الكنيسة ملكوت الله على الأرض

كانت الكنيسة فى ذهن الله حتى قبل سقوط آدم وحواء، وكانت الأقانيم الثلاثة ولا زالت مشغولة بخلاص الإنسان لترد إليه ما فقده بسبب الخطية. ويبقى الله مهتماً بمحبوبه الإنسان، ولكنيسة الله ليقيم منها ملكوته على الأرض، ويعبر بها إلى سماواته.

يمكننا إبراز دور الله وعمله العجيب ليقيم من الكنيسة ملكوته الأبدى والوارثة مع المسيح بكونها عروسه المقدسة، والتى ترتبط بالسمائيين كأنها إحدى الطغمات السماوية، بل وتبقى موضوع دهشتهم، إذ يرون فى البشر الذين خلقوا من التراب وانخدعوا بواسطة إبليس الذى يحسدهم على ما ينالونه من الله من بركات فائقة. لم يكن أحد يتوقع ما يتمتعون به الآن وما سيتمتعون به كميراث أبدى.

1 – ماذا تعنى عبارة: “الكنيسة ملكوت الله على الأرض”؟

إن عدنا إلى الجزء الثانى من سلسلة الكاتشزم بند 6 عن “سمو الإنسان عند خلقته”، ندرك أن الله ملك الملوك خلق الإنسان ليقيم منه ملكاً صاحب إرادة حرة وسلطان أولاً على أعماقه الداخلية وأيضاً على سمك البحر وطير السماء وعلى كل الأرض (تك1: 26)، لا ليحمل روح التشامخ والعجرفة بل ليكون سفيراً لله محب البشر وخادم الكل.

كثيرون يتساءلون: ماذا كان يحدث لو أن حواء وآدم لم يسمعا لنصيحة إبليس وخداعه؟ بلا شك ما كان قد دخل الفساد إلى نسل آدم وحواء، بل تحولت الأرض كما إلى سماء يسودها لا قانون الظلم بل الحب والقداسة والوداعة والتهليل للخالق، وصاروا أشبه بالطغمة السمائية.

حلّ الفساد بنسل آدم وكما يقول القديس أغسطينوس صار حتى الرضيع لا يقبل رضيعاً آخر يرضع معه من صدر أمه، بل يثور الطفل إن رأى طفلاً آخر فى عمره يغتصب ألعابه الخ.

مع هذا وُجد بين البشر من يرفع عينيه نحو الله ويترنم: “تقدمت فرأيت الرب أمامى فى كل حين، لأنه عن يمينى لكيلا أتزعزع. هذه العبارة التى يرددها المؤمن فى صلاة باكر ليعيشها نهاراً وليلاً.

إن كان الإنسان قد فقد سِمته كملكٍ أو ملكة، كما فقدت ذلك أيضاً كثير من الجماعات سواء على مستوى البيت أو الكنيسة أو العمل أو هيئات التعليم، فقد تجسد ملك الملوك (رؤ19: 16) لكى يرد للإنسان الحياة الملوكية على مستوى فائق، سواء للشخص أو الجماعة. لهذا لم يقل الرسول: “جعلنى ملكاً”، بل قال: “جعلنا ملوكاً وكهنة لله أبيه” (رؤ1: 6).

حين نتحدث عن الكنيسة كمملكة المسيح على الأرض نقصد الكنيسة التى هى قلب الإنسان وعقله وعواطفه وكل طاقاته، وأيضاً الكنيسة التى هى بيته وأسرته الصغيرة، والكنيسة المتعبدة لله والتى يتمتع أعضاؤها بالبنوة لله خلال المعمودية. تتمتع بالتناول من الإفخارستيا، وتشارك الطغمات السمائية فرحها بالربّ وتسبيحها الدائم وصلواتها من أجل خلاص العالم كله واتساع قلبها حتى بالنسبة لمضطهديها.

2 – من الذى يبنى الكنيسة ويحرسها؟

يقول القديس أمبروسيوس: [شرح الرب نفسه سبب عماده: “اسمح الآن، لأن هكذا يليق بنا أن نكمل كل برّ” (مت3: 15). من بين مراحمه الكثيرة بناؤه الكنيسة، فبعد الآباء والأنبياء نزل الابن الوحيد وجاء ليعتمد. هنا تظهر بوضوح الحقيقة الإلهية التى ذكرت بخصوص الكنيسة، وهى “إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناءون” (مز127: 1). إذ لا يستطيع الإنسان أن يبنى أو يحرس. “إن لم يحرس الرب المدينة، فباطلاً يسهر الحراس”. إنى أتجاسر فأقول إنه لا يستطيع الإنسان أن يسلك فى الطريق ما لم يكن الرب معه يقوده فيه، كما هو مكتوب: “وراء الرب إلهكم تسيرون وإياه تتقون” (تث13: 4) ([1])].

3 – ما هى سمات هذه الملكة المرتبطة بعريسها ملك الملوك؟

إنه أيقونة عريسها ربّ المجد يسوع المسيح، تحمله فى داخلها وتسلك فى الرب تحت قيادة روح الله القدوس. أهم سماتها:

أولاً: التمتع بروح القداسة: عريسها هو ابن الله الوحيد، القدوس مع أبيه الصالح والروح القدس. ففى تجليه قيل: “تغيرت هيئته قدامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت17: 2). الثوب الأبيض يشير إلى كنيسة المسيح الملتصقة به كمن هو ملتحف بها، قد صارت بيضاء كالنور لأن عريسها حال فى داخلها، شمس البرّ الذى جاء يضئ فيها، فتصير بيضاء كالنور، تحمل طبيعة النور. وقد سبق فرأينا ([2])، إن هذا الثوب يُشير إلى العرس الأبدى، حيث تتقدم أيضاً العروس بثوب إلى الرجلين (رؤ19: 8). لتُزف مع عريسها فى حضرة الأربعة وعشرين قسيساً.

يقول القديس أغسطينوس: [قيل: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج” (إش1: 18). مِن هؤلاء الناس يُحضر المسيح لنفسه ثوباً بلا عيب ولا دنس (أف5: 27). لذلك عندما كان على الجبل صارت ثيابه بيضاء كالثلج (مت17: 2)، إشارة إلى الكنيسة المتطهرة من كل دنس الخطية].

هذه القداسة التى تتمتع بها الكنيسة من عمل عريسها الذى يقيم ملكوته داخلها (لو17: 21). ومن عمل كلمة الله فيها. يقول القديس كيرلس الكبير: [الخميرة كمية قليلة، لكنها تمسك بالعجين، وتنتشر فيه كله، وتنقل إليه بسرعة كل خواصها. وكلمة الله تعمل فينا بطريقة مشابهة، لأنه حينما نقبلها فى داخلنا، تجعلنا مقدسين وبلا لوم ([3])].

سرّ كمال الكنيسة وقداستها هو تمتعها بالحياة بعد قيامة يسوع أو اتحادها مع المسيح الذى قام، إذ تُدعى الكنيسة لكى تكون فى تألق أعظم وفى جلال، كما لو كان الكمال قد تحقق. يوضح أوريجينوس أن المسيح هو حياة الكنيسة. كما يقول: [حقيقة أن الكنيسة هى تجمع أنفس عديدة، قد أخذت نظام حياتها عن المسيح ([4])]. كما يقول: [ “قومى يا جميلتى، يا حمامتى، وتعالى. لأن الشتاء قد مضى، والمطر قد زال، الزهور ظهرت فى الأرض” (نش2: 12). يمكننا القول إن ذلك كان بمثابة نبوة وجهت إلى الكنيسة، لدعوتها إلى البركات التى وعد بها الرب فى المستقبل. لقد دُعيت لكى “تقوم”، كما لو كان قد حلّ أوان الكمال، وقد جاءت القيامة. كان إصدار هذا الأمر بمثابة ختم على عمل القيامة أكثر جلالاً وتألقاً ([5])].

ثانياً: اعتزاز الكنيسة بروح الملوكية الروحية. تقتدى بعريسها فلا تطلب سلطاناً زمنياً. فحين أرادت الجموع أن تخطفه لتقيمه ملكاً انصرف إلى الجبل وحده (يو6: 15). حقاً حين سأله بيلاطس: “أأنت ملك اليهود؟!”، لم ينكر إنه ملك، إذ قال له: “أنت تقول (مت27: 11؛ مر15: 2). وفى نفس الوقت صحح للوالى مفهومه للمملكة، قائلاً له:” مملكتى ليست من هذا العالم “(يو18: 36).

إن كانت مملكة المسيح ليست من هذا العالم، فيليق بالكنيسة كما بالمؤمن إدراك أن مملكتهما ليست من هذا العالم. بل يليق بهما عدم الانشغال بالسياسات العالمية وحتى الكنيسة. يقول القديس ماريعقوب السروجى: [عندما تسمع خبراً حسناً احتقره، ولا تتكل عليه لأنه ليس صحيحاً. وإن طرق سمعك أيضاً خبر سيئ لا تخف منه، لأنه غير ثابت. فى هذا الزمان تمتطى الأخبار السارة والمحزنة العجلات مثل النهار والليل، وتتراكض وراء بعضها بعضاً، وليس لأى منها سلطان لتستقر فى موضع أو تخرج منه، لأن الحكمة إرادتها أن تتراكض هكذا. لا يفزع فكرك ويستعجله ويتطارده، بحيث يحزنك هذا ويفرحك ذاك. لكن دع الأخبار تذهب وتجئ، واتكل أنت على الله، وعلى رجاء الإيمان منتظراً العبارة التى تقول: “لا تضربك الشمس فى النهار، ولا القمر فى الليل، الرب يحفظك من كل شر” (مز121: 6 – 7) ([6])].

هكذا يحوّل العريس عينى عروسه عن التطلع خارجها إلى الداخل، لهذا يقول للتلاميذ: “ها ملكوت الله داخلكم” (لو17: 21). يدعونا أن نكون ملوكاً لنسلك كملوكٍ أبناء ملك الملوك، لنا سمة الملوكية السماوية، فنعيش بروح القداسة والسمو، لا نشتهى أمور العالم، ولن نسمح للشهوات أن تملك على قلوبنا أو أذهاننا أو عواطفنا، ولا للشيطان أن يضمنا إليه، إنما نعتز بالسلطان الذى وهبنا مخلصنا إياه، قائلاً: “ها أنا أعطيكم سلطانا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شئ” (لو10: 19).

ثالثاً: الاهتمام بنقاوة الهيكل الداخلى. كان العريس السماوى مشغولاً بتقديس الهيكل، فقد قيل “دخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون فى الهيكل، وقلب موائد الصيارفة وكراسى باعة الحمام، وقال لهم: «مكتوب: بيتى بيت الصلاة يُدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص! » (مت21: 12 – 13). تُرى لو دخل السيد المسيح كنيسة فوجد فى صالتها حفل لجمع التبرعات Fund raising، حيث لا يُسمح لأرملة معها فلسان أن تشترك فى الحفل، فماذا يفعل؟!

لقد قال القديس بطرس للأعرج من بطن أمه: “ليس لى فضة ولا ذهب، ولكن الذى لى فإياه أعطيك، باسم يسوع المسيح الناصى قم وامش” (أع3: 6). تُرى هل توجد كنيسة اليوم لا تملك ذهباً ولا فضة إنما تقدم يسوع المسيح الناصرى الذى يشبع كل احتياجات الشعب؟!

يرى القديس جيروم أن الكهنة كانوا يستغلون عيد الفصح حيث يأتى اليهود من العالم كله لتقديم الذبائح، فحولوا الهيكل إلى مركز تجارى، أقاموا فيه موائد الصيارفة ليقدّموا القروض للناس لشراء الذبائح، يقدّموها لا بالرِبا إذ تمنعه الشريعة، وإنما مقابل هدايا عينية، هى فى حقيقتها رِبا مستتر.

هذه صورة مؤلمة فيها يتحوّل هيكل الرب عن غايته، ويفقد الكهنة عملهم الروحى، ويحوّلون رسالتهم إلى جمع المال. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [ليُطرد كل إنسان يبيع فى الهيكل، خاصة إن كان بائع الحمام… أى يبيع ما يكشفه له الروح القدس (الحمامة) بمال ولا يُعلم مجاناً، يبيع عمل الروح فيُطرد من مذبح الرب ([7])]. يفقد الرعاة عملهم الروحى ويحولون كلمة الله ومواهب الروح القدس وعطاياه إلى تجارة وكما يقول القديس جيروم: [يدخل يسوع كل يوم فى هيكل أبيه ويطرد من كنيسته فى كل العالم أساقفة وكهنة وشمامسة وشعباً موجهاً إليهم ذات الاتهام، أنهم يبيعون ويشترون. ما أقوله عن الكنائس يطبقه كل واحد عل ىنفسه، إذ يقول الرسول: “اما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم (1كو3: 16). ليته يخلو بيت قلبنا من كل تجارة ومقر للبائعين والمشترين ومن كل رغبة للحصول على هدايا، لئلا يدخل الرب ثائراً، ويُطهر هيكله بلا تراخ، بطريقة أخرى غير السوط، فيقيم من مغارة اللصوص وبيت التجارة بيتاً للصلاة].

يُعلق القديس جيروم على طرد باعة الحمام وقلب موائد الصيارفة هكذا: [يظن معظم الناس أن أعظم معجزاته هى إقامة لعازر من الأموات أو تفتيح عينى المولود أعمى… وفى نظرى أن أعجبها هى أن شخصاً واحداً منبوذاً بلا اعتبار (ليس له مركز دينى معين) قُدّم للصلب استطاع أن يضرب بسوط الكتبة والفريسيين الثائرين ضده، والذين يشاهدون بأعينهم دمار مكاسبهم، فيطرد الجمع الكبير ويقلب الموائد ويحطم الكراسى، فإن لهيباً نارياً ملتهباً كان يخرج من عينيه، وعظمة لاهوته تشع على وجهه، فلم يتجاسر الكهنة ان يمدوا أيديهم عليه].

رابعاً: الاهتمام بالأطفال ليتمتعوا بروح القيادة فى المسيح يسوع. اهتم العريس السماوى أن يرفع من شأن الأطفال، فدعانا أن نتعلم منهم البساطة والوداعة والثقة فى الوالدين، حتى ندخل ملكوت السماوات. لقد قال: “الحق أقول لكم إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت18: 3).

كان عجيباً لديهم أن يروا السيد يستدعى ولداً ليُقيمه فى وسطهم كمثل حىّ للتمتع بدخول الملكوت، فقد احتقر الرومان الطفولة، ولم يكن للطفل أى حق من الحقوق، فيلجأ الوالدان إلى العنف! وتعرّضت الطفولة لدى اليونان لمتاعب كثيرة، أما اليهود فلم يحصروا الأطفال والنساء عند إحصاء الشعب (عد1 – 2). لكن السيد وهو يرتفع بالبشرية إلى الحياة الناضجة يقدّم طفلاً كمثل للحياة الناضجة الروحيّة القادرة أن تقتحم الملكوت، وكأنه ينقلهم من نضوج الجسد المتكئ على السنوات التى عاشها الإنسان إلى نضوج النفس الداخلية التى لا ترتبط بزمن معين.

ليتنا نبث روح القيامة السليمة فى أطفالنا، فلا نحركهم كقطع الشطرنج فى طفولتهم، فيردّوا لنا ما فعلناه معهم، ليحركوننا كقطع الشطرنج عندما تُتاح لهم الفرصة!

حذر القديس يوحنا الذهبى الفم الوالدين من الإهمال فى تربية أبنائهما، مظهراً خطورة هذه الخطية، وكان يدعوها قتلاً للأطفال ([8]). فمن كلماته: [سيكون أبناؤكم فى غنى بما فيه الكفاية على الدوام، إن تقبّلوا منك تنشئة صالحة، قادرة أن تدبر حياتهم الأخلاقية وسلوكهم. هكذا ليتك لا تجاهد لتجعلهم أغنياء، بل لتجعلهم أتقياء، سادة على أهوائهم، وأغنياء فى الفضائل. علمهم ألا يفكروا فى احتياجات مخادعة، فيحسبون أنهم يُكرمون حسب مستواهم الزمنى (العالمى المادى). راقب بلطف تصرفاتهم، ومعارفهم وأصدقاءهم، ولا تتوقع أية رحمة تحل من عند الله إن لم تتمم هذا الواجب].

[لا نبخل عن بذل كل جهد واستخدام كل وسيلة لتعليم أطفالنا العلوم الزمنية، ليخدموا السلطات الزمنية. أما معرفة الإيمان المقدس وخدمة الملك السماوى، فهى أمور ليست بذات قيمة عندنا… إن كنا نحاسبهم عما تعلموه فى المعاهد العالمية، فلماذا لا نسألهم عما سمعوه فى بيت الرب؟].

[إن جاهد الآباء الصالحون ليقدموا لأبنائهم تربية صالحة، فإننا لا نحتاج إلى شرائع وقضاة ومحاكم ولا إلى عقوبات. فإن الذين ينفذون العقوبات، إنما وجدوا بسبب عدم وجود أخلاقيات فينا].

خامساً: لا تجرح مشاعر أحد حتى الخطاة. لم يجرح العريس السماوى مشاعر الخطاة بل قادهم بالحب إلى التوبة. قال للمرأة التى أمسكت فى الزنا: “أين هم أولئك المشتكون عليك، أما دانك أحد… ولا أنا أدينك، اذهبى ولا تخطئى أيضاً” (يو8: 10 – 11).

يرى البعض أن المرأة تعرضت لمعاملة غاية فى القسوة والعنف ممن أمسكوا بها، فاكتفى بهذا التأديب لها. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [قول السيد المسيح للمرأة الزانية: “ولا أنا أدينك”، كأنه يقول: “إننى أنا وحدى الذى أستطيع أن أدينك يا امرأة، لأننى وحدى الديان، ولكن لأننى إنما أتيت لأخلص العالم لا لأدينه، فلست أدينك. وبقوله:” اذهبى “كأنه يقول:” اذهبى وكونى فى طمأنينة، فإن زناك قد نُزع عنك، لأننى قد نزعت عنك خطاياك، فإذا اذهبى… وقوله: “ولا تخطئى أيضاً” أى أوصيك ألا تعودى تخطئى فيما بعد لئلا أدينك على ما تخطئين به. من الآن لا تعودى إلى الخطية مرة أخرى كما يعود الكلب إل قيئه (أم26: 11؛ 2بط2: 22)، ولا تعودى فيما بعد لئلا تعاقبين].

يقول القديس مقاريوس الكبير: [الذى غيَّر طبيعة الخمسة أرغفة وصيّرها أرغفة كثيرة، وأنطق طبيعة الحمار غير العاقل، وجاء بالزانية إلى العفة (يو8)، وجعل طبيعة النار المحرقة برداً على الذين كانوا فى الأتون، ومن أجل دانيال لَطف طبيعة الأسود الكاسرة، كذلك يقدر أن يغّير النفس التى اقتفرت وتوحشت بالخطية، ويحولها إلى صلاحه ورآفاته وسلامه بروح الموعد المقدس الصالح].

كما يقول القديس أغسطينوس: [لقد سمعنا صوت العدالة (يو8: 7)، لنسمع أيضاً صوت الرحمة… ذاك الذى طرد خصومها بلسان العدل رفع عينى الرحمة إليها، قائلاً لها: “ولا أنا أدينك، اذهبى، ولا تخطئى أيضاً” (يو8: 18). ليحذر الذين يحبون فى الرب لطفه، وليخشوا أيضاً حقه! فإن الرب حلو وحق (مر35: 7). أنت تحبه بكونه حلواً، لتخشاه بكونه حقاً… الرب رقيق، طويل الأناة، حنان، لكن الرب أيضاً عادل وحق. إنه يفسح لك المجال للإصلاح، لكنك تحب تأجيل الدينونة أكثر من إصلاح طرقكّ هل كنت بالأمس شريراً؟ لتكن اليوم صالحاً. هل أنت مستمر اليوم فى شرك؟ على أى الأحوال تغير غداً… لكن كيف تعرف أن غداً يأتى؟… الله وعد بالغفران لمن يُصلح من شأنه، لكنه لم يعدنى بأن يطيل حياتى (للغد) ([9])!].

سادساً: الصلاة من أجل كل البشرية. مع شعبية ربّ المجد يسوع لم يتدخل قط فى السياسة، هكذا يليق بالقادة الكنسيين كما الشعب أن يصلّوا من أجل الكل بكل حبٍ ولا يشغلوا أنفسهم بسياسة العالم.

سابعاً: افتقاد الكل بروح العريس السماوى الذى نزل إلى أرضنا متجسداً ليفتقد البشرية، هكذا يليق بنا أن نفتقد إخوتنا بروح الحب مع الحكمة ما استطعنا لنضمهم بالروح القدس إلى ملكوت السماوات.

ثامناً: التمتع بشركة الطبيعة الإلهية. يقول الرسول: “قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكى تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة (2بط1: 4). أننا لسنا مدعوّين لفضائل خارجية بل للإتحاد بالسيد المسيح، والامتثال به، فيكون لنا حب الرب، وقداسته، وصبره واحتماله وطول أناته ووداعته وبساطته. لهذا يقول الرسول:” لكى تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذى فى العالم بالشهوة “. فإذ نحن فى العالم كيف نسلم من الفساد؟ بالاتحاد بالرب القدوس والاقتداء به، نتمثل به فلا يلمسنا فساد العالم الذى بالشهوة. إنها دعوة ثمينة أن تنعكس علينا إشعاعات الصفات الإلهية من حب وقداسة ووداعة… على القلب لنكون مثله (1يو3: 2؛ مت6: 23)!

يقول القديس أمبروسيوس: [عظيمة هى محبة المسيح الذى أعطى كل ألقابه لتلاميذه، فيقول: “أنا هو نور العالم” (يو8: 12) ومع ذلك يعطى من طبعه لتلاميذه قائلاً: “أنتم نور العالم” (مت5: 14). يقول: “أنا هو الخبز الحىّ” (يو6: 31)، ونحن جميعاً خبز واحد (1كو10: 17). يقول: “أنا هو الكرمة الحقيقية” (يو15: 1)، ويقول لك: “غرستُك كرمة سورق، زرع حق كلها” (إر2: 21). المسيح هو الصخرة: “كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1كو10: 4). ولم يحرم تلميذه من هذا الاسم، فهو أيضاً صخرة، إذ تكون لك صلابة الصخر الراسخ وثبات الإيمان. اجتهد أن تكون أنت أيضاً صخرة، فلا يبحثون عن الصخرة خارجاً عنك، وإنما فى داخلك. صخرتك هى عملك، وهى روحك، وعليها تبنى بيتك، فلا يقدر عاصف من عواصف الروح الشرير أن يسقطه. صخرتك هى الإيمان الذى هو أساس الكنيسة، فإن كنت صخرة فأنت كنيسة، وإن كنت فى الكنيسة فأبواب الجحيم التى هى أبواب الموت لن تقدر عليك].

تاسعاً: لا تقبل شخصاً يغتصب موضع عرسه السماوى. يقول القديس أغسطينوس:

[من يحب شخصاً ويضعه موضع المسيح فهذا زنا… “من له العروس فهو العريس” (يو3: 29)… كونوا عفيفين، حبوا العريس… الآن أرى زناة كثيرين يرغبون أن يقتنوا العروس التى أُشتريت بثمن عظيم هكذا، صارت محبوبة حين كانت مشوهة، وذلك لكى تصير جميلة، أُشتريت ونالت خلاصاً وتزينت بذاك الواحد. وأما هؤلاء الزناة فيصارعون بكلماتهم لكى يُحبوا عوض العريس… لنسمع صديق العريس لا للزناة ضد العريس. لنسمع لذاك الغيور، ولكن ليس لحساب نفسه ([10])].

[يقول (القديس يوحنا المعمدان) إنى أفرح، ليس من أجل صوتى، وإنما من أجل صوت العريس. انا فى مركز المستمع، هو فى موقف المتكلم. أنا كشخص يلزم أن أستنير، أما هو فالنور. أنا أمثل الأذن، وهو الكلمة. لذلك صديق العريس يقف ويسمعه. لماذا يقف؟ لأنه لا يسقط. كيف لا يسقط؟

لأنه متواضع. انظروا فإنه يقف على أرض صلبة: “أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائه”. حسناً تفعل إذ تتواضع، فتتأهل لعدم السقوط، تتأهل للوقوف، وتسمعه وتفرح جداً بصوت العريس ([11])].

[ما هو فرحه؟ أن يفرح بصوت العريس. هذا قد كمل فىّ، لقد صارت لى نعمتى، إننى لا انتحل لنفسى ما هو ليس لى، لئلا أفقد ما أنا عليه… ليفهم الإنسان أنه لا يفرح بحكمته الذاتية، بل بالحكمة التى ينالها من الله. لا يطلب أحداً أمراً أكثر (مما عليه) فلا يفقد ما قد وجده. فإن كثيرين إذ يؤكدون أنهم حكماء يصيرون أغبياء. هؤلاء يوبّخهم الرسول قائلاً لهم: “إذ معرفة الله ظاهرة فيهم، لأن الله أظهرها لهم” (رو1: 19)… يلزمهم ألا ينسبوا لأنفسهم ما لم ينالونه من أنفسهم، بل ينسبوه لهذا وهو ما وهبه الله مجاناً يأخذه من الجاحدين. لم يرد يوحنا أن يكون هكذا، بل أراد أن يكون شاكراً. لقد اعترف أنه نال، وأعلن أنه قد فرح بصوت العريس، قائلاً: “إذا فرحى هذا قد كمل” (يو3: 29) ([12])].

عاشراً: ترقبها المجئ الثانى للرب. يقول القديس غريغوريوس النيسى: [يقف هؤلاء الذين يتوقعون رجوع السيد المسيح باشتياق وانتباه على أبواب السماء، عندما يدخل ملك المجد إلى نعمته التى تفوق كل تصور، كما جاء فى مز19: 5. “ومثل العروس الخارج من حجلته”. بالرغم من خطايانا وعبادتنا للأصنام، وقد طردنا الله، حظينا بالميلاد الجديد وصرنا أبكاراً بعد غسل كل فساد فينا. لذلك تمت كل احتفالات الزواج، وارتبطت كلمة الله بالكنيسة. وكما يقول القديس يوحنا: “من له العروس فهو العريس” (رو3: 29). واستقبلت الكنيسة العروس فى حجرة العريس المقدسة، وتوقعت الملائكة رجوع الملك أثناء قيادته للكنيسة كالعروس، وجعل طبيعتها مستعدة للنعمة. فقال إن حياتنا يجب أن تكون خالية من الشر والخداع، حتى نكون مستعدين لاستقبال الرب عند مجيئه الثانى.

وعندما نحرس أبواب مساكننا فإننا نُجهز أنفسنا لوصول العريس، عندما ينادينا ويقرع على الباب. “طوبى لأولئك العبيد، الذين إذا جاء سيدهم يجدهم ساهرين” (لو12: 37). لأنه مبارك ذاك الذى يطيع ذاك الذى يقرع. تتطلع إذن النفس إلى هذه البركة بأن تستقبل عريسها الواقف على الباب.

إنها تراقب باب بيتها بيقظة، قائلة: “صوت حبيبى قارعاً” (نش5: 2). كيف نفي العروس حقها، إذ ارتفعت إلى ما هو أكثر قداسة؟ ([13])].

4 – ماهى مراحل عمل الله العجيب لمؤمنيه كأناس الله؟

كان الله بسابق معرفته يعلم بكل ما يتمتع به الإنسان الأول، وحسد إبليس له (حك2: 24)، وما سيحلّ به. كما كان يعلم قصة خلاص الإنسان واسترداد ما فقده.

أولاً: فى المرحلة من سقوط آدم حتى استلام موسى الناموس، تحدث الله مع آدم عن عمل الصليب بقوله للحية: “على بطنك تسعين، وتراباً تأكلين كل أيام حياتك. وأضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين نسلك ونسلها. هو يسحق رأسك، وأنتِ تسحقين عقبة” (تك3: 14 – 15).

أدرك أناس الله أن هذا الوعد الإلهى يشير إلى مجئ المخلص من نسل المرأة (وليس من زرع رجل)، وأنه سيسحق رأس إبليس ويحطم سلطانه على البشر. لهذا كان أناس الله يترقبون مجئ المخلص.

من جانب آخر كان كثير من رجال الله فى العهد القديم رموزاً للمخلص مع وعود من الله، مثال ذلك: دم هابيل المذبوح بيد أخيه الذى كان يصرخ فى السماء، ونقل أخنوخ البار من الأرض إلى السماء، كان يشير إلى المخلص الذى يظهر على الأرض ليصعد إلى السماء ويهب المؤمنين حق الصعود إلى السماء. ونوح البار الذى خلص هو وامرأته وبنيه الثلاثة ونساؤهم وتمتعوا بالعالم الجديد بعد الطوفان، صار فلكهم رمزاً لكنيسة العهد الجديد.

وإبراهيم الذى قدم ابنه الحبيب ذبيحة، كان رمزاً للآب الذى أحب العالم وبذل ابنه الحبيب الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية (يو3: 16). واسحق الذى حمل حطب الذبيحة رمزاً للمسيح حامل الصليب، ويعقوب الذى رأى السماء مفتوحة فرأى كنيسة العهد الجديد، وترنم، قائلاً: “ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء” (تك28: 17).

ثانياً: عصر الناموس الموسوى والأنبياء، فجاءت الشريعة تشرح فى شئ من التفصيل الذبائح التى حسب الناموس وطقوسها كرمز لذبيحة المسيح.

كما جاء الأنبياء يسجلون نبوات تخص شخص المخلص وميلاده وصلبه وموته ودفنه وقيامته وصعوده. وقد سبق لنا الحديث عن هذه النبوات فى الجزء الثانى من هذه المجموعة.

ثالثا: الفترة من تجسد الكلمة الإلهى إلى صعوده، حيث كشف عن حبه الإلهى، فاشبع الجياع وشفى المرضى وعزى الحزانى، وكشف لهم عن رعايته للبشرية حتى بعد صعوده. إذ أرسل لهم الروح القدس المعزى.

لقد أعلن لهم عن محبة الآب للبشرية، واهتمام الروح القدس للإعلان عن الحق الإلهى وقيادته للكنيسة حتى يعبر بها من هذا العالم والتمتع بالسماويات.

رابعاً: المرحلة ما بين صعود السيد المسيح إلى يوم مجيئه، حيث يمارس عمله كرئيس الكهنة السماوى. وقد كشف الرسول بولس عن هذه الفترة فى رسالته إلى العبرانيين (عب6: 20). لقد قارن بين رؤساء الكهنة الذين كانوا فى حاجة إلى التكفير عنهم ورئيس الكهنة السماوى الفريد.

5 – لماذا يقدم لنا قانون الإيمان بند الكنيسة بعد الحديث عن وحدانية الله والثالوث القدوس؟

غاية قانون الإيمان ليس تقديم معرفة نظرية عن الله والعالم والكنيسة والدينونة ثم الحياة الأبدية، وإنما غايته اللقاء مع الله والتمتع بأعمال محبته ونحن بعد فى العالم، وإعدادنا ليوم الرب العظيم، وتمتعنا بالشركة مع السمائيين ونوال الحياة الأبدية. فعندما نعلن عن إيماننا قائلين: وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية، إنما نؤكد التزامنا بالدخول فى شركة مع الله القدوس ومحبتنا نحن البشر لبعضنا البعض، وتعرفنا على أصدقائنا السمائيين، إذ ننضم إلى خورسهم، ونمارس بنوتنا لله على مستوى أبدى.

تعرفنا على الكنيسة ينطلق بالنظرة المتسعة للحياة سواء على الأرض أو فى الفردوس عند رحيلنا، ثم لقاؤنا مع العريس السماوى فى موكب سماوى مبهج يترقبه السمائيون مطالبين: “أرسل منجلك واحصد” (رؤ14: 15).

لا نعجب إن كان السمائيون يترقبون يوم الربّ، ويتطلعون إلى كنيستنا ليس كمؤسسة اجتماعية تحكمها أنظمة غايتها سعادة الإنسان فى العالم. وإنما هى شعب الله الذى يتأهل للحياة شبه الملائكية، يتلامس المؤمن مع كل صباح خطة الله العجيبة نحوه. فلا نعجب إن سمعنا كثير من القديسين مثل القديس يوحنا الذهبى الفم يشعر كل منهم أنه أسعد كائن على الأرض.

يركز المؤمن عينيه على خالقه ومخلّصه وما يعدّه له فى السماء، فيعيش متهللاً فى وسط الضيقات، يعمل بأمانة فى عمله وفى علاقاته بإخوته، حاسباً أنه كابن لله لا يعرف الفشل ولا اليأس ولا الطمع ولا الهروب من المسئوليات والالتزامات، لأنه سفير السماء على الأرض.

عبر القديس مار إسحق السريانى المتوحد وغيره من القديسين عن حياتهم العملية قائلين بأن المؤمن يحب الله والناس حتى المقاومين له، بل والحيوانات والطيور، فلا يقبل تعذيب أى كائن حتى إن أراد الخلاص منه مثل الحيات. إنه ليس فقط يترفق بالكائنات الحيّة سواء العاقلة أو غير العاقلة، وإنما يحرص على جمال الكائنات غير الحيّة فلا يبدد موارد العالم.

هذا ما يدعونا إلى الاهتمام بعضويتنا فى الكنيسة وبنوتنا لله وصداقتنا مع السمائيين، وأن نتعرف على أبعاد الكنيسة وسماتها سواء على المستوى المسكونى أو المحلى أو الشخصى. وأيضاً نتعرف على كلمة الله الحاضر فى كنيسته، وتقدير كل عضو للأعضاء الآخرين أياً كانت جنسياتهم فى العالم، وأياً كانت ثقافتهم وجنسهم (ذكوراً كانوا أو إناثاً) ومواهبهم وقدراتهم وأعمارهم حتى إن كانوا رُضع ذوي قدرات خاصة special needs.

يقول القديس أغسطينوس: [بطرس عين فى الجسم، وهذا الشخص هو إصبع، لكنه هو عضو فى ذات الجسم الذى فيه بطرس عضو. وإن كان الإصبع له سلطان أقل من العين، لكنه لا يُبتر من الجسم. من الأفضل أن تكون إصبعاً فى الجسم، من أن تكون عيناً ومبتوراً من الجسم. لذلك لا يخدعكم أحد يا إخوتى، لا يغرّكم أحد. حبّوا سلام المسيح الذى صلب عنكم وهو الله. يقول بولس: “ليس الغارس شيئاً ولا الساقى، بل الله الذى ينمّى” (1كو3: 7)… لتحب الأعضاء بعضها البعض، وليحيا الكل تحت الرأس. فى حزن يا إخوتى التزمت أن أتحدث معكم كثيراً، ومع هذا فإننى تكلمت قليلاً، فإننى غير قادر على التوقف فى الحديث ([14])].

6 – ما هو ثمر الوحدة مع المسيح رأسنا، ومع بعضنا البعض كأعضاء فى الجسد الواحد؟

يقول القديس أغسطينوس: [نزل من أجلنا، لنصعد نحن من أجله. هو وحده نزل وصعد، ذاك الذى يقول: “ليس أحد صعد إلى السماء، إلاّ الذى نزل من السماء” (يو3: 13). ألا يصعد هؤلاء الذين جعلهم أبناء الله إلى السماء؟ بالتأكيد يصعدون، هذا هو الوعد المقدم لنا: “سيكونون كملائكة الله”. إذن كيف لا يصعد أحد إلا الذى نزل؟ لأنه واحد فقط هو الذى نزل، وواحد هو الذى يصعد. وماذا عن البقية؟…

رجاء البقية هو هذا، أنه نزل لكى ما يصيروا فيه وبه واحداً، هؤلاء الذين يلزم صعودهم به… هنا تظهر وحدة الكنيسة.

ويل للذين يبغضون الوحدة، ويجعلون من أنفسهم أحزاباً من البشر!…

يليق بنا أن نرحل، لكن هذه الرحلة لا تحتاج إلى دهن الأقدام (للسير بها)، ولا إلى طلب حيوان (نمتطيه)، ولا إلى سفينة.

ليتك تجرى بعاطفة القلب، لتسير فى الرحلة، فى رفقة الحب، لتصعد بالمحبة.

لماذا تبحث عن الطريق؟ التصق بالمسيح الذى بنزوله جعل من نفسه “الطريق” أتريد أن تصعد؟ تمسك بذاك الذى يصعد.

بذاتك لن تقدر أن ترتفع… إن كان لا يصعد أحد إلاّ الذى نزل، أى ابن الإنسان، ربنا يسوع المسيح، فهل تريد أن تصعد أنت أيضاً؟ كن عضواً فى ذاك الذى وحده يصعد.

لا يصعد إلاّ الذى يكون عضواً فى جسده، فيتحقق القول: “لا يقدر أحد أن يصعد إلاّ الذى نزل”…

لقد ترك أباه وأمه والتصق بزوجته لكى يصير الاثنان واحداً (أف5: 31). لقد ترك أباه لا لكى يُظهر نفسه مساوياً للآب، وإنما لكى يُخلى نفسه آخذاً شكل العبد (فى 2: 7).

لقد ترك أمه أيضاً، المجمع الذى منه وُلد حسب الجسد.

لقد التصق بزوجته التى هى كنيسته…

لقد أظهر أن رباط الزواج لا ينحل (مت19: 4)… “ليسا بعد اثنين، بل جسد واحد”، هكذا “لا يصعد أحد إلاّ الذى نزل”.

لكى تعرفوا أن العريس والعروس هما واحد حسب جسد المسيح، وليس حسب لاهوته… لكى تعرفوا أن هذا الكامل هو مسيح واحد، قال بإشعياء: “وضع عمامة علىّ كعريس، وكسانى بالزينة كعروس” (إش61: 10LXX) ([15])].

7 – ما هى أبعاد الكنيسة؟

وردت كلمة “كنيسة” فى العهد الجديد 75مرة، بمراجعتنا للنصوص التى وردت فيها هذه الكلمة يمكننا التعرف على أبعاد الكنيسة حسب ما ورد فى الإنجيل.

أولاً: جماعة المؤمنين منذ آدم إلى يوم مجئ الربّ الأخير. تتسم هذه الكنيسة بحياة التسبيح والقداسة لتتهيأ للانضمام إلى صفوف الطغمات السماوية. جاء فى سفر الأعمال: “مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب، وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون” (أع2: 47).

ثانياً: الكنيسة المحلية القائمة فى بلد أو دولة ما، مثل: “الكنيسة التى فى أورشليم” (أع8: 1؛ 11: 26). “وانتخبنا لهم قسوساً فى كل كنيسة” (أع14: 23)، “اكتب إلى ملاك كنيسة سميرنا” (رؤ2: 8)، كما كان يُسام فيها كهنة وشمامسة وذلك من أجل التدبير الكنسى والرعاية والخدمة والعبادة باللغة التى وُلد فيها هذا الشعب.

هذه الكنائس مع قيام نوع من التنظيم الروحى المستقل ترتبط معاً بروح الوحدة فى المسيح يسوع والحب. قيل: “فهؤلاء بعدما شيعتهم الكنيسة اجتازوا فى فينيقية والسامرة يخبرونهم برجوع الأمم، وكانوا يسببون سروراً عظيماً لجميع الإخوة” (أع15: 3).

ثالثاً: تكرر تعبير “الكنيسة التى فى بيتك” (غل1: 2). يقصد أن بعض المؤمنين فتحوا بيوتهم لتكون كنائس يجتمع فيها مؤمنوا المنطقة لعدم وجود مبانٍ مكرّسة للعبادة المسيحية وتدبير الكرازة والرعاية.

والبيت هنا يمكن أن يُقصد به الأسرة المقدسة حيث يشعر أعضاء الأسرة أن حياتهم مكرّسة للربّ، وأن أسرتهم حتى مع صغير عددها فهى كنيسة تعلن حضور الله فيها.

كما يُقصد بالبيت المؤمن نفسه، إذ يقول الربّ لتلاميذه: “ملكوت الله داخلكم” (لو17: 21).

ففى حديثنا عن سمات الكنيسة كمملكة الله على الأرض، نشعر أن الحديث عن كل المؤمنين عبر العصور منذ آدم إلى آخر الدهور، كما نشعر بالتزامنا نحو كنيسة المنطقة، والتزامنا بقدسية بيتنا أو حياتنا الأسرية والتزامنا أيضاً نحو كياننا الشخصى حيث يسكن الروح القدس فينا.

8 – هل دخلنا فى المقادس ونحن لا نزال مقيمون فى العالم؟

يجيب القديس يوحنا الذهبى الفم، قائلاً: [بينما نحن لا زلنا مقيمين فى العالم ولم نرحل بعد من هذه الحياة، يُظهر أننا نتمتع بالفعل بهذه الوعود، لأنه بواسطة الرجاء نحن بالفعل فى السماء. لقد قال: انتظروا واصبروا، لأن هذه الوعود ستتحقق على كل الأحوال. ثم بعد ذلك وهو يؤكد على هذا الكلام، يقول، لكننا نتمتع بالفعل بهذه الوعود بواسطة الرجاء. ولم يقل نحن داخل الحجاب، بل قال: “عن مرساة النفس تدخل إلى ما داخل الحجاب” (عب6: 19)، الأمر الذى كان حقيقياً وأكثر توقعاً أو أكثر إمكانية. لأنه كما أن المرساة عندما تمسك بالمركب لا تتركها تتحرك هنا وهناك، حتى وإن ضربتها رياح كثيرة، بل عندما ترشق فيها، تثبتها، هكذا هو الرجاء ([16])].

يرى القديس بولس أن موت رؤساء الكهنة والكهنة اللاويين يوضح عجزهم على إعطاء الحياة التى يريدها الله للإنسان. لهذا فإن خدمتهم الكهنوتية تمهد الطريق إلى مجئ الكاهن السماوى الذى وحده يهب الحياة الأبدية. “واولئك قد صاروا كهنة كثيرين من أجل منعهم بالموت عن البقاء، وأما هذا فمن أجل أنه يبقى إلى الأبد له كهنوت لا يزول” (عب7: 23 – 24).

بكونه ملك الملوك ورب الأرباب ورئيس الكهنة السماوى، يقدم ذبيحة الصليب بحبه للآب وللبشر. إنه ذُبح من أجلنا، وفى هذا هو حىّ وواحد مع الآب، إذ يقول الرسول: “إذ هو حىّ فى كل حين ليشفع فيهم” (عب7: 25).

9 – ما الفارق بين الكهنوت اللاوى وكهنوت السيد المسيح؟

فى الرسالة إلى العبرانيين يقارن الرسول بولس بين كهنوت المسيح وكهنوت هرون، ليبرز ما تتمتع به كنيسة العهد الجديد كمملكة الله على الأرض. أهم النقاط التى أبرزها الرسول هى:

  1. صار هارون وبنيه كهنة بدون قسم بينما قيل عن المسيح: “أقسم الربّ ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكى صادق، على قدر ذلك قد صار يسوع ضامناً لعهد أفضل” (عب7: 21 – 22).
  2. إمكانيته: “قد صار ليس بحسب ناموس وصية جسدية، بل بحسب قوة حياة لا تزول” (عب7: 16). فإمكانيات كهنة العهد القديم محدودة تقوم على الناموس والعلاقات الجسدية، أما يسوع فهو ابن الله الوحيد، لن يستطيع الموت أن يحطمه. لهذا تترنم الكنيسة فى الساعة السادسة فى جمعة الصلبوت: “قدوس القوى الذى أظهر بالضعف ما هو أعظم من القوة” (لحن أمونوجنيس).
  3. ليس لكهنوت المسيح مدة صلاحية محدودة، بل هو حىّ كل حين يخلّص أيضاً إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الآب (عب7: 24). أما الكهنة اللاويون فيرتبطون بحياة الكاهن المحدودة.
  4. موضع الخدمة: يقدم الكهنة اللاويون ذبائحهم فى خيمة الاجتماع فى البرية وفى هيكل سليمان بمدينة أورشليم، أما رئيس الكهنة السماوى فجالس عن يمين العرش يخدم فى المقادس السماوية (عب8: 2؛ 9: 11).
  5. كان الكهنوت اللاوى يقدم ذبائح حيوانية كثيرة (عب9: 12)، أما ربّ المجد يسوع فقدم دم نفسه مرة واحدة.
  6. خلال الناموس أقيم عهد مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا (عب8: 7)، يكتشف فيه المؤمن تعدياته، وحاجاته إلى المخلّص الذى يسمو به إلى السماويات. “وأقامنا معه، وأجلسنا معه فى السماويات” (أف2: 6).
  7. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [وكذلك المسيح أيضا لم يمجّد نفسه ليصير رئيس كهنة “(عب5: 5). إذن أين يقول إنه رُسم (تمجد)؟ لأن هرون مُجد مرات كثيرة، كما فى معجزة العصا (خر7: 8 – 13؛ 8: 12 – 14). وأيضاً عندما نزلت نار من السماء وأكلت أولئك الذين تعدوا على الكهنوت (لا0: 1 – 3). أما هنا فيحدث العكس، ليس فقط لم يُصب اليهود بمكروه، بل بالعكس قيل ابتهجوا ([17])].

10 – ماذا رأى اسطفانوس فى رئيس الكهنة: هل كان جالساً أم قائماً عن يمن الآب (أع7: 56).

لماذا يقول المرتل قبل تجسد الكلمة بحوالى ألف عام “قال الربّ لربى اجلس عن يمينى حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك… أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكى صادق” (مز110: 1، 4). بينما قيل عن اسطفانوس عن رجمة: “ورأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله”؟

ما قاله المرتل هو إعلان عن إبطال الكهنوت اللاوى بعد أن حقق هدفه وهو التمتع بكهنوت السيد المسيح فى المقادس السماوية، فهو واحد مع الآب يجلس عن يمينه ويشفع فى البشرية لا بتوسلات وصراخ، وإنما بالاتحاد معه، فيراها الآب الكنيسة جسد ابنه الوحيد الجالس عن يمينه، تتمتع ببرّه السماوى، لذا فرئيس الكهنة السماوى جالس عن يمين الآب. اما اسطفانوس فقد ثار عليه رئيس الكهنة والقيادات وأيضاً الشعب الحرفى فى حفظه للناموس وحنقوا بقلوبهم وصرّوا بأسنانهم عليه (أع7: 54). لهذا إذ شخص إلى السماء وهو ممتلئ بالروح القدس رأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله (أع7: 55). قيامه هنا ليس حركة جسدية، لأن السماويات لا تُحصر فى حركات جسدية. إنه لا يقف لكى يتوسل لدى الآب من أجل إنقاذ الكنيسة المضطهدة فى شخص اسطفانوس والتلاميذ والرسل وكل الشعب، إنما يعلن أنه يعمل بأن يربطهم فيه كما فى مرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما داخل الحجاب (عب6: 19). يُعلن أن كنيسته متحدة به بكونها جسده وعروسه السماوية لن تستطيع أمواج الاضطهادات والضيقات التى يثيرها إبليس وقواته ويمارسها الساكنون فى أورشليم أن تهز قلوب المؤمنين أو تٌفقدهم رجاءهم.

إنه عن يمين الآب يعمل كمن هو واقف ويمُجد كمن هو جالس، فتظهر الكنيسة المجاهدة ملكة تجلس عن يمين ملك الملوك.

بينما استطاع عدو الخير أن يحرّك غير المؤمنين ضد الكنيسة، إذا بالمخلّص القائم عن يمين الآب لا يُلزم شاول الطرسوسى ألا يتحرك ليضطهد المؤمنين فى دمشق، وإنما حرّك المؤمنون الذين فى أورشليم نحو التشتت فى كور اليهودية والسامرة يبشرون بالكلمة (أع8: 4). وأرسل ملاكه يرشد فيلبس أن يتحرك ليلتقى بالخصى وزير كنداكة ملكة أثيوبيا ويقوده للإيمان ويعمدّه (أع8: 26 – 39). ولم يتوقف فيلبس عن الكرازة فى جميع المدن حتى جاء إلى قيصرية.

كان قيام المسيح وهو فى المقادس السماوية إنما لكى يدخل فى حوار مع شاول مضطهد الكنيسة ويدعوه إلى الذهاب إلى تلميذه حنانيا (أع9) وعوض اضطهاده للمؤمنين فى دمشق صار يكرز فى المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله (أع9: 20). بينما كان رئيس الكهنة ومن معه فى أورشليم فى غيظ شديد، قيل: “وأما الكنائس فى جميع اليهودية والجليل والسامرة فكان لها سلام، وكانت تُبنى وتسير فى خوف الربّ وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر” (أع9: 31).

هذا هو عمل رئيس الكهنة السماوى، ربنا يسوع، الجالس والقائم عن يمين الآب فى نفس الوقت، حيث يرى الآب فيه نمو الكنيسة وبنيانها دون توقف، خاصة كلما اشتدت الاضطهادات والضيقات ومحاربة إبليس لها.

11 – ما هو معنى الكنيسة أو اكليسيا Ecclesia؟

استخدم اليونانيون الكلمة قبل السيد المسيح لتعنى اجتماع المواطنين مع الحكام لمناقشة عامة. وُجد نفس المعنى للكلمة فى العهد القديم، حيث قيل: “ابغضت جماعة الأثمة” (مز25: 5) وفى العهد الجديد قيل: “لأن المحفل كان مضطرباً” (أع19: 32، 39 – 40).

غالباً ما استخدمت كنيسة المؤمنين أو القديسين فى العهد القديم لتعنى شعب الله اليهود حيث يجتمعون لتمجيد الله أو العبادة له داخل الهيكل أو خارجه. وتستخدم فى العهد الجديد لتجمُع المؤمنين معاً سواء لمدينة معينة مثل كنيسة أورشليم أو الإسكندرية أو تعنى جماعة المؤمنين فى كل أنحاء العالم منذ آدم إلى المجئ الأخير للسيد المسيح.

تعتبر كنيسة المسيح جسد المسيح، فحيث يوجد المسيح الرأس توجد الكنيسة. هو رأسها ومخلّصها، الذى يقدسها، يقوتها ويربيها (أف5: 26، 29). ويُحسب المؤمنون أعضاء جسده (أف6: 30). وهى عمود الحق وقاعدته (1تى3: 15). جاءت المرادفات لكلمة الكنيسة: “مملكة الله”، (2تى4: 18) و “الملكوت السماوى”، و “بيت الرب” (1تى3: 15)، حيث يدرك المؤمنون أنهم شعب الله السماوى، يتمتعون بالخلاص الإلهى والتقديس والانطلاق نحو الكمال لمجد الله. خلال عمل الثالوث القدوس إذ يتمتع المؤمنون بالشركة فى الطبيعة الإلهية (1بط2: 5)، يقول السيد المسيح: “لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن أباكم قد سُر أن يعطيكم الملكوت” (لو12: 32). وتُدعى الكنيسة بيت الله (عب10: 21)، تُبنى على أساس الرسل والأنبياء (أف2: 20)، وذلك بالحجارة الحيّة التى هى جماعة المؤمنين لتقديم ذبائح روحية مقبولة لدى الله بالمسيح يسوع (أف2: 21).

وتُدعى عذراء عفيفة للمسيح (2كو11: 2). فهو يحبها ويبذل نفسه لأجلها ليقدسها لنفسه كنيسة مجيدة بلا عيب ولا دنس (أف5: 25 – 27). وتُدعى عروس المسيح (يو3: 29؛ رؤ21: 2؛ 9؛ 22: 17). هو عريس الكنيسة ككل وعريس كل نفس حيث تدخل فى علاقة شخصية معه.

12 – ما هى نظرة آباء الكنيسة فى الكنيسة؟

فى القرن الثانى وجه القديس أغناطيوس أسقف أنطاكية رسائل إلى الكنائس المحلية فى أفسس وماغنزيا، وترال Tralles وروما وفيلادلفيا وسميرنا وكان يصفها بأنها مختارة بإرادة إلهية مقدسة من قبل الدهور لمجد أبدى دائم غير متغير. وأنها مطوَّبة بنعمة الله الآب ومحبوبة لديه جداً، تجد رحمة لديه، مستنيرة بإرادة الله، وتفرح بآلام ربنا وتنعم ببركات قيامته. يهبها الله كل عطية روحية، ولا تنقصها أية هبة روحية. ركز القديس بولس على أن كل مؤمن هو عضو فى إخوته، لهذا لا يليق بهم أن ينقسموا حتى لا يفقدوا عضويتهم فى المسيح، ولا يثوروا على جسد المسيح. وركّز القديس إيرينيؤس على التزام الكنيسة فى كل أنحاء العالم على وحدانية الإيمان الذى تسلمته من الرسل. ومع اختلاف اللغات فى الكنائس فى العالم يكرزون بإيمان واحد ليتمتع الكل بمعرفة الحق الإلهى.

وفى القرن الرابع أكد القديس باسيليوس الكبير حاجة الكنيسة إلى تلمذة مستمرة، إذ يقول: [تشتركون أنتم وأنا فى نفس المعلمين لأسرار الله والآباء الروحيين، الذين من البدء أسسوا كنيستكم ([18])].

[هل يمكن أن توجد شهادة أخرى عن إيمانى أكثر من قولى إنى تربيت على يدى جدتى الطوباوية تلك السيدة التى كانت تعيش بينكم، أقصد ماكرينا الشهيرة التى قامت بتعليمى كلمات الطوباوى غريغوريوس (صانع العجائب). وكانت تقوم ببنائى وتثبيتى فى طريق التقوى، منذ كنت طفلاً صغيراً. وعندما نلت القدرة على التفكير، نضج عقلى بكمال عمرى، وسافرت لفترة طويلة بحراً وبراً، أجلس عند أرجل كل من وجدتهم سالكين فى قانون الصلاح كآباء، وأجعلهم قادة لنفسى فى رحلتى مع الله ([19])].

ويؤكد القديس أغسطينوس أن الكنيسة فى العالم قطيع واحد. وأن ملكوت الله قائم على الأرض ويكمل فى السماء، يدعوها مدينة الله، والذين رحلوا يُحسبون أنهم فى “ملكوت السماوات”. وأن الكنيسة كاثوليكية (جامعة) تضم أعضاء من هابيل إلى الذين سيولدون فى آخر الأيام ويؤمنون بالمسيح.

يحسب القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس تولد الكنيسة من إيمان واحد خلال الروح القدس ([20]).

ويتساءل القديس يوحنا الذهبى الفم كيف تُحسب عروسه ابنة له، وكيف تُحسب ابنته عروساً له؟ بالنسبة للجسد هذا مستحيل، أما بالنسبة للمسيح، فالكنيسة ابنة له وعروس فى نفس الوقت، يلدها فى المعمودية ويتحد بها. يقارن ميلاد الكنيسة بميلاد حواء من جنب آدم، على الصليب طُعن جنبه بالحربة فنزل دم وماء بهما وُلدت الكنيسة ووُلد كل المؤمنين خلال ماء المعمودية واقتاتوا بدمه. وكما خُلقت حواء وكان آدم نائماً، هكذا مات المسيح وتشكلت الكنيسة من جنبه ([21]). كانت الكنيسة قبل الإيمان الحق زانية وصارت بتولاً ([22]).

13 – هل سبق فأعلن العهد القديم عن الكنيسة؟

قيل إنها تبقى إلى الأبد (دا2: 44). إنها بيت الله تؤسس على قمم الجبال وتسمو فوق التلال ويأتى إليها كل الأمم (إش2: 2). ستفرح عندما تُقارن بمجمع العهد القديم العاقر، قيل عنها إن أطفال المرأة المهجورة أكثر من تلك التى لها زوج (إش54: 1). ليس من وجه للمقارنة بين كنيسة العهد القديم التى كانت تُحد بالأمة اليهودية وحدها، وكنيسة العهد الجديد التى لها كنز النعمة وتضم كل الأمم والشعوب. رأس الكنيسة المسيح حجر الزاوية الذى يضم اليهود مع الأمم ليقيم بيته الإلهى.

تتمتع كنيسة العهد الجديد بالحياة الجديدة خلال المعمودية، وتُقام بالمسيح بكر الراقدين.

14 – هل المدعوون قديسين يكّونون الكنيسة؟

المؤمنون الذين يكونون الكنيسة يدعوهم القديس بولس: “مدعوين قديسين” (رو1: 7؛ 1كو1: 2، 24). إنهم قديسون لأن الله يدعوهم، وهم بهذا يُفرزون من بقية البشر. إذ ينالون شركة الروح القدس، يُكرسون لله. توجد عقيدة عامة أنه فى مجمع القديسين يوجد أيضاً كهنة يعملون لنفع أعضاء المسيح، هؤلاء يخدمون الأسرار المقدسة، فيتقدس المؤمنون. وأيضاً يوجد كارزون خطاة يمكنهم استخدام كلمة الله ليجذبوا أعضاء جدداً.

مع أن الكتبة والفريسيين كانوا فاسدين إلا أن الربّ لم ينزع عنهم كرامتهم، بل أعطاهم سلطاناً بالرغم من شرورهم، لأنهم لا يفعلون هم أنفسهم ما يعلمون به الآخرين (مت23: 3).

15 – هل يمكن قطع الأعضاء الذين لا يمكن تقوميها من الكنيسة؟

بالرغم من أن الكنيسة جسد المسيح تُعبر عن الحب الإلهى للإنسان، فإنه توجد حدود لن تتعداها. يُقطع الخاطئ من الشركة فى الكنيسة، إذ يعزل نفسه عن الحياة والخلاص الصادر عنها. هكذا فإن المتمردين والمملوئين عيوباً الذين يطأون على ابن الله ويستهينون بدم العهد، دم المسيح، الذى تقدسوا به، يهينون روح النعمة (عب10: 29) الذى يحفظ الخلاص داخل الكنيسة، والتى لا يوجد خلاص خارجها. إنهم يعزلون أنفسهم عن المسيح ومجتمعة أى الكنيسة وبالتالى يكسرون كل علاقة بها.

من جانب آخر الهراطقة الذين يسيئون تفسير تعاليم المسيح وتلاميذه القديسين، وإن كانوا يقتبسون عبارات من الإنجيل الحقيقى، يُحرمون وينفصلون عن ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح ابن الله. هكذا يعلّم القديس بولس: “ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما. كما سبقنا فقلنا أقول الآن أيضاً، إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما” (غل1: 8 – 9).

يمنع القديس يوحنا الرسول والإنجيلى اللاهوتى استقبال أى شخص يأتى وليس لديه التعاليم الحقيقية. يلزم عدم استقبالهم فى البيوت والسلام عليهم (2يو10). بالحقيقة يأمرنا القديس بولس: “الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين أعرض عنه، عالماً أن مثل هذا قد انحرف وهو يخطئ محكوماً عليه من نفسه” (تى3: 10 – 11).

الهراطقة بسبب خطأهم فى الإيمان، وغرورهم يصرّون على تعاليمهم الباطلة ويعزلون عن مصدر الحياة، الإيمان بالمسيح، ويصيرون جافين فيُطردون. فإن لم نثبت على أساس الرسل، نكون بلا أساس وننهار ([23]). يصير وضعهم مثل الذين أرادوا العودة إلى الختان، وتغربوا عن المسيح، محاولين أن يتبرروا بالناموس، الأمر الذى جعلهم يسقطون عن النعمة (غل5: 4).

يقول القديس كيرلس الكبير: [الذين يرتبطون بهراطقة أشرار، ويشتركون فى ذبائحهم (صلواتهم) الشريرةن يضاعفون خطاياهم، إذ يذبحون الحمل خارج المحلة المقدسة الإلهية التى هى الكنيسة ([24])].

يضع الآباء القديسون المنشقين فى تواز مع الهراطقة. يميز القديس باسيليوس الكبير بين الهراطقة والمنشقين هكذا: “الهراطقة هم الذين يغيرون الإيمان ولا يبالون به، أما المنشقون فهم الذين لأسباب كنسية ينشقون عن الكنيسة فى أمور يمكن معالجتها”. يقول القديس جيروم: [تقوم الهرطقة على تغيير فى التعليم، أما الانشقاق فيعزل المنشق عن الكنيسة لتغربه عن الأسقف ([25])].

يسقط الشخص فى الانشقاق عن الجسم الكنسى: “عندما يتجاسر فيصير غير أهل لهذا الجسم”. عندما يتجاسر ويسقط فى خطية معيبة ولا يبالى بفضيحة عامة ولا يقدم توبة، فيُنصح من يتغرب عن طريق الحياة المسيحية بقطعه من الكنيسة.

16 – لماذا يظن البعض أنه لا يوجد قديسون فى الكنيسة المعاصرة؟

يقول القديس أغسطينوس: [إن من يتطلع إلى شجرة يرى أوراقها كثيرة، لكن غالباً ما يكون الثمر مخفياً وراء الورق مثل (التين). هكذا بسهولة يظهر الهراطقة والأشرار، فيبدو كأنه لا يوجد بعد مؤمنون، لكن من يقترب إلى الشجرة ببصيرة روحية يدرك وجود أولاد الله المقدسين مختفين. هؤلاء متأسسون على السيد المسيح نفسه كقول الرسول: “فإنه لا يستطيع أحد ان يضع أساساً آخر غير الذى وضع الذى هو يسوع المسيح” (1كو3: 11). كما يقول: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية، الذى فيه كل البناء مركباً معاً، ينمو هيكلاً مقدساً فى الرب، الذى فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً، مسكناً لله فى الروح” (أف2: 20 – 22). هذا هو سرّ قوة الروح الذى فينا أننا متأسسون على السيد المسيح نفسه، ولنا ختم روحه القدوس، الذى خلاله “يعلم الرب الذين هم له”].

ليس فقط ليس لنا أن ندين ونفرز الحنطة عن الزوان، والأوانى التى للكرامة عن تلك التى للهوان، وإنما يليق بنا أن نطمئن أن الحنطة لا تُهمل من الله بسبب الزوان، ولا الأوانى المُكّرمة تفقد كرامتها بسبب التى للهوان، إذ يقول الرسول: “يعلم الرب الذين هم له”. وفى هذا يقول القديس أغسطينوس: [ليس من أجل التبن تهلك الحنطة (مت3: 12)، ولا من أجل السمك الردئ، لا يؤخذ فى الأوعية شئ من الشبكة (مت13: 47)… لقد سبق فعيننا قبل أن نُولد، واعداً إيانا بيقين: “الذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم ايضاً، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضاً، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضاً” (رو8: 30) ([26])]. كما يقول: [حتى إن كانت البذار مختفية فى التبن لكنها معروفة لدى صاحب الحقل. لا يخف أحد متى كان بذرة، حتى وإن كان وسط تبن، فإن عينى الذى يذرينا لا تنخدعان ([27])].

يرى القديس أوغسطينوس أن في الحبل بيعقوب وعيسو نبوّة لما يُحدث فى كنيسة المسيح، التى كانت كرفقة تحمل فى داخلها أبراراً وأشراراً، إذ يقول: [صارعا فى رحم الأم، وحين صارعا قيل لرفقة: “فى بطنك أمتان”، رجلان، شعبان، شعب صالح وآخر شرير، يتصارعان معاً فى رحم واحد. كم من أشرار فى الكنيسة! فإن رحماً واحداً يحملهم حتى يُعزلوا فى النهاية. الصالحون والأشرار كلاهما يصارع أحدهما الآخر فى أحشاء أم واحدة ([28])].

17 – هل كل القديسين عبر كل الأجيال هم أعضاء الكنيسة؟

كل القديسين الذين دُعوا بواسطة النعمة الإلهية لا يُحدّوا بفترة زمنية معينة أو جيل معين إنما هم يُحسبون “رعية مع القديسين وأهل بيت الله” (أف2: 19). هؤلاء أعضاء فى الكنيسة، يضمون الذين أرضوا الربّ حتى قبل مجئ السيد المسيح مع الذين آمنوا بالسيد المسيح والذين وضعوا رجاءهم فيه. هذا أوضحه السيد المسيح بقوله: “ابوكم إبراهيم تهلل بأن يرى يومى فرأى وفرح” (يو8: 56)، كما قال: “موسى الذى عليه رجاؤكم… هو كتب عنى” (يو5: 45 – 46).

الكنيسة المجاهدة تضم الأعضاء الأحياء الذين قيل لهم: “فاشترك أنت فى احتمال المشقات كجندى صالح ليسوع المسيح” (2تى2: 3). كما تقول الكنيسة المجاهدة: “لنطرح كل ثقل الخطية المحيطة بنا بسهولة ولنحاضر بالصبر فى الجهاد الموضوع أمامنا، ناظرين إلى رئيس الإيمان ومكمله يسوع” (عب12: 1 – 2). وتضم الكنيسة المنتصرة التى فى السماء الذين عبروا من الكنيسة المجاهدة مثل البطاركة الأولين (إبراهيم وإسحق ويعقوب) والأنبياء والرسل والمعلمين والشهداء والنساك وكل الأبرار الذين أرضوا الرب عبر كل الأجيال.

18 – ماهى ألقاب الكنيسة؟

إذ بذل السيد المسيح نفسه من أجلها، وكشف عن دور الآب والروح القدس فى حياتها وخلاصها ارتبطت الكنيسة به، فحُسب عروس المسيح وابنته، ودُعيت عروس المسيح.

19 – ماذا نعنى بالقول “كنيسة واحدة”؟

يرى أوريجينوس أن وحدة الكنيسة بنيت على أساس إيمانها الواحد وعلى نظامها وتدبيرها الواحد.

مع التنوع فى الثقافات التى تعيش فيها كنائس الشعوب المتنوعة وأثرها على بعض الطقوس مثل الأيقونات والألحاد، غير أنها تحمل مفاهيم لاهوتية وروحية واحدة. إنها مملكة المسيح الواحدة على الأرض. لقد أعلن السيد المسيح نفسه عن هذه الوحدانية بقوله: “ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغى أن آتى بتلك أيضاً فتسمع صوتى، وتكون رعية واحدة وراعِ واحد” (يو10: 16). ويؤكد هذا بقوله إنه هو “الكرمة الحقيقية” (يو15: 1). كما يقول “ليكون الجميع واحداً… كما أننا نحن واحد” (يو17: 21 – 22).

كما يقول: [تؤكل الذبيحة (حمل الفصح) بأكملها فى بيت واحد، ولا يؤخذ لحم منها إلى الخارج معنى هذا أن بيتاً واحداً ينال الخلاص فى المسيح، أى الكنيسة على مستوى العالم. هذه التى كانت غريبة عن الله، ثم صارت الآن تتمتع بأٌلفة فريدة معه. لقد قبلت رسل الرب يسوع، كما قبل بيت “راحاب الزانية”، جواسيس يشوع، فكان هو البيت الوحيد الذى خلص من دمار أريحا. لذلك، فمع تعدد بيوت العبرانيين، إلا أنها كانت تعادل بيتاً واحداً، وبنفس الطريقة، فإن الكنائس على مستوى المدينة والدولة، مهما تعددت، تؤلف كنيسة واحدة. إذ أن المسيح واحد فى جميعها، هو المسيح الكامل، غير المنقسم. لذلك، ففى كل بيت كانت الذبيحة كاملة، وغير منقسمة على بيوت عديدة. فى هذا يقول بولس: إننا جميعاً واحد فى المسيح، إذ هو “رب واحد وإيمان واحد” (أف4: 5) ([29])].

تُبنى وحدة الكنيسة أيضاً على استمراريتها فى الإيمان الذى يبدأ بالعهد القديم ويستمر فى العهد الجديد. ويلخص أوريجينوس الاستمرارية الرسولية فى الاعتراف كالآتى: [يوجد إله واحد، خلق كل الأشياء ورتبها، إله الرسل والعهدين القديم والجديد ([30])].

قدم الرسول بولس وحدة الكنيسة فى صورتين:

  1. أشار إلى الكنيسة جسد المسيح، بقوله: “وأما أنتم فجسد المسيح واعضاؤه أفراداً” (1كو12: 27)، “لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح” (أف4: 12)، مؤكداً الوحدة بين أعضائها بكونها الجسد المرتبط بالرأس السماوى. يقول العلامة أوريجينوس: [إن كنا جسد المسيح، وقد رتب الله الأعضاء، كل عضو فى الجسد فيهتم كل واحد بالآخر، ويتناغم مع الآخر، وعندما يتألم عضو تتألم كل الأعضاء معه، ومتى تمجد عضو تفرح الأعضاء معه، يلزمنا أن نمارس الحنو النابع من الموسيقى الإلهية، إنه متى اجتمعنا معاً فى اسم المسيح يكون فى سطنا كلمة الله، وحكمته وقوته ([31]).
  2. دعا الرسول الكنيسة بيت الله (1تى3: 15)، وهيكل الله (1كو3: 16)، يسكن روح الله فيها. أما الرسول بطرس فيصف المسيح بأنه الحجر الحىّ والمؤمنين بالحجارة الحيّة المبنية فى البيت الروحى (1بط3: 4 – 5).

تنعكس هذه الوحدة فى الإيمان على الوحدة فى العبادة، فالكنيسة مع انتشارها فى دول مختلفة تؤمن بمعمودية واحدة وإفخارستيا واحدة لكل هذه الكنائس المحلية. فجميع المؤمنين لهم أم واحدة حيث يُولد الكل من معمودية واحدة، ويتناولون طعاماً واحداً (جسد الربّ الواحد).

وحدة الإيمان تقدم وحدة التعليم ووحدة العبادة والتمتع بالحق الإلهى الواحد. يقول الرسول: “كى لا نكون فيما بعد أطفالاً مضطربين ومحمولين بكل ريح تعليم بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة الضلال، بل صادقين فى المحبة ننمو فى كل شئ إلى ذاك الذى هو الرأس: المسيح، الذى منه كل الجسد مركباً معاً ومقترناً بمؤازرة كل مفصل حسب عمل على قياس كل جزء يحصل نمو الجسد لبنيانه فى المحبة” (أف4: 14 – 16).

20 – هل من مثال عملى بخصوص الاهتمام بالوحدة الكنسية؟

جاهد القديس باسيليوس من اجل وحدة الكنيسة، فهو يرى أنها تقوم على أساس الإيمان الواحد، ولهذا كان ما يشغل قلبه أن يُعيد الوحدة للكنائس التى تُمزّقها البدع. ففى إحدى رسائله كتب: [أعتقد أنه يناسب الذين يخدمون الرب بكل صدق وإخلاص، أن تكون غاية جهودهم الوحيدة، إعادة وحدة الكنائس المنقسمة ([32])]. من أجل هذه الوحدة، كان على أتم الاستعداد، رغم الأمراض والصعوبات والإهانات التى تعرّض لها أن يذهب إلى أى بلدة، يتحدّث إلى الأساقفة ويجمعهم، ويأخذ منهم اعترافات إيمان واضحة.

يظهر مدى اهتمامه بوحدة الكنيسة فى الشرق والغرب مما كتبه لكثير من الأساقفة فى الشرق والغرب بخصوص بدعة أريوس، نقتبس منها الآتى: [بالمقارنة بين الحاضر (الفوضى فى الكنائس) والماضى، يمكنك أن ترى كيف أن الاختلاف بين الحاضر والماضى يتزايد. يمكنك بسهولة أن تستنتج أن ظروفنا إذا استمرت هكذا ستتلف فى الحاضر. ليس شئ يمنع الكنائس من أن تتغيّر تماماً فى وقت قصير إلى بنية أخرى… أنا أيضاً أعرف وتحققتُ لمدة طويلة من إدراكى المتواضع بشئونى أن الطريق الوحيد للمحافظة على كنائسنا هو الاتحاد مع الأساقفة الغربيين. إن كانوا يريدون أن يظهروا الغيرة على الإيبارشيات التى فى منطقتنا، والتى تقوم بدور فى حالة أو حالتين فى الغرب اللتان اكتشفتا أنهما هرطوقيتان، ربما من أجل فائدتنا واهتماماتنا المشتركة، حيث أن حكامنا يتطلعون باستخفاف إلى الشعب فى كل مكان الذين يتبعون أساقفتهم دون تساؤل ([33])].

[أى شئ أكثر سروراً من أن نرى البشر الذى تعزلهم مسافات كهذه يرتبطون بوحدة الحب فى تناغم، فى عضوية فى شكل المسيح. بالرغم من أن غالباً كل الشرق أيها الأب الكلى الكرامة (أقصد بالشرق من منطقة IIIyricum) تهتز بعاصفة عنيفة وطوفان. برغت الهرطقة القديمة التى لأريوس، عدو الحق، بطريقة معيبة كجذر مُرّ نتيجة للكارثة وأفسدت أبطال الإيمان المستقيم فى كل إيبارشية… إننا نترقب الحل لهذه المتاعب، وافتقاد مراحمكم. حقاً فى الأزمنة الماضية محبتكم التى لا تصدق دائماً تجتذبنا، ونحن إلى وقت قصير نقتنى قوة فى نفوسنا بسبب التقرير المفرح أنكم ستفتقدوننا. غير أنه قد أصابتنا خيبة الأمل فى رجائنا ([34])].

[الأمور هنا فى حالة يُرثى لها، أيها الإخوة المكرمون جداً. فالكنيسة أشبه بقارب فى وسط البحر، تصدمها هجوم الأمواج المستمرة، فنزلت إلى حالة إنهاك تام بهجمات لا تنقطع من مقاوميها، تفقد بعض التغيرات السريعة فى صلاح الله. لذلك، إذ تظهر ببركات شخصية فى الاتفاق والوحدة بينكم، هكذا أيضاً نتوسل إليكم أن تظهروا تحنناً علينا فى عدم موافقتنا (لكم)، ولا تنفصلوا عنا لمجرد أن بلادنا بعيدة، بل حيث أننا متحدون فى شركة الروح، بالحرى فلننضم إلى وحدة الجسد وتناسقه.

أحزاننا معروفة جداً ولا تحتاج إلى من يسردها، فقد أذيع عنها بالفعل فى كل العالم. تعاليم الآباء أحتقرت، تسليم الرسل قد دُمّر، تلفيقات المبتدعين قد أدخلت فى الكنائس. صار الناس الآن ماهرين فى البلاغة لا فى اللاهوتيات: صار للحكمة الزمنية الأولوية ومجد الصليب أهين. أستبعد الرعاة، واحتلّت الذئاب مكانهم، الذين يمزقون قطيع المسيح. بيوت الصلاة فرغت من اجتماعاتها السابقة، وامتلأت الصحارى بالحزانى…

إن وجدت تعزية حب، أية شركة للروح، أية مشاعر للحنو حثوا أنفسكم لتأتوا إلى الراحة. استخدموا الغيرة فى الحث على التقوى، أنقذونا من هذه العاصفة، دعوا التعليم الطوباوى الذى للآباء يُنطق بغير خوف بيننا. هذا التعليم الذى يفند هرطقة أريوس البغيضة، وتُبنى الكنائس على تعاليم سليمة، التى فيها يُعرف الابن أنه واحد مع الآب فى الجوهر، ويُحصى معهما الروح القدس، ويُسجد له بذات الكرامة، وذلك لكى يدافع عدم خوفكم للحق. عطية الله لكم، ومجدكم فى الاعتراف بالثالوث الإلهى المخلص يمنحنا نحن أيضاً معونة صلواتكم وتعاونكم ([35])].

21 – ما هو الطريق العملى للتمتع بسرّ الوحدة؟

يدعو الآباء إلى ممارسة الحب للتمتع بسرّ الوحدة. يشبّه القديس باسيليوس الكنائس فى العالم بالجزائر والقارات التى وإن بدت كأنها مُنعزلة عن بعضها البعض، غير أن البحار (والمحيطات) تربطها الواحدة مع الأخرى، فبحار ومحيطات الحب الإلهى والأخوى تربطنا معاً فى المسيح يسوع رأس الكنيسة. حتى الموت لا يستطيع أن يعزل الراقدين عن المجاهدين.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الرب نفسه الذى قسّم الجزائر من الأرض الرئيسية بواسطة البحر، ربط جزيرة المسيحيين بأرض المسيحيين الرئيسية بالحبّ. أيها الإخوة، ليس شئ يفصل أحداً عن الآخرين، إنما يتأنون فى التغرب. لنا رب واحد، إيمان واحد، رجاء واحد… تحتاج الأيادى كل للآخر. تسند الأرقام بعضها البعض. العيون يكون لها رؤية واضحة فى عملها معا ([36])]. كما يقول: [الفكر المنفرد ومجهودات الشخص المنفرد لا تُمكنه من التمتع بأعمال الله العظيمة. لهذا نُكرس كل مواهبنا المتواضعة لنعمل معاً، فنبلغ هذه القوة فى شركة معاً. نحتاج إلى تحرر كامل من القلق بعيداً عن الاضطرابات التى للعمل الخارجى، بهذا ننكب على التأمل فى الحق ([37])].

يدعو القديس مار يعقوب السروجى النفس لتمكث فى الكنيسة بروح الحب، قائلاً:

[ينزل العريس ليرى العروس المخطوبة له! امكثى أيتها النفس فى الخدر ليراك هنا. لا تخرجى من خدر العريس الملك الذى ينزل ليراك وهو حامل الغنى من بيت أبيه… امكثى عنده فلو أتى ولم يشاهدك سيغضب ([38])].

22 – ماذا نقصد بالقول: كنيسة مقدسة؟

إن كانت وحدة الكنيسة هى السمة الأساسية لها، فإن سرّ قداستها أن رأسها هو المسيح القدوس الذى يفيض عليها بالقداسة. ورسالتها هى تقديس كل شخص ينضم إليها. “مكتوب كونوا قديسين لأنى أنا قدوس” (1بط1: 16؛ لا11: 44؛ 19: 2؛ 20: 7). يقول الرسول: “أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكى يقدسها، مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة، لكى يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شئ من مثل ذلك، بل تكون مقدسة وبلا عيب” (أف5: 25 – 27).

علاوة على هذا فإن الروح القدس الذى يهب الكنيسة الحياة هو قدوس. والكتاب المقدس يقدم الحق الإلهى ويقدس الذين يسمعونه ويقبلونه (1تى4: 4 – 5).

إذ يتجاوب المؤمنون مع الدعوة السماوية المقدسة (2تى1: 9) يتقدس من يجاوب معها ويُدعون قديسين. لهذا يحسب السيد المسيح كنيسته أشبه بالعجين الذى يتقدس بالخميرة المقدسة (مت12: 23) التى تغيّر كل شئ ببطء. لتعلن عن قوة الكنيسة وتأثير تعليمها على العالم الشرير. لقد دعا السيد المسيح تلاميذه نور العالم وملح الأرض (مت5: 4، 13)، إذ نالوا فيه النعمة القادرة على تصليح الطبيعة البشرية الساقطة وتحريرها من فسادها.

فى كل جيل نسمع عن عمل الكنيسة فى حياة البشر، وكثيرون يقبلون عمل النعمة فى حياتهم، وكثيرون يقدمون التوبة خفية وسنراهم أبطالاً فى يوم الربّ العظيم.

يكشف لنا العلامة أوريجينوس عن مفهومه عن اهتمامه بقدسية الكنيسة بقوله: [إنى أحمل لقب كاهن، كما ترون، فأعظ بكلمة الله. أما إذا صدر منى تصرف مناقض لنظام الكنيسة أو للقواعد التى أرساها الإنجيل، أو إذا أسأت إليكم أو إلى الكنيسة، فإنى أرجو أن تتحد الكنيسة برأى واحد وتطردنى خارجاً ([39])]. وفى العظة التاسعة عن سفر يسوع، يتحدث أوريجينوس عن هيكل الله، الذى فيه يستطيع يسوع المسيح أن يقدم ذبيحته للآب. أنه مبنى من حجارة سليمة، غير مكسورة. “لم يرفع عليها حديد” (راجع تث 27: 5). تلك هى الأحجار الحية النقية، الرسل القديسون، الذين يؤلفون هيكلاً واحداً من خلال وحدة قلوبهم (أع1: 24) وأنفسهم. كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة (أع1: 14) كما كان لهم الذهن الواحد. فالوحدة الحقيقية، بمعنى آخر، مؤسسة على الحياة المقدسة، والمحبة (وحدة القلوب)، والعبادة المشتركة (صوت واحد)، والإيمان الواحد (ذهن واحد).

يعتبر أوريجينوس أن تقديس كل عضو هو الأساس فى وحدة الكنيسة، إذ أن ما يقترفه العضو يؤثر على الآخرين. فيقول: “خاطئ واحد يلوث الشعب ([40])”. و “أن من يقترف الزنا أو أية جريمة أخرى، فهو يلوث الشعب بأكمله ([41])”.

23 – ماذا نعنى بقولنا إن الكنيسة جامعة (كاثوليكية)؟

لا نعنى هنا انضمام البعض إلى طائفة معينة. إنما نقصد أن الكنيسة قادرة بالنعمة الإلهية العمل فى بلاد كثيرة يقبلون الإيمان المستقيم ويسلكون فى المسيح يسوع، ويتمتعون بالعضوية فى الكنيسة الممتدة من آدم إلى آخر الدهور. يقول العلامة أوريجينوس إننا سندهش فى يوم الرب إذ نرى أطفالاً صغاراً يُحسبون أبطالاً، وأشخاصاً مجهولين من بيت الشعب احتلوا مراكز البطولة أكثر من بعض رجال الكهنوت والخدام والمبشرين. تحمل كنيسة العهد الجديد سمة الجامعية، “حيث ليس يونانى ويهودى، ختان وغرلة، بربرى وسكيثى، عبد وحر، بل المسيح الكل وفى الكل” (كو3: 11)، إنما تضم الكنيسة أعضاء من كل الأمم والشعوب.

يحدثنا العلامة أوريجينوس عن جامعية الكنيسة التى تزر فى استمرارية الرسل مع بعضهم البعض، كرسل مخلصين للمسيح. ويتحدث بأسلوب واقعى قاطع عن “تعليم الرسل ([42])”، الذين مثلهم مثل أنبياء العهد القديم، قد أوحى إليهم بالروح القدس. وهو يوجه تعريفه هذا للاستمرارية الرسولية، ضد انعزالية رسول واحد ما عن الجماعة الرسولية ([43]).

24 – ماذا نعنى بأن الكنيسة رسولية؟

إنها باقية إلى يومنا هذا تحمل الفكر الرسولى، فتحفظ الإيمان الذى استلمه الرسل كما أنها لم تكسر التسلسل الرسولى، ولم تقبل هراطقة لقيادة الكنيسة.

25 – ماذا نعنى بأن الكنيسة معلمة وحافظة للحق وحارسة له؟

الثقافات المحلية متباينة لكن التقليد أو التسليم المقدس واحد. استلم الرسل تعاليم الربّ، بكونه الحق الإلهى وحافظوا عليه. وضعت الكنيسة أمام عينيها وصية الرسول للقديس تيموثاوس: “يا تيموثاوس احفظ الوديعة، معرضاً عن الكلام الباطل الدنس ومخالفات العلم الكاذب الاسم” (1تى6: 20). لقد أكد ربنا يسوع عصمة الكنيسة من الانحراف عندما وعد تلاميذه: “وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت28: 20). كما وعد بإرساله الروح القدس “فهو يعلمكم كل شئ، ويذكركم بكل ما قلته لكم” (يو14: 26). هذه الوعود تؤكد أن أبواب الجحيم لن تقوى عليها (مت16: 18).

26 – ماهو النظام الخاص بخدمة الكنيسة؟

جاء فى الأناجيل المقدسة أن السيد المسيح عين اثنى عشر تلميذاً يرافقونه ويرسلهم للكرازة ويعطيهم سلطاناً أن يشفوا مرضى ويخرجوا شياطين (مر3: 14 – 15)؛ راجع مت 10: 1 – 4)؛ لو6: 12 – 16). ثم عين سبعين آخرين، أرسلهم اثنين اثنين أمام وجهه فى كل مدينة وكل موضع يذهب إليه (لو10: 1).

إذ كان الاثنا عشر فى العلية قال لهم بعد قيامته: “سلام لكم. كما ارسلنى الآب أرسلكم أنا. ولما قال هذا نفخ وقال لهم اقبلوا الروح القدس، كل من غفرتم خطاياه تُغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو20: 21 – 23). وقبل صعوده إلى السماء أعطاهم هذا الأمر: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مت28: 19 – 20)، مظهراً أن الأمر والسلطان اللذين أعطيا للرسل القديسين يبقيان فى الكنيسة إلى الأبد. لأن الرسل سوف يعبرون من هذه الحياة. أكد الرسول بولس أن الرب أعطى الكنيسة: “البعض أن يكونوا رُسلاً والبعض أنبياء والبعض مبشرين والبعض رعاة ومعلمين. لأجل تكميل القديسين لعمل الخدمة لبنيان جسد المسيح” (أف4: 11 – 12).

27 – ماذا قال المرتل عن الكنيسة؟

“الرب راعىّ فلا يعوزني شئ، فى مراعِ خٌضر يُربضنى” (مز23: 1 – 2). الكنيسة هى المراعى الخضراء التى فيها يرعانا مسيحنا السماوى. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لكل واحد منا قطيع يقوده إلى المراعى الخضراء ([44])].

28 – كيف نرى الكنيسة فى فلك نوح؟

الكنيسة هى فٌلك العهد الجديد الذى لم يحصن البشر ويحميهم من الطوفان فحسب، بل يقيم منهم ملائكة. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [قصة الطوفان سرّ (تك8)، محتوياتها كانت مثالاً للأمور العتيدة أن تتم، الفلك هو الكنيسة، ونوح المسيح، والحمامة الروح القدس، وغصن الزيتون هو الصلاح الإلهى. كما كان الفلك فى وسط البحر حصناً لمن فى داخله، هكذا تُخلص الكنيسة الهالكين. الفلك يُعطى حصانة، أما الكنيسة فتفعل ما هو أعظم. كمثال احتوى الفلك الحيوانات غير العاقلة وحفظها، أما الكنيسة فأدخلت البشر الذين يسلكون بغير تعقل ولم تحصنهم فحسب وإنما أيضاً غيّرت طبيعتهم ([45])].

29 – ما هو دور الروح النارى فى الكنيسة؟

يتحدث القديس يوحنا الذهبى الفم عن فاعلية هذه النار السماوية فى حياة الكنيسة، موضحاً إنها تهب المؤمن قوة يتحدى بها العالم وكل قوات الظلمة، فيعيش بروح النصرة والغلبة، متمتعاً بالشركة مع السمائيين. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لنبسط أذهاننا نحو السماء، ولنتمسك بهذه الرغبة ملتحفين بالنار الروحية ومتمنطقين بلهيبها. ليس إنسان يحمل لهيباً ويخاف ممن يلتقى به، سواء كان وحشاً أو إنساناً أو فخاخاً بلا عدد فإنه إذ يتسلح بالنار (الروحية) لا يقف فى طريقه أحد، بل يتراجع الكل قدامه، لأن اللهيب لا يحتمل والنار تبدد كل شئ. إذن، لنطلب هذه النار مقدمين المجد لربنا يسوع المسيح مع أبيه والروح القدس ([46])].

30 – هل يمكن للمؤمن أن يعزل نفسه عن إخوته؟

من أعمال المحبة التى تتسم بها الكنيسة: “لنلاحظ بعضنا للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة” (عب10: 24)، أى يسند أحدنا الآخر بالصلاة وخلال أعمال الخير. فالجهاد يكون قانونياً باجتماعنا معاً بروح المحبة كاعضاء بعضنا لبعض. “فلنعكف إذاً على ما هو للسلام، وما هو للبنيان بعضناً لبعض” (رو14: 19). يلتزم حتى المتوحد أن يصلى بصيغة الجمع، قائلاً: “أبانا الذى فى السماوات… أغفر لنا ذنوبنا”. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ليس شئ يجعل البشر ينهزمون سريعاً فى التجارب وينهارون مثل العزلة. أخبرنى، بَعثر فرقة فى حرب، فإن العدو لا يقلق فى سبيهم وأسرهم كفرادى ([47])].

[ليس شر عظيم هكذا مثل العزلة وبقاء الإنسان خارج الجماعة بلا اتصال ([48])].

[بهذا يكون اجتماع الكنيسة كلها قوياً، إذ ما لا يستطيع الإنسان أن يفعله بمفرده يقدر أن يتممه خلال التصاقه ببقية الكنيسة. لهذا فالصلوات (الجماعية) المرتفعة هنا عن العالم وعن الكنيسة من اقاصى المسكونة إلى أقاصيها لأجل سلام الذين هم فى ضيقة أمر ضرورى ([49])].

31 – هل تضم الكنيسة مؤمنين من درجات مختلفة؟

يعتبر أوريجينوس جميع المسيحيين أعضاء فى الكنيسة الحقة، إلا أنهم مصنفون فى تدرج تصاعدى حسب إيمانهم ومعرفتهم. يقول: [يوجد فى الكنيسة من بين المسيحيين من هم مؤمنون حقيقيون. يؤمنون بالله ولا يناقشون وصاياه، ويؤدون واجباتهم الدينية، ويرغبون فى الخدمة، لكنهم غير أنقياء فى سلوكهم وحياتهم الخاصة. إنهم “لا يخلعون الإنسان العتيق مع أعماله” (راجع كو3: 9). إنهم مثل الجبعونيين، الذين “لبسوا ثيابهم الرثة، ونعالهم البالية…” (يش9)].

يجد أوريجينوس رمزاً لهذا التصينف بين المؤمنين فى التنظيم التى كان يُتخذ لحمل الخيمة فى المسيرة (راجع عدد4). فهارون وأبناؤه كانت مهمتهم تغطية المكان المقدس وكل أوانيه، وذلك فى أغطية مخصصة من جلد نوع معين من الحيوانات، أو فى ثياب أرجوانية وقرمزية. ثم يأتى بعد ذلك دور بنى قهات ليحملونها. لكن ولا يحل لهم لمس أى شئ من الأشياء المقدسة، وإلا فموتاً يموتون. كما لا يحق لهم، حتى الدخول لمشاهدة عملية تغطيتها لئلا يموتوا. كذلك فى طقوسنا الكنسية، يوجد من الأمور ما يجب على الجميع ممارستها، رغم أن البعض لا يفهمها.

على سبيل المثال، لماذا نركع أثناء الصلاة؟ أو لماذا نتجه نحو الشرق؟ ليس فى الإمكان توضيح ذلك للجميع. ثم من يستطيع بسهولة أن يشرح تقديس سرّ الإفخارستيا، أو تناوله، أو أن يكشف عما وراء نصوص سرّ العماد وما يشمله من طقوس وأسئلة وإجابات؟ مع هذا فكل هذه الأمور نحملها، تحتجب وتغطى فوق أكتافنا، ونقوم بها كما سلمنا إياها رئيس كهنتنا الأعظم وأولاده.

فابن هرون وحده بفطنته الروحية يحق له حق التطلع إلى تلك الأشياء المقدسة، وهى عارية من أى حجاب. أما ابن قهات فعليه الطاعة المطلقة، أنه يحمل الثقل، لكن ليس له أن يطلب التوضيح كما لا يُلزم ابن هرون بالإعلان عنها. فالكشف عن الأسرار وشرح ما يُستعصى على إدراك حامليها، هو بمثابة قتل روحى ([50]).

يقول أوريجينوس أن الكنيسة تضم مؤمنين من المستوى الروحى الرفيع، كما تضم الضعفاء. تسمى الأولين “أناساً”، والآخرين “حيوانات” مجازياً.

[الكنيسة أيضاً بداخلها حيوانات. اسمع ما جاء فى المزامير: “الناس والبهائم تخلصهم يا رب” (مز36: 7). أولئك الذين يكرسون وقتهم لدراسة كلمة الله والعقيدة المتزنة، يُطلق عليها “الناس”. أما من يعيشون بغير هذه الدراسات ولا يبدون أى رغبة فى أن يعرفوها، فهم، رغم إيمانهم، يُسمون “حيوانات”، وإن كانوا بغير شك، حيوانات طاهرة. فكما يوجد “رجال الله يوجد أيضاً” خراف الله “([51])].

يقول جون دانيلو أن أوريجينوس يطرق موضوعاً جديداً من الرمزية، يتضمن مقارنة بين حيوانات الفلك الذين ينالون الخلاص فى الكنيسة. فالحيوانات توزّع بين درجات عديدة من الكمال. كما أنه ليس لكل الناس نفس الجدارة، وليس تقدمهم فى الإيمان متساوياً، كذلك كان الأمر فى الفلك، حيث لم تُعطى الإمكانيات فيه للجميع بالتساوى. يظهر هذا أيضاً فى الكنيسة. فبالرغم من ان الجميع مشتركون فى الإيمان الواحد، وقد طهرتهم جميعاً مياه المعمودية، إلا أنهم متباينون فى تقدمهم، بذلك يبقى كل منهم فى درجته ([52]).

32 – هل نضطرب لوجود فاسدين فى الكنيسة؟

يوضح أوريجينوس وجود أشرار فى الكنيسة، قائلاً: [يجب ألا يتملكنا العجب، إذا اتضح لنا، قبل أن يشرع الملائكة المكلفون فى فرز الأشرار من بين الأبرار، أن نرى تجمعاتنا بها أيضاً أشرار ([53])]. كما يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [لا تضطربوا لوجود فاسدين وأشرار، فإنه فى بيت كبير يوجد مثل هذه الأوانى… لكنها لا تنال كرامة ([54])].

[واحسرتاه على جنونهم المطبق! هل توجد حاجة إلى علامة قبل أن يتمكنوا من الكف عن أفعالهم الشريرة، ويحرروا بيت الله من مثل هذا العار؟ أليست أعظم آية لسموه أن تكون له مثل هذه الغيرة على ذاك البيت؟ لقد تميز موقف التلاميذ اللائق إذ تذكروا “أنه مكتوب:” غيرة بيتك أكلتنى “. أما اليهود فلم يتذكروا النبوة، فقالوا:” أية آية ترينا؟ “متوقعين بذلك أن يوقفوه، راغبين فى تحديه بصنع معجزة، ليجدوا علة عليه ([55])].

33 – ما هو موقف الكنيسة من الفاسدين المستهترين؟

يقول القديس باسيليوس الكبير: [من يخطئ مع أخته من والده أو من والدته يبقى لمدة ثلاث سنوات باكياً خارج أبواب الكنيسة حتى يدرك مدى خطورة ما ارتكبه، طالباً من الداخلين إلى الكنيسة أن يذكروه فى صلواتهم ليجد نعمة عند الله. ثلاث سنوات بعد ذلك ينضم إلى جماعة السامعين، بعد القراءات والعظة يُطرد من الكنيسة، ولا يُسمح له بحضور قدّاس المؤمنين. ثلاث سنوات ينضم فيها إلى الجماعة].

34 – ماذا يعنى الرسول بقوله إن الكنيسة تُعلن سرّ الخلاص للسمائيين (أف3: 9 – 11)؟

يقول الرسول: “وأنير الجميع فى ما هو شركة السرّ المكتوم منذ الدهور فى الله خالق الجميع بيسوع المسيح. لكى يعرف الأن عند الرؤساء والسلاطين فى السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة، حسب قصد الدهور الذى صنعه فى المسيح يسوع ربنا” (أف3: 9 – 11).

يبقى السماويون حتى يوم الرب العظيم فى دهشة، حيث أدركوا سرّ حكمة الله المكتومة، إذ رأوا الزناة صاروا قديسين، والبشر شركاء معهم فى الحياة السماوية. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [حقاً، لم يُعلن (السرّ) لإنسان، فهل أنت تنير السرّ للملائكة ورؤساء الملائكة والرؤساء والسلاطين؟ يقول: “نعم” فإنه كان مكتوماً فى الله، بل “فى الله خالق الجميع”. أتتجاسر وتنطق بهذا؟ يجيب: “نعم”. وكيف أعلن هذا للملائكة؟ “بواسطة الكنيسة”… ألم تكن الملائكة تعرفه؟… ألم يعرفه حتى رؤساء الملائكة؟ حتى هؤلاء لم يعرفوه؟… لقد دعاه سراً، لأن الملائكة لم يكونوا يعرفوه، ولا كان قد أعلن لأحد… حقاً لقد عرف الملائكة أن الأمم مدعوون فعلاً، أما أن يكونوا مدعوين للتمتع بذات امتيازات إسرائيل وأن يجلسوا على عرش الله (رؤ3: 21) هذا من كان يتوقعه؟! من كان يصدقه؟! ([56])].

35 – هل الكنيسة مُحبة للجنس البشرى بأجمعه؟

كان قلب أوريجينوس ملتهباً بالحب للجنس البشرى كله، وراغباً فى خلاص كل الناس. ولما وجه صلسس إلى المسيحيين اتهاماً بأنهم يؤمنون بأن الله قد تخلى عن سائر البشر، وصار مهتماً بالكنيسة وحدها، أجابه أوريجينوس بأن ذلك ليس بعقيدة مسيحية ([57]). إنه يقول: [لما كان الله هو الراغب فى أن تصل مساعدة تعليم يسوع المسيح إلى الأمم، فقد أبطل كل المخططات البشرية التى حيكت ضد المسيحيين. وبقدر ما أذلهم الملوك والحكام المحليون والشعوب فى كل مكان، كانوا يزدادون فى العدد والقوة ([58])].

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى