تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس عمود الدين

المقالة الثانية: 2- عن البرج وبنائه

 

عن البرج وبنائه

لم يكن ببعيد عن الطبيعة البشرية أن تحيا في الخيرات وتحيا حياة رغدة لأن مبدع الكل[1] قد جعلها كاملة وملانة من كل خير . ولكنها انقادت كثيراً نحو الخطأ الذي كان في البداية ، وفقدت – تدريجياً تلك الطبيعة التي كانت تبدو محترمة وكاملة من حيث اللياقة الكاملة . على سبيل المثال ، فقد خانت حالة عدم الفساد في آدم لأنه قيل له : « من التراب وإلى التراب تعود » ( تك 19:3) . هنا حُرم آدم من روح الله . ولأن الله رأى أن البشر أرادوا أن يفكروا فقط في الحماقة والشهوات الدنسة قال : « لا يدين روحي في الإنسان إلى الأبد . لزيغانه هو بشر وتكون أيامه مئة وعشرين سنة » ( تك 3:6) ، واحتمل الإنسان شراً آخر. بمعنی أن بعض الذين أدينوا بسبب الأفكار الغبية والهذيان السخیف قد غيروا اللغة وجعلوها مختلفة. لأنه يقول :« وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة . وحدث في ارتحالهم شرقا أنهم وجدوا بقعة في أرض شنعار وسکنوا هناك وقال بعضهم لبعض هلم نصنع لبناً ونشويه شیاً. فكان لهم اللبن مكان الحجر وكان لهم الحمر مكان الطين. وقالوا هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه بالسماء . ونصنع لأنفسنا أسماً لئلا نتبدد على وجه كل الأرض. فترل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنوها . وقال الرب هوذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كل ما ينوون أن يعملوه. هلم ننرل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض» ( تك 11 :1-8) .

لقد وبخ إله الجميع هذه الأعمال المتهورة . إنه لم يخف اكتمال البرج ، ولكن بسبب أنهم أرادوا أن يفعلوا شيئاً للتفاخر فأوقف – من لطفه – بطريقة مباشرة أعمالهم عن طريق بلبلة ألسنتهم مُظهراً أن الأفكار التي تتجاوز قدرات الإنسان ، عندما تنقاد إلى غير الممكن ، لا يتركها الله بدون توبيخ ، إذ بليل الألسنة لأن هذه الأعمال التي تحتاج فقط لقوة الخالق ، وأيضا لسلطانه ، ليس لأحد سلطان عليها إلا هو فقط. وحس أيضا أن ينسب تحول اللسان وبلبلة الكلام إلى الله الوحيد والحقيقي . لكن هذا الحدث بطبيعته لا بد وأن يثير ضحكنا؛ لأنني لا أعرف كيف تخيلوا أنهم سوف يمكنهم بالأحجار والطين أن يبنوا برجاً عالياً حتى السماء ؟

بلبلة الألسن ترمز إلى تشتيت اليهود

ولكن من الممكن – على ما أعتقد أن هؤلاء أيضا كانوا يمثلون صورة لعدم تبصُّر وطيش اليهود ، الذين ظنوا أنهم سيكونون في عشرة مع الله ، وأن هذه المسيرة نحو الأمور العالية سوف لا يحققوها عن طريق تفضيل إتمام الأعمال التي يريدها الله ويحبها ، ولا بالطبع عن طريق الإيمان بالمسيح ، ولكنهم فكروا بجهلهم أنهم ببناء برج عال سوف يحققون الأمور السامية فقط ليكونوا في مجد الآباء (الأجداد) . لأنهم كانوا دائماً وفي كل مكان يظهرون اسم إبرآم ، وقد بنوا مجدهم بالتفاخر بالأمور الأرضية . لكن الله وبَّخ أولئك الذين بنوا البرج وقسمهم إلى لغات كثيرة .

إذن ، نقول إن هذا الذي صار آنذاك لأولئك كان بمثابة نبوة عن كل الذي حدث لليهود . أي ، بسبب أنهم رغبوا كثيراً جداً في الأمور العالية وكانوا يرومون لمسيرة نحو العلويات عن طريق الأمور ( التفاخر المستمر ) التي لا تفيد، شتتهم الله إلى ألسنة كثيرة ، أي إلى كل الأمم . وحقاً شُتتوا مضطهدين من بلادهم ومدينتهم وبيوتهم وصاروا شاردين بين الأمم ، حسب كلام النبي ( انظر مز 41:106) . لكن في المسيح كان تعدد الألسنة هو علامة صالحة. لأن التلاميذ عندما كانوا مجتمعين في يوم الخمسين « صار بغتة من السماء صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت حيث كانوا جالسين . وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا » ( أع 2:2- 4) . إذن ، ما الذي تقوله هذه الكلمات ؟

إن الروح القدس منح لنا المسيرة نحو العلو وتحقق الصعود إلى السموات بالإيمان بالمسيح ، ويجب أن تتحد كل لغات المسكونة أي الشعوب أو الأمم بمعونة الروح. لأن كل لسان للبشر قبل المسيح أصبح يكرز بأسراره. إذا في حالة تعطيل بناء البرج وتشتت الناس في كل الأمم كان تعدد الألسنة رسالة مسبقة تقول بأنه عند مجيء المسيح ستكون هذه أداة للوحدة بمعونة الروح القدس وللصعود إلى فوق . لأن المسيح صار لنا « برج قوة » حسب كلمات المزمور ( انظر مز 3:61) الذي يحملنا إلى المدينة السمائية ويوحد البشر بطغمات الملائكة.

فاصل

  1. تترجم أحياناً: خالق الكل لكن حرفياً : مبدع الكل ، أي حين يخلق الله فهو يصنع بإبداع ما يخلقه ، بحسب القديس كيرلس يؤكد على أن الابن هو خالق ومبدع في شرحه نص يو 1 : 1 ، إذ يقول : « الإنجيلي يقدم لنا الابن الوحيد كخالق وصانع : « كل شيء به كان » وأيضا « وبغيره لم يخلق شيء » ، وبذلك أغلق إلى الأبد المدخل المؤدي إلى ضلال تعدد الآلهة . وأعلن الابن الوحيد ، للذين لم يعرفوه ( الوثنيين ) كخالق الكل . وهذه الكلمات يقول إن الخليقة قد خلقها الابن الوحيد ، لكي يظهر أنه لم يأت أحد إلى الوجود إلا بقوة الابن الوحيد ، فهو القوة التي أتت بكل الكائنات من العدم إلى الوجود » . شرح إنجيل يوحنا ، المجلد الأول ، ص ۷۷ 

زر الذهاب إلى الأعلى