الثالوث القدوس

1 – ما هو التعليم الخاص بالثالوث القدوس؟

الله واحد فى الجوهر الفريد غير المنقسم ولا منفصل، ثالوث من جهة الأقانيم التي تتميز فيما بينها، وهي أقانيم أزلية لا بداية لها، خاصة بجوهرٍ واحدٍ، ولهم إرادة واحدة.

قيل: “إله وآب واحد للكل، الذي على الكل، وبالكل، وفي كلِّكم” (أف4: 6). “على الكل” يشير إلى الآب الذي هو مصدر الكل، “وبالكل” يشير إلى الابن أو “قوة الله وحكمة الله” (1كو1: 24)، “وفي كلِّكم” يشير إلى الروح القدس الذي يكمَّل الكل ويقّدِس الكل.

2 – كيف قدَّم لنا السيد المسيح عقيدة الثالوث القدوس؟

لم يتحدث معنا كلمة الله المتجسد بألفاظ لاهوتية، ولم يضع لنا صيغة إيمان ثالوثي بطريقة لاهوتية مباشرة، إنما أعلن لنا عن الثالوث القدوس خلال أعماله الخلاصية، وفيما يلي أمثلة لتوضيح ذلك:

أ – يعلن ربنا يسوع عن الآب كمحب البشر الذي أرسل ابنه الوحيد ذبيحة لخلاص العالم (يو3: 16) ويسألنا أن ندعوه “أبانا” (مت6: 9) حتى نثق في محبته الأبوية، إذ يعطينا أكثر مما نسأل.

ب – عندما يعلن ربنا يسوع عن علاقته بالآب، إنما يفعل هذا لنفعنا، فيقول: “الآب يحب الابن وقد دفع كل شيءٍ في يديه، الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية” (يو3: 35، 36)، كما يقول: “أبي يعمل حتى الآن وانا أعمل” (يو5: 17)، ويقول: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9).

ت – يعلن يسوع المسيح عن لاهوته من خلال أعماله لحسابنا. إنه يظهر ذاته كخالقٍ، إذ حوّل الماء خمراً في عرس قانا الجليل (يو2: 1 – 12) ليهبنا الفرح الروحي. وبكونه الخالق يهب البصر للمولود أعمى (يو9: 1 – 12)، ويُسَّكن البحر والرياح (مر4: 35 – 41)، ويطرد الشياطين والأرواح الشريرة (مر1: 23) لكي يحيا أحباؤه فى سلام. يعلن أيضّاً عن نفسه كغافر الخطايا (مر9: 2 – 46؛ لو7: 48) ويقدم نفسه لنا بكونه الحياة والحق والقيامة والخبز النازل من السماء وأيضّاً الطريق والباب والطبيب والعريس الخ، لنجد فيه شبعاً لكل احتياجاتنا.

ث – يقدم لنا الروح القدس بكونه المعزي الآخر والمعين (يو14: 26) الذي يسكن فينا (يو14: 17) والذي يعلمنا كل شيءٍ (يو14: 26) الذي يبكت العالم على الخطية (16: 18) ويهب قوة الشهادة للمسيح (أع1: 8).

3 – ما هي الصيغ الأولى الثالوثية؟

أعلن السيد المسيح عن ألوهية الآب والابن والروح القدس بصراحة خلال أعمالهم لأجل خلاصنا.

أ – قبل صعوده إلى السماوات أمر تلاميذه أن يعمدوا المؤمنين باسم الآب والابن والروح القدس (مت28: 19). أعطاهم صيغة للعماد فى بساطة دون ذكر كلمة “أقانيم”، إذ تكمن غايته فى ان يهب المؤمنين نعمة الأقانيم بالمعمودية. ويقبل الموعوظون خلال المعمودية أبوة الله (الآب)، والعضوية في جسد السيد المسيح، وسكنى الروح القدس في إنسانهم الداخلي.

ب – من أهم العبارات الخاصة بالعقيدة الثالوثية في العصر الرسولي هي التي للقديس بولس: “نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم” (2كو13: 14). يشهد الرسول للثالوث القدوس لكي يعلن عن النعمة الإلهية والمحبة والشركة، فيتقبل المؤمنون الله العامل فيهم ليصيروا شركاء الطبيعة الإلهية (2بط1: 3). واضح أن غاية نظام الكنيسة الأساسي في العصر الرسولي هو الشهادة خلال عبادتها ان الله أرسل كلمته يسوع المسيا، ومات وقام من الأموات فى اليوم الثالث، وصعد إلى السماوات، وسيعود في المجد لنقوم معه ونتمتع بحضرة أبيه. وأرسل أيضّاً روحه القدوس في كنيسته ليُعد ملكوته السماوي، ويهيئها للعرس الأبدي. بمعنى آخر إيمان الكنيسة الرسولية إيمان ثالوثي صرف، له أثر على كرازتها وعبادتها وسلوكها.

4 – ما هو موقف العهد القديم والعهد الجديد من الإيمان بوحدانية الله والثلاثة أقانيم؟

يؤكد العهدان القديم والجديد الإيمان بالإله الواحد، لكن العهد القديم يعالج هذه المسألة بنظرة سلبية، إذ كان هدفه أن يمنع المؤمنين من عبادة الأوثان، الآلهة الجامدة، ومن ممارسات رجاسات الأمم المرتبطة بالعبادة الوثنية (2مل21: 2؛ 2أي28: 3). أما العهد الجديد فيشهد للإله الواحد بمنظار إيجابي، لأنه لا يُعلن عن وحدانية الله فحسب، وإنما يعمق إيماننا بالله الواحد بإبراز الإيمان الثالوثي، الذي فى حقيقته لا يتعارض مع الوحدانية بل يؤكدها، بإعلانه عن بعض الأسرار التي لله الواحد وعلاقته بالبشر؛ وبدون الإيمان الثالوثي تظل الوحدانية غامضة. يعتبر الإيمان الثالوثي طريقاً أساسياً لخلاصنا، ويمس حياتنا العملية وعلاقتنا بالله ومستقبلنا الأبدي. هذا الإيمان لا يتعارض مع العقل الروحاني، بل بالأحرى يٌشبعه ويرفعه للتأمل في الأسرار الإلهية بفرحٍ.

يرى القديس غريغوريوس النزينزي[73] أن العهد القديم أعلن عن الآب علانية، وعن الابن خلال النبوات. وأعلن العهد الجديد عن الابن، وأوحى بلاهوت الروح القدس. وهكذا جاء الإعلان عن الثالوث تدريجياً، لئلا يصير الشعب أشبه بأناس تثقّلوا بطعام أكثر من طاقتهم، وقدّموا نور الشمس لأعينهم الضعيفة جداً عن رؤيته، لئلا يحدث خطر فقدان حتى ماهو فى حدود طاقتهم، وإنما كما يقول داود بالتدريج يصعدون ويتقدمون وينمون من مجدٍ إلى مجدٍ، فيشرق نور الثالوث على الذين يستنيرون.

5 – هل أورد الكتاب المقدس العقيدة الثالوثية بوضوح؟

ا – أُعلن الثالوث القدوس عند عماد ربنا يسوع (يو1: 27 – 33)، كما تتم معموديتنا باسم الأقانيم الثلاثة كقول القديس متى (مت28: 9). وردت هذه العقيدة في بركة القديس بولس في (2كو13: 14)؛ وذكر الأقانيم الثلاثة أيضاً في (يو14: 16؛ أف2: 18؛ 1بط1: 21، 22) الخ.

ب – أعمال وألقاب ربنا يسوع المسيح والروح القدس في الكتاب المقدس تشهد عن ألوهيتهما.

ت – أحد أضواء العهد القديم الثلاثة تقديسات (قدوس، قدوس، قدوس) الواردة في رؤيا (6: 3)، وارتباطها بالعبارة القائلة: “من يذهب من أجلنا؟” (6: 8). وأيضاً تُفهم الأقانيم من صيغة الجمع باستخدام كلمة “ألوهيم” (جمع) عن الله، وتكرارها حتى في فقرة واحدة (تث6: 4). كما استخدمت في بعض العبارات مثل: “قال الله نعمل الإنسان على صورتنا” (تك1: 26)، وأيضاً “هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض” (تك11: 7).

ث – كان العهد القديم يُعدّ العالم للإيمان بالثالوث القدوس، لكن لم يُعلن عن الثالوث لأن غالبيه الأمم كانت ساقطة في الاعتقاد بتعدد الآلهة. وتعرض إسرائيل للانحراف نحو العبادة الوثنية فكانوا أحياناً يعبدون آلهة الأمم، ويسقطون فى رجاساتهم حتى بعد نصرتهم على هذه الأمم.

ج – كان الله يُعدّ شعبه إسرائيل لكى يتجسد كلمة الله من اليهود، خاصة وأنهم إن قورنوا بالأمم المحيطة بهم يُحسبون خائفي الرب. فامتاز إسرائيل في العهد القديم بظهور كثير من الأتقياء الرب، وكثير من الأنبياء الذين تمتعوا بإعلانات إلهية خاصة بمجيء مخلص العالم.

6 – لماذا قام العهد القديم بالتركيز على أقنوم الآب؟

أبرز العهد القديم أن الله أب يحب خائفيه ويتراءف عليهم، فقيل: “لأنه مثل أرتفاع السماوات فوق الأرض قويت رحمته على خائفيه… كما يتراءف الأب على البنين، يتراءف الرب على خائفيه (مز103: 11، 13). أشير إلى الله أنه أب شعب إسرائيل (تث32: 6؛ مل2: 10؛ إش64: 8، 63: 16)، ليس لأنه يتجاهل الأمم، وإنما ليُعدّ العالم كله لقبول كلمة الله المتجسد، مخلص العالم.

لا نستطيع أن ننكر أن بعض الأمميين اهتموا بخلاص نفوسهم مثل راعوث المؤابية وراحاب الزانيه الكنعانية، اللتان ذُكرتا في نسب السيد المسيح (مت1)، فكانت الأولى رمزاً لقبول الأمم بالمخلص، والثانية رمزاً لفتح باب الخلاص للخطاة (الزناة) الذين يرجعون لله ويؤمنون بالمخلص، ويتمتعون بالعضوية الكنسية. ففي العهد الجديد، أعلن الله الآب أنه أب لجميع الذين يقبلونه ويؤمنون به دون تمييز بين اليهود وغيرهم من الشعوب. فخلال الرجوع إلى أبيهم، يسمعون صوته، قائلاً: “لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد” (لو15: 24). جاء العهد الجديد يكشف سرّ الثالوث القدوس لليهود كما للأمم.

7 – ما هو تعليم العهد الجديد عن الثالوث القدوس، مع وحدانية الجوهر؟

أ. قيل للقديسة مريم عند بشارتها بواسطة رئيس الملائكة جبرائيل: “الروح القدس يحلّ عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك ايضاً القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله” (لو1: 35).

ب. في عماد السيد المسيح أُعلن عن الثالوث القدوس بوضوح، فالذي تعمد هو الابن المحبوب الذي يُسرّ به الآب كما شهد له الآب من السماء، والروح القدس حلّ عليه في شكل حمامة (مت3: 16، 17؛ مر1: 9 – 11؛ لو3: 22).

ت. عندما تجلّى السيد المسيح على جبل تابور، ظهر الروح القدس كسحابة منيرة، وشهد الآب: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت، له اسمعوا” (مت17: 1 – 8).

ث. في الصلاة الوداعية تحدث السيد المسيح عن الروح القدس كمعزًّ آخر، وأنه يرسله من عند الآب (يو14: 16 – 26، 17).

ج. في الوصية الأخيرة التي أعطاها السيد المسيح قبل الصعود أعلن عن وحدانية جوهر الله، إذ طلب أن يعمدوا المؤمنين باسم (بالمفرد) الآب والابن والروح القدس (مت28: 19 – 20).

ح. الأقانيم الثلاثة لهم معرفة متساوية لأنهم واحد في ذات الجوهر.

خ. أعلن المجمع المسكوني الأول بنيقية عام 325م، خلال دراسة الكتاب المقدس والتقليد الكنسي أن يسوع المسيح “ابن الله الوحيد، المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق، واحد في ذات الجوهر، الذي به كان كل شيءٍ”.

8 – كيف يمكننا أن نقبل الإيمان الثالوثي بالرغم من أن الله بسيط؟ ألا يتعارض هذا الإيمان مع الوحدانية؟

يتهم البعض المسيحية بأنها تفتقر إلى البساطة، بمعنى آخر يتهمونها بالتعقيد لأنها تؤمن بثلاثة أقانيم في جوهر إلهي واحد. إنهم يتطلعون إلى هذه العقيدة كما لو كانت سراً يمكن ان يُفهم على أنه نوع من تعدد الآلهة، لهذا يدعون أنه لا حاجة إلى قبوله. لكننا نلاحظ أن أغلب الديانات التي ترفض هذه العقيدة وفي نفس الوقت بإله واحد مطلق، هي نفسها تؤمن بأسرار إلهية كثيرة لا يستطيع العقل أن يستوعبها في ذاته، فتتحدث عن يديّ الله ووجهه وعرشه الخ. بالرغم من إيمان الكل أن الله هو روح بسيط لا جسم له، ولا يمكن لعرشٍ أن يحده. ومع هذا يقبلون هذه التعبيرات كأسرار في معتقداتهم، وان كان بقبولها يمكن إساءة فهمها. بنفس الفكر نقول إن إيماننا بالثالوث القدوس هو سرّ أعلنه الله نفسه إلى البشر ويمكن للعقل أن يدركه بالنعمة الإلهية، ويتعرف على هذا الإيمان بكونه يؤكد وحدانية الله ويفسرها.

لا يجحد الإيمان الثالوثي بساطة الله، إنما إنكار هذا الإيمان يشوه بساطة الله، للأسباب الآتية:

أ – تؤمن كثير من الأديان أن كلمة الله أزلية، لأن الله لم يكن بدون كلمته حتى قبل وجود الزمن (يو1: 1)، بل وتعتقد بعض الأديان أنه حتى الكلمات والحروف التي لكلمة الله أزلية أيضاً. بدون الإيمان بالثالوث القدوس في جوهر إلهي واحد، تكون أزلية كلمات الله أو أقواله تعني أن الله لم يكن بسيطاً، إذ يكون متحداً مع كلماته أزلياً. لكن بحسب إيماننا، كلمة الله ليس “خارج” الله، إنما هي ذات كلمته الأزلي المولود منه كولادة النور من النور، كائن معه في ذات الجوهر، أي انه واحد مع الأب في ذات جوهره الإلهي (ousia).

يؤمن كثير من غير المسيحيين أن كلمة الله أزلية معه، وأنها أعلنت للأنبياء كعلامة عن محبة الله للبشر، وأن هذه الكلمة لا تتعارض مع بساطة الله، أما نحن فنقول بأن الكلمة “اللوغوس” ليس خارج الله، بل هو واحد معه أزلياً. فالله ليس كالإنسان بل هو كائن أزلي، ومن ثم كلمته “اللوغوس” كائن سرمدي مع الآب كشعاع النور. يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [كلمة الله واحد لا يتغير، كما هو مكتوب: “كلمة الله ثابت إلى الأبد” (مز119: 89) [74].].

ب – لا يتعارض الإيمان الثالوثي مع بساطة الله، لأننا لا نؤمن بثلاثة جواهر إلهية بل بجوهر إلهي واحد، ولكي ندرك هذا السرّ الإلهي يمكننا القول بأن الجوهر الإلهي موجود حقاً منذ الأزل، هذا الوجود “الكينونية” هو وجود عقلاني أزلي أي له (عقل) أو (حكمة) أو (لوغوس)، مولود من كينونته وليس خارجاً عنه وليس له جوهر إلهي آخر. لهذا عندما ندعو الكائن الإلهي “الآب” والكلمة “الابن” نؤكد أن الابن هو كلمة الله، حتى لا يسيء أحد اللقبين كما لو كان للآب والابن جوهرين منفصلين، ولئلا يظنوا أننا نعتقد بإلهين، فإننا نؤمن بإله واحد. بساطة الله لا تعني وجود الله دون كلمته أو عقله أو حكمته، حاشا أن يوجد الله غير عاقل!

بالنسبة لأثيناغوراس[75]، مدير مدرسة الإسكندرية، قال إن الله الأزلي له عقل Logikos، اللوغوس كائن فيه أزلياً، لذلك فالابن باعتباره اللوغوس لم يأتِ إلى الوجود بل هو أزلي.

هذا الكيان الإلهي، أو “الآب” حي أزلي، له حياته منبثقة منه وليست خارجاً عنه. تتميز “الكينونة” عن “الحياة”، لكنهما ليسا منفصلين، وليس لهما جوهران إلهيان، لأن “الحياة” خاصة بالكائن ذاته. يقول القديس ديونسيوس الإسكندري: [من الضروري الإيمان بالكائن العاقل الحي، جوهر واحد بسيط أزلي، لأن الثلاثة غير منفصلين ولم يوجد أحدهم قبل الآخرين. إنهم كالنار التي لها لهيب ونور وحرارة في ذات الوقت. هكذا نفهم ان الوحدانية غير متجزئة إلى ثالوث، بالعكس يجتمع الثالوث دون فقدان للوحدانية[76].].

ج – الله فريد في كل شيءٍ، حتى عندما يتحدث عنه الكتاب المقدس بكونه “الله الواحد”، فإن هذا لا يعني خضوعه لقواعد حسابية، إذ هو ليس بمحدودٍ. بمعنى آخر، يلزمنا أن نفهم لفظ “واحد” هنا ليس رقماً من بين الأرقام، إنما يعني “وحدة” لا يُنطق بها. لا يُمكن أن تختبر الوحدانية أو تفهم على إنها ترقيم، لأن هذا يجعل الله كائناً جامداً يخضع تحت العدد. لهذا السبب يقول أثيناغوراس[77] إن الله واحد، لكنه ليس كفردٍ بشريٍ مخلوقٍ وقابل للموت، مركب وقابل للانقسام (إلى أجزاء)، فإن الله غير مولود ولا متغير ولا قابل للتجزئة، فهو لا يتكون من أجزاء. ويقول القديس إكليمنضس: [إن الله واحد، يتعدى الواحد، فوق الوحدانيه ذاتها[78].].

9 – ما هي الآيات التي استخدمها منكرو لاهوت المسيح؟

أ – يقول السيد المسيح: “لأن أبي أعظم مني” (يو14: 28)، لأنه تجسّد وأخذ صورة عبد. يقول الرسول: “الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبدٍ، صائراً في شبه الناس، وإذ وُجد في الهيئة كإنسانٍ وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (فى2: 6 – 8).

ب – “الحق الحق أقول لكم لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئاً إلا ما ينظر الآب يعمل، لأن مهما عمل ذاك، فهذا يعمله الابن كذلك (يو5: 19). هذه العبارة لا تعني اعتماد الابن على الآب كمن هو أقل منه، إنما تعلن عن مساواتهما وتناغم عملهما معاً، وأن لهما إرادة واحدة، وسلطان واحد في كل شيءٍ، إذ لهما جوهر واحد مع الروح القدس، يشتركوا معاً في العمل.

ت – يقول السيد المسيح: “وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذى أرسلته” (يو17: 3). هذه العبارة لا تنفي مساواة الآب والابن، لأن قوله: “أنت الإله الحقيقي وحدك” يُقصد بها رفض الآلهة المزيفة.

ث – أشار السيد المسيح إلى نفسه أنه “ابن الإنسان” (مت8: 20؛ 9: 6؛ 11: 19 الخ.) لقد أراد تأكيد أنه بالحقيقة قد تأنس، لأن الغنوصيين ادعوا أنه بلا جسد حقيقي، إنما ظهر كمن له جسد.

ج – يقول الرسول: “بِكر First Born كل خليقة” (كو1: 15). لم يقل: “أول المخلوقات”، إنما بكر First Born فهو المولود من الآب قبل كل الخلقة.

10 – كيف كان الله محباً منذ الأزل؟

كيف كان الله خالقاً، محباً، صانع سلام منذ الأزل، قبل خلقه الكون؟ هل كان الخلق ضرورياً حتى تُنسب إليه هذه الألقاب؟ يجيب بعض المفكرين الذين لا يؤمنون بالثالوث القدوس عن هذه الأسئلة قائلين: إن لله هذه الألقاب والخصائص الأزلية “بالقوة” لا “بالفعل”، أما بعد الخلق فظهرت بالفعل. هذا يعني إن الخلق كان ضرورياً ليحقق الله به سماته الخاصة بالحب والسلام والرحمة الخ. فتصير بالفعل (أو بالعمل) بعد أن كانت بالقوة فقط.

قبولنا للإيمان الثالوثي أنه ثلاثة أقانيم في جوهر إلهي واحد يجعل حلّ هذا الأشكال سهلاً، لأن كل هذه الخصائص إنما تتركز في سمة واحدة وهي “المحبة”. بالحب خلق الله الكائنات السماوية والأرضيه. إنه رحوم وصانع سلام ورؤوف الخ. لأنه يحب الإنسان. يقول الكتاب المقدس: “الله محبة” (1يو4: 8)، الحب السرمدي. فإن الآب يحب الابن، ولم يكن هناك زمان لم يحب فيه الآب الابن. فالحب كخاصية إلهية هو حب أزلي بالقوة كما بالفعل، لأن الحب هو الله ذاته الذي يحب منذ الأزل وإلى الأبد؛ لم يكن في حاجة إلى خليقته لكي تكشف عن خصائصه. تحدث ربنا يسوع المسيح إلى أبيه الأزلي، قائلاً: “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم” (يو17: 24).

أُعلنت لنا العلاقة التي بين الثالوث القدوس الأزلية والمطلقة خلال معاملات الله معنا، خاصة خلال عمله الخلاصي. وقبل تسليمه لنفسه صلى ربنا يسوع المسيح للآب لحسابنا، قائلاً: “كما أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا… وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما إننا نحن واحد… وعرفتهم اسمك، وسأعرفهم، ليكون فيهم الحب الذي أحببتنى به، وأكون أنا فيهم” (يو17: 21 – 26).

خارج الإيمان الثالوثي إن قلنا إن الله يحب منذ الأزل ننسب له الأنانية، أي يحب نفسه، حاشا لله! هكذا بالنسبة للسلام فإننا نتساءل: مع من كان الله في سلام منذ الأزل؟ وهكذا توجد أسئلة كثيرة لا إجابة لها إلا في الإيمان بالثالوث القدوس في جوهر إلهي واحد.

التعليم الثالوثي يقوم على فهم كتابي لجوهر الله بكونه الحب، فلا يكون الله واحداً منفرداً ولا منعزلاً، إنما يوجد الآب مع الأقنومين الآخرين في جوهر واحد. يجب التمييز بين الواحد المنفرد والواحد (في وحدانية) التعليم الثالوثي لا يتحدث عن الله في وحدانية معتزلة مطلقة جامدة. ولا عن كائنات ثلاثة منفصلة؛ بل هو واحد في جوهره، له حركة سرمدية في الداخل والخارج لاتحاد أقنومي.

11 – كيف يكون لله ابن؟

أ. كل جوهر فعَّال لابد أن يلد شيئاً، فالنار تلد ضوءاً وتعطي حرارة. والعنصر المشع يعطي طاقة نووية، والعقل البشري السليم يلد أفكاراً حكيمة. هكذا لا يمكن أن يكون الله كائناً جامداً، فإن الابن مولود منه منذ الأزل، وهو النور المولود من النور. فالنور الذي لا يلد نوراً هو ظلام! [79].

يقول القديس ديونيسيوس السكندري: [كُتب أن يسوع المسيح هو “بهاء مجده ورسم جوهره…” (عب1: 3) “صورة الله غير المنظور” (كو1: 15)، كما أن الكلمة هي صورة العقل غير المنظور. لكن بهاء النور أزلي، (فالابن) ذاته بالتأكيد أزلي، لأنه كما أن النور موجود دائماً فواضح إن البهاء أيضاً يوجد معه على الدوام. فبوجود البهاء يفهم وجود النور، وبالتالي لا يوجد نور لا يعطي نوراً… من ثم فالبهاء يشرق قدامه منذ الأزل، ومولود منه على الدوام، يسطع في حضرته، إذ هو الحكمة، القائل: “كنت عنده صانعاً، وكنت كل يومٍ لذته، فرِحةً دائماً قدامه” (أم8: 30). فالآب إذن أزلي، والابن كذلك أزلي، لأنه نور من نور[80]]. ويقول البابا أثناسيوس الرسولي: [لو كان جوهر الله غير مثمر في ذاته بل هو عقيم – كما يدعون – فيكون كنورٍ لا ينير، وكنبعٍ جافٍ، أفلا يخجلون عندما يتحدثون عن قوته وطاقته الخالقة بينما ينكرون ما هو بالطبيعة؟ [81]] كما يقول: [الله أيضاً كلمته… ليس خارجاً عنه بل من ذاته. إن كان لله قوة الإرادة وفعَّال، فإرادته فعالة وقادرة على خلق الأشياء التي ستوجد؛ وكلمته فعّال وعامل، هذا الكلمة بالتأكيد يجب أن يكون هو إرادة الآب الحية، والطاقة الجوهرية، والكلمة الحقيقي الذي فيه يتأسس كل شيءٍ ويدبر حسناً[82].].

ويقول العلامة أوريجينوس: [ماذا نظن في النور سوى الله الآب؟ ألم يكن بهاؤه (عب1: 30) حاضراً معه؟ يستحيل تصور نور دون بهاء. إن كان هذا حقاً، فإنه لم يكن يوجد زمن فيه الابن ليس ابناً[83].].

ب. تكشف ولادة الابن الأزلية عن طبيعة الله الكائن المحب، الذي في حبه اللانهائي يلد الابن، مقدماً له ذات جوهره الإلهي بكونه واحداً معه. إنه حب فريد، أن “الكائن” يهب ذات جوهره. هذا الحب اللانهائى قد اُستعلن لنا ولكن بما يناسبنا.

ت – يُدعى الأقنوم الثاني “الابن” تأكيداً لوحدانية الجوهر مع الآب؛ ولئلا يٌفهم أنه منفصل عن الآب، كما لو كانا جوهرين وإلهين، دُعي “كلمته” و “حكمته”. بهذا نفهم بنوته بمفهومٍ غير بشرىٍ.

يقول القديس أثناسيوس: [يلزم عدم مقارنة الولادة الإلهية بتلك الولادة الطبيعية لدى البشر، وعدم اعتبار الابن جزءً من الله، كما لا تتضمن الولادة أي نوع من العواطف مهما كانت؛ فالله ليس إنساناً. بالنسبة للبشر يلدون من هو متغير. أما بالنسبة لله فالأمر غير هذا، لأن الله لا يتكون من أجزاء، ولا يتغير؛ فالابن لا يجعله يتجزأ.

هذا ثابت في الكتاب المقدس وواضح ومُعلن فيه. فإن كلمة الله هو الابن، والابن هو كلمة الله وحكمته. الكلمة أو الحكمة ليس مخلوقاً ولا هو جزء ممن هو كملته، وليس نسلاً يمكن بدوره أن يتناسل. يوجد بالكتاب المقدس اللقبان معاً، فيتحدث عن “الابن” ليعلن عن الميلاد الطبيعى الحقيقى الكامن في جوهره، ومن ناحية أخرى لئلا يظن أحد أن هذه البنوة تشابه التناسل البشري، بينما يشير إلى جوهره يدعوه أيضاً الكلمة والحكمة والبهاء، ليعلمنا أن هذا الميلاد غير قابل للتغيير، أبدي، لائق بالله[84].].

يليق بنا ألا نتطلع إلى الله بمنظارٍ مادىٍ، فإنه ليس كائناً بشرياً أو مخلوقاً. عند سماع لقبي الآب والابن لا يعني هذا إن الله تزوج وأنجب إلهاً آخر، إذ لا وجود للجنس في جوهر الله.

يلد الآب الابن كما تلد الشمس أشعتها أو كما يُولد العقل من نفس الإنسان، والبهاء من النور. هذه الأمثلة وغيرها قاصرة عن التعبير عما هو إلهي.

12 – كيف نفهم وحدة الثالوث القدوس؟

وحدة الثالوث القدوس فريدة، ليست كامتزاج السوائل والمواد، ولا كوحدة نفس الإنسان بجسده، ولا كاتحاد لاهوت المسيح بناسوته.

كل أقنوم يملأ الأقنومين الآخرين وهو مُحتوى فيهما لكنه متمايز عنهما. يقول القديس أثناسيوس: [كيف يمكن للواحد أن يكون محتوياً في الآخر، والآخر فيه؟ “انا والآب واحد” (يو10: 30) ويضيف: لكي تعرفوا: “أنى أنا في الآب، والآب فيّ” (يو14: 10). علاوة على هذا يقول: “الذي رآني فقد رأى الآب” (يو14: 9). المعنى واحد في هذه العبارات الثلاث. لأن من يعرف أن الآب والابن هما واحد يدرك أيضاً أن الابن في الآب والآب في الابن، لأن لاهوت الابن هو ذات لاهوت الآب في الابن. ملء لاهوت الآب حال في كيان الابن، والابن هو الله الكامل. لاهوت الابن ونمطه ما هو إلا لاهوت الآب ونمطه. هذا ما قاله: “آنا في الآب”. وهكذا “الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه” (2كو5: 19). لأن خاصية جوهر الآب هي للابن الذي فيه تصالحت الخليقة مع الله[85].].

كما يقول: [الثالوث القدوس المبارك غير قابل للتجزئة وهو واحد في ذاته. فإذا ما ذكرنا الآب نعني ضمنياً الابن الكلمة، كما نعني أيضاً الروح القدس الذي في الابن. وإذا ذكرنا الابن فإن الآب في الابن والروح القدس ليس خارج الكلمة، لأنه توجد نعمة واحدة تتحقق من الآب بالابن في الروح القدس[86].].

ويقول القديس هيلاري أسقف بواتييه عن وحدانية الثالوث القدوس: [جعل المسيح رسله يعمدون باسم الآب والابن والروح القدس، أي الاعتراف بالخالق والابن الوحيد الجنس والعطية. لأن الله الآب هو واحد، منه كل شيءٍ؛ وربنا يسوع المسيح الابن الوحيد الذي به كان كل شيءٍ (1كو8: 6) هو واحد؛ والروح عطية الله لنا، الذي يتخلل كل شيءٍ هو أيضاً واحد (أف4: 4). هكذا الكل قد تعظّم حسب القوى التي لهم والمنافع التي يمنحونها، القوة الواحدة التي منها الكل، الابن الواحد الذي به كل شيء، العطية الواحده التي تهبنا رجاء كاملاً. لا يمكن أن يوجد نقص في هذا الاتحاد السامي الذي يحتضن الآب والابن والروح القدس، غير محدود في سرمدية، مثاله في صورة تعبر عنه، وتمتعنا به في العطية[87].].

13 – هل للابن مشيئة يُمكن أن تتعارض مع مشيئة الآب؟

بالنسبة لوحدة الثالوث القدوس في المشيئة الإلهية، يقول ج. ل. بريستيج G. L Prestige: [يلاحظ أوريجينوس[88] إن مشيئة الله قائمة في مشيئة الابن وأن مشيئة الابن لا تنحرف قط عن مشيئة الآب. لا توجد مشيئتان بل مشيئة واحدة، تتحقق هذه المشيئة الواحدة بكلمات ربنا القائل: “أنا والآب واحد”. ويكرر العلامة أوريجينوس[89] القول بأن الآب والابن “متميزان” pragmata موضوعياً، لكنهما واحد في الاتفاق والانسجام وتحقيق القصد. يتبع أثناسيوس[90] أوريجينوس في تأكيد مشيئة واحدة تصدر عن الآب قائمة في الابن بحيث يُرى في الآب، والآب في الابن[91].].

ويقول Prestige أيضاً: [كما أن الله واحد في المشيئة فهو واحد في العمل أو “الطاقة”. يرجع هذا التعليم إلى أثناسيوس، حيث يمثل جانباً من براهينه على لاهوت الروح القدس. هكذا يعرض هنا الفكر بإسهاب[92]، قائلاً إن الآب هو نور، والابن هو بهاء هذا النور، والروح القدس الذي هو الوكالة الذي به تنال البشرية استناراتها (المعرفة) يلزم أن يكون متمايزاً في الابن. فعندما نستنير، فالمسيح نفسه الذي في الروح هو ينيرنا، إذ يقول القديس يوحنا: “المسيح هو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسانٍ” (يو1: 9). بالمثل الآب هو النبع، والابن يُدعى النهر الذي يفيض من هذا النبع، ويقول الكتاب المقدس أيضاً إننا نستقي من الروح. بارتوائنا من الروح نستقي من المسيح نفسه. مرة أخرى المسيح هو الابن الحقيقي، لكننا بالروح نصير أبناء، وننال روح التبني. من هذا يستنتج[93] (أثناسيوس) أنه يوجد ثالوث كامل قدوس، يعبرعنه بالآب والابن والروح القدس، لا يحوي شيئاً غريباً صادراً من منبع خارجي. بطبيعته يحوي ذاته بذاته، دون تجزئة، طاقته واحدة، إذ يعمل الآب في ثبات بالكلمة في الروح القدس. على هذا فوحدة الثالوث القدوس محفوظة، لهذا يكرز بإله واحد في الكنيسة، هذا الذي هو فوق الكل وبالكل وفي الكل. فوق الكل هو الآب الأصل والمنبع، وبالكل بالكلمة، وفي الكل بالروح القدس[94].].

يدافع القديس ديديموس الإسكندري عن مشيئة الثالوث القدوس الواحدة[95]. ويؤكد القديس كيرلس[96] وحدة عمل الثالوث القدوس؛ فالآب يعمل بالابن في الروح القدس؛ كذلك يعمل الابن بكونه قوة الآب، لأن كيانه (الأقنومي) هو من الآب وفي الابن، والروح القدس يعمل لأنه روح الآب والابن. يقول القديس كيرلس الكبير:

[واهب الروح الإلهي المحيي هو الابن المولود من الله، الذي يشارك الحياة، ويتقبل الطبيعة الإلهية الكاملة من الآب؛ والذي فيه الابن والروح المحيي، يقوم الأخير بخلق الحياة للذين ينالونه[97].].

[في الطبيعة الإلهية الواحدة الثلاثة أقانيم المتمايزون يتحدون في جمالٍ سامٍ واحد؛ ونحن أيضاً نتشكل بقبولنا ختم بنوي بالابن في الروح[98].].

[شكراً للروح، إذ نتشكل حسب جمال الابن الإلهي الفائق، نشترك في الطبيعة الإلهية[99].].

[يمنحنا الابن كمال رائحة الذي ولده (الآب). به وفيه نتقبل رائحة معرفة الله، ونغتني بها[100].].

ويقول القديس إيريناؤس: [بخصوص عظمته لا يمكن معرفة الله… أما بخصوص حبه فهو معروف دوماً بكلمته… وبالروح الذى يحتضن الإنسان ويهبه سلطة إلى مجد الآب[101]]. كما يقول: [الآب يُعلن، والروح حقاً يعمل، والابن يخدم[102]].

ويقول القديس أمبروسيوس: [ليس من أمر ما مستبعد، فالابن له ذات الإرادة التى للآب[103]].

14 – ما هو أثر الإيمان الثالوثي على حياتنا اليومية؟

للإيمان دور أساسي في عبادتنا وعلى مفاهيمنا واشتياقاتنا وفي سلوكنا. هنا بعض الأمثلة لذلك.

أ – يجب أن نميز بين الوحدانية التي تقوم على الإيمان الثالوثي والوحدانية المطلقة التي قامت في مواجهة تعدد الآلهة. فالإيمان بتعدد الآلهة تأسس غالباً على الصراع بين هذه الآلهة، مما كان له أثره على حياة الإنسان الداخلية، حيث يجد الإنسان فى الصراع نموذجاً لحياته؛ فيمارسه الإنسان ليس فقط ضد الآخرين، وإنما حتى ضد نفسه. فالوحدانية كانت لازمة لفهم العهد القديم حسناً، لمنع الناس من السقوط في تعدد الآلهة، لكن ان فهمنا الوحدانية خارج الإيمان الثالوثي نظن في الله كائناً جامداً ومخيفاً، ذا سمات مطلقة، يخلق هذا الإيمان نوعاً من “الفردية والانعزالية”، إذ يتطلع المؤمن إلى الله كمثالٍ له، فيراه الوحيد الذي لا يُدنى منه، كمن هو معتزل في سماواته، لا تقوم فيه أية حركة. أما الإيمان بالوحدانية خلال سرّ التثليث فيقدم نموجاً إلهياً للمؤمنين عن “وحدة الحب”. فيحثنا على ممارسة الحب على أثر خطوات الثالوث القدوس وخلال عمله فينا.

ب – في هذا السرّ نتعرف على “الأبوة والبنوة” فى معانيهما اللانهائية، فالآب يلد الابن كما يُولد النور من النور، مقدماً له ذات جوهره. هذه العلاقة الفريدة لا يمكن أن توجد خارج الله، أقصد أن للآب والابن جوهر واحد بسيط. خلال هذه العلاقة نتمتع بالتبني لله، إذ نقبل الآب أبانا باتحادنا معه في ابنه الوحيد. خلال هذا السرّ لا تُحصر علاقتنا بالله في دائرة ضيقة كعبيد مع سيدهم، إنما يقبلنا أولاداً له (رو8: 15 – 23؛ أف1: 5).

خلال هذه العلاقة الجديدة نتمتع بحركة حب إلهي لا تتوقف، مترجين لا أن ننال منافع من الله في هذا العالم الحاضر أو حتى في الدهر الآتي، بل نقتنى الله نفسه، نرث أحضانه كمسكنٍ أبدي لنا. بمعنى آخر يحول الإيمان الثالوثي علاقتنا بالله من علاقة منفعة ذاتية إلى شركة حب متبادل.

ت – يهبنا الإيمان الثالوثي فهماً متسعاً للكمال، إذ يتساءل البعض: كيف يمكن أن يكون الآب كاملاً في سماته وهو لا ينفصل عن الابن والروح القدس (أي يشاركانه سماته)؟ ونفس الأمر بالنسبة للابن والروح القدس. نجيب أن الكمال الحقيقي لا يُستعلن خلال الاكتفاء الذاتي الانعزالي، وإنما خلال حركة الحب الأزلي في الله والعلاقات المتبادلة اللانهائية.

يبلغ الإنسان الكمال لا بتمجيد ذاته ولا باكتفائه بذاته، وإنما خلال الوحدة مع الغير القائمة على الحب. الإنسان الكامل ليس هو من يغذي الذات (الأنا) ego من أجل اقتناء مجدٍ باطلٍ ونفعٍ لحسابه، بل هو ذاك الذي يحب الغير ويقبل حبهم له دون مقابلٍ.

4 – للإيمان الثالوثي أثره على كل الحياة البشرية حتى خلال العبادة:

أ – فى العهد القديم لم يكن المؤمنون قادرين على قبول الإيمان الثالوثي الذي يؤكد الوحدانية الحقيقية. كان لهذا النقص أثره على عبادتهم، إذ تطلعوا إلى الله ككائنٍ لا يُدنى منه، يعبدونه خشية أن يغضب عليهم. أما في العهد الجديد إذ قبل المؤمنون الإيمان الثالوثي تعرفوا على الله الذي يعلن حبه باحتضانه للبشرية واجتذابهم إلى الحضن الأبوي لينعموا بأسراره ويشاركونه أمجاده. لم يعد البشر مجرد آلات تخدم الله بطريقة آلية، إنما هم أبناء محبوبون يتمتعون بالأسرار الإلهية.

ب – يستأصل الإيمان الثالوثي كل جذور الأنانية، فإذ نرفع صلواتنا يجتذبنا الإيمان إلى الثالوث القدوس، الحب السرمدي، فنصلي من أجل خلاص كل البشرية بقلبٍ متسعٍ منفتحٍ!

ت – للإيمان الثالوثي أثره حتى على حياتنا الاجتماعية، فإذا اخترنا الزواج نترجى في الأسرة أن تكون أيقونة المحبة الثالوثية، يجد المؤمن مسرته في مسرة الغير، ويعمل كعضوٍ في الجسد لأجل بنيان الأسرة كلها. بهذا المنظار تكون الأسرة وحدة حب حقيقي، فيها يشتاق كل عضوٍ أن يعطي لا أن يأخذ! من جانب أخر إن اخترنا الحياة الديرية نقدم قلباً مفتوحاً نحو الكنيسة كلها بل ونحو العالم أجمع، هذا ما نعلنه خلال سجودنا المستمر وصلواتنا الدائمة من أجل كل البشر!

15 – ما هي التشبيهات التي قدمها الآباء للثالوث القدوس؟

اهتم الآباء بتوضيح هذا السرّ، لأن اللغة البشرية قاصرة عن أن تعبر عنه، ولم تقدم الطبيعة كلها مثالاً لوجود جوهر واحد في ثلاثة أقانيم متمايزة. عندما نقدم بعض الأمثلة لتوضيح هذا السرّ الإلهي نفترض مسبقاً أن جميعها لا تفسره إلا جزئياً، أي من جوانب معينة دون الأخرى، حتى يمكن لعقلنا قبوله. للتعرف على هذا السرّ نحتاج إلى النعمة الإلهية التي تهبنا الشركة مع الثالوث القدوس، أي الشركة مع الآب في ابنه بالروح القدس.

أ. خُلق الإنسان على صورة الله (تك1: 27؛ 5: 2)، نفسه موجودة كائنة عاقلة وحيّة. النفس واحدة، إلا أن كيانها متمايز عن عقلها وأيضاً عن حياتها، ولا ينفصل الثلاثة عن بعضهم البعض.

ب. وعد الله أن يحفظ كنيسته، قائلاً: “وأنا يقول الرب، أكون لها سور نارٍ من حولها وأكون مجداً في وسطها” (زك2: 5). للنار ثلاث خواص ذاتية تشبه الأقانيم: لهيب ونور وحرارة منبعثة عنه، لكنها ليست أقانيم، لأن الواحدة لا تملأ الآخرين. من خلال النور يمكننا أن نتعرف على النور، وهكذا أيضاً من خلال الحرارة.

ت. للشمس كيان ككوكبٍ، وهي تولد أشعة وتبعث حرارة ومع هذا فهي شمس واحدة. ندعو الكوكب نفسه شمساً وأيضاً أشعته تُدعى هكذا، وكذلك الحرارة.

ث. التفاحة: يُشبه الله بالتفاحة، إذ قيل: “كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبى بين البنين” (نش2: 3). للتفاحة ثلاث خواص: مادتها التي نأكلها وطعمها ورائحتها، ويمكننا التعرف على التفاحة من طعمها أو رائحتها.

16 – ما هو مفهوم السمات الأقنومية؟

الله البسيط في جوهره هو ثلاثة أقانيم والجوهر واحد. أقنوم الآب يقدم لنا الأبوة التي ننالها باتحادنا مع الابن الوحيد الجنس، الابن بالطبيعة، فننعم بالبنوة بالنعمة الإلهية ونختبر أبوة الآب التي تخصنا كأبناء له، كما نتمتع ببنوة الابن التي تهبنا حق التبني للآب. ويقدم لنا الروح القدس المنبثق من الآب البنوة للآب، ويقدسنا ويجددنا على الدوام فنحمل أيقونة الابن المحبوب لدى الآب. هكذا يعمل الثالوث القدوس فينا على الدوام ليهيئنا للميراث الأبدي والحياة الأبدية الخالدة.

إن كانت الأقانيم الثلاثة لها جوهر واحد، فإن السمات الأقنومية لا تفصل أي أقنوم عن الأقنومين الآخرين، وهي ليست جزءاً من الجوهر، إنما هي طرق الوجود الأزلي. فالآب هو العلّة وهو غير مولود، والابن مولود من الآب أزلياً، والروح القدس منبثق من الآب أزلياً. هذه التعبيرات الثلاثة: العلة والولادة والانبثاق لا تُفهم بأسلوب بشري مادي. فالآب هو آب منذ الأزل لم يكن موجوداً بدون الابن، والابن بولادته ليس أقل من الآب، وإنما كولادة النور من النور.

يترجم البعض كلمة ينبثق “يصدر عن… أو يشرق من…”.

لم يوجد وقت ما كان فيه الآب بدون الابن أو بدون الروح القدس، فالولادة والانبثاق من الآب لم يتما في وقتٍ ما. الابن مولود من الآب، والروح القدس منبثق منه دون انفصالهما عن الآب.

الابن ليس جزءاً من الآب، بل هو صورة كاملة وتامة وهو بهاء الآب. لذلك يُدعى الابن “اللوغوس” أو الكلمة الصادرة عن العقل. قيل عنه إنه ضياء الآب أو بهاؤه الذي يصدر عنه، لكن بدون انفصال عنه.

ولادة الابن لم تصدر عن إرادة ما، بل هي ولادة طبيعية أزلية. هذا لا يعني أن الآب لا يريد الابن، بل ولادته طبيعية أزلية، فالآب منذ الأزل يحب الابن (يو3: 35). بهذا سمة الحب في الله لم تكن تحتاج إلى ممارسة خارجاً عنه، فهو محب قبل خلقة السماء والأرض.

لا نستطيع أن ندرك كيف تتم ولادة البهاء من النور، فكم بالأكثر يعجز عقلنا البشري عن إدراك كيفية ولادة الابن من الآب الأزلية؟! وما نقوله عن ولادة الابن الأزلية من الآب، هكذا أيضاً نقوله عن انبثاق الروح القدس الأزلي من الآب.

17 – ما هو دور السمات الأقنومية بخصوص هوية الجوهر الإلهى؟

تعلن السمات الأقنومية عن العلاقة بين الأقانيم الثلاثة، وأنه لا يوجد انفصال الواحد عن الآخرين، وفي نفس الوقت يوجد تمييز واضح لكل أقنوم، فلا يُقال عن الآب أنه الابن أو الروح القدس الخ. لأننا بهذا نسقط فى بدعة سابيليوس Saballianism التي نادت بأن الله ظهر بكونه الآب وأخذ شكل الابن خلال عمل الخلاص ويأخذ شكل الروح القدس في إتمام العماد… ففي نظر سابيليوس أن الأقانيم هم ثلاثة أشكال لأقنومٍ واحدٍ.

بقولنا وجود جوهر واحد وثلاثة أقانيم لا نستطيع القول إن كل أقنوم هو جزء من الجوهر الواحد. كل أقنوم كامل وليس جزءاً من الجوهر، ولا ينفصل عن الأقنومين الآخرين المتميزين.

18 – ما هي السمات الجوهرية المشتركة في الثالوث القدوس؟ وما هي السمة الخاصة بكل أقنوم؟

الأقانيم الثلاثة لهم سمات مشتركة مثل بلا بداية، ولا نهاية، يتسم كل منهم بالحب والصلاح والقداسة والخلق والعناية الإلهية، وكلي القدرة، والحضور في كل موضع، ولا يمكن وصفه، والعالِمْ بكل شيءٍ.

أما عن السمة الخاصة بكل أقنوم، فيقول القديس غريغوريوس أسقف نيصص: [هكذا لا يمكن لخاصية أقنوم الآب أن تنتقل إلى الابن أو إلى الروح القدس. إنها خاصية الآب أنه موجود بدون علة، وهذا لا ينطبق على الابن والروح، فإن الابن خرج من عند الآب (يو16: 28)، ويقرر الكتاب أن “الروح ينبثق من الله، من الآب” (يو15: 26) [104].] ولن ينفصل أي أقنوم عن الأقنومين الأخرين، لأن الجوهر واحد.

استخدم القديس أبيفانيوس عبارة إن الروح القدس ينبثق من الآب ويأخذ من الابن[105]، وإنه من ذات جوهر الآب والابن[106]. ويقرر القديس غريغوريوس أسقف نيصص أن الروح ينبثق من الآب ويأخذ من الابن[107].

19 – من هو الآب؟

يقول Prof. Maximos Agiorghoussis: [إنه ليس “قوة فائقة للطبيعة” عمياء، ولا هو نوع من إله الفلاسفة “المحرك الأول الذي يحرِك كل شيءٍ ويبقى هو بلا حركة” (أرسطو)؛ أو المثال الفائق الخيالي (أفلاطون)؛ إنما هو إله الإعلان الشخصي، خالق العالم ومدبره، خاصة البشر، هو أب حنون لأولاده وبناته، الذي يدخل معهم في عهدٍ، بكونه إلهاً لهم وهم يكونون له شعباً مختاراً.].

بالرغم من أن لاهوتي الإسكندرية الأوائل تحدثوا عن عدم تغيرالله وتنزهه عن العواطف البشرية[108] إلا إنهم ركزوا على أبوته الحقة من خلال الحب الذي لا يُعبر عنه بلغة بشرية كما لو كانت له مشاعر وعواطف بشرية. يقول العلامة أوريجينوس: [علاوة على هذا، ألا يختبر الآب إله الكون كله المشاعر والأحاسيس إذ هو طويل الأناة وكثير الرحمة؟! لأن “الرب إلهك يحملك في طرقك كما يحمل الإنسان ابنه”. (تث1: 31) [109].].

20 – من هو اللوغوس أو الابن؟

يسوع بالنسبة للمسيحيين الذين من أصل يهودي هو مخلص العالم كله من الخطية. يقدم القديس إكليمنضس السكندري ربنا أنه “يسوع الشافى أجسادنا ونفوسنا” [110]. إنه الطبيب الإلهي القادر وحده أن يخلصنا من نتائج الخطية.

ربما يسأل البعض: هل من ضرورة لكلمة الله نفسه أن يتجسد ليفدينا ويشفى طبيعتنا البشرية؟

أ – “بالعصيان اختار الإنسان الموت” (تك2: 17) عوض الحياة. علْم الله آدم طقس الذبيحة الحيوانية علامة عن الحاجة إلى سفك دم لخلاصه (عب10: 2). وكان هذا رمزاً لذبيحة ربنا يسوع الفريدة.

ب – كان من الضروري لخلاصنا أن يتجسد كلمة الله نفسه ليموت لحسابنا ليس فقط لأنه وحده قادر أن يفي العدل الإلهي بل وبكونه الخالق يقدر أن يجدد طبيعتنا البشرية. إنه الله القدير الذي يهبنا النصرة على الموت والأرواح الشريرة، وهو السماوي القادر أن يرفعنا إلى سماواته لنرث المجد الأبدي كأبناء الله (رو8: 15، 21؛ 9: 4) ونصير على مثال الله.

ت – المسيح الرب. لأن طبيعته أو جوهره من نفس طبيعة أو جوهر الآب[111]. الابن سرمدي، ميلاده من الآب بلا بداية، يقول القديس إكليمنضس السكندري: [ليس الآب بدون ابن، بل هو كائن معه؛ إنه أب الابن[112].] الابن واحد جوهرياً مع الآب مادام الآب فيه وهو في الآب[113].

ث – بخصوص طبيعة ربنا يسوع المسيح كلمة الله المتجسد أصر التقليد الإسكندري على تأكيد وحدانية الرب مؤكداً الوحدة الحقيقة بين اللاهوت والناسوت دون انفصال ولا امتزاج[114].

المعلم الإلهي في حبه للمؤمن لانهائياً يتخلل إلى كل حياته، مهتماً حتى بأصغر أموره. يقول القديس إكليمنضس الإسكندري: [كما أن الشمس لا تنير السماء وحدها بل وتنير العالم كله، وأيضاً تشرق على البرّ والبحر، ترسل أشعتها خلال النوافذ والشقوق الصغيرة إلى الأماكن الداخلية، هكذا يتدفق الكلمة إلى كل موضع، متطلعاً إلى دقائق الأعمال لحياة الإنسان[115].].

يقول العلامة أوريجينوس إن الابن يُولد من الآب لا بعملية انقسام بل بذات الطريقة التي بها تولد الإرادة من العقل؛ إذ يقول: [ابن الله الوحيد هو حكمته القائمة جوهرياً. كيف يظن أحد إن الله الآب يمكن أن يوجد في أي وقت دون ولادة الحكمة؟ يليق بنا أن تؤمن أن الحكمة لا بداية لها… لقد دُعي “الكلمة” لأنه مفسرّ أسرار عقل الله… محظور علينا الظن الخاطئ بأن الآب قد ولد الابن الوحيد الجنس بذات الطريقة التي يلد بها إنسان إنساناً، أو حيوان حيواناً, فإنه يوجد فارق عظيم. واضح أن الآمر ليس هكذا، إذ لا يوجد فى الوجود مثيل لله لا في الإدراك ولا في الفكر. لهذا لا يستطيع الفكر البشري أن يدرك كيف يكون الله غير المولود أباً للابن الوحيد الجنس. إنه ميلاد سرمدي لا يتوقف شعاع يتولد من نور. فإنه لم يصر الابن خارجاً عنه بتبني الروح، إنما هو الابن بالطبيعة. هو وحده الابن بالطبيعة، لذا دُعي “الابن الوحيد”. يجب الحذر حتى لا يسقط أحد في تلك الخرافات السخيفة التي لأولئك الذين يتصورون نوعاً من الأعضاء “prolations”، أو أجزاء في الطبيعة الإلهية، ويقسمون كيان جوهر الآب. بالأحرى (الولادة) هنا كحركة الإرادة الصادرة (المولودة) عن العقل دون بتر جزء منه أو انفصال عنه أو تقسيمه، هكذا بطريقة مشابهة يمكن التفكير في ولادة الابن من الآب[116].].

21 – هل يمكن الفصل بين الآب والابن؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [فإذ ننطق باللقب “الآب” يوحي لنا ضمناً أن نفكر في “الابن”. وهكذا من يدعو “الابن” يفكر ضمناً فى “الآب” [117]. لأنه إن كان الآب فهو أب الابن، بالتأكيد الابن هو ابن الآب. لذلك في حديثنا في قانون الإيمان نقول “نؤمن بإله واحد، الآب القدير خالق السماء والأرض ما يرىْ”، نكمل “نؤمن بربنا يسوعْ”، قد يظن أحد في سخافةٍ أن الابن يأتي في المرتبة الثانية في السماء وعلى الأرض، لهذا قبلما نبدأ بدعوتهما نقول: “نْؤمن بالله الآب”. فإذ نفكر في “الآب” للحال نفكر في الابن، إذ لا يوجد فصل بين الآب والابن[118].].

22 – هل يرى الابن الآب في كماله؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [نحن نؤمن بإلهٍ واحدٍ، الأب غير المفحوص، غير المنطوق به، الذي “لم يره أحد من الناس” (1تى6: 16)، بل “الابن الوحيد هو خبَّر” (يو1: 28)، لأن “الذي من الله يرى الآب” (يو6: 46)، هذا الذي ترى الملائكة وجهه على الدوام فى السماوات (مت18: 10) حسب درجة كل منهم. أما استنارة وجه الآب (في كماله) فتبقى في نقاوتها للابن مع الروح القدس[119].].

كما يقول: [عندما تسمع “ابن” لا تحسبه أنه مُتبنى، بل ابناً بالطبيعة، الابن الوحيد، ليس له أخ. من أجل هذا يُدعي “الوحيد الجنس”، إذ ليس له أخ من جهة شرف اللاهوت ونسبته للآب. ونحن لا ندعوه “ابن الله” من عندياتنا، بل الآب دعي المسيح (دون غيره) ابنه وما يدعوه الآباء لأبنائهم هو اسم حق…

مرة أخرى أقول عند سماعك عن الابن لا تفهم هذا في معنى غير لائق، بل هو ابن بالحق. إنه ابن بالطبيعة بلا بداية، لم يأتِ من حالة العبودية إلى التبنّي، أي ينتقل إلى حالة أعظم، بل هو ابن أبدي مولود بنسب لا يُفحص ولا يُدرك. وبنفس الطريقة عند سماعك “البكر” لا تفكر في هذا الأمر بمستوى بشري، لأن البكر في البشر له إخوة آخرون[120].].

23 – هل الآب يوصينا بالابن؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [الآب يغضب عندما يُستهان بالابن الوحيد. فإن الملك يحزن لمجرد إهانة أحد جنوده. اما إن احتقر أحد ابنه الوحيد، فمن يقدر أن يطفئ غضب الآب من أجل ابنه الوحيد؟! [121].].

24 – ما هي أهم أسماء المسيح؟

سبق أن تحدثنا عن بعض أسماء المسيح أثناء حديثنا عن قانون الإيمان. (راجع السؤال (11) كيف ننتفع بألقاب السيد المسيح؟).

25 – لماذا يدعو إشعياء يسوع مخلصاً؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [يوجد رب واحد يسوع المسيح، اسم عجيب، سبق أن أخبر به الأنبياء بطريقة خفية. إذ يقول إشعياء النبي: “يأتي المخلص، ومعه مكافأته” (إش62: 11).

كلمة “يسوع” فى العبرية معناها “مخلص”. فإن العطية النبوية، إذ سبق فرأت روح القتل عند اليهود وأنهم ضد الرب، حجب اسمه عنهم، لئلا إذا عرفوه من قبل يدبرون ضده فوراً. لكنه دُعي صراحة “يسوع”، ليس فقط من الناس بل ومن الملاك الذي لم يأت من ذاته، بل بسلطان الله. قال ليوسف: “لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأن الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس، فستلد ابناً، وتدعو اسمه يسوع” (مت1: 20). وفي الحال ذكر سبب اسمه قائلاً: “لأنه يخلص شعبه من خطاياهم” [122].].

26 – من هو الروح القدس؟

عمل المسيح الخلاصي هو أساس عمل الروح القدس في الكنيسة، يهبنا الشركة مع الآب في المسيح المصلوب. وفي نفس الوقت بدون الروح القدس: “ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب” (1كو12: 3) وبدونه لا تقدر الكنيسة أن تنعم بحضرة المسيح كرأس لها. لذلك يقول الرب: “خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو16: 7). لذلك يلزم أن يفهم التاريخ الكنسي أنه عمل الروح القدس، إذ وُلدت الكنيسة كجسد المسيح في يوم العنصرة ولا تزال تتغذى على الروح القدس الذي يقودها ويرشدها ويقدسها ويعينها في العبادة والكرازة، يُحي جسد الكنيسة ويبنيه.

استخدم آباء الكنيسة الإسكندريون ألقاب الروح القدس لإثبات لاهوته، وأيضاً أعماله.

يقول القديس ديديموس أن الذي يملأ كل المخلوقات يلزم أن يكون من جوهر يختلف عن كل الخلائق[123]. ويقول القديس أثناسيوس: [لو كان الروح القدس مخلوقاً لا يمكن أن تكون لنا به شركة مع الله، لأننا بهذا نتحد مع خليقة غريبة عن الطبيعة الإلهية. إن كان (الروح القدس) يجعل البشر إلهيين، فإن طبيعته دون شك هى طبيعة الله[124]. ويقول القديس كيرلس[125] إن الروح القدس هو ذاك الذي يبرر الخطاة ويكمل المختارين، يعمل ما هو من اختصاص الطبيعة الإلهية الفائقة المجد وحدها، كما يقول إن كان الروح الذي يجعل آلهة هو من طبيعة مختلفة عن طبيعة الله لفقدنا كل رجاءٍ[126].

27 – هل الروح القدس أقنوم إلهي أم مجرد قوة تسند المؤمنين؟

إذ وبخ القديس بطرس حنانيا قال له: “يا حنانيا لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس، وتختلس من ثمن الحقل؟ أليس وهو باقٍ كان يبقى لك؟! وكما بيع ألم يكن في سلطانك؟! فما بالك وضعت فى قلبك هذا الأمر؟ أنت لم تكذب على الناس بل على الله” (أع5: 3 – 4).

أكد السيد المسيح أن الروح القدس هو أقنوم إلهي، إذ يقول: “لأن الروح القدس يُعلِّمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه” (لو12: 12). يقول القديس كيرلس الكبير: “كأنه يقول إنه معلم يسكن فينا” كما دعاه السيد المسيح: “معزِّ آخر (يو14: 26)، يقودنا إلى كل الحق (يو16: 13). لقد أرسله الابن وهو منبثق من الآب”.

فى عام 381 انعقد المجمع المسكوني الثاني فى القسطنطينية لمواجهة هرطقة مقدونيوس الذي أنكر لاهوت الروح القدس.

28 – كيف نعرف أن الروح القدس ينبثق من الآب؟

يقول السيد المسيح: “ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق” (يو15: 26).

29 – لماذا استخدم بعض الآباء تعبير: “الروح القدس منبثق من الآب بالابن؟

يؤكد هذا التعبير أن الروح القدس منبثق من الآب أزلياً، كما أن الابن مولود منه أزلياً. أما قوله: “بالابن through the Son”، فلا يعني أن الابن أقل من الآب، وإنما هو منبثق من الآب كأقنوم إلهي، ومُرسل من الابن يهب الاستنارة والمعرفة للأسرار الإلهية، وبه ننعم بكمال عمل الخلاص من تقديس وتجديد مستمر.

30 – هل يعمل أيضاً الروح القدس في كل أحدٍ حسب حاجته؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [بالحقيقة عظيم وكلي القوة في مواهبه وعجيب هو الروح القدس! أنظروا كم عدد الجالسين هنا الآن؟! كم نفس حاضرة منا؟! إنه يعمل كما يلائم كل واحدٍ، إذ هو حاضر في الوسط، ينظر إلى طبيعة الكل وإلى عقله وضميره وحديثه وفكره وعقيدته! بالحقيقة قد أطلت الحديث ومع ذلك فهو قليل إذ أسألكم أن تقكروا بعقلٍ مستضيءٍ كم مسيحي يوجد في هذه الأسقفية، وكم عددهم فى ولاية فلسطين كلها، ثم انتقلوا بعقولكم إلى الإمبراطورية الرومانية، وبعد هذا فكروا في كل العالم… أسألكم أن تأخذوا في اعتباركم كل أمة، والأساقفة والكهنة والشمامسة والمتوحدين والبتوليين والعلمانيين أيضاً. انظروا إلى حارسهم العظيم، وإلى موزع المواهب عليهم. كيف يهب في كل العالم لواحد عفة، ولآخر بتولية دائمة، ولآخر عطاء، ولآخر فقر اختياري، ولآخر قوة إخراج الأرواح المقاومة؟! وكما أن النور بلمسة من إشعاعاته يهب ضياء لكل الأشياء، هكذا يضيء الروح القدس لمن لهم أعين. أما إذا لم يكن أحد قد أخذ نعمة بسبب عماه، فلا يلوم الروح، بل يلوم عدم إيمانه هو[127].].

31 – هل ينفصل الروح القدس عن الآب والابن؟

يقول القديس كيرلس الأورشليمي: [الآب معطي كل نعمةٍ خلال الابن مع الروح القدس. مواهب الآب ليست إلا مواهب الابن ومواهب الروح القدس. لأنه يوجد خلاص واحد، قوة واحدة، إيمان واحد، إله واحد الآب، ورب واحد ابنه الوحيد، وروح قدس واحد المعزي.

يكفي لنا أن نعرف هذا، وليس لكم أن تسألوا بشغف عن طبيعته أو جوهره. لأن لو كُتب عن هذا لتحدثنا عنه، أما وأنه لم يكتب عنه، فليس لنا أن نخاطر فيه. إنه يكفي لخلاصنا أن نعرف أنه يوجد الآب والابن والروح القدس[128].].

ويقول القديس كيرلس الكبير: [خلاصنا حقيقة هو من عمل اللاهوت الواحد. وإن كان ما قد تحقق من أجلنا أو تم في الخليقة، الأمر الذي يبدو أنه يُنسب لكل أقنوم، فإننا نؤمن أن كل الأشياء هي من الله بالابن في الروح القدس[129].].

فاصل

من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ2 – العقائد المسيحية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى