السماء وأورشليم العليا

1. ماذا نعنى بكلمة “السماء”؟

يعتقد اليهود بوجود ثلاث سماوات.

الأولى الغلاف الجوى المحيط بالأرض، يدعوها القديس باسيليوس الكبير سماء الطيور.

والثانية الجلد الذى فيه توجد الكواكب والنجوم.

والثالثة يدعوها سماء السماوات حيث عرش الله والطغمات السماوية، وتُدعى الفردوس. وكما يقول الرسول بولس: “أعرف إنساناً فى المسيح قبل أربع عشرة سنة أفى الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم، الله يعلم. أختطف هذا إلى السماء الثالثة… إنه أختطف إلى الفردوس، وسمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2 كو 12: 2 – 4).

تعتقد الكنيسة أن الفردوس هو مكان انتظار النفوس البارة بعد انطلاقها من الجسد.

ومع إيماننا بأن الله فى كل مكان إلاَّ أنه يُوصف بأنه ساكن فى السماء. قيل عنه: “فلما فرغ من الكلام معه صعد الله عن إبراهيم” (تك 17: 22). وفى صلاة سليمان عند تدشين الهيكل، قال: “اسمع تضرع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يصلون فى هذا الموضع. واسمع أنت فى موضع سكناك فى السماء، وإذا سمعت فاغفر” (1 مل 8: 30). وفى حديث السيد المسيح مع نيقوديموس يقول: ولم يصعد أحد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء “(يو 3: 13). كما قيل للواقفين عند صعود السيد:” إن يسوع هذا الذى ارتفع عنكم إلى السماء سيأتى هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء “(أع 1: 11).

2. من يدرينا أنه توجد سماء حقيقية؟

أولاً: يقدم لنا الأنبا يؤأنس أسقف الغربية السابق أول دليل على حقيقة السماء هو شهادة الوجدان أو الشعور الفطرى الكامن فى النفس البشرية. أشار إلى العالم الفرنسى فوستيل دى كولانج Fustel Coulangee الذى قام بدراسة علمية عميقة نشرت عام 1864 تحت عنوان المدينة العتيقةLa Cité Antique جاء فيها: [اعتقدت أقدم الأجيال قبل أن يوجد الفلاسفة بزمن طويل فى وجود حياة أخرى بعد هذه الحياة. ولم تواجه الموت باعتباره انحلالاً للكائن بل باعتباره تبديلاً يسيراً للحياة… كانت العادة عند نهاية الاحتفال الجنائزى أن تُدعى روح الميت ثلاث مرات بالاسم الذى كان يحمله، وكانوا يتمنون لها أن تعيش سعيدة تحت الثرى (التراب)، ويقولون لها ثلاث مرات: كونى بعافية… وكانوا يكتبون على القبر أن الراقد يستريح هناك].

ثانياً: هذه الغريزة الفطرية فى كل العالم، حتى إن أنكرها إنسان ما، ففى لحظات موته غالباً ما يشعرب بندم شديد أنه أفسد حياته بتجاهل هذه الغريزة أو إنكارها. نذكر على سبيل المثال:

كثير ممن أنكروا الإيمان فى فترات شبابهم وقوتهم وسلطانهم عادوا إليه فى أواخر حياتهم، خاصة وهم يصارعون مع الموت، وأظهروا ندمهم الشديد على إنكارهم العناية الإلهية والحياة الأبدية، منهم نابليون بونابرت، والفيلسوف الفرنسى الشهير فولتير، وعالم الطبيعة الأمريكى اديسون، والفيلسوف والكاتب الروسى تولستوى.

ثالثاً: المقارنة بين مواجهة الشهداء والقديسين للموت بفرح، وكأنهم يعلنون شوقهم للقاء مع مخلّصهم مفرّح القلوب. وكما يقول القديس بولس: “لى اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جداً” (فى 1: 23). بينما نسمع عن كثيرين من الملحدين المشهورين أنهم كانوا يرتعبون فى خوف وفزعٍ عند شعورهم بحلول لحظات الموت.

رابعاً: شهادة كلمة الله. يقول المرتل: “السماء تحدّث بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه” (مز 19: 1). ويقول سليمان الحكيم بعد أن بنى الهيكل: “أنه هل يسكن الله على الأرض. هوذا السماوات وسماء السماوات لا تسعك، فكم بالأقل هذا البيت الذى بنيت” (1 مل 8: 27).

ويقول السيد المسيح: “ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذى نزل من السماء ابن الإنسان الذى هو فى السماء” (يو 3: 13). كما قال لنثنائيل: “من الآن السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن الإنسان” (يو 1: 51).

3. ماذا يعنى القول: “لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسى الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه” (مت 5: 34 – 35)؟

روى نيافة الأنبا يؤانس القصة التالية: [كان هناك رجل يقيم فى خيمة فى الصحراء، وكان بعض العلماء يترددون على هذه الصحراء بحثاً عن الآثار، وعندما وصلوا إلى خيمة هذا الرجل سمعوه يصلى داخل الخيمة. فانتظروا حتى فرغ من صلاته ثم تقدموا للتعرف عليه، وقالوا له فى سخرية: “كيف تعلم يقيناً أنه يوجد إله يستجيب لصلاتك؟” أجابهم: “وأنتم كيف علمتم أن إنساناً زارنى فى خيمتى الليلة الماضية؟” أجابوه: “لقد علمنا ذلك من آثار قدميه على الرمال”. فقال: “وأنا أعلم أنه يوجد إله، لأننى أرى آثاره فى كل مكان”… نعم إن الله يترك آثاره حولنا فى كل شئ وفى كل مكان… لم يقل السيد المسيح: “السماء كرسى الله، والأرض موطئ قدميه… كأن الله يتمشى على الأرض بين البشرن تراكاً آثاراً مختلفة].

يقول الرسول بولس: “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم. لأن أموره غير المنظورة تُرى منذ خُلق العالم مدركة بالمصنوعات، قدرته السرمدية ولاهوته، حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا الله لم يمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا فى أفكارهم واظلم قلبهم الغبى” (رو 1: 19 – 21).

يُعلّق القدّيس أمبروسيوس على التعبير “قدرته السرمدية”، قائلاً: [إن كان المسيح هو قدرة الله السرمدية، فالمسيح إذن سرمدى[197]].

ويرى القديس أغسطينوس فى هذا القول الرسولى أن الله يقدم لنا العالم كعطية نستخدمها وليس لنتلذذ بها، فنرى خلالها أموره غير المنظورة، نمسك بالروحيات والسماويات خلال الماديات والزمنيات[198].

يقول البابا أثناسيوس الرسولى: [أعطى الله بواسطة كلمته للكون ترتيبه وتدبيره، حتى يمكن للبشر أن يتعرفوا عليه بطريقة ما خلال أعماله ما دام هو بطبعه غير منظور. غالباً ما يُعرف الفنان بأعماله حتى وإن لم يره الشخص[199]]. ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ربما تصمت السماوات، لكن التطلع إليها يصدر صوتاً أعلى من صوت البوق، يثقفنا لا بسماع الأذن وإنما باستخدام العين، فإن الأخيرة (تقدم معلومات) أكثر تأكيداً ودقة من الأولى[200]].

4. هل الطبيعة تشهد لحقيقة وجود السماء؟

يقول نيافة الأنبا يؤانس: [الطبيعة هى أول وأقدم شهادة على السماء، ووجود الله ووجود حياة فى السماء].

قال نيوتن عالم الطبيعة الإنجليزى (1642 – 1727 م): [لقد رأيت الله فى أعمال الطبيعة ونواميسها، التى تبرهن على وجود حكمة وقوة غير عادية].

فى العالم الطبيعى نرى الأدلة العديدة على وجود الخالق العظيم، من أمثلة ذلك:

أولاً: إذ تُدفن البذرة وتُسقى بالماء تبدو إنها ماتت، وإذا بها تنمو وتزهر وتثمر.

ثانياً: دودة القز تنزوى وراء ورقة فى شجرة توت وتقوم بتصنيع خيوط حريرية دقيقة لتغطى نفسها، وتبدو أنها ماتت، لكنها فى النهاية تصير شرنقة، وبعد ذلك تصير دودة القز.

ثالثاً الأشجار فى المناطق الثلجية تتساقط أوراقها فى فصل الخريف، وتصير كأنها ماتت فى فصل الشتاء، وفى الربيع يذوب الثلج وتدب الحياة فى الأشجار.

5. هل من شهادة معاصرة لتحدى المؤمنين للموت وفرحهم هم وعائلاتهم بالاستشهاد؟

الأحداث المتوالية سواء فى التفجير الذى حدث فى مدخل كنيسة القديسين بسيدى بشر بالإسكندرية وقد شاهدنا تعزيات الله الواضحة فى عائلات الشهداء البالغين أكثر من عشرين شهيداً وفى الدين أصيبوا بمستشفى الكنيسة لم يئن أحدهم من الألم بينما بلغ بأحدهم حروق تبلغ 85% من جسمه، وشاهدنا أطفالاً انسحقت عظام أقدامهم وقفوا يشكرون الله أنهم أصيبوا من أجد ربّ المجد المصلوب.

هذا وقد تأثر كثيرون فى بلاد العالم من موقف شهداء ليبيا. لقد ظن الذين قتلوهم أنهم يُرعبون الأقباط بأخذ فيديو للاستشهاد، فكان ثمر ذلك شهادة الكثيرين لنعمة محبة الله وقوة النعمة الإلهية فانفتحت قلوب كثيرة بالحب للسماوى، وتعرّف العالم كله على كنيسة الشهداء.

يصعب حصر البركات التى نالتها الكنيسة، وتوبة الكثيرين فى بلاد، كثيرة من وراء مثل هذه الأحداث المعاصرة!

6. ما موقف السماء من التفجيرات المعاصرة التى لحقت ببعض الكنائس؟

أقدّم صورة عملية معاصرة لتحرك السماء والشهادة لمحبة الله لكنيسته:

فى اليوم التالى أو بعد التالى من حدث تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية التى أنشأها المتنيح القمص بيشوى كامل، اتصل بى أحد الخدام بسيدنى أستراليا، وهو من خدام كنيسة الشهيد مار جرجس باسبورتنج، وقال لى وهو متهلل ما يلى: أنه كان فى عمله بسيدنى عندما سمع ما حدث بكنيسة القديسين. صرخ فى أعماقه، متسائلاً: ما هو موقف أبينا بيشوى فى الفردوس وأيضاً تماف ايرينى وأبينا القديس الشهيد أبى سيفين.

عاد إلى منزله وهو مُرّ النفس جداً فنام وهو جالس، وإذا به يرى السماء قد انفتحت ورب ّ المجد جالس على عرشه، وانطلق أبونا بيشوى يستقبل الشهداء القادمين إلى الفردوس ويقدمهم للسيد المسيح. وكان أبونا بيشوى متهللاً بهؤلاء الشهداء.

تهللت نفس الخادم، واتصل بى هاتفياً ليروى لى كيف يهتم أبونا بيشوى وهو فى الفردوس ويفرح بالشهداء!

أحداث الاستشهاد كشفت عن السماء المفتوحة والمتهللة بعمل نعمة الله فى شعبه!

إذ نشأت كنيسة باسم القديس البابا كيرلس السادس فى لوس أنجلوس قيل لى: تقدم شخص ومعه ظرف به مبلغ من المال، وقال للكاهن القبطى: لقد اجتمعنا نحن مجموعة من المسيحيين والهنود وعرفنا أن هذه الكنيسة هى التى استشهد بعض أعضائها فى ليبيا لأنهم مسيحيون، فحسبنا أن إنشاء كنيسة فى هذه المنطقة بركة لنا جميعاً!

7. بماذا ختم القديس يوحنا رؤياه بخصوص يوم الرب؟

ختم القديس يوحنا سفر الرؤيا (أصحاح 21) بوصف أورشليم السماوية أو كما يقول القديس أغسطينوس: “الكنيسة السماوية[201]”، وأيضاً أمجاد الكنيسة السماوية وتطويبها واشتياق ربنا يسوع المسيح أن يأتى سريعاً (رؤ 22: 20 – 21) ليدخل بعروسه الملكة إلى عرشه.

أخذ كثيرون من الفلاسفة والأدباء والشعراء أمثال أفلاطون يرسمون لنا مدناً مثالية حسبما تصوروها، يسنّون لها قوانين ونظماً ومبادئ حسبما تمليه عليهم فلسفتهم وفكرهم. لكن سرعان ما تتسلل فى تخيلاتهم مبادئ خاطئة أو خيالية، فتخرج المدينة ناقصة ومملوءة ضعفات. أما الرسول يوحنا فلم يحذو حذوهم، بل صعد بالروحن فرأى كنيسة حقيقية مثالية خالدة، هى فى حقيقتها “مسكن الله مع الناس” (رؤ 21: 3). ولما كان هذا الأمر يُصعب رسمه أو التعبير عنه بلغة بشرية، لهذا سجل لنا ما رآه فعلاً، لكن فى رموز بسيطة تاركاً لنا أن نتعمق فيها لنتذوق ما عليه هذه المدينة السماوية الواحدة على قدر ما تستطيع قامتنا الروحية أن تدرك بإرشاد الروح القدس.

8. ماذا يُقصد بالسماء الجديدة والأرض الجديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا (رؤ 21: 1)؟

إن كانت الأرض التى نعيش الآن عليها والسماء التى نحيا تحتها يشهدان على قدرة خالقنا ورعايته الفائقة، إذ لم يجعلنا معوزين إلى شئ. فالأرض بكل نواميسها وإبداعها إنما لأجل خدمتنا، والشمس والقمر والنجوم تعمل لحسابنا، هذه الخليقة كلها لا تُقارن بالسماء الجديدة والأرض الجديدة.

أ. على أرضنا الحالية نترقب الموت الذى لا يفلت منه إنسان، وفى الأرض الجديدة لا نخضع لزمن يعبر وينتهى، بل نبقى كل حياتنا أبدية، نرى كل شئ جديداً لا يُقدم ولا يشيخ ولا ينتهى.

ب. على أرضنا نئن من التجارب التى تحلّ بنا وبكل المحيطين بنا لكى ما نستعد للرحيل إلى وطننا السماوى.

ج. على أرضنا نحيا بالإيمان فنتذوق عربون السماء أما على الأرض الجديدة فلا يفارقنا الفرح الحقيقى والسعادة الدائمة، ونُسرّ إذ نرى كل من هم حولنا من السمائيين والقديسين فى حياة مطوّبة، ونحسب أمجادهم هى أمجادنا التى لا تذبل قط.

د. على أرضنا نعتز بعضويتنا الكنسية، نلمس حراسة الملائكة لنا، وتتحرك السماء كلها كى نتهيأ للمجد الذى أعدّه الربّ لنا.

ﮪ. يرى القديس أغسطينوس أن السماء الجديدة والأرض الجديدة، هى نفوسنا وأجسادنا. فهنا يحارب الشيطان نفوسنا وأجسادنا لكى نيأس ونفقد الرجاء فى الأبدية. أما فى يوم الربّ العظيم إذ تتحد نفوسنا بأجسادنا القائمة من الأموات، لا يجسر عدو الخير أن يحاربنا، ولا أن ينظر إلينا، إذ نحمل انعكاس بهاء الربّ على كياننا كله!

و. على أرضنا نفتخر بأقربائنا الناجحين فى حياتهم، والذين نالوا مراكز سامية أو غنى أو درجات علمية الخ، أما على الأرض الجديدة فنعتز بصداقات كل السمائيين لنا، ونحسب كل القديسين إخوة وأخوات لنا والمسيح رأس الجميع! يصير السمائيون والأرضيون كأنهم عائلة واحدة.

9. ما هى سمات الكنيسة السماوية؟

كنيسة واحدة جديدة (رؤ 21: 1 – 8)، مقدسة (رؤ 21: 9 – 11)، جامعة رسولية (رؤ 21: 9 – 11). يقول الرسول: “ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا” (رؤ 21: 1). لقد أوضح لنا ربنا يسوع أن الخمر الجديدة لا توضع فى زقاق قديمة، بل فى زقاق جديد، هكذا نحن خمر ملكوته، إذ نخلع هذا الجسد الفاسد نلبسه فى عدم فساد، وهذا المائت فى عدم موت. نقوم فى مجد وقوة، لنا أجسام روحانية (1 كو 15: 42 – 44)، لهذا يدخل بنا ربنا فى سماء جديدة.

يليق بنا كأبناء ملكوت جديد ألا نعود بعد إلى هذه الأرض، لأنه كما أكد لنا ربنا يسوع: “السماء والأرض تزولان”. وقد طمأننا الرسول بطرس أنه بمجئ يوم الرب “تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب، ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البرّ” (2 بط 3: 12 – 13). نسكن فى “أرض الأحياء” مع كافة القديسين الأحياء بالروح.

ولعل قوله “سماء جديدة وأرض جديدة” يحمل معنى آخر أيضاً هو أنه مع زوال كل ما هو قائم حالياً سنعود إلى سماء جديدة، أى نلتقى مع “الرب إله السماء”، ومع السمائيين فى شركة مبدعة جديدة فى كمالها وتمامها.

ونلتقى أيضاً مع إخوتنا الذين كانوا معنا على الأرض فى “أرض جديدة”، أى فى لقاء حب من صنف جديد، فى وحدة تامة وكاملة فى شخص ربنا يسوع. إنه لقاء كنيسة واحدة تذوق الوحدة الأبدية فى صورة ليس لها مثيل، لهذا يقول: “والبحر لا يوجد فيما بعد” (رؤ 21: 1). ليس للبحر موضع هناك، إذ يشير البحر إلى الانقسام والانشقاق حيث يفصل البلدان أو الدول أو القارات، أما فى السماء فالكنيسة ليس فيها ما يفصل أعضاءها عن بعضهم البعض. والبحر يشير أيضاً إلى الاضطراب والقلق، إذ يقول الكتاب: أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ وتقذف حياهه حمأة وطيناً “(إش 57: 20). فالكنيسة السماوية لا يختفى فيها شرير واحد، بل مع كمال وحدتها يسودها سلام داخلى وخارجى.

10 – لماذا دعاها “المدينة” (رؤ 21: 2)؟

“أنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله، مهيأة كعروس مزينة لرجلها” (رؤ 21: 2). رأى يوحنا الرسول ما أعده الله لنا أو رآنا بروح النبوة ونحن فى المجد، وإذ عاد ليخبرنا بما رأى لم تسعفه اللغة البشرية، إذ يعلم مدى اشتياقنا للمعرفة، وفى نفس الوقت يريد الروح القدس أن نعرف، لهذا سجل لنا ما رآه خلال رموز بسيطة، فقال إنه رأى “المدينة”. إنه كطفل بالكاد يعرف اللغة، لم يرّ طائرات من قبل، دخل مطاراً ضخماً فرأى مئات الطائرات، فعاد ليقول “رأيت حماماً كبيراً على الأرض”. هكذا يقول الرسول عن الأبدية إنها “المدينة”. هى فى حقيقتها مسكن الله مع الناس، لهذا سماها “المدينة”.

وإذ أدرك أحضان قدوس القديسين المفتوحة للقاء قديسيه، دعا ذلك اللقاء “المدينة المقدسة”. إنها امتداد للكنيسة المقدسة التى جاهدت على الأرض، إذ حالّ فيها القدوس.

وحينما أراد أن يعطيها اسماً دعاها “أورشليم الجديدة”، أى مدينة الله الجديدة، وتبقى جديدة، لأن ما هو أخروى جديد، ويبقى جديداً لا يصيبه القِدَم، لأنه لا يوجد زمن يجعلها تشيخ، ولا عوامل فناء ولا فيها ما يفقدها جمالها وضياءها المتقد بنور الرب.

أما سرّ قداستها وجدتها فهو أنها “نازلة من السماء من عند الله”. ومع أنها هى السماوات بعينها لكنها “نازلة من السماء” كالأم الحنون التى تفتح أحضانها وتركض لتحتضن طفلتها التى طالما اشتاقت إليها. هكذا تتوق الأبدية إلينا لأننا لسنا غرباء عنها بل أعضاء فيها. بنزولها من السماء من عند الله، تقدم لنا رجاء فى أننا أبناء لها وأعضاء أحياء فيها، فلا يراودنا اليأس بحجة ضعفنا أننا لا نصلح لها.

فى نزولها من عند الله تعلن حب الله للبشر واشتياقه إلى اللقاء معهم، فهو دائماً المبادر بالحب. وهو الذى يهتم بهم، إذ “أن الله لا يستحى أن يُدعى إلههم، لأنه أعد لهم مدينة” (عب 11: 16). وقد لمس إبراهيم أب الآباء فى الأبدية عمل الله تجاهه، فقيل عنه أنه كان “ينتظر المدينة التى لها الأساسات التى صانعها وبارئها الله” (عب 11: 10).

وأخيراً إذ رأى الرسول أن كل ما فى المدينة يتلألأ جمالاً لم يعرف بماذا يصفها فقال: “مهيأة كعروس مزينة لرجُلها”. إنها عروس واحدة مزينة بزينة عريسها التى أهداها لها.

لقد سبق فنزل كلمة الله إلينا متجسداً كى يحمل خطايانا على الصليب، ويبررنا أمام الآب الذى يرانا أيقونة للمخلّص. والآن تنزل مدينته المقدسة، وتفتح أبوابها لمن حملوا صورة العريس السماوى كى يتمتعوا بعُرس سماوى لا يُقدم.

نزل السماوى إذ يريد أن الكل يخلصوا، وها هى مدينته تنزل لأنها تعتز بالعروس المحبوبة لدى عريسها.

11. بماذا عبّر الرسول عن الصوت السماوى؟

“وسمعت صوتاً عظيماً من السماء قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم” (رؤ 21: 3). لم تجد السماء اسماً لهذه المدينة الجديدة والأرض الجديدة والسماء الجديدة يليق بها سوى أن تدعوها “مسكن الله مع الناس”. لم تقل “مسكن الناس مع الله” بل “مسكن الله مع الناس”، لأن اشتياق الناس للسكنى معه لا يُقاس ولا يُقارن باشتياق الله نفسه للسكنى معنا. يا لعظم محبة الله الفائقة! كأن الله ينتظر الأبدية ليستريح بالسكنى معنا، مع أننا نعلم أنه ليس محتاجاً إلى عبوديتنا، بل نحن المحتاجون إلى ربوبيته[202].

لهذا يبدأ بالقول “وهم يكونون له شعباً”، أى أنهم هم المحتاجون إليه، وهو يسكب حبه عليهم، إذ “الله نفسه يكون معهم إلهاً لهم”. إنه إله كل البشر، وإله المؤمنين. لكن فى الأبدية ينعم أبناء الملكوت بمفاهيم أعمق وعذوبة أكثر فى ربوبية الله لهم.

وأخيراً يمكننا من خلال قراءتنا للأصحاحين 21 و22 من سفر الرؤيا أن نفهم ماذا تعنيه الكنيسة السماوية الواحدة وهو:

أ. إنها المسكن الأبدى الذى يقول عنه الرب: “أنا أمضى لأعد لكم مكاناً”، وقد قدمه لنا الرسول واصفاً لنا أبعاده ومواد بنائه فى أسلوب رمزى بسيط.

ب. إنها الوجود فى حضرة العريس السماوى واللقاء الدائم معه، إذ هى “مسكن الله مع الناس”، لهذا حدثنا عن شخص العريس وعمله مع شعبه.

ج. إنها جماعة المؤمنين الغالبين “الذين يُحسبون سماء”، ليس فى الحياة الأبدية فحسب، بل وهم على الأرض. إذ يقول أغسطينوس [الإنسان الروحانى فى الكنيسة هو السماء… الكنيسة هى السماء… والسماء هى الكنيسة[203]].

12. ما هو حال هذه الكنيسة الواحدة؟

أ. “وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم”: وكما يقول العلامة ترتليان[204] إن الله يمسح كل دمعة سكبتها العيون قبلاً إذ ما كان لها أن تجف ما لم تمسحها الرأفات الإلهية. طوبى لأصحاب العيون الباكية، لأن الله بنفسه يمسحها ويطيّبها!

ب. “ولاموت لا يكون فيما بعد”: وكما يقول النبى: “يبلغ الموت إلى الأبد ويمسح السيد الرب الدموع عن كل الوجوه” (إش 25: 8).

ج. “ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت” (رؤ 21: 4). لقد مضى العالم القديم بما يحمله من نقص وقابلية للفناء، وصار كل ما فى الأبدية جديداً مفرحاً ومبهجاً للكل.

د. “وقال الجالس على العرش ها أنا أصنع كل شئ جديداً”. فى العالم الآخر لا نجد ما تسأمه النفس، ولا ما تملّ منه، إذ ليس فيها شئ يعتق ويشيخ بل لحظة فلحظة – إن صح هذا التعبير – نجد كل شئ جديداً. إذ نحن ماثلون أمام الله الذى لا تشبع النفس من اشتهائه. وكما يقول القديس غريغوريوس النيسى: [أن رؤية الله بالضبط لا تشبع النفس من اشتهائه. وهذا يتم إلى الأبد والنفس ذاهبة من بدء إلى بدء ببداءات لا تنتهى[205]]. كلما تأمل الإنسان فى الله، يراه كأنه لأول مرة ينظره فهو جديد فى نظره، يزداد شوقاً إلى السجود له والنظر إليه، ويستمر هكذا بلا نهاية.

ولما كان هذا الأمر مجيداً حتى يستصعب الكثيرون نواله، أراد الرب أن يبعث فيهم الرجاء، فقيل للرسول: “وقال لى: اكتب، فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة، ثم قال لى: قد تم” (رؤ 21: 5 – 6). إنها أمور حقيقية واقعية قد أتم الله تهيئتها للبشر، ولم يبق سوى أن ندخل ونرث. وكأنه يقول لعروسه: “الله بالحق قد أعد بيت الزوجية، وبقى أن تأتى يا صاحبة البيت”.

أما مقدم الدعوة فيقول: “أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية”. وقد سبق لنا شرح هذا القول. إنه يقول: إننى بلغة السماء أعلمكم التسبحة الجديدة، وأنا رأس الكل أتيت أخيراً لكى احتضن الجميع وأجمعهم.

إننى لا أبخل على أحد، بل أقدم ذاتى ينبوع ماء حياة مجانى لكل طالب، “أنا أعطى العطشان من ينبوع ماء الحياة مجاناً” (رؤ 21: 6). يقدم نفسه لكل ظمآن يشعر بالحاجة إليه، القائل مع المرنم: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسى إليك يا الله. عطشت نفسى إلى الله إلى الإله الحى، متى أجئ وأتراءى قدام الله، صارت لى دموعى خبزاً نهاراً وليلاً، إذ قيل لى كل يوم: أين إلهك؟” (مز 42: 1 – 3). لهذا ينادى الرب قائلاً: “إن عطش فليقبل إلى ويشرب” (يو 7: 37). وحتى لا يسئ أحد إلى هم مجانية الماء الحى، عاد ليؤكد لنا أن الميراث الأبدى لا يناله إلا المجاهدون المثابرون، لهذا يقول: “من يغلب يرث كل شئ وأكون له إلهاً وهو يكون لى ابناً” (رؤ 21: 7). إنه يعطى للغالبين… فماذا يأخذون؟ “يرث كل شئ!” إنه كأب رأى الأيام التى كان فيها ابنه قاصراً قد انتهت، وقد صار الآن ناضجاً، فيقدم له كل أمواله وممتلكاته ويسلمه كل شئونه وأسراره، وإن استطاع أن يقدم له كل قلبه. إنه يورَثه كل شئٍ وهو بعد حى! هذا ما يعنيه بقوله: “يرث كل شئ”. لهذا يكمل قائلاً: “وأكون له إلهاًن وهو يكون لى ابناً”. حقاً بالمعمودية صرنا أبناء، ولكننا ندرك كمال بنوتنا حين نتسلم الميراث الأبدى!

أما غير المجاهدين وغير المؤمنين فليس لهم نصيب معه، إذ يقول: “وأما الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم فى البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذى هو الموت الثانى” (رؤ 21: 8). لقد بدأ هذه القائمة المرة بالخائفين، أى الجبناء الذين ينكرون الإيمان خوفاً على حياتهم الزمنية، وهؤلاء أشر الفئات. ويليهم “غير المؤمنين” لأنه بدون إيمان لا يُمكن إرضاءه. ويليهم صانعو الشر أى “الرجسون والقاتلون…” أى المؤمنون اسماً لكن أعمالهم لا تتناسب مع الإيمان. وأخيراً يركز على الكذب، فيقول: “وجميع الكذبة”، ويقصد بالكذب الذين يستخدمون الغش والخداع فى معاملاتهم وأحاديثهم.

13. ماذا يعنى بالكنيسة المقدسة؟

“ثم جاء إلىّ واحد من السبعة الملائكة الذين معهم السبعة الجامات المملوءة من السبع الضربات الأخيرة، وتكلم معى قائلاً: هلم فأريك العروس امرأة الخروف” (رؤ 21: 9). اختار الرب أن يرسل ملاكاً من الذين معهم السبعة الجامات ليرى الرسول “العروس امرأة الخروف المقدسة”، وذلك ليُظهر لنا حب هؤلاء الملائكة لنا وحنانهم تجاه البشر، فمع كونهم يسكبون الجامات لكنهم يتوقون إلى رؤية البشر فى حالة تقديس كامل، ليسي فقط هكذا بل ويريدون أن يعلنوا ذلك لكل أحدٍ. ستكون الكنيسة فى قداستها موضوع إعجاب الملائكة، فيترنمون مع المرتل، قائلين: “جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفير…” ويناجيها العريس نفسه، إذ يرى فيها جمالاً فائقاً، فيقول: “ها أنت جميلة يا حبيبتى…” (نش 1: 15). هذا الجمال السماوى الذى هو القداسة المنعكسة عليها من الله. أما سر قداستها فهو:

أ. “علوها وسموّها”: “وهذب بى الروح إلى جبل عظيم عالٍ، وأرانى المدينة العظيمة أورشليم المقدسة” (رؤ 21: 10). إنها مرتفعة جداً، سماوية، لا يقدر أن يقترب إليها إبليس أو جنوده، لأنهم مُلقون فى البحيرة المتقدة.

ب. “نازلة من عند الله” (رؤ 21: 10). سرّ قداستها إنها مرتفعة كما رأينا، وإنها “نازلة من السماء من عند الله”. ففى علوّها لا يقدر أحد أن يصعد إليها، وبنزولها من السماء يعلن أن الله يُصعدنا إليه. يقول القديس أغسطينوس[206] إنه لا يستطيع أحد أن يصعد إلى شركة أورشليم السمائية ما لم يؤمن أن صعوده لا يتم بقوته الذاتية بل بعمل الله. وبنزولها أيضاً يعلن لنا أنه يجب علينا أن نختبر الحياة السماوية ونحن هنا على الأرض قبلما يأتى يوم الرب لنرتفع معه وبه. يقول القديس إكليمنضس الإسكندرى إننا نستعيض عن الأرض بالسماء، إذ بالأعمال الصالحة نصير آلهة[207]… وبسلوكنا فى السماويات نصير كمن هم فى السماء!

ج. “لها مجد الله شبه أكرم حجر كحجر يشب بلورى” (رؤ 21: 11). مجدها ليس من ذاتها، بل هو مجد الله المُشرق عليها. وهى كالبلّور تستقبل الأمجاد. فكما أنه “فى المنظر شبه حجر يشب” (رؤ 4: 3)، هكذا باتحادنا به وتقبلنا إشعاعات مجده نصير كحجر يشب بلورى. هو شمس البر يتلألأ جمالاً، ونحن كالبلور الذى يحيط به من كل جانب حتى تختفى فينا ملامح البلّور ولا يظهر إلا الإضاءات القوية من شمس البرّ علينا. إن كل واحدٍ منا كالبلّور يرى فى أخيه مجد الله، ويرى أخوة فيه مجد الله. هكذا يصير الله الكل فى الكل.

14. ماذا يعنى بالكنيسة جامعة رسولية؟

“وكان لها سور عظيم وعال” (رؤ 21: 12). من هو هذا السور؟ يقول المرتل “لأنك أنت إله حصنى” (مز 43: 2). الله هو حصن الكنيسة السماوية وملجأها وملجأها، فى ستره نسكن، وفى ظله نبيت (مز91). هذا السور يجمع شمل الكنيسية الجامعة فى وحدة كاملة لا يدخلها عدو، أى إبليس وأعماله لكى يقسمها أو يفرق أعضاءها. وكما يقول القديس أغسطينوس: [طوبى للذى يسكن فى المدينة التى لا يخرج منها صدّيق ولا يقتحمها عدو!] هذه الكنيسة أو المدينة جامعة، يجمع سورها شمل الكنيسة كلها. كنيسة العهد القديم مع كنيسة العهد الجديد، وهى رسولية، يُنقش على أساس سورها أسماء رسل المسيح، إذ يقول: “وكان لها إثنا عشر باباً وعلى الأبواب اثنا عشر ملاكاً، وأسماء مكتوبة هى أسماء أسباط بنى إسرائيل الاثنى عشر. ومن الشرق ثلاثة أبواب، ومن الغرب ثلاثة أبواب، ومن الشمال ثلاثة أبواب، ومن الجنوب ثلاثة أبواب. وسور المدينة كان له اثنا عشر أساساً، وعليها أسماء رسل الخروف الاثنى عشر” (رؤ 21: 12 – 14). لقد جمعت أسماء الأسباط الاثنى عشر، أى رجال العهد القديم وأسماء رسل المسيح، أى رجال العهد الجديد، لأنها كنيسة واحدة، أما اليهود المنشقون عنها برفضهم الإيمان، فلم يعد لهم مكان إذ انتزاع عنهم نسبهم الروحى للأسباط وصاروا غير مؤمنين. وتشير الأبواب الاثنا عشر إلى افتتاح الأبواب من كل جانب لكل أبناء الملكوت[208]. أما توزيع الأبواب فى كل الجهات فذلك لكيلا يضل أحد من الراغبين فى الميراث الأبدى عن البلوغ إلى داخله.

15. ما هى مقاييس مدينة الله أورشليم السماوية؟

قيل: “والذى كان يتكلم معى كان معه قصبة من ذهب، لكى يقيس بها المدينة وأبوابها وسورها” (رؤ 21: 15). أبناء الملكوت معروفون ومقاسون من قبل الله ومحفوظون لديه. أما وحدة القياس فهى قصبة من ذهب أى سماوية، لأن الأمور الروحية والسماوية لا تُقاس إلا بما هو روحى سماوى.

“والمدينة كانت موضوعة مريعة، طولها بقدر العرض، فقاس المدينة بالقصبة مسافة اثنى عشر ألف غلوة. الطول والعرض والارتفاع متساوية” (رؤ 21: 16). هى مربعة لها أربعة زوايا متساوية، إشارة إلى أن حاملها الأناجيل الأربعة التى ترتفع بالمؤمنين تجاه السماويات وتهيئهم ليكونوا عروساً سماوية بقوة الكلمة. أ ما قياسها 12000 غلوة فذلك لأن رقم 12 يشير إلى أبناء الملكوت، 1000 يشير إلى السماء، أى تتسع لكل أبناء الملكوت السمائيين.

“وقاس سورها: مئة وأربعة وأربعين ذراع إنسان أى الملاك” (رؤ 21: 17). يشير رقم 144 إلى الكنيسة الجامعة التى تضم مؤمنى العهدين (كنيسة العهد القديم12× كنيسة العهد الجديد12)، وهى مسورة بسور واحد تنعم بالإله الواحد. أما الذى قاس السور فهو ملاك وليس إنساناً أرضياً حتى لا نتخيل فى السماء ماديات وأرضيات.

16. ما هى مبانى مدينة الله أورشليم السماوية؟

أولاً: سور المدينة. “وكان بناء سورها من يشب، والمدينة ذهب نقى شبه زجاج نقى” (رؤ 21: 18). فهى مسورة بالله ذاته حافظها، وهى من ذهب نقى شبه زجاج نقى أى سماوية طاهرة.

يبحث العالم عن الذهب ويستخرجه من مناجم الذهب التى كان كثيرون يموتون أثناء العمل فيها، أما الذهب فغالباً ما يستخدم للزينة والبهرجة سواء خلال الحلىّ الذهبية أو التماثيل الذهبية وغيرها، وهى ليست ضرورية فى حياة البشر، بل بسببها قُتل البعض. أما الذهب فى الكتاب المقدس فكثيراً ما يشير إلى المجد السماوى، حيث يعيش المؤمن فى المجد، فيصير الجسد بكامله ممجداً والنفس ممجدة، بل والسمائيون يمجدون الله لأنه أقام منا نحن الترابيين كائنات تمجد الله.

اساسات الكنيسة عليها أسماء الرسل والأنبياء، غايتها أن نسلك بالفكر الرسولى الإنجيلى. نسلك فى الحياة سالكين بروح الإنجيل واهب الفرح الداخلى، والتحرر من محبة الماديات والخلاص من كل خطية وشهوة رديئة!

“وأساسات سور المدينة مزينة بكل حجر كريم. الأساس الأول يشب. الثانى ياقوت أزرق. الثالث عقيق أبيض. الرابع زمرد ذبابى. الخامس جزع عقيقى. السادس عقيق أحمر. السابع زبرجد. الثامن زمرد سلقى. التاسع ياقوت أصفر. العاشر عقيق أخضر. الحادى عشر اسمانجونى. الثانى عشر جمشت” (رؤ 21: 19 – 20).

أ. تشير هذه الحجارة الكريمة إلى رسل المسيح، إذ هى كنيسة رسولية، كما يقول الكتاب: “مبنيين على أساس الرسل والأنباء والمسيح نفسه حجر الزاوية” (أف 2: 20).

ب. تشير الحجارة الكريمة أيضاً إلى الفضائل الإلهية التى يهبنا الله إياها لأجل زينتنا. فالأساس الذى نُبنى عليه فى الأبدية هو الفضائل الإلهية التى يهبنا عربونها فى هذه الحياة خلال جهادنا. وهناك تتلألأ فينا فى مجد سماوى. لهذا يُعزى الرب الكنيسة المجاهدة قائلاً لها: “أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية، هأنذا أبنى بالإثمد حجارتك، وبالياقوت الأزرق أؤسسك، وأجعل شرفك ياقوتاً، وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة… هذا هو ميراث عبيد الرب وبرّهم من عندى، يقول الرب” (إش 54: 11 – 17).

ج. إذ يشير رقم 12 إلى أبناء الملكوت، كأن كل ابن للملكوت يتزين بزينة إلهية مختلفة عن أخيه، لكنها ثمينة وجميلة. وهكذا تكمل الكنيسة بعضها البعض فى وحدة بالغة.

ثانياً: الأبواب. “والاثنا عشر باباً اثنتا عشرة لؤلؤة، كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة”. الرب يسوع هو “اللؤلؤة” الكثيرة الثمن من أجلها يبيع الإنسان كل ماله ليقتنيها (مت 13: 46). فأبناء الملكوت جميعهم الداخلون من الأبواب باعوا العالم واشتروا اللؤلؤة. ومن ناحية أخرى نجد أنه من كل جانب يظهر ثلاثة أبواب أى الثالوث القدوس. كأن الثالوث القدوس من كل جانب يبهج نظر الشعوب لتبيع ما تملكه وتقتنى الأبدية، فتدخل إلى الميراث المُعد لها. ويرى البعض أن الاثنى عشر باباً أيضاً تشير إلى الاثنى عشر هؤلاء الذين جعلهم الباب الفريد، أى الرب يسوع أبواباً، عن طريق كرازتهم تدخل الشعوب إلى الإيمان به.

ثالثاً: السوق (أو الساحة). “وسوق المدينة ذهب نقى كزجاج شفاف” (رؤ 21: 21). يشير سوق المدينة إلى صنف ما من الأبرار. على أى الأمور كل المدينة ذهب نقى، أى سماوية ليس فيها أمر أرضى، وزجاج شفاف أى ليس فيها دنس أو تعقيد بل بساطة ونقاوة قلب.

رابعاً: الهيكل. “ولم أر فيها هيكلا، لأن الرب الله القادر على كل شئ هو والخروف هيكلها” (رؤ 21: 22).

أ. طالب الله الشعب القديم أن يقيموا خيمة اجتماع، يجتمع فيها الله مع الناس خلال الرموز والظلال. ثم عاد فطلب بناء هيكل يحمل معنى وجود الله وسط البشر.

ب. وإذ انحرف اليهود ورفضوا الرب، خرب الهيكل بعدما قدم لنا الرب جسده هيكلاً جديداً (يو 2: 19)، وإذ صرنا نحن من لحمه وعظامه (أف 5: 30)، صرنا به هيكلاً مقدساً (1 كو 3: 16 – 17)، وأصبحنا بناء الله (1 كو 3: 9).

ج. وفى نفس الوق سلّمنا الذبيحة غير الدمويّة فى خميس العهد، وطالبنا أن تُقدم فى هيكل العهد الجديد، عربون الهيكل الأبدى.

د. أما فى الأبدية فلم يرّ الرسول هيكلاً، لا لأنه غير موجود، بل لأن “الرب الله القادر على كل شئ هو الخروف هيكلها”. إنه هيكل هذا اتساعه وهذه إمكانياته، هيكل لا نهائى سرمدى!

خامساً: الإنارة. “والمدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها” (رؤ 21: 23). انعدمت وسائل الإضاءة المادية إذ صار لنا الرب شمساً وسراجاً.

سادساً: مجدها. “وتمشى شعوب المخلصين بنورها، وملوك الأرض يجيئون بمجدهم وكرامتهم إليها. وأبوابها لن تغلق نهاراً، لأن ليلاً لا يكون هناك. ويجيئون بمجد الأمم وكرامتهم إليها. ولن يدخلها شئ دنس، ولا ما يصنع رجساً وكذباً، إلا المكتوبين فى سفر حياة الخروف” (رؤ 21: 24 – 27)]. على ضيائها وبنورها يسير كثيرون تجاهها، إذ يقول الرب: “إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب فى ملكوت السماوات” (مت 8: 11). يأتون بمجدهم وكرامتهم، أى نازعين كل مجد أرضى وكرامة زمنية من أجلها. يأتون بإرادتهم وليس قسراً أو إلزاماً، فالأبواب مفتوحة للكل والدعوة للجميع، إذ يريد الله أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون.

يأتون ليجدونا أبوابها لن تغلق، إذ تستقبل الكل بلا محاباة بين غنى أو فقير، بعد أو حر. يأتون نهاراً، لأنه لا يدخلها فى الظلمة ولا يتسلل إليها من يصنع دنساً أو رجساً أو كذباً.

17. ما هو النهر الصافى الخارج من عرش الله وشجرة الحياة (رؤ 22: 1 – 7)؟

يقول الرائى: “وأرانى نهراً صافياً من ماء حياة، لامعاً كبلّور، خارجاً من عرش الله والخروف. فى وسط سوقها (ساحتها) وعلى النهر من هنا ومن هناك شجرة حياة تصنع اثنتى عشرة ثمرة، وتعطى كل شهر ثمرها. وورق الشجرة لشفاء الأمم. ولا تكون لعنة فيما بعد” (رؤ 22: 1 – 3).

يقول العلامة ترتليان إنه لا يمكننا تفسير هذا النص تفسيراً حرفياً. ففى الحياة الأبدية لا توجد أنهار ولا ساحات ولا أشجار. وتظره رمزية هذه الأوصاف فى حديثه عن شجرة الحياة أنها قائمة وسط ساحة المدينة، وفى نفس الوقت هى بذاتها قائمة على شاطئ النهر من الجانبين. فكيف يكون هذا لو كان ذلك بتفسير حرفى؟

أولاً: نهر الحياة: يرى العلامة ترتليان أن النهر هو شخص السيد المسيح الذى يروى كل نفس. وهو بنفسه الحمل الذى فدانا. وهو أيضاً شجرة الحياة الذى يشبع أولاده. إنه كل شئ بالنسبة للمخلصين. ويرى القديس أمبروسيوس[209] أنه الروح القدس الذى لا يشرب منه إلاَ الذى يؤمن بالسيد المسيح، القائل: “إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بى كما قال الكتاب تجرى من بطنه أنهار ماء حى”. قال هذا عن الروح الذى كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه (يو 7: 37 – 39). هذا هو روح الآب والابن منبثق من الآب مستقر فى الابن، أرسله الابن من عند الآب ليبكتنا ويقدسنا ويقودنا حتى نبلغ العرس السماوى. هذا هو النهر الخالد الذى روى ويروى العروس.

وهو أيضاً يشير إلى فيض نعم الله المبهجة فى الأبديةن والتى هى فى حقيقتها ليست شيئاً خارجاً عنه بل يعطينا ذاته ننعم به ونبتهج. وكما يقول المرتل: “نهر سواقيه تُفرح مدينة الله مقدس مساكن العلى. الله فى وسطها فلن تتزعزع” (مز 46: 4 – 5).

يشير أيضاً إلى السلام الذى تنعم به أورشليم السماوية، إذ قيل: “هأنذا أدير عليها سلاماً كنهر… كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا، وفى أورشليم تعزون، فترون وتفرح قلوبكم” (إش 66: 12 – 14).

ثانياً: شجرة الحياة. يرى طيخون الأفريقى أن شجرة الحياة تشير إلى الصليب المقدس الذى إليه امتدت أيدينا لتقتطف كل ثمر شهى. كثيرون مثل مار أفرآم السريانى[210] يلقبون الصليب بشجرة الحياة. فبالصليب أمات الرب الموت، وفتح لنا الفردوس، وأعطانا جسده ودمه المبذولين عنا، وجعلنا أبناء بركة ووارثين للحياة الأبدية. بالصليب يتمم الروح القدس الأسرار المقدسة على أيدى الكهنة فى الكنيسة، هذه الأسرار التى هى غذاء الكنيسة. والصليب كما نعلم امتد عمله ليقطف رجال العهد الجديد من كل يوم ثماراً. ونبقى فى الأبدية نتأمل جراحات الحمل القائم كأنه مذبوح فنجد فيها شبعاً. لهذا نجد الإثمار شهرى ومستمر، إثمار جديد بالنسبة لنا نأكل منه فنشبع وفى نفس الوقت يلتهب القلب شوقاً إليه، فنعود لنأكل منه لنجد فيه ثماراً جديدة بالنسبة لنا فنأكل ونشبع، ويصاحب الشبع زيادة فى الجوع إليه. وهكذا كما يقول ابن سيراخ إن من يأكل منه يعود إليه جائعاً، ومن يشرب منه يعود إليه ظمآناً (سى 24: 21).

بهذا نقف دوماً أمام الشجرة فى دهشة وعجب بلا ملل! أما إثمارها اثنتى عشرة، فذلك لأن رقم 12 يشير إلى أبناء الملكوت، وكأن الثمر مخصص لهم، كل ابن يجد فيه احتياجه وشبعه.

لقد أسهب الآباء الأولون مثل القديسين باسيليوس الكبير وأغسطينوس[211] والآب يوحنا الدمشقى فى حالة الازدهار التى تكون عليها الأبدية، وحالة الشبع التى يكون فيها الإنسان. وقد أدرك النبى ذلك فقال: “أنا أؤمن أنى أعاين خيرات الرب فى أرض الأحياء” (مز 27: 13).

ثالثاً: سعادة دائمة. “ولا تكون لعنة فيما بعد”… لقد تسلمنا خبرة مرة من أبينا آدم الذى تنعم بفردوس أرضى ولكن إلى حين، إذ خرج مطروداً يئن من ثقل اللعنة التى يحملها على كتفيه بعصيانه، أما فى الأبدية فلا يكون للخطية العصيان موضع، بل الكل يخدمون الله فى طاعة كاملة، إذ يقول: “وعرش الله والخروف يكون فيها، وعبيده يخدمونه” (رؤ 22: 3).

يخدمونه فى حب ويتوقون إلى رؤيته، ويفتخرون باسمهن إذ أنهم “سينظرون وجهه واسمه على جباهم” (رؤ 22: 4).

رابعاً: نور دائم. “ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس، لأن الرب الإله ينير عليهم، وهم سيملكون إلى الأبد” (رؤ 22: 5). ما أكثر العبادة التى جاء بها سفر الرؤيا المنير ليعلن لنا سرّ استضاءة أبناء الملكوت، ألا وهو وجود الله “شمس البر” حولهم وفوقهم ومحيطاص بهم.

لقد اختبر الآباء نور الله المشرق عليهم وهم بعد هنا فى الجسد الترابى[212]:

يقول الشيخ الروحانى: [مصباحاً واحداً أنظر، وبنوره أستضئ، والآن أنا فى ذهول؟ أبتهج روحياً، إذ فى داخلى ينبوع الحياة، ذاك الذى هو غاية العالم غير المحسوس! ٍ].

ويقول القديس أغسطينوس: [إلهى… أنت نورى، افتح عيناى فتعاينا بهاءك الإلهى، لأستطيع أن أسيرفى طريقى بغير تعثر فى فخاخ العدو! وما هو النور إلا أنت يا إلهى! أنت هو النور لأولاد النور! نهارك لا يعرف الغروب! نهارك يضئ لأولادك حتى لا يتعثروا! أما الذين هما خارجاً عنك، فيسلكون فى الظلام ويعيشون فيه! إذن، لنلتصق بك يا من أنت هو نور العالم! ما جاجتنا أن نجرب كل يوم الابتعاد عنك؟ 1 لأن كل من يبتعد عنك أيها النور الحقيقى يتوغل فى ظلام الخطية، وإذ تحيط به الظلمة لا يقدر أن يميز الفخاخ المنصوبة له على طول الطريق!].

أخيراً اختتم وصفه للمجد الأبدى بالقول: “ثم قال لى هذه الأقوال أمينة وصادقة، والرب إله الأنبياء القديسين أرسل ملاكه، ليُرى عبيده ما ينبغى أن يكون سريعاً. ها أنا آتى سريعاً. طوبى لمن يحفظ أقوال نبوة هذا الكتاب” (رؤ 22: 6 – 7). إنها أقوال صادقة يلزمنا ان نهتم بها، لأن مرسلها هو إله الأنبياء الذى سبق فأنبأنا بأمور كثيرة خاصة بخلاصنا وتحققت نبواتها، والآن ينبئنا بإرسال ملاكه ليُرى عبيده ما سيكون سريعاً.

18. لماذا نقرأ هذه النبوات والوقت لا يزال متسعاً وبعيداً؟

يجيب: “ها أنا آتى سريعاً. طوبى لمن يحفظ أقوال نبوة هذا الكتاب”. إنه يحذرنا ألا نفسد الوقت فى التشكك، إنما بإيمان نقبل النبوة ونحفظ أقوالها أى وصاياها، ونسهر منتظرين مجيئه لهذا نصلى قائلين فى تسبحة نصف الليل – الخدمة الأولى: [ها هوذا العريس يأتى فى نصف الليل. طوبى للعبد الذى يجده مستيقظاً. أما الذى يجده متغافلاً فإنه غير مستحق المُضى معه. فانظرى يا نفسى لئلا تثقلى نوماً، فتلقى خارج الملكوت بل اسهرى واصرخى، قائلة: قدوس، قدوس، قدوس… اسهرى متضرعة لكى تلتقى بالمسيح الرب بدهن دسم، وينعم لك بعرس مجده الإلهى الحقيقى].

فاصل

من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ7 – الأخرويات والحياة بعد الموت – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

زر الذهاب إلى الأعلى