظر أيضا : مز ١:١٠٧ ، ١:١٠٦ ، مز ١٣٦ )

وحتى الخطاة وحتى والأشرار لا يتركهم الله. ولكن فى صبر وطول أناه يظهر رحمته عليهم.

“فإنه ينعم على غير الشاكرين والأشرار ”  ( لو ٣٥:٦ )

“يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين” (مت ٥: ٤٥) 

( انظر أيضا : اتى ٤:٢ ، رو ۳۲:۸ ، يو ١٧،١٦:٣ ، ايو ١٩،١٠:٤ ، رو

على هذا النحو ، تتعاظم رحمة الله فى معاملته مع البشر .

“لأن رحمتك قد عظمت فوق السماوات” ( مز ٤:١٠٨)

“امتلأت الأرض من رحمة الرب” (مز ٥:٣٣ )

( انظر أيضا : يع ۱۷:۱ ، أف ٨،٧:١ ) .

ويشير القديس يوحنا ذهبي الفم ، إلى عظم محبة الله ، فيبين أنها تفوق كل محبة أخرى نتقبلها من أب أو صديق :

‏Chrys. Mat. hom. 19, 7, hom. 46, 1. Monf. 7, 291, 542, Ps. 113, 3 Monf. 5, 355.

+ وهكذا فإن صلاح الله ومحبته ، تبدو بلا قياس وبلا حدود ، وتفوق كل قياس وإدراك بشرى . ولا يجب أن نضع حداً لهذه المحبة ، كما يحدث بالنسبة للذهن البشرى أن يحد المحبة بالبر الإلهى ، أى أن البشر يتصورون أن محبة الله تحد الله وعدله . فالمحبة هنا توضع على نقيض العدل الإلهى وفى مقابله . وأما من ناحية الله ، فإن البر والرحمة يتحدان معا فى اسمى صورة من التوافق والانسجام والهارمونية . وقد ظهر هذا جليا واضحاً في عمل المسيح الخلاصي ، فقد قدمت المحبة الإلهية ، الابن وحيد الجنس ، لكي يموت نيابة عن البشر ، حتى فى نفس الوقت يوفى بر الله وقداسته ، الحق المهان بسبب عصيان البشر ومخالفتهم

8- صدق ( حق ) الله وأمانته :

ومن الصفات الأخرى التي تنسب إلى الله ، الصدق والأمانة . وكما يقول القديس يوحنا ” الله صادق” ( يو ٣٣:٣ ) . وقيل عن المسيح أيضا “الحق” ( رؤ ٣٣:٣ ) . وقيل عن كلام الله و هو حق ) ( يو ۱٧:١٧ ) . وفى العهد القديم ، يقول النبي داود في مزاميره ” يارب إله الحق ” (مز ٥:٣١ ) “الرب حافظ الأمانة” ( مز ٢٣:٣١ ) “كل سبل الرب رحمة وحق” ( مز ١٠:٢٥ ) .

ومن أجل ذلك فقد نفى الكتاب المقدس عن الله الكذب أو الأمانة في ايفاء عهوده ومواعيده . فالله كما قلنا قادر قدرة مطلقة غير محدودة ، وكذلك هو صالح صلاحاً مطلقاً غير محدود ، وهو أيضا يتصف بالمعرفة المطلقة غير المحدودة . وكل هذا ينتهى بنا إلى القول ، بان الله صادق وأمين فى أقواله ومواعيده ، فهو أولاً يعرف ما يعد به وهو يرغب ويريد ما يعد به . له القوة لأن يحقق وينفذ ما يعد به ، فلا تقوم أمامه عوائق أو معطلات. ولقد أكد الكتاب المقدس كل هذه المعانى . وعلى سبيل المثال نذكر عدم ثم هو بعض الآيات :

الله المنزه عن الكذب” ( تى ٢:١ ) .

“فهو يبقى أميناً ، لا يقدر أن ينكر نفسه” ( ۲ تی ۱۳:۲ ) .

( وانظر أيضا : عب ١٦:٦ ١٨ – سفر العدد ۱۹:۲۳ ) .

ان مواعيد الله هي مواعيد صلاح الله وحكمته أنها مواعيد ذلك الذي فيه النعم والأمين ( ۲ كو ۲۰:۱ ) فهى مواعيد صادقة وأمينة ولا يمكن أن يغير الله قضاءه أو يخلف وعده . انظر :

‏1- Clem: 1 Cor., 27, B. 1, 24.
2- Chrys: Ps. 11, 2, Monf. 5, 145. Mat. hom. 77, 1, Monf. 7, 836.

ولكن كيف تتفق أمانة الله مع ما ينسب إليه في الكتاب المقدس ــ في بعض الأحيان ـ من أنه يدفع للخداع والتضليل ، كما فعل مع أنبياء آخاب الذين جعلهم يتنبأون بالكذب(۱مل – ص ۱۳:۲۲ – الخ ) .

على أن هذا لا یعنی ان الله هو سبب الضلال ، بل كما قلنا سابقاً – إن الله يترك الاشرار ، بعد أن تبوء كل المحاولات معهم بالفشل، وبعد أن يستمرئوا الخطية ويرفضوا التوبة. وعند ذلك يسمح الله بأن يخدعوا ويضلوا . وهذا السماح بالخداع والضلال ، هو ما يعبر عنه الكتاب المقدس بلغة، قد توحى بنسبة الخداع والتضليل إلى الله ففي قصة آخاب ، ما يقال من أن الرب أرسل روح الكذب لكي تغوى آخاب ،لا يعني  ان الله أراد الخداع ، بل يعنى أن الله سمح لهذه الروح الكاذبة أن تقوم بخداع أنبياء آخاب فسماح الله بوقوع الضلال ، لا يجب أن يؤخذ على أن الله هو علة هذا الضلال . وشبيه بهذا ما جاء فى الرسالة الثانية إلى تسالونيكي ، حيث يقول الرسول بولس : ” وبكل خديعة الإثم فى الهالكين ، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا . ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب ، لكي یدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم ” ( ۲ تس ١٢١:٢ ). 

 

و واضح من هذه الآية ان الهالكين كانوا هم السبب فى هلاك وتضليل أنفسهم ، فهم “لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا”، وهم “لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم”، ولذلك فإن كلمة “سيرسل” في عبارة “سيرسل إليهم الله عمل الضلال” تعنى ان الله سيسمح بعمل الضلال ، ولا تعنى مطلقاً إن الله أراد هذا الضلال ودبره . انظر : 

‏Oikoum. 2 Thess. 2, 10-12, Theodor. M. 82, 66, 8, Theod. Mops, M. 66, 936

وفى ختام الحديث عن الصفات الإلهية ، لنا ملاحظتان :

الملاحظة الأولى :

ان ما قلناه عن الصفات ، هو محدود بمحدودية العقل البشرى وضعف إمكانياته ، ولا نستطيع أن نزعم أننا يمكن أن نبلغ إلى أعماق الذات الإلهية ، فهذا أمر مستحيل. ولكن مع ذلك، فإن هذا لا يمنعنا، من أجل فائدة حياتنا الروحية، ان نحاول بقدر الإمكان ان نتفهم الوجود الإلهي في علاقته بخليقته. 

الملاحظة الثانية :

هذا التقسيم والتمييز للصفات الإلهية التي درسناها فى الصفحات السابقة ، هو من تصنيف عقولنا البشرية المحدودة . أما حقيقة الأمر، فإن الذات الإلهية بسيطة غير مركبة، لا تقبل التقسيم، ولا توجد فيها هذه الصفات متميزة تميزاً موضوعياً.

زر الذهاب إلى الأعلى