القداس الإلهي يؤهلنا للتناول

الله يعلم ضعف ونقص البشرية وعجزها عن أن تعمل الصلاح بدونه، لهذا أعطانا جسده ودمه الأقدسين طعامًا روحيًا، ومنًا سماويًا، وحياة أبدية، وغفرانًا لخطايا كل من يتناول منه، والتناول من (جسد الرب ودمه) لا يتحولان فينا إلى طاقة وأعضاء – كمثل الأكل الطبيعى – ولكنهما يحولاننا نحن إلى أعضاء فى المسيح، إلى أعضاء فى الجسد الواحد… “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجَسَدُ الْمَسِيحِ وَأَعْضَاؤُهُ أَفْرَاداً” (1كو 27:12).

لذلك لابد وأن يشترك الجميع فى التناول من هذا السر المقدس.

إن الكنيسة لا يتحقق معناها ووحدانيتها إلا بالتناول – كلنا معًا – من جسد الرب ودمه. ولكن قد يتخوف البعض من سر التناول فلماذا؟

الخوف من التناول

يتخوف البعض من سر التناول بسبب الآية التى قالها معلمنا القديس بولس الرسول:”إِذاً أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ” (1كو 27:11). ويتابع الرسول كلامه فيقول: “وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ” (1كو 28:11).

وهنا نجد أن الرسول يقول صراحة عن سر الإفخارستيا، أن هذا الخبز، وما تحويه هذه الكأس، هما جسد الرب ودمه ولنسأل إذن ما هو الاستعداد لهذا السر؟

قال الرسول: “لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ” (1كو 28:11). إذن يفحص الإنسان نفسه ليرى هل هو مستحق أم لا. وعلامة الاستحقاق أن يكون تائبًا ومعترفاً ومستعداً للتناول.

وفى هذا قال الرسول: “لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْرَبُوا كَأْسَ الرَّبِّ وَكَأْسَ شَيَاطِينَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَشْتَرِكُوا فِى مَائِدَةِ الرَّبِّ وَفِي مَائِدَةِ شَيَاطِينَ” (1كو 21:10).

ذلك لأنه “وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاقٍ لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ؟” (2كو 14:6، 15). وبتابع الرسول كلامه عن التناول بغير استحقاق، فيقول: “لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ” (1كو 29:11).

لهذا نجد أن بعض المسيحيين يعتذرعن التناول من خوفه من رهبة هذا السر، ولكن دعنى أسألهم، من من البشر مهماً كان قديساً يستحق التقدم للتناول من هذا السر المقدس؟ وإن كان الأمر هكذا لماذا أمرنا الرب وقال: “خذوا كلوا منه كلكم” وأن ليست حياة ابدية لمن لا يتناول منه كيف نحل هذه المعضلة؟ وكيف نستطيع أن نتناول من الأسرار؟

ولمن يدعى ويقول: أنه يعجز عن صيانة هذه العطية (التناول) لذلك يمتنع عن التمتع بها يقول له القديس أغسطينوس: أيهما يحصن الأخر: الإنسان يحصن هذه العطية، أم العطية هى التى تحصنه؟! فالتناول لا يقدم لمدعى القداسة والبر بل للمحتاجين، لأنه “وَلَكِنْ حَيْثُ كَثُرَتِ الْخَطِيَّةُ ازْدَادَتِ النِّعْمَةُ جِدّاً” (رو 20:5). فالرب يسوع لم يأتى ليدعوا أبرارًا بل خطاة إلى التوبة لأنه لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.

+ يجب ألا يمنع الإنسان نفسه عن التناول يوميًا من جسد الرب لشفاء نفسه، بشرط الإستعداد الجيد للتناول قبلها وأيضًا التوبة المستمرة والإعتراف الأمين… فهذا هو دور القداس الإلهى.. أن يُعدَنى ويُهيئنى ويُقدسنى لكى أتناول باستحقاق، فالقداس يحمل قوته فيه، لذلك سمى قداسًا، لأنه يُقدسنى، كما أنه يُقدس القرابين ويحولها إلى جسد الرب ودمه.

كيف يعدنا القداس للتناول :

أولاً: بالصلوات الطويلة

فكلنا يعرف أن الصلاة تقدس الأشياء، فنحن نصلى على الأكل لنقدسه، ونصلى على المياه وعلى الزيت وعلى البيوت لنقدسها، بل أن الكنيسة نفسها تصير مكانًا مقدسًا لأننا نصلى فيها، وأنت نفسك تحرص أن يصلى على رأسك أب كاهن قديس ليباركك، ويقدسك، فكم بالحرى حينما تجتمع الكنيسة كلها اكليروس وشعب، سمائيين وأرضيين، وفى وسطنا عمانوئيل إلهنا بنفسه، الكل يرفعون صلوات وتسابيح وألحان مطولة منغومة، كم يكون الجو مقدسًا ومفعمًا بحركات الروح ومشجعًا للنفس على التوبة، والإحساس بحضور المسيح؟! أليست هذه وسيلة رائعة لتقديس النفس، وتهيئتها للإتحاد بالمسيح فى التناول؟.

أخى الحبيب / أختى المباركة.. جيد لى ولك أن يدخل كل منا إلى الكنيسة حاسبًا فى ضميره أنه أقل الناس وأسوأهم، وأنه أحوجهم إلى صلوات كل الكنيسة.. وأن كل المؤمنين قد اجتمعوا معًا الآن، ليصلوا عنى، ويسندوا جهادى بتسبيحهم وتضرعاتهم.. وأننى أنا الوحيد المستفيد بصلوات كل هؤلاء الأنقياء، لأننى العضو الوحيد المريض فى هذا الجسد الرائع.

إن صلوات الكنيسة تقدس الناس والمكان، وتلهب مشاعرنا بالتوبة والاشتياق إلى القداسة، والإحساس بحضور المسيح فى حياتنا، لذلك ليس عبثًا أن تطيل الكنيسة فى تسابيحها وصلواتها، ونغمات ألحانها، حتى تهيئ الفرصة كاملة لكل نفس أن تأخذ نصيبها من هذا التقديس.. فإجتهد أن تبكر إلى الكنيسة، لتأخذ الجرعة كاملة، مرتلاً مع المزمور: “يَا اللهُ إِلَهِى أَنْتَ. إِلَيْكَ أُبَكِّرُ” (مز 1:63) سامعًا الوعد الإلهى الصادق: “الَّذِينَ يُبَكِّرُونَ إِلَىَّ يَجِدُونَنِى” (أم 17:8).

ثانيا: بقراءة الإنجيل

إن الإنجيل فى الكنيسة ليس كتاب تعليم فقط، بل هو كتاب تقديس أيضًا، لذلك قال السيد المسيح لتلاميذه، الذين سمعوا كلامه، وتعلموا منه: “أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الْكلاَمِ الَّذِى كَلَّمْتُكُمْ بِهِ” (يو 3:15)، فكلمة الله تنقى القلب وتطهره، وتطرد منه قوات الظلمة، وتهيئه للاتحاد بالمسيح فى التناول. وكلنا يذكر قصة الأب الراهب الذى سأل مرشده الشيخ وقال له أنه يقرأ كثيرًا فى الكتاب المقدس ولكن لا يتذكر منه شيئًا، فأمره أن يملأ (سلة الخبز) بالماء، وحين يصل بها إليه، يكون الماء قد سكب كله، ويأمره بتكرار ذلك عدة مرات، وطبعًا لأن السلة لا تجمع الماء بداخلها، فقد استخدمها الأب الشيخ كوسيلة إيضاح، ليفهم تلميذه أن الماء وإن لم يستقر فى السلة ولكنه ينظفها، كذلك الإنجيل وإن لم يستقر فى القلب ولكن يغسل الضمير وينقى القلب “قَدِّسْهُمْ فِى حَقِّكَ. كلاَمُكَ هُوَ حَقٌّ” (يو 17:17).

لذلك تؤمن الكنيسة أن ربنا يسوع المسيح يحضر فيها، ويقرأ الإنجيل بنفسه لكى ينقينا ويطهرنا، ونحن حينما نسمع الإنجيل فى الكنيسة بخشوع وتقوى، إنما نسلم قلوبنا وعقولنا لعمل كلمة الله الحية، التى لا ترجع فارغة “لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِى حَدَّيْنِ، وَخَارِقَةٌ إِلَى مَفْرَقِ النَّفْسِ وَالرُّوحِ وَالْمَفَاصِلِ وَالْمِخَاخِ، وَمُمَيِّزَةٌ أَفْكَارَ الْقَلْبِ وَنِيَّاتِهِ” (عب 12:4).

فقراءة الإنجيل فى الكنيسة فى القداس له فعل تقديسى أولاً للقرابين، وأيضًا للمؤمنين، ليهيئهم للاتحاد بالمسيح الذبيح فى نهاية القداس… “لأَنَّهُ يُقَدَّسُ بِكَلِمَةِ اللهِ وَالصَّلاَةِ” (1تى 5:4).

والكنيسة كلها تتقدس بكلمة الله فى المعموديةلِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ” (أف 26:5)، “أَلَيْسَتْ هَكَذَا كَلِمَتِى كَنَارٍ يَقُولُ الرَّبُّ وَكَمِطْرَقَةٍ تُحَطِّمُ الصَّخْرَ؟” (أر 29:23).

لأن “سَيْفَ الرُّوحِ الَّذِى هُوَ كَلِمَةُ اللهِ” (أف 7:6)، يدخل إلى مداخل القلب ليبتر منه كل انحراف، ويكشف له كل ميول رديئة، ويحفزه على التوبة وطلب تقديس الروح، لذلك رأى يوحنا اللاهوتى المسيحوَسَيْفٌ مَاضٍ ذُو حَدَّيْنِ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ” (رؤ 16:1)، ولما تكلم عن الهراطقة، نبه ملاك كنيسة برغامس قائلاً: “فَتُبْ وَإِلاَّ فَإِنِّى آتِيكَ سَرِيعاً وَأُحَارِبُهُمْ بِسَيْفِ فَمِى” (رؤ 16:2)، فكلمة الله لنا هى سيف يقطع كل انحراف فينا، لذلك رتل داود: “خَبَّأْتُ كَلاَمَكَ فِى قَلْبِى لِكَيْلاَ أُخْطِئَ إِلَيْكَ” (مز 11:119)، “مِنْ كُلِّ طَرِيقِ شَرٍّ مَنَعْتُ رِجْلَيَّ لِكَىْ أَحْفَظَ كَلاَمَكَ” (مز 101:119)، “سِرَاجٌ لِرِجْلِى كَلاَمُكَ وَنُورٌ لِسَبِيلِى” (مز 105:119)، “فَتْحُ كَلاَمِكَ يُنِيرُ يُعَقِّلُ الْجُهَّالَ” (مز 130:119)، وفى المقابل “الْخَلاَصُ بَعِيدٌ عَنِ الأَشْرَارِ لأَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَمِسُوا فَرَائِضَكَ” (مز 155:119)، لذلك فالإنسان المسيحى يجتهد أن يبكر للكنيسة، ليحضر القراءات من بدايتها، حاسبًا فى نفسه أنه أثناء القراءة يخضع لعمل تقديس الكلمة لقلبه، ليتهيأ للتناول من الأسرار المقدسة.

ثالثاً: بالتوبة الجماعية

لا شك أن التوبة لها عمل تقديسى فى حياتنا، وهـى التهيئة الأساسية لقبول المسيح فينا: “تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ” (مت 2:3)، وعدم التوبة يؤدى إلى هلاك أبدى “إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذَلِكَ تَهْلِكُون” (لو 3:13).

القداس يهئ لنا فرصة رائعة للتوبة الجماعية، فيها ينحنى كل الشعب تائبًا ومعترفًا بخطيئته، فيسعد قلب الله بهذه الكنيسة التائبة المنسكبة، ويقبلها ويطهرها بروحه القدوس.. وأنا وسط الكنيسة، حتى ولو كانت توبتى ضعيفة مريضة، ولكنها ستقبل وسط الجماعة، مسنودة بتوبة أخوتى، وأبى الكاهن على المذبح عنى، وهذا هو مصدر قوة التوبة الجماعية وروعتها.. لا تنسى توبة أهل نينوى كجماعة، وكم كانت جديرة برفع غضب الله عن الشعب كله.

إن الفرص التى توفرها الكنيسة للتوبة الجماعية يمكن أن نصنفها تحت هذه البنود:

أ- دورات البخور: حينما يمر أبى الكاهن بالكنيسة ليبخر.. إنها دعوة للتوبة والاعتراف، فينحنى كل إنسان ويعترف سرًا أمام الله بخطيته، والأب الكاهن ينقلها على المذبح بعد عودته للهيكل ليصلى سر اعتراف الشعب قائلاً: “يا الله الذى قبل إليه اعتراف اللص على الصليب المكرم، اقبل إليك اعتراف شعبك، وأغفر لهم جميع خطاياهم، من أجل أسمك القدوس الذى دعى علينا، كرحمتك يارب وليس كخطايانا”.

والبخور فى الكنيسة رمز للتطهير من الخطية، فعندما تذمر بنو إسرائيل، وعاقبهم الله بالوبأ “قَال مُوسَى لِهَارُونَ: خُذِ المَجْمَرَةَ وَاجْعَل فِيهَا نَاراً مِنْ عَلى المَذْبَحِ وَضَعْ بَخُوراً وَاذْهَبْ بِهَا مُسْرِعاً إِلى الجَمَاعَةِ وَكَفِّرْ عَنْهُمْ لأَنَّ السَّخَطَ قَدْ خَرَجَ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ. قَدِ ابْتَدَأَ الوَبَأُ. فَأَخَذَ هَارُونُ كَمَا قَال مُوسَى وَرَكَضَ إِلى وَسَطِ الجَمَاعَةِ وَإِذَا الوَبَأُ قَدِ ابْتَدَأَ فِى الشَّعْبِ. فَوَضَعَ البَخُورَ وَكَفَّرَ عَنِ الشَّعْبِ. وَوَقَفَ بَيْنَ المَوْتَى وَالأَحْيَاءِ فَامْتَنَعَ الوَبَأُ” (عد 46:16-48).

لذلك فعندما أرى أبى الكاهن خارجًا من الهيكل بالشورية ليبخر الكنيسة، يتبادر لذهنى أنها فرصة للتوبة، والعودة إلى حضن الآب، فأنسكب أمام الله وأعترف فى الحال بخطيتى، مرددًا: “حل واغفر واصفح لى يا الله عن سيئاتى التى صنعتها.. الخ”. أو معترفًا بالتفصيل بالخطايا التى سقطت فيها، لكى أتقدم بضمير صالح، لأتناول من الأسرار المقدسة… وفرصة هذا البخور المطهر تتكرر عدة مرات أثناء الليتورجيا، فى عشية وباكر والبولس والأبركسيس… وتلاحظ أنه أثناء دورات البخور هذه، نصلى صلوات فيها طلب غفران الخطايا “مثل الهيتنيات”، أو ألحان فيها ذكر القديسين “مثل أرباع الناقوس والذكصولوجيات، ومردات الأبركسيس، وطاى شورى، وتى شورى… الخ” لأن أيضًا البخور يرمز إلى صلوات القديسين: “وَجَاءَ مَلاَكٌ آخَرُ وَوَقَفَ عِنْدَ الْمَذْبَحِ، وَمَعَهُ مِبْخَرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ وَأُعْطِيَ بَخُوراً كَثِيراً لِكَىْ يُقَدِّمَهُ مَعَ صَلَوَاتِ الْقِدِّيسِينَ جَمِيعِهِمْ عَلَى مَذْبَحِ الذَّهَبِ الَّذِى أَمَامَ الْعَرْشِ. فَصَعِدَ دُخَانُ الْبَخُورِ مَعَ صَلَوَاتِ الْقِدِّيسِينَ مِنْ يَدِ الْمَلاَكِ أَمَامَ اللهِ” (رؤ3:8، 4)، والأربعة والعشرون قسيسًا فى السماء “َلَهُمْ كُلِّ وَاحِدٍ قِيثَارَاتٌ وَجَامَاتٌ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوَّةٌ بَخُوراً هِىَ صَلَوَاتُ الْقِدِّيسِينَ” (رؤ8:5)، “لِتَسْتَقِمْ صَلاَتِي كَالْبَخُورِ قُدَّامَكَ” (مز 2:141).

ب- نداء الشماس: “احنوا رؤوسكم للرب” هذا النداء هو دعوة للتوبة الجماعية، حيث انحناء الرأس هو علامة انكسار القلب بالتوبة أمام الله والخضوع له: “أمامك يارب”. وهنا ينحنى كل إنسان معترفًا بخطاياه، بينما يكون أبونا على المذبح منسكبًا، يعترف بخطيته الخاصة وبخطايا وجهالات الشعب، وهو يصلى سرًا “وإن كنا أخطأنا إليك بالقول، أو بالفعل، فسامح واغفر لنا كصالح ومحب البشر”، “اذكر يارب ضعفى أنا أيضًا واغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك، ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبى، لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس”. وأيضًا فيما يقدم هذه التوبة يصلى التحاليل لغفران الخطايا: “فليكن يا سيدنا عبيدك آبائى وأخوتى وضعفى، محاللين من فمى بروحك القدوس”، “اللهم حاللنا وحالل شعبك من كل خطية، ومن كل لعنة، ومن كل جحود، ومن كل يمين كاذب، ومن كل ملاقاة الهراطقة الوثنيين”، أى موافقتهم فى رأيهم.

وكذلك يصلى الأب الكاهن أن يقبل الله التوبة، ويثبتها، ويعطينا أن نثمر كما يليق بالتوبة: “اللهم يا حامل خطية العالم، ابدأ بقبول توبة عبيدك منهم نوراً للمعرفة، وغفراناً للخطايا، لأنك أنت إله رؤوف رحوم، أنت طويل الأناة كثير الرحمة وبار”، “أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم، لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ، وامنحنا أن نصنع مرضاتك كل حين. اكتب أسماءنا مع كل صفوف قديسيك فى ملكوت السموات”.

ويذكر أبونا أسماء أبنائه المتعثرين فى خطاياهم، والمعاقين عن النمو الروحى بسبب مشاكلهم… أمام هذه التوبة الجماعية والروح الواحدة المنسكبة أمام الله، لابد وأن يغفر الله لأنه صادق وأمين: “إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ” (1يو 9:1)، لذلك يصرخ الشماس معلناً حدوث الخلاص للكاهن، ولكل الشعب، فيرفع الجميع رؤوسهم، ويرتلون بفرح: “أمين كيرياليصون كيرياليصون كيريا ليصون”.. فيقول أبونا: “القدسات (الجسد والدم) للقديسين (المؤمنين المعترفين توا بخطاياهم)”، حقاً لقد صرنا قديسين وتثبتت القداسة فينا، بفعل الروح القدس، عندما قدمنا توبة جماعية… ولكن الكنيسة بروح وديعة منكسرة، ترفع صوتها قائلة: “واحد هو الآب القدوس واحد هو الابن القدوس واحد هو الروح القدس آمين” معترفة بأن الله وحده هو القدوس، وأن كل قداسة فينا إنما هى انعكاس لأشعة قداسة الله فى حياتنا، ونتقدم بناء على هذا الرجاء للتناول من جسد الرب ودمه، وكل منا يقول: “أنا لست مستحقاً ولا مستعداً ولا مقدساً ولكننى محتاج”.

فرصة التوبة هذه تتكرر فى نهاية كل صلاة ليتورجية (رفع بخورعشية وباكر)، وفى القداس بصفة خاصة، مع هذا الحوار الرائع بين الشماس والشعب والأب الكاهن.

ج- طوال القداس : نقدم صلوات فيها التماس رحمة الله قائلين: “يارب أرحم”، “كرحمتك يا رب وليس كخطايانا”، “ارحمنا يا الله الآب يا ضابط الكل”.. وصلوات فيها انكسار القلب بالتوبة وطلب التطهير “نحن عبيدك الخطاة الغير مستحقين”، “طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا…” وبالإجمال فإن القداس كله بكلماته الروحية ونغماته الخشوعية، وما يصاحبه من بخور وملابس كهنوتية وأنوار وأيقونات… كله يدعو النفس للتخشع، والتوبة، والدخول فى مجال عمل الروح للتقديس. مع ملاحظة أن هذه التوبة اليومية فى القداس تكمل التوبة التى نقدمها فى الاعتراف ولا تغنى عنها.

رابعاً: بحلول الروح القدس

ففى أوشية حلول الروح القدس، يسجد الكاهن، ويصلى سرًا قائلاً: “نسألك أيها الرب إلهنا نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين، نسجد لك بمسرة صلاحك، ليحل روحك القدوس علينا (مشيراً على ذاته)، وعلى هذه القرابين الموضوعة” (مشيراً على القرابين)، فيحل فينا الروح القدس، ليهيئنا ويقدسنا، ويعدنا لقبول الابن الكلمة فى أحشائنا، بالتناول من جسد الرب ودمه الأقدسين “اعطنى يارب روحك القدوس، النار غير المادية، التى لا يفكر فيها، التى تأكل كل الضعفات، وتحرق كل الأشياء الرديئة (الشهوات)… الخ”. “اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ” (لو 35:1)، “وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ” (يو 8:16)، “ذَاكَ يُمَجِّدُنِى لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ” (يو 14:16)، “وَاللَّهُ الْعَارِفُ الْقُلُوبَ شَهِدَ لَهُمْ مُعْطِياً لَهُمُ الرُّوحَ الْقُدُسَ كَمَا لَنَا أَيْضًا. وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَىْءٍ إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ” (أع 8:15، 9).

فالروح القدس يغسل القلب، ويطهره، ويبرره، “لَكِنِ اغْتَسَلْتُمْ بَلْ تَقَدَّسْتُمْ بَلْ تَبَرَّرْتُمْ بِاسْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ وَبِرُوحِ إِلَهِنَا” (1كو 11:6)، والروح القدس الساكن فينا هو محفزنا على حفظ قـداسة هيكله “أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ جَسَدَكُمْ هُوَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ الَّذِي فِيكُمُ الَّذِى لَكُمْ مِنَ اللهِ وَأَنَّكُمْ لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ؟ لأَنَّكُمْ قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ. فَمَجِّدُوا اللهَ فِى أَجْسَادِكُمْ وَفِى أَرْوَاحِكُمُ الَّتِى هِى لِلَّهِ” (1كو 19:6-20)، “أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَيُفْسِدُهُ اللهُ لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِى أَنْتُمْ هُوَ” (1كو 16:3، 17).

فالروح القدس عندما ينسكب فينا فى القداس يطهرنا ويقدسنا، ويحقق عضويتنا فى المسيح، ونكون بالحق هيكلاً مقدسًا له، مستعداً لاستقبال المسيح فى سر التناول، ففى القداس الباسيلى نقول: “وصيرنا أطهاراً بروحك القدوس”، وفى قطع صلاة الساعة الثالثة نقول: “أيها الملك السمائى المعزى روح الحق، الحاضر فى كل مكان، والمالئ الكل، كنز الصالحات ومعطى الحياة هلم تفضل وحل فينا، وطهرنا من كل دنس، أيها الصالح وخلص نفوسنا”.

ختاما

هكذا يا أخوتى يحملنا القداس على أجنحته، ليقدسنا بالصلوات والتسابيح، بالكلمة والتوبة، وأيضًا بحلول الروح القدس فينا.. عندما أدخل الكنيسة أشعر فى ذاتى أننى إنسان سئ للغاية، ولا أستحق مجرد الوقوف على عتبة بيت الله، مهما كنت قد قدمت من توبة وإعتراف أمين واستعداد للتناول.. ولكن القداس يحملنى، فيقدسنى، ويقدمنى إلى الهيكل كإبن محبوب، وينادى الكاهن وهو يضع جسد المسيح فى فمى قائلاً: (القدسات للقديسين)، وأتناول بحب وخشوع، حاسبًا فى نفسى أننى لست بالحق قديسًا، ولكن الله وحده هو القدوس، وقد قدسنى لأنه يحبنى فضلاً..

المجد لك يا ربى يسوع لأنك تركت لنا فى كنيستك هذا الكنز العظيم – القداس الذى يقدسنى ويوحدنى

زر الذهاب إلى الأعلى