الحرب المزدوجة قبالة المسيحيين

‏‏العظة الحادية والعشرون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[إن حرباً مزدوجة منصوبة قُبالة الإنسان المسيحي، أعني حرباً داخلية وأخرى خارجية : فهذه في إعراضه عن الملاهي الأرضية ، وتلك في القلب ضد افکار ارواح الشر]

[أ] الإنسان المسيحي يجابه حريين

1- إن الذي يريد أن يُرضي الله بالحق ، والذي يعادي حقاً جانب الشر المضاد ، تكون له مصارعة[1] في ساحتي كفاح وجهاد : الأولى في الأمور الظاهرة لهذه الحياة ، إذ يُعرض عن الملاهي الأرضية وعن محبة الرباطات العالمية وعن أهواء الخطيئة ؛ والأخرى في الأمور الخفية ، إذ يقاتل ضد أرواح الشر عينها ، التي عنها يقول الرسول : « فإن مُصارعتنا ليست مع دم ولحم، بل مع الرؤساء ، مع السلاطين ، مع ولاة العالم على هذه الظلمة ، مع أجناد الشر الروحية في السماويات » ( أف 6 : 12) )[2].

۲ – لأن الإنسان لما خالف الوصية ونُفي من الفردوس[3] قُيد بطريقتين و برباطين : أولهما في هذه الحياة ، في أمور هذه الدنيا وفي محبة العالم أي محبة الملذات والأهواء العالمية والغنى والمجد والمقتنيات والمرأة والأولاد والأقارب والأوطان والمواضع واللباس، وإجمالاً سائر المنظورات التي تأمره كلمه الله أن ينفك منها بمحض اختياره – إذ إن كل واحد يُكبل بجميع المنظورات بإرادته – حتى إذا ما فكَّ نفسه من جميع هذه وتحرر من ربقتها ، يستطيع أن يصير مالكاً للوصية بالتمام؛ وثانيهما في الخفاء، إذ قد طُوّقت النفس وأحيطت وسُيج حولها وكُبلت بسلاسل الظلمة من قبل أرواح الشر، فما عادت قادرة أن تحب الرب كما تشاء ولا أن تؤمن كما تشاء ولا أن تصلي كما تشاء. فعلى كل وجه ، إن في الظاهرات أو الخفيات ، قد آلت إلينا العداوة من تعدى الإنسان الأول . 

[ب]الحرب تنكشف لمن يشرع في الجهاد

3 – إذاً، إن كان أحد عند سماعه كلمة الله يجاهد ويطرح عنه أمور الحياة وأغلال العالم وينكر سائر الملذات الجسدية، حالَّا نفسه منها ، حينئذ إذا ما التصق بالرب وتكرس له، يمكنه أن يعرف أن في قلبه مصارعة أخرى وعداوة أخرى خفية وحرباً أخرى ضد أفكار أرواح الشر وجهاداً آخر منصوباً[4]. وهكذا إن كان يثبت ويدعو الرب في إيمان لا يتزعزع وصبر كثير وينتظر المعونة من لدنه ، يمكنه أن ينال من هناك العتق الداخلي من القيود والأسوار والسياجات وظلمة أرواح الشر ، التي هي أفعال الأهواء الخفية.

4 – لكن هذه الحرب يمكن أن تُبطل بنعمة الله وقدرته ، لأن أحداً لا يمكنه من تلقاء ذاته أن يُنجي نفسه من معاداة وضلالة الأفكار والأهواء غير المنظورة وأسلحة[5] الشرير. أما إن كان أحد مرتبكا بأمور هذا العالم المنظورة ، وواقعا في أشراك رباطات أرضية متنوعة ، ومنقاداً بأهواء الشر ، فإنه ولا حتى يدري أن هناك مصارعة أخرى ومعركة وحرباً تدور رحاها في داخله. فقد يحدث أن أحداً يستنهض نفسه مجاهداً ، ويفُك نفسه من هذه القيود العالمية المنظورة والأمور المادية والملذات الجسدية ، ويشرع في أن يلازم الرب، مفرغاً ذاته من هذا العالم ، حينئذ يتسنى له أن يدرك مصارعة الأهواء القابعة في داخله ، والحرب الباطنية ، والأفكار الشريرة . لأنه ، كما قلنا آنفا ، ما لم يجاهد الإنسان ويجحد العالم ويفك نفسه ، و بكل قلبه ، من الأهواء الأرضية ، ويهوى في أن يلتصق بالرب بالتمام والكمال ، فما يدري بضلال أرواح الشر الخفية ولا بأهواء الشر المستترة فيه ، بل يكون غريباً عن نفسه ، شأنه شأن من لا دراية له بجراحاته ، ومن ترعى فيه أهواء خفية وهو غافل عنها ، ذلك لأنه لا يبرح مكبلاً بالمنظورات ومتورطاً في حبائل أمور العالم بإرادته.

[ج] سلاح الله الكامل

5 – فإن الذي ينكر العالم حقاً، ويجاهد ، ويطرح عنه ثقل الأرض والشهوات الباطلة والملذات الجسدية والمجد والرئاسة والكرامات البشرية ، ويستنهض نفسه ، وينفض عنه هذه الأمور من كل قلبه – إذ يعضد الرب سراً جهاده المنظور هذا، وفقا لدرجة إنكاره لمشيئة العالم – ثم يداوم راسخاً في عبادة الرب بكل كيانه ، أعني جسداً ونفسناً، فإن ذاك يلقى في داخله معاداةً وأهواء كامنة وأغلالاً غير منظورة وحرباً غير ظاهرة ومجاهدة وصراعاً خفياً. وهكذا لو أنه توسل إلى الرب ونال من السماء أسلحة الروح – هذه التي سردها الرسول المطوب ، أي « درع البر ، وخوذة الخلاص ، وترس الإيمان، وسيف الروح »[6] – وتسلح بها فسوف يتمكن من أن « يثبت ضد مكاييد إبليس»[7] المخفية في وسط الشرور الحاضرة . فمتى اقتني هذه الأسلحة بواسطة « كل صلاة ومواظبة وطلبة»[8] وصوم ، وهذا كله بالإيمان ، فسيُمكنه أن يظفر بالرؤساء والسلاطين وولاة العالم في حربه معهم . وهكذا متى غلب القوات المعادية بمعيته للروح القدس في العمل[9] وباجتهاده في كل الفضائل ، يغدو أهلاً للحياة الأبدية ، ممجداً الآب والابن والروح القدس ، هذا الذي له المجد والسلطان إلى الأهور ، آمين . 


  1. = مصارعة لم ترد في العهد الجديد إلا مرة واحدة ، في ذات هذا السياق ، في أف 6 : 12 ، وهي الآية التي سيوردها القديس في نهاية هذه الفقرة.
  2. بحذق روحي لا يُبازی استلهم أنبا مقار هذه الآية في نصيحة عملية لأولاده ، إذ قال : ” إن كنا نتذكر الشرور التي تأتينا من الناس نقطع عنا قوة ذكر الله ( إذ إن حربنا ليست مع دم ولحم ) ؛ أما إن كنا نتذكر شرور الشياطين تلبث غير مجروحين “ . (36,Apoph , Mac )
  3. هذه الجملة الجامعة لهذه الكلمات الأربع معاً تذكرنا بمثيلة لها في القداس الباسيلي ، احتفظت فيها اللغة القبطية بنفس الكلمات اليونانية ، وذلك في قطعة ” قدوس قدوس .. “ التي يصليها الكاهن : وعندما خالفنا وصيتك …. فينا من فردوس النعيم.
  4. هذا التعليم ، والذي سيكرره القديس أكثر من مرة في هذه العظة ، يُذكرنا بقول في بستان الرهبان : ( قال قائل من الإخوة الرهبان لشيخ من الشيوخ : ” يا أبي ، لست أجد في قلبي قتالاً” ، فقال له : “إئك تُشبه القبة المرتفعة في وسط السوق ، فكل من أراد جاز تحتها، كذلك قلبك ، أما إن أغلقت باب قلبك ، ولم تدخله الأفكار الرديئة ، لنظرت الأعداء يقاتلونك قتالاً شديداً » . ( قول رقم 1167 ) 
  5. حرفياً: مجانيق، وقد وردت مرة في ۲ أخ 15:26 ، واثنتي عشرة مرة في سفري المكابيين ، وتُرجمت في جميع المواضع بكلمة ” منجنيق” ، وهي آلة حربية من آلات الحصار.
  6. انظر : أف 6: 14 ، 16 ، 17 . 
  7. انظر : أف 6 : 11.
  8. انظر : أف 6 : 11. 
  9. الكلمة اليونانية συν + ‘εργoς ) συνεργια) العمل مع، وهي تبرز التوافق والانسجام في العمل بين الله والإنسان (انظر مثلاً 1كو 9:3 ” نحن عاملاً مع συνεργoι الله)

فاصل

زر الذهاب إلى الأعلى