تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس الكبير

المقالة السابعة: عن بركة يعقوب لأبنائه – عن يهوذا

 

 « يهوذا إياك يحمد إخوتك . يدك على قفا أعدائك يسجد لك بنو أبيك . يهوذا جرو أسد من فريسة صعدت يا ابني . جثا وربض كأسد وكلبوة . من ينهضه . لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب. رابطاً بالكرمة جحشه وبالجفنة ابن أتانه. غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه. مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن » ( تك8:49-12).

لقد صارت طريقة البركة ، بهذه الأقوال واضحة ، إذ تعلن مسبقا تدبير مخلصنا للبشر[1]. لقد عرض يعقوب – قبلاً – أهمية الاسم بالتهليل والهتاف ، وهكذا تفوق سبط يهوذا بالأكثر على الأسباط الأخرى. لأنه إذا أراد أحد أن يفسر معنى اسم یهوذا ، سيجده بمعنی : « حمد » أو « ثناء » أو « تسبيح » . والحديث يخص من نسل يهوذا ، أي المسيح حسب الجسد[2] ، والعذراء التي ولدته بالجسد ، قد أتت أيضاً من يهوذا و داود . يسجل يعقوب حقيقة الأمور – بمجرد رؤيته للاسم – كما هي واضحة من ذاتها ، فمعنى الاسم ( يهوذا ) برهان ساطع ، فسوف تصير (أيها المسيح ) ممجدا بالمجد الذي يليق بالله . لأنه لا يليق أن يُقدم المجد لأحد آخر ، إلا فقط ، لله الذي هو الكائن بالحقيقة والمعروف للجميع . لأنك بالرغم من أنك صرت إنسانا وأخليت ذاتك ، إلا أنك سوف تصير ممجدا ومهاب على الدوام . والأخوة الذين هم بشر ، سوف لا يتصرفون تجاهك بكونك إنسانا ، بل لأنهم شهود عيان لتصرفك بينهم ، سوف يعاملوك بكونك ربا ويسبحونك بكونك خالق . وبالرغم من وجودك معهم بين المخلوقات ، إلا أنهم سوف يعترفون بك کملك ورب الجميع مع إنك صرت في هيئة عبد.

و كون أن عمانوئيل سوف يصير سيداً على كل أولئك الذين يقاومونه وينتصر بسهولة على كل الأعداء ، فقد صرح بهذا قائلا : « يدك على قفا أعدائك » ( تك 8:49).

وهذا الأمر ذكره المسيح مسبقا بفم داود ؛ لأنه قال : « أسحقهم فلا يستطيعون القيام . يسقطون تحت رجلي . تمنطقني بقوة للقتال . تصرع تحتي القائمين عليَّ» ( مز ۱۸ : ۳۸ – ۳۹ ) . حسنا ، « يدك على قفا أعدائك » ، يقول هذا القول ؛ لأنه بالحري سوف يطردهم ولن يتقهقر، وكذلك لن يتمكنوا منه ، بل هو سوف يضربهم . لأن ما جاء في المزامير هو حق : « وأسحق أعداءه أمام وجهه وأضرب مبغضيه » (مز۲۳:۸۹). وبالرغم من أنه أعطانا السلطان أن ندوس الحيات والعقارب وكل قوات العدو ( انظر لو ۱۹:۱۰)، إلا أنه لابد وأن نعترف أنه يضع يديه – قبلنا – على الذين يتطاولون علينا ويهاجموننا بوقاحة[3]. وكون أنه لن يتقهقر بل بالحري سوف يسود عليهم كما يشاء بدون أدنى تعب ( لأنه قد انتصر على العالم ) ، هذا أعلنه مسبقا يعقوب العظيم ، قائلا : « يدك على قفا أعدائك . يسجد لك بنو أبيك » . حسنا ، ما هو الاختلاف بين الأخوة الذين يسبحونه ، وبنو أبيه الذين سوف يسجدون له ، كيف نتجاهل هذا الأمر؟

إن عبارة « بنو أبيك » تعني روحي أنهم أبناء أبيه في المسيح ، بينما في الحقيقة لم يكن يوسف النجار الطوباوي أباه . بل كان ليوسف أولاد وبنات من زواج سابق . ولأنهم قد تتبعوا يسوع ورأوه يصنع معجزات ، ولا يعطي أهمية عظمی لتقاليدهم الناموسية فيما يخص الأطعمة وراحة السبت ، إذ قال : « ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان » ( مت 15: 11) ، وأيضا قال : « ابن الإنسان هو رب السبت » ( مت ۸:۱۲ ) ، امتلكتهم الحيرة والدهشة ، فهُم لم يكرموه بسبب أنهم ظنوا أن أفكاره عن الناموس خاطئة، وفي نفس الوقت لم يستطيعوا أن لا يعبروا عن إعجابهم به وبهيبته وروعته . لذلك قالوا له بكل وضوح : « انتقل من هنا وأذهب إلى اليهودية لكي يرى تلاميذك أيضا أعمالك التي تعمل. لأنه ليس أحد يعمل شيئا في الخفاء و هو يريد أن يكون علانية » ( یو 3:7 – 4 ) . ويستمر الإنجيلي ، قائلا : « لأن أخوته أيضا لم يكونوا يؤمنون به » ( یو 5:7) . لكن أولئك الذين في البداية . قالوا هذه الأقوال ، قد آمنوا مع مرور الوقت. لأنهم عرفوا ، بالرغم من أنه ولد جسديا وصار إنسانا ، أنه الله بحسب الطبيعة ، هذا ما أقر به النبي إرميا الطوباوي وقاله عن عمانوئيل ذاته : « لأنك أخوتك أنفسهم وبيت أبيك قد غادروك أيضا . هم أيضا نادوا وراءك بصوت عال. لا تأتمنهم إذا كلموك بالخير » ( ار 6:12). هكذا أدانه أولئك وأناس آخرون – قديماً – إلا أنهم انجذبوا إلى الإيمان وتحدثوا عنه بكلام حسن. وحقا كتب يعقوب رسالته إلى الأسباط الاثني عشر ، قائلا : « يعقوب عبد الله والرب يسوع المسيح » ( یع ۱:۱). حسناً، سوف يسبحونه بكونه إلهاً، سوف يسبحه هولاء الذين ، بالإيمان والقداسة التي أتت من الإيمان ، قد دُعُوا لكي يصيروا أخوة. وسوف يسجد له أيضا أبناء أبيه . وواضح أن الساجدين له سوف يسبحونه ، كذلك أولئك الذين كتبوا التسبحة سوف يسجدون له. من جهة أخرى ، المسيح هو “أسد” آتٍ من يهوذا ، حقا ابن الله الذي يفعل كل شيء ، وتوجد فيه قوة تغلب بدون معركة ، فهو الوحيد الذي يمكنه بصوته أن يغلب أولئك الذين يقاومونه ويصيبهم بجراح. لأنه كما يقول النبي : « الأسد قد زمجر فمن لا يخاف » ( إر ۳:۸).

المسيح هو الأسد الذي ولد كما من نبت وجذر شریف ، من العذراء القديسة . لأنه حقا هو : « قضيب عزك » ( مز ۲:۱۱ ) الذي أرسله الله لصهيون ، العكاز الذي يسندنا كلنا ويعضدنا « قضيب استقامة قضيب ملكك » ( مز 6:45 ) ، هو الذي يرعی بحق ووداعة ، جمع القديسين ، أما أولئك الذين لا يحتملون رعايته ، فسوف « تحطمهم بقضيب من حديد . مثل إناء خزاف تكسرهم » ( مز ۲ : ۹). هذا هو عصا هارون التي كانت في الخيمة المقدسة ، في قدس الأقداس ، العصا التي ازهرت ونبتت ثمرة جوز، التي هي رمز للقيامة. لأن ثمرة شجر الجوز تسبب للذي يأكلها عدم النوم واليقظة الدائمة ، لذا ترمز إلى سر قيامة كنيسة الله.

لأجل هذا يدعوه يعقوب الطوباوي قضيباً لأنه رأي مسبقاً ( بالروح ) ما سوف يصير في نهاية خطة الخلاص ، إذ قال : « جثا وربض كأسد من ينهضه » ( تك 9:49 ) . أي سوف تخضع ( أيها المسيح ) للموت بإرادتك[4] وبالرغم أنك كأسد ، تستطيع أن ترعبهم وتخيفهم وتحرر وتفك قيود الأعداء ، إلا أنك رقدت بإرادتك ونهضت، وليس كما ظن هؤلاء ، الذين أرادوا أن يصلبوك ، أنك مهزوم من الموت ، بل أنت غفوت وأغلقت عينيك قليلاً.

حسناً، يقول : « من ينهضه » ، أي لقد نام بإرادته ، إلا أنه غير محتاج لمعونة آخر لكي يقيمه. لأنه هو قادر على كل شيء ، إذ هو قوة الآب و قادر بسهولة أن يعطي حياة لهيكل جسده . كان يقصد مثل هذا الأمر حين قال لليهود : « انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه » ( يو ۱۹:۲ ) . وكون أنه لا يحتاج معونة أحد، وانه هو نفسه يستطيع أن ينهض بمفرده ؛ لأنه هو قوة ذاك الذي ولده ، سوف يظهره حديثنا بكل وضوح.

إنه يظهر وقت مجيئه قائلا : « لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب » ( تك 10:49). لقد تسيد اليهود والرؤساء الذين كانوا من بني إسرائيل حتى هيرودوس الذي كان غريباً من جهة أبيه حيث كان فلسطينياً ودعي رئيس ربع وتولى السلطة ، وأثناء مُلكه ولد المسيح « مشتهى الأمم » . وكون أن جمع الأمم نالوا الخلاص عندما ولد المسيح ، لا نحتاج لأقوال كثيرة لنبرهن عليه ؛ لأن هذا الأمر يعلن بذاته عن نفسه . أما بخصوص أن إسرائيل سوف يُدعى بعد ما يؤمن الشعب الجديد من الأمم والمولود حديثاً، فهذا يقوله مباشرة : « رابطاً بالكرمة جحشه » ، لأن الكرمة الحقيقية ، أقصد المسيح قد ربط بذاته شعب الأمم الذي أشير إليه بالجحش ، وبعبارة « وبالجفنة ابن أتانه » ، أي ربط في حضن محبته ، الشعب اليهودي الذي آمن ، وهو الذي كان مولوداً من الأم القديمة ، أقصد المجمع وقد أشير إليه « بابن أتان » . وهل يوجد أحد يشكك في هذا الأمر خاصة أن كل الكتاب المقدس کرز بهذا السر وأعلنه؟

و كون أن دمه سوف يصبغ جسده وهو مُسمر على الصليب عندما طعن بالحربة ، فهذا يظهره يعقوب ، قائلا : « غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه » ( تك 11:49)[5]. وأيضا أشعياء النبي وهو يشير إلى صعود المسيح إلى السماء ، يقول كيف أن الملائكة القديسين قالوا : « من ذا الآتي من أدوم بثياب حُمر من بصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته . أنا المتكلم بالبر العظيم للخلاص . ما بال الباسك محمر وثيابك كدائس المعصرة » ( أش ۱:۲۳ – ۲).

وأيضا تصرفات اليهود الشريرة من لطمات وضربات واستهزاءات لم يعمل لها أي حساب بل استهان بها ، فهذا يظهره بقوله : « مسود العينين من الخمر » (تك 49 : 12) ، أي ارتسم السرور والفرح على عينيه ، وهذا يشير إلى فرح وسرور الطبيعة الإلهية ( انظر عب ۲:۱۲ ) . لأن عقل الذين يشربون الخمر يتجاهل عادة الأمور التي تسبب حُزناً ولا يعمل لها أي حساب . ولأن القول يخرج من الأسنان ، يقول : « مبيض الأسنان من اللبن » ، أي أن قوله بليغ ونقي وواضح . إذ أن المسيح لم يتحدث إطلاقا عن أمور خاطئة ، بل كان قوله فصيحاً وصريحاً ويليق بالقديسين ، ويسبب لسامعيه دهشة وتعجبا وبهاءا لنفوسهم وعقولهم ( راجع مر 22:1 ، لو 29:5) . 

فاصل

  1. يقول القديس أثناسيوس لليهود الذين مازالوا ينتظرون الماسيا : “ هكذا ، فحينما جاء قدوس القدوسين كان من الطبيعي أن تبطل الرؤيا والنبوة وتنتهي مملكة أورشليم . فقد كان يجب أن يمسح بينهم ملوك إلى أن يمسح قدوس القديسين . فيعقوب تنبأ أن مملكة يهوذا تبقى حتى مجيء ( المسيح ) قائلا : “ لا يزول حاكم من يهوذا ورئيس من بين أحقائه حتى يأتي المعد له ويكون هو رجاء الأمم ” . لهذا هتف المخلص نفسه قائلا : “ الناموس والأنبياء إلى يوحنا تنبأوا ” ( مت ۱۳:۱۱ ) . فلو كان الآن بين اليهود ملك أو نبي أو رؤيا لكان لهم العذر أن ينكروا المسيح الذي أتى فعلا . أما إن لم يكن هناك ملك ولا رؤيا ، بل قد ختمت كل نبوة من ذلك الوقت وأخذت المدينة والهيكل ، فلماذا يجحدون ويتمردون إلى هذه الدرجة ، حتى أنهم بينما ينتظرون ما قد حدث فإنهم ينكرون المسيح الذي جعل كل هذه الأمور تتم ؟ ” تجسد الكلمة ، فصل : 40: 3-4.
  2.  يقول القديس كبريانوس ( + 258) في رسالته ( 6:62) : ” في بركة يهوذا … نجد هناك أيضا رمزا للمسيح ، بأنه سوف يحمده إخوته ، ويسجدون له ، وأنه سوف يطارد فلول أعداءه المستسلمين والهاربين بيديه اللتين حملتنا الصليب وهزم بهما “الموت يداك على قفا أعدائك ” ، وأنه هو نفسه الأسد الخارج من سبط يهوذا الذي ينبغي أ أن يجثو لينام في آلامه ، ولكنه يقوم ، وسوف يكون هو نفسه رجاء الأمم ” .300 . A.N.F. VOL . , P شرح سفر التكوين ، سفر البدايات ، دار محلة مرقس ، طبعة أولى ۲۰۰۰ ، ص 496 .
  3. يقول القديس أغسطينوس ( 354-430) : “ وها نحن نرى يديه على قفا أعدائه الذين رضخوا وخضعوا إلى الأرض بنمو الجماعات المسيحية رغم مقاومتهم لها . وها نحن نرى بني يعقوب يسجدون له ، أعني البقية الباقية التي خلصت بموجب اختيار النعمة “ 196.N.P.N.F.1 series , pol.TV.P .. المرجع السابق ، ص 496.
  4.  يقول القديس أغسطينوس : “ موت المسيح قد تنبأ عنه بقوله : “ جثا وربض ” ، وأنه لم يكن على اضطرار ولكن موته كان فعلاً إرادياً ، ويتضح ذلك من وصفه كأسد . هذه القوة التي أعلن عنها هو نفسه في الإنجيل بقوله : “ لي سلطان أن أضعها ولي سلطان أن أخذها أيضاً. ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي ” ( يو ۱۸:۱۰). وهكذا فقد زأر الأسد وتمم ما قاله ، لأنه عن هذه القوة التي ظهرت بقيامته أضاف قائلا : “ من ينهضه ؟ ” . وهذا معناه أن أحداً لم ينهضه بل أقام هو نفسه ، هذا الذي قال أيضا عن جسده الخاص : ‘ ‘ انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه ” ( يو۱۹:۲) ” .196.N.P.N.F.1s series , pol.V , P.
  5. يقول القديس أغسطينوس : “ أما بالنسبة للباسه الذي غسله بالخمر ، أي طهره من الخطية بدمه ، ذاك الدم الذي يعرف سره أولئك الذين اعتمدوا ، لذلك فقد أضافت النبؤة : “ وبدم العنب ثوبه ، وأي شيء تكون ثيابه سوى أنها الكنيسة ؟ مسود العينين من الخمر ” : هولاء هم شعبه الروحي وقد سكروا من كأسه التي عنها يتغنى المزمور قائلا : “ وكأسك روتني مثل الصرف ” : “ ومبيض الأسنان من اللبن ” : التي تعني الكلام المغذي الذي قال عنه الرسول إنه شراب الأطفال الذين ليسوا قادرين بعد على الطعام الذي للأقوياء ’ ’ 335.vol.TV.P  N.P.N.F. 1st series , أما القديس نوفاتيان القس الروماني ( 210-258م ) في مقال له عن الثالوث شرح فيه التجسد الإلهي والفداء كما تعلنه الآية : « غسل بالخمر لباسه ، وبدم العنب ثوبه » قائلا : « إذا قلنا إن لباس المسيح هو اللحم والثوب هو الجسد ، فقد يسأل سائل : « ماذا يعني هذا الذي ثوبه الجسد ولباسه اللحم ؟ » أما نحن فمن الواضح عندنا أن اللحم هو لباس الجسد والجسد هو ثوب الكلمة ، وهو قد غسل جوهر جسده وطهر مادة لحمه بالدم الذي هو الخمر ، وذلك بواسطة آلامه التي بها هيئته الإنسانية التي اتخذها . لذلك ، فإنه إذا كان قد اغتسل ، فهو إنسان لأن اللباس الذي غسل هو اللحم ، ولكن الذي غسل هو كلمة الله ، الذي من أجل أن يغسل الثوب أتخذ له ( اللحم ) لباسا ۔ فإنه بعدل قد استعلن إنسانا باتخاذه لذلك الجوهر المادي حتى يمكن غسله ، لكي بسلطان الكلمة الذي قد غسله يُستعلن أنه الله » .633.A.N.F . vol . VI.p 

فاصل

عن شمعون ولاوي

المقالة السابعة 

عن زبولون

تعليقات لامعة على سفر التكوين
البابا كيرلس عمود الدين

 

زر الذهاب إلى الأعلى