الأسرار المقدسة

1 – ما هو معنى كلمة “السر” فى العهد الجديد؟

يتحدث معلمنا بولس عن “السرّ الذى كان مكتوماً فى الأزمنة الأزلية” (رو16: 25)، وهو يشير إلى معاملات الله فى العهد الجديد الذى حقق الخطة الإلهية العجيبة لكى ما يسترد المؤمن علاقة الحب والانفتاح على عمل الله، الذى يتحقق بصلب السيد المسيح وقيامته وعمل نعمته فى كنيسته ليهيأها كعروس سماوية يدخل بها إلى الآب فى مجيئه الثانى.

ركز آباء الكنيسة الأولى على الحديث عن “الأسرار الكنسية”، بكونها تُعد شعب الله كما تُعد كل عضو فيها ليتمتع بالبنوة لله خلال المعمودية، وسكنى الروح القدس فى المؤمن كهيكل الرب وروح الله يسكن فيه فى سر الميرون، والغسل المستمر من خطاياه خلال سرّ التوبة والاعتراف، والاتحاد المستمر بالمسيح خلال الإفخارستيا، والشفاء الروحى والجسدى خلال سرّ مسحة المرضى، وإقامة كنيسة البيت فى سرّ الزواج، وإتمام هذه الأسرار بالمسيح يسوع خلال سرّ الكهنوت.

خلال الألف سنة الأولى من صعود المخلص وحلول الروح القدس فى يوم الخمسين كانت الكنيسة تمارس الأسرار الكنسية دون أن تنشغل بعدد الأسرار، إذ لم يوجد بين المؤمنين من يشك فى عمل الله خلال هذه الأسرار الكنسية بل كان الكل متهللين بعمل الله فيهم.

تكشف هذه الأسرار الكنسية عن نظرة الكنيسة المقدسة للجسد المدعو للشركة مع النفس فى الأمجاد السماوية إذ يتمتع بطبيعة جديدة، وقد أوضح الرسول ذلك فى شئ من التفصيل فى الأصحاح الخامس عشر من رسالته الأولى فى أهل كورنثوس، حتى يشارك الجسد النفس فى الميراث الأبدى. فالمؤمن يدخل بكل كيانه إلى الميراث الأبدى.

ما ركز عليه الآباء أن هذه الأسرار يتممها السيد المسيح نفسه خلال الكاهن، وليس الكاهن مما عنده. يقول القديس أمبروسيوس أسقف ميلانو: [ليس داماسيوس ولا بطرس أو أمبروسيوس أو غريغوريوس هو الذى يُعمد. نحن نتمم كخدام، إنما شرعية الأسرار تعتمد عليك (يارب). إنه ليس فى سلطان بشرى تحقيق المنافع الإلهية، بل هى عطيتك يارب]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [حتى الآن المسيح الملاصق لنا الذى أعدّ المائدة هو بنفسه يقدسها. فإنه ليس إنسان يحول القرابين إلى جسد الرب ودمه، بل المسيح نفسه الذى صُلب عنا. فالكاهن ينطق بالكلمات، أما التقديس فيتم بقوة الله ونعمته. بالكلمة التى نطق بها: “هذا هو جسدى” تتقدس القرابين ([390])].

لا يكف روح الله عن العمل بكل وسيلة ليقودنا كعروس واحدة تتحد بالعريس السماوى، كلمة الله المتجسد يسوع المسيح، فيتحقق كمال العريس فى حضن الآب. الأسرار فى جوهرها خبرة إعداد العروس والتصاقها بالعريس بعلم الروح القدس، حسب مسرة الآب السماوى. حيث تتحقق شهوة قلب الله أن يقيم من البشر عروساً مقدسة لتحيا فى السماء، تتمتع برؤياه وشركة المجد الإلهى. إنها تمارس الحياة الزمنية على الأرض كتهيئة مستمرة لهذه الرؤية والعريس الفريد. كما هى دعوة شخصية للمؤمن باسمه، بكونه موضع حب الله وتقديره كعضو حىّ فى الكنيسة الجامعة الممتدة من آدم إلى آخر الدهور.

الأسرار هى عمل ليتورجى (جماعى كنسى)، خلاله يختبر كل مؤمن التجديد المستمر لأعماقه، فيرى ملكوت الله داخله (لو17: 21)، ويتشكل إنسانه الداخلى ليصير أيقونة العريس السماوى.

الأسرار الإلهية وهى تحتوى على قراءات من الكتاب المقدّس، وصلوات وابتهالات وتشكرات وتسابيح مع طقوس بترتيب وتدبير روحى فائق، إنما هى أغنية العرس التى تحول كل شئ إلى قيثارة يعزف عليها روح الله القدوس، فيسير موكب العروس وسط تهليلات السمائيين، فيشترك الكل فيه حتى الخليقة الجامدة.

2 – لماذا تُستخدم المادة فى التمتع بالأسرار الكنسية؟

تتحقق هذه الأسرار فى هذا العالم بكلمة الله والصلاة مع استخدام الماء فى المعمودية، والزيت المقدس فى الميرون والخبز والأباركة فى سرّ الإفخارستيا. أما فى السماء فلا حاجة للمادة للاتحاد بالله، لأن جسدنا الذى زُرع فى الفساد يقوم فى غير فساد.

الله الذى خلق الإنسان بجسده ونفسه، لا يحتقر المادة بل يقدسها، ففى الأسرار يُعلن الله تكريمه للمادة، فيستخدم روح الله الأمور المنظورة لتحمل قوة غير منظورة. لقد صار كلمة الله جسداً منظوراً، إذ صار إنساناً حقاً. وفى التجلى قدس الثياب فصارت بيضاء كالثلج (مت117: 2). صارت المادة فى الأسرار أشبه بورقة البنكنوت، مع أنها ورقة لكن قيمتها فيما تحمله من رقم معين وقد وقع عليها من له سلطان لإصدارها.

3 – ما هى غاية الأسرار الكنسية؟

ما يشغل قلب الكنيسة هو عمل الروح القدس فيها حيث يُعدها لعُرس لا ينقطع! يقول الرسول: “فإنى أغار عليكم غيرة الله، لأنى خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح”. (2كو11: 2). كأنه يشارك القديس يوحنا المعمدان فكره، قائلاً: “من له العروس فهو العريس وأما صديق العريس الذى يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس، إذا فرحى هذا قد كمل” (يو3: 29). ويقول السيد المسيح: “حينئذ يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى أخذن مصابيحهن وخرجن للقاء العريس” (مت25: 1).

كشف السيد المسيح عن دور الروح القدس فى حياة الكنيسة حتى بعد صعوده إلى السماء، قائلاً: “ومتى جاء المعزى الذى سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق، الذى من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لى” (يو15: 26). وأكمل حديثه عن الروح القدس قائلاً: “وأما الآن فأنا ماضٍ إلى الذى أرسلنى، وليس أحد منكم يسألنى أين تمضى؟ لكن لأنى قلت لكم هذا قد ملأ الحزن قلوبكم. لكنى أقول لكم الحق أنه خير لكم أن أنطلق، لأنه ان لم أنطلق لا يأتيكم المعزى، ولكن ان ذهبت أرسله إليكم… ذاك يمجدنى، لأنه يأخذ مما لى ويخبركم” (يو16: 5 – 7؛ 14).

من قبل تأسيس العالم والله فى حبه للإنسان يُعد كل شئ ليدخل به إلى أحضانه الإلهية فيعيش كما فى عُرس أبدى لا يشيخ، وعيد سماوى لا ينقطع. إن كان السقوط فى العصيان حرم الإنسان من التمتع بالالتصاق بالله مصدر سعادته الدائمة، ودخل به إلى حالة من التغرب، بل وإلى العداوة مع الله، فإن كلمة الله، الابن الوحيد الجنس، بحبه الإلهى تواضع أمام النفس البشرية ليخطبها له بعد أن قدم دمه الثمين على الصليب مهراً لها (1كو6: 20؛ 7: 23).

يقول مار يعقوب السروجى: [قامت أمتك بقسوة قلب لتقتلك! “أخرجن يا بنات صهيون، وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذى توجته به أمه فى يوم عُرسه، وفى يوم فرح قلبه” (نش3: 11)…

احتقرت أباها وأبغضته من سيناء، ولما تجسد ابنه لخلاصها أمسكته، ووضعته على الصليب، ووقفت ترقص وتضحك وتذدرى وتهزأ.

تعال يا موسى، أنظر العروس التى أخرجتها من مصر، ماذا تعمل بعريسها الطاهر!

تعال أنظر الوليمة التى وضعتها أمامه. أحضرت المرّ، مزجت الخل، استلت السيف. عوض المن أعطته الخل. عوض المياه المرة التى جعلها لها حلوة، وضعت له المرّ فى المياه الحلوة (حر15: 25). الكرمة المختارة صنعت عنباً رديئاً (إش2: 5)].

4 – ما هو ارتباط الأسرار ببعضها البعض؟

يعمل الروح القدس فى حياة الكنيسة الجامعة كما فى حياة كل عضو، مقدماً له الموهبة اللائقة به، خاصة فى الأسرار Ecclesiastical Sacraments.

أ. فى سرّ المعمودية يتمتع المؤمن بالميلاد الروحى، فيصير ابناً لله، وأهل بيت الله (أف2: 19). يتحدث مع الله بدالة البنوة، قائلاً: “أبانا الذى فى السماوات (مت6: 9). ويدرك عطية السيد المسيح له كعضو فى جسده. ويترقب مجئ الرب لينطلق بعروسه إلى المجد الأبدى.

ب. بعد العماد يُمسح جسده بالميرون المقدس “سرّ المسحة أو سرّ التثبيت”، فيسكن الروح القدس فيه ويقوده الروح القدس عبر كل حياته، إذ يهبه القوة والنمو والمعرفة والانطلاق من مجد إلى مجد.

ج. فى سرّ الإفخارستيا أو الشكر نتناول جسد المصلوب القائم من الأموات ودمه، كغذاء لأرواحنا.

د. فى سرّ التوبة والاعتراف، نتمتع بشفاء أمراضنا الروحية التى هى الخطيئة وكسر الوصايا والتراخى فى نمونا الروحى وجهادنا الروحى من أجل أنفسنا وخلاص إخوتنا فى البشرية.

ﮪ. فى سرّ الزواج يرفع الكاهن أو الأسقف عيون العروسين والشعب نحو إكليل القديسين مع العريس السماوى يسوع المسيح. أما بالنسبة للبتوليين بالروح والجسد، فيقول أوريجينوس الإسكندرى، أن البتولية طريق داخلى ملكى، خلالها تتمتع نفس المؤمن بالاتحاد مع عريسها السماوى، يسوع المسيح. يقول ر. كروزل Henri Crouzej: “تجعل البتولية اتحاد المسيح بالنفس أكثر إمكاناً. بذلك تشهد على الأمور الأولى والأخيرة. إذ تستدعى لأذهاننا الزيجة الكاملة بين المسيح والكنيسة، الكائنة منذ الأزل، والتى ستكون عند القيامة. فالكنيسة، العروس والبتول، تحتفظ ببتوليتها من خلال طهارة أعضائها، بممارستهم إما لحياة البتولية، أو لحياة العفة، طبقاً للحالة التى تناسبهم. فالعفة الملائمة لوضع الزواج هى عنصر فى بتولية الكنيسة ([391])].

و. فى سرّ مسحة المرضى يطلب الكاهن الشفاء من الأمراض الروحية مع الشفاء من أمراض الجسد حسبما يرى الرب ما فيه خير المريض وبنيانه وخلاصه.

ز. سر الكهنوت حيث يسند الروح القدس المدعوين للكهنوت كى تتم الأسرار الإلهية على أيديهم ويرشدهم كيف يقيموا حتى من الأطفال قادة متواضعين ناجحين كما فعل الرسول بولس الذى أقام من الشباب أساقفة مثل تيموثاوس وتيطس بل وانسيمس العبد الهارب، كما من العائلات مثل أكيلا وبريسكلا اللذين كشفا لأبولس طريق الرب (أع18: 26).

5 – لماذا لم يُشر قانون الإيمان إلى بقية الأسرار مكتفياً بسرّ المعمودية؟

أولاً: كان موضوع المعمودية مثل جدل، مثل موقف الذى تعمد من كاهن سقط فيما بعد فى إنكار الإيمان بسبب شدة الاضطهاد. وأيضاً ما موقف الذين اعتمدوا لدى هراطقة وطلبوا الانضمام إلى الكنيسة.

ثانياً: اهتمام الكنيسة أن يعتز أبناؤها ببنوتهم لله خلال المعمودية.

ثالثاً: لم توجد تساؤلات بالنسبة لبقية الأسرار.

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى