حول سرّ التوبة والاعتراف

1 – لماذا دُعى ربنا يسوع محب الخطاة والعشارين؟

تجسد كلمة الله ليُضمد النفوس التى جرحتها الخطية، يترفق بهم ويحنو عليهم، إذ هو الطبيب الحنون الذى فتح أبواب الفردوس أمام لص حسبه البشر لا يستحق أن يعيش فى العالم (لو23: 43)، وقبل امرأة شريرة خرج كثيرون يحملون حجارة لرجمها (بو8: 1 – 12). واستضاف نفسه عند رئيس للعشارين قاسى القلب محب للمال، رغم تذمر الجموع ضده (لو19: 5)! يعرف كيف تذل الخطية الإنسان فيترفق بالخطاة، لا يُعاتب ولا ينتهر إنساناً مُنكسر القلب. “لا يصيح، ولا يسمع أحد فى الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (مت12: 19 – 20).

إنه يقف يقرع لعلنا نتحنن عليه، فنُعطيه القلب الذى اشتراه بدمه، وإن لم نعطه، ما هو له، لا يُجبرنا بدخوله، بل يقف باكياً كما وقف عند دخوله إلى أورشليم (لو19: 41). فى عذوبة يدعو النفس: “يا أختى، يا حبيبتى”، ثم يعود فيشجّعها، فيكشف لها عن جمال داخلها المخفى عنها، قائلاً “يا كاملتى” (نش5: 2). إنه يشجع نفوس المُنكسرين بالرغم من نجاساتهم وشرهم.

بقدر ما كانت أحاديث الرب وأمثاله علناً وخفية تدور حول الملكوت، كان أيضاً ذلك الطريق: الحاجة إلى “التوبة”، فإنه لا معرفة للملكوت بغير “توبة”. وبقدر رقته نحو الخطاة التائبين ولطفه معهم، بدا قاسياً مع قساة القلوب غير الراغبين فى التوبة. لقد ترفق بالخطاة والزناة واللصوص، لانهم تاقوا أن يتوبوا، ووبخ وانتهر الكتبة والفريسيين الذين أصروا فى عنادهم على عدم التوبة.

يليق بنا ألا نستهين بطول أناة الله، فنتهاون مع الخطية متكلين على أن المخلص مُحب للبشر وغافر الخطايا. وكما يقول الرسول بولس: “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة (رو2: 4). يقول القديس باسيليوس الكبير: [من يؤدب على خطاياه القديمة وينال المغفرة، فليُعد نفسه لغضب أشد من الأول إن أخطأ ثانية…” ها أنت قد برئت، فلا تخطئ أيضاً، لئلا يكون لك أشر “(يو5: 14) ([546])].

2 – ما هى الوصية التى قدمها السيد المسيح لتلاميذه عندما ظهر لهم بعد قيامته؟

قال لهم: “كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا” ولما قال هذا نفخ وقال لهم: “اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تٌغفر له. ومن أمسكتم خطاياه أمسكت” (يو20: 21 – 23). لقد أعطاهم هذا السلطان لكى يعلن لهم أن العالم محتاج دوماً إلى التوبة والاعتراف. فلا يكف المؤمنون عن الاعتراف باحسانات الرب لهم ويعترفون أنهم خطاة يقدمون التوبة فى كل صلاة ربانية، إذ يقولون: “واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن للمذنبين إلينا”. بهذا يدعو السيد المسيح القائم من الأموات أن يترفقوا بالشعب فيترفق الرب بهم.

3 – ما هى أهم التزامات المؤمن التائب؟

أولاً: يشكر الله على بركاته وترفقه وعمله الخلاصى، فتكون له الدالة أن يطلب المغفرة.

ثانياً: أن يعترف بأنه خاطى وعاجز عن التمتع بالحياة المقدسة بدون مراحم الله ونعمته المجانية.

ثالثاً: أن يترفق بالمخطئين إليه ويعفو عنهم فيفتح له المخلص طريق الخلاص.

رابعاً: انشغال المؤمن بالسماء وترقبه للعرس الأبدى وحبه لإخوته يرفع كل كيانه الداخلى كما بجناحى الروح القدس، فيتعرف على العريس السماوى الذى يُعد له المجد الأبدى، كما يدرك حقيقة ضعفاته، ويتعرف على نعمة الله القادرة أن تُحول القلب من الفساد إلى عدم الفساد. بل وتُقيم من القلب الترابى سماء جديدة، ومن البشر شبه ملائكة.

التوبة لله والاعتراف أمامه فى مخدعنا وفى حضرة الكاهن هما تغيير مسار للأعماق، كما للسلوك الخارجى. فيه بغنى حب الله الفائق فنقدم ذبيحة شكر، وفيه نعترف بضعفنا وشرّنا واثقين فى عمله الخلاصى وإمكانياته أن يقيم من فسادنا حياة ملائكية مقبولة لدى الآب. هكذا نمارس غسلاً مستمراً بروح الرجاء. “من غفرتم خطاياه تغفر له، ومن أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو20: 23).

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [التوبة هى الطريق الإنجيلى الذى تجتازه النفس عابرة إلى الملكوت]، [عندما ترتكب خطية لا تنتظر حتى يتهمك إنسان آخر، إنما قبل أن تُتهم وتدخل فى محاكمة، يليق بك أن تدين ما قد فعلته. عندئذ متى اتهمك آخر مؤخراً، لا يكون الأمر خاص بالاعتراف، بل بإصلاح ما قدمته من اتهام لنفسك… أخطأ بطرس خطية فاحشة بإنكاره للمسيح. لكنه أسرع وتذكر خطيته، وقبل أن يتهمه أحد أعلن عن خطأه وبكى بمرارة (مت26: 69 – 75؛ مر14: 66 – 72). بهذا غسل خطية جحوده ([547])].

4 – بأى خوف ودموع يلزم للنفس التى تعيش ببؤس فى خطايا كثيرة، وبأى رجاء ونزعة يلزمها ان تقترب من الرب؟

خلال أحداث تفجيرات الكنائس المتكررة فى نهاية عصر الرئيس السابق حسنى مبارك السنوات التالية تأكد أدراكنا لمفهوم إنجيلنا وكتابات الآباء للتوبة أنها تدفع بالأكثر إلى جو من السلام والفرح الحقيقى والشجاعة والرجاء وتحدى الموت، كما تبعث فينا شهوة خلاص كل البشرية، حتى الذين يضطهدون الكنيسة ويقاومون الإيمان. فالتوبة دعوة لخبرة عربون السماء والشركة مع محب كل البشر!

يفتتح القديس ماريعقوب السروجى ميمره عن “التوبة” بعبارات تكشف عن المفهوم الإنجيلى المفرح للتوبة، بكونها وان صاحبتها الندامة والحزن على الضعف البشرى، لكنها فى حقيقتها هى لقاء عذب مع السيد المسيح نفسه وتمتع بإمكانياته العجيبة التى يقدمها للتائبين.

فى هذه المقدمة، إذ يختبر القديس حياة التوبة كرحلة تمتد العمر كله، يدعونا إلى الحديث الصريح مع المسيح، بكونه الباب العظيم المفتوح لكل البشرية، والطريق الذى يقودنا إلى أحضان الآب.

إنه يرى ابن الله المتجسد باسطاً يديه على الصليب ليحتضن التائب مع اللص اليمين، فيدخل به بكونه الباب (يو10: 9)، ويسلك فيه بكونه الطريق (يو14: 6)، وهو يرافقه فى كل الطريق، يسير معه كما مع تلميذى عمواس، فيقول معهما: ألم يكن قلبنا ملتهباً فينا، إذ كان يكلمنا فى الطريق؟ “(لو24: 32).

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [يا ابن الله افتح لى بحبك الباب العظيم، أنت هو الباب وطريق الحياة للسائرين فيك. أيها الصديق الصالح، معك أسير إلى الذى أرسلك، لأن الشرير بالتصاقه بالعالم صحبه كثيرون. بك أتقدم للحديث معك، يا معلم الحياة، لأن بدونك لا يستطيع إنسان أن ينظر أبيك ([548])]. طريق التوبة يرفع المؤمن عن طريق الإثم. مسيحنا يجتذبه إليه ويتحدث معه ويهبه حياته عاملة فيه، لكى بنعمته يرى جماله الإلهى الفائق. لا يخشى عدو الخير الذى يود أن يلتصق به كل أحد، يخدع البشرية خلال محبة العالم الزائل.

يقول القديس باسيليوس الكبير عن النفس: [يلزمها فى المكان الأول أن تبغض طريق حياتها القديم الباعث على الأسى، وترتعد وتشمئز من مجرد ذكراه، إذ مكتوب: “أبغضت الإثم ومقته، أما شريعتك فأحببتها” (مز119: 163). ثانياً: تحسب التهديد بالدينونة الأبدية والعقاب مُعلماً للخوف، وتتعرف على زمن الدموع كزمن التوبة كما عَلمنا داود فى المزمور السادس (مز6: 7 – 9)، فتسلك هكذا فى فيض الدموع، تغسل خطايانا خلال دم المسيح بعظمة مراحم الرب وكثرة حنوه، القائل: “إن كانت خطاياكم كالقرمز اجعلها تبيض كالثلج، وإن كانت كالدودى أجعلها بيضاء كالصوف” (إش1: 18). وبعد أن تنال القوة والقدرة أن تسر الله، تقول: “عند المساء يبيت البكاء، وفى الصباح تُرنم” (مز30: 5) حولت قرعات الصدر إلى فرح لى، حللت مُسحى ومنطقتنى فرحاً لكى يُرنم لك مجدى (مز30: 11 – 12). بهذا تقترب إلى الرب مُغنية بالمزامير، قائلة: “أعظمك يارب، لأنك نشلتنى، ولم تُشمت بى أعدائى” (مز30: 1) ([549])].

5 – من يشفى سواك أيها الطبيب فنخدمك؟

يطلب منا مار يعقوب السروجى ألا نركز نظراتنا على جراحاتنا، بل على الطبيب الذى نزل إلينا من السماء، فندعوه أن ينزل إلى أعماق نفوسنا، ويفتقدها بنفسه. إنها مثل حماة بطرس سمعان المحمولة، تعجز عن أن تقوم من سريرها. تطلب النفس أن ينتهر حمى الخطية، فتتركها وتقوم تشهد له بروح الاستنارة والمعرفة (لو4: 39). من يقدر أن يطرد أفكار الشر وينزع كل الأوجاع سواه. إنه يشتهى أن يشفى كل عليل مجاناً بضمادة دمه!

يقول مار يعقوب السروجى: [يا ربى تسألك النفس المريضة أن تأتى إليها، ادخل وافتقدها، لتقوم وتخدمك كل يوم. حين شفيت حماة سمعان من مرضها، قامت لخدمتك، لأنها استندت على الصحة. لتصنع مع النفس المريضة مثل ما فعلت معها فتصح بك، وتقوم على خدمة كلمتك باستنارة. أمسكت بيد تلك التى شفيتها من مرضها، بحبك امسك أفكار النفس، وأقمها من الأوجاع. أصابتنى الخطايا مثل الأمراض لإنسان عليل، أيها الطبيب الذى أتى مجاناً، ضمائدك تتفاضل فى].

6 – من يقدس إرادتى الفاسدة؟

حقاً إن المؤمن يصارع بين الإرادتين، فهو فى حاجة دائمة إلى نعمة المسيح حتى لا تميل إرادته إلى الشر! يشتاق أحياناً إلى الإرادة الصالحة، لكنه فى ضعف يمارس الخطأ، فتتغلب الإرادة الشريرة على الصالحة. ليقل المؤمن للرب: “بك يا سيدى انتصر، لأنى أضعف من أن أنتصر بنفسى! عملك عجيب ومدهش!”.

يعترف القديس مار يعقوب السروجى: [إنى أشاء الصالحات، لكننى أميل إلى الشرور، وحيث أبغض الإثم، كل يوم أفعله. إرادتان تجاهدان فىّ، الواحدة مقابل الأخرى، وكل يوم إرادة الشرّ تغلب بنجاح. بك يا سيدى أغلب، لأنى ضعيف جداً أن أنال الغلبة، فإنه يكفى عملك المدهش ليغلب بنا].

7 – لقد قتلنى الإثم، ودفننى فى القبر، وأنتنت، فهل يقبل الله توبتى؟

يقول القديس يوحنا الذهبى الفم إن عدو الخير يبذل كل الجهد لتظهر الخطية لذيذة وطريقها سهلة، ومتى سقطنا وأردنا الرجوع إلى الله يُظهر طريق التوبة أنه صعب! يثير عدو الخير روح اليأس حتى لا نتلامس مع مسيحنا بكونه باب التوبة وطريقها ونهايتها! ليتنا لا نضطرب، فإننا وإن كنا عاجزين عن الدخول فى المسيح، فهو يدخل فينا ويحملنا، إلى سماواته وملكوته! إن كان رب المجد قد أحيا لعازر الذى مات وأنتن، فهل يصعب عليه شفاء جراحاتنا؟

ما أروع ما صوره القديس يعقوب السروجى عن الخاطئ الذى يبدو ككسيح أو مبتور الرجلين، فيهبه المسيح رجليه ليسير بهما. ويحمله على كتفيه ويسير به، حتى لا ينحرف يميناً أو يساراً! إنه يقول: [أيها الخاطى اهرب والتجئ إلى التوبة، ومن لا يدخل من ذاته هى تدخله… إن قتلك الإثم، وانغلق قبرك فى وجهك، هو يقيمك ولو انتنت مثل لعازر. لأن الذى يستطيع أن يحيى الموتى، أية جراحات يعسر عليه شفاؤها إلا التى لم تطلبه… إن أخطأت لا يلومك، لأنه مملوء رحمة، إنه يلومك إذا لم تتب… إن تاب (الخاطئ) يصير أكثر جمالاً من الأبرار. لأن الراعى يحمله على كتفيه، ولا يحمل هؤلاء، ومن أجل ذلك يصير جميلاً لأن نظره يختلط بالراعى].

[خذ لك رجلى الراعى أيها الخروف، وتعال إلى الحظيرة، لأن هذين اللذين لك كسرهما الإثم. من هو الذى يرفض هذا الحب من الهالكين، إلا الذى يبغض نفسه ولا يذكرها… فإن لم يسند بالرجاء ذاك الذى سقط، كيف يقوم ويبلغ موضع الكمال؟].

8 – ما هى فاعلية دموع التوبة فى حياتنا؟

عمل الخطية الاولى أن تفسد البصيرة الداخلية، فيفقد الإنسان رؤيته لله محب البشر، ولا يدرك الفساد الذى حل به. بالحب تنهمر دموع التوبة فيفتح الرب بصيرة الإنسان، كما فتح السيد عينى المولود أعمى الذى اغتسل فى بركة سلوام! (يو9) بالدموع نرى الجمال الإلهى، ولا نطيق دنس الخطايا وفسادها. يقول القديس مار يعقوب السروجى: [تطالبنى التوبة أن أقدم لها الدموع، لأنها محبوبة عندها جداً. عندما تخدم النفس الخطايا تحطم حبها ولا تقدر أن تنظر، ولا ايضاً تبكى على فسادها… إن صوبت النفس نظرها إلى الله، تسرع الندامة وتفتح الأبواب المغلقة. وتنظر فى الإثم الذى خدمته كيف أنه بغيض، وتبصر عيوبها التى لم تكن تنظرها عند ممارستها له].

9 – ما هى دالة دموع التوبة لدى الله؟

تشفع الدموع المتهللة المملوءة رجاء ويقيناً أمام المخلص، فيسمع صوت النفس الخفى ويحول إرادتها الشريرة المحطمة إلى إرادة فعالة. إن كانت الخطيئة تحطم الأفكار المقدسة وتطمرها كما فى التراب، فدموع التوبة تشفع أمام واهب القيامة فيبعثها إلى الحياة، وتسترد النفس قوتها فى الرب، وتختبر كلمات النبى: “ليقل الضعيف: بطل أنا!” (يؤ3: 10) وتسترد جمالها الخفى، فتسمع صوت حبيبها يناجيها “كلك جميل يا حبيبتى ليس فيك عيب” (نش4: 7).

يقول القديس مار يعقوب السروجى: [أيتها التوبة… صوت حُرقتك يأتى بها إلى الله… يرشقنى الطاردون بسهام الإثم، وكمثل الحربة يُغرس الإثم فىّ لأهتم به. حسن لك أيتها النفس أن تبكى من أجل هؤلاء، لأن أجراً صالحاً يكون لإفراز دموعك].

10 – ما هى اللغة التى ينصت إليها الطبيب السماوى سوى دموع التوبة؟

الطبيب السماوى مُستعد لشفاء جراحات النفس، وهو القدير والحكيم، أما لغة التفاهم معه فهى الدموع القادرة أن تفجر ينابيع حبه الواهبة الغفران].

يقول القديس ماريعقوب السروجى: [ارفعى صوتك (أيتها الدموع) إلى الطبيب المملوء خيرات، لأنه هو القادر بالدواء أن يضمد جراحاتك. بضرورة الصوت يعلم الطبيب وجعك، وحسب الوجع يعطيك دواء يعينك. مقابل الدموع تفيض المراحم من المتحنن، وحسب البكاء ينضح الحب من الغفران].

11 – لماذا تُدعى دموع التوبة معمودية ثانية؟

كثيراً ما تحدث آباء الكنيسة عن عظمة المعمودية، فخشوا لئلا يتكل المؤمن على المعمودية ويشعر بعدم الحاجة إلى دموع التوبة لأنه صار ابناً لله. لذلك أوضحوا أن دموع التوبة معمودية ثانية للتجديد اليومى المستمر لننسى ما هو وراء ونمتد إلى قدام (فى3: 13)، لعلنا نبلغ إلى قياس قامة ملء المسيح (أف4: 13). هذه المعمودية العجيبة بالتالى:

أ. ينبوع مياهها البكاء، يصدر من أعماق المؤمن بعمل النعمة الإلهية.

ب. مياهها نقية تنظف الإثم باستحقاقات الدم الثمين تقدمها الإرادة المقدسة.

ج. تُمارس كل يوم، خلال نعمة الله فتصلح ما فسد ربوات المرات.

د. معمودية خفية، يشعر المؤمن التائب أن الأفعى عضته فيسرع بالتوبة إلى الطبيب القدير.

يقول ماريعقوب السروجى: [استحمى أيتها النفس الدنسة المتسخة بالشرور بهذه المياه النقية التى للبكاء واغتسلى… لا تُعطى لك معمودية ثانية، دموع الخاطئ تقوم موضعها كل يوم. الإرادة الصالحة الموجودة تقدر كل يوم أن تقتل الإثم بالتوبة. عينا الخاطئ هما كل يوم معمودية، وفى أى وقت يريد أن يفتحها ويستحم ويطهر نفسه.

12 – هل دموع التوبة هى تقدمة من لله؟

قبيل أحداث الصليب مباشرة عاتب السيد المسيح تلاميذه، قائلاً: “إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمى. اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً” (يو16: 24)، ولم يحدد لهم ماذا يطلبون. فمن بين ما يليق بالمؤمن أن يطلب هى دموع التوبة. لا يبخل السيد المسيح على مؤمنيه بهذه العطية الثمينة.

ويرى مار يعقوب السروجى أن المؤمن يطلبها فينالها ليعود فيقدمها لمن وهبه إياها كأثمن تقدمة يعتز ربنا بها.

[لا يصعب على سيد الحب أن يعطى طالبيه، أعطه سبباً قليلاً، وخذ منه غنى عظيماً… أيها المذنب بالخطايا الدائمة والذنوب التى بلا حصر، كرس لله مياها قليلة، وهو يقبلها. هكذا يطلب من الأغنياء المذنبين: أحضروا الدموع، وتعالوا خذوا جميع وثائق العفو عنكم… بكاء قليل هنا، هو رجاء للذى يخطئ، ففى الجحيم لا يجيبك أحد ولو طلبت بولولة… [سأل الغنى نقطة ماء صغيرة (لو16: 24)… لم يأخذ الطلبة لأنه لم يستحقها، مع أنه لو سأل هنا بحراً لأخذه بالسؤال، هناك تضرع من أجل نقطة ولم يعطوه]. قدمت المرأة الزانية دموعها لخالق الأنهار والبحار فقبل عطيتها كتقدمة ثمينة يعتز بها، مقدماً المغفرة والتطهير، وخلد الرب ذكرى هذا الدموع كسرّ إكليلها الأبدى. أما الغنى الغبى الذى لم يقدم شيئاً، فطلب قطرة ماء يبل بها لسانه ولم تُعط له!

يقول مار يعقوب السروجى: [من هو ترى المرذول: الغنى أم الزانية؟ فلأنها طرحت الدموع، تفاضل هنا ذكرها. أعطت المياه من حدقتيها بمحبة لسيد جميع الأنهار، وأخذت التطهير به. ترى لو بكى ذلك الغنى كمثل الزانية هنا، أما كان يأخذ بفيض حين سأل؟ لو نصب عينيه هنا بالحب إلى لعازر، لتنعم بالخيرات التى فى الملكوت].

13 – لماذا تخاف من مُحب الخطاة؟

يختم القديس ميمره عن التوبة بدعوة الخطاة للاكتفاء بمُحب الخطاة، فإنه بقدر عدم قبوله للخطية يترفق بالخطاة ليحملهم على كتفيه، فلا يجسر الشر أن يقترب إليهم!

يقول مار يعقوب السروجى: [أنت أيها الخاطى طريقك سهلة إن تتب، وعندما تبلغ إليه لا يلتقيك بقسوة. للبار خوف، أما أنت فلا تخف عندما تتقدم إليه… إنه ترك الموجودين، وحملك أنت على كتفيه. مبارك هو الذى أتى، وبه دخل الخطاة، وبه تبرروا. له المجد من جميع خلائقه، إلى الأبد آمين].

14 – هوذا الأيام تُسرع لتطردنا من العالم، فلماذا نؤجل التوبة؟

حياتنا فى هذا العالم هى هبة من الله، حيث تُحسب رحلة فى رفقة الله، نُمارس اليوم التوبة حتى نَعبر إلى المجد الأبدى. لا تؤجل توبة اليوم إلى الغد.

يقول مار يعقوب السروجى: [إذا ما دخلنا النهار يطرحنا الليل، يتركنا الليل ويعطينا النهار، ويخطفنا المساء من الصباح، ويرجع بنا الصباح إلى الليل. طريق مسرعة كى تلقينا للسفر، ولم تشأ إرادتنا أن ننتفع من ذلك، ولا تتفرس بإتقان لتسير قدام الطريق].

ويقول القديس باسيليوس الكبير: [الحياة الحاضرة هى زمن التوبة وغفران الخطايا، وفى الحياة العتيدة يأتى زمن الدينونة العادلة ([550])].

بعد الرحيل من هذه الحياة، لا توجد فرصة للأعمال الصالحة، حيث أن الله فى طول أناته يمدنا بالحياة الحاضرة لممارسة الأشياء التى ترضيه ([551]).

15 – كيف تعيننا الضيقات على ممارسة حياة التوبة؟

بينما كان رئيس الأساقفة باسيليوس يُعانى من أمراض متوالية، كان يشعر بحاجته المستمرة لحياة التوبة. ففى عام 373م كتب إلى يوسابيوس أسقف ساموساطا: [إنها جلدات من الرب أن يزداد ألمى حسب استحقاقى. لهذا فإنى أتقبل مرضاً فوق مرض، حتى إن نظر طفل إلى قوقعة (جسمى)، يشعر حتماً بنهايتى، ما لم تتدخل رحمة الله، فتهبنى بطول أناته زمناً للتوبة. والآن كما كان يحدث كثيراً قبلاً، يخلصنى من شرور تفوق الرعاية البشرية. هذا يحدث حسب مسرته لصالحى ([552])].

16 – هل من ضرورة للاعتراف أمام الله فى مخادعنا، وأيضاً فى حضور أب الاعتراف؟

غاية اعترافنا بخطايانا الالتقاء مع الله كطبيب للنفوس. من لا يشعر بضعفاته وخطاياه لا يشعر باحتياجه للطبيب السماوى، وبالتالى لا يختبر حنو الله. كثيراً ما يظن الإنسان أنه يُحسب إنساناً تقياً، إذ لا يرتكب خطايا خطيرة مؤذية للآخرين. أما المؤمن الحقيقى فلا يُميز بين خطايا كبيرة وأخرى تافهة، لأن ما يشغله أن يكون أيقونة المسيح، سفيراً للقدوس، ووكيلاً عن السماء التى بلا عيب.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [من الضرورة أن نعترف عن خطايانا للذين أعطى لهم تدبير أسرار الله. الذين أظهروا ندامة فى القديم قدموها أمام القديسين. جاء فى الإنجيل أنهم اعترفوا بخطاياهم ليوحنا المعمدان (مت3: 6)، وفى سفر الأعمال اعترفوا للرسل الذين اعتمدوا بواسطتهم أيضاً (أع19: 18) ([553])].

كما يقول: [حين تنشغل بخطية ما، كن مُتهماً لنفسك، ولا تنتظر الآخرين أن يقدموا الاتهام. بهذا تصير أشبه بإنسان بار يتهم نفسه فى أول حديث له فى المحكمة، أو تكون كأيوب الذى لم يعقه جمهور الشعب فى المدينة عن الإعلان عن جريمته أمام الكل (أى42: 1 – 6) ([554]).

17 – لماذا يستخدم الله المحب للبشر التأديب؟

يكشف الله عن حبه ورعايته لنا، ليس فقط حين يغفر، وإنما أيضاً حين يؤدّب. فبتأديبه الأبوى ينقلنا من الطفولة المُدللة إلى النضوج. وبدون التأديب قد لا نشعر بخطورة الخطية، ولا نجاهد لأجل التمتع بالحياة المقدسة، فنفقد الغرض للتمتع بالنصرة ونوال الإكليل السماوى.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [يلزمنا أن نتعلم أنه بسبب بُعدنا عن الرب، وعدم مبالاتنا بطرقه، سبب الله لنا تلك الجراحات. إنه لا يطلب هلاكنا بل بالحرى يسعى أن يردنا إلى الطريق السليم، وذلك كما يهتم الوالدان الصالحان بأطفالهما بحزم، ينتهرانهم عندما يمارسون خطأ ما، لا لأنهما يطلبان أذيتهم، بل بالحرى يرغبان فى قيادتهم من الإهمال الطفولى وخطايا الصبا لبلوغ اليقظة الناضجة ([555])].

كما يقول: إلى متى لا نطيع المسيح، الذى يدعونا إلى ملكوته السماوى؟… هذا هو وقت التوبة، وذاك هو وقت المكافأة. هذا وقت التعب والمشقة، وذاك وقت نوال الأجرة. هذا وقت الصبر، وذاك وقت الراحة ([556])].

18 – كيف نقاوم الخطية بالعمل الإيجابى للتوبة؟

يميل القديس باسيليوس إلى الاهتمام بالأكثر بالعمل الإيجابى، وإن كان لا يتجاهل الحرص والاهتمام بالجوانب السلبية. يبرز العمل الإيجابى فى مقاومة الخطايا بالآتى:

أ. عوض مقاومة الخطايا بُمجرد محاولة الامتناع عنها، يبدأ المؤمن بطلب نعمة الله لاستبدال الطاقات التى تحولت إلى آلات للشر كى تصير ألات بناءة لحساب ملكوت الله. فمن يستخدم فكره او لسانه فى التجديف، يستخدمهما فى الشكر والتسبيح لله. هكذا يجد فى معالجته لأخطائه وضعفاته فرصة ليقتنى نعمة الله للعمل لحساب ملكوت الله. والذى اعتاد على السرقة يُقدم خيرات للمحتاجين والمتألمين، حاسباً أن كل إمكانياته هبة من الله قدمها له لحساب إخوته فى البشرية.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الذى أخطأ فى جسده يلتزم باستعمال الجسد فى (الفضيلة المضادة). إنك جدفت، فعليك أن تسبح الله بفمك. إنك سرقت، فعليك أن تعوض بعمل الخير. إنك شربت المُسكر، فعليك أن تصوم. إنك تكبرت، فعليك أن تتواضع. إنك حسدت الغير، فعليك أن تصلى من أجل من حسدته. إنك ربما قتلت، فعليك أن تتحمل ألم الاستشهاد، وأن تُرهق جسدك بالإماتة ([557])].

ب. لا يُفسد المؤمن وقته فى انشغاله بماضيه أو هيامه فى تصورات خيالية عن المستقبل، إنما يحيا حاضره فى خبرة عربون الأبدية.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [بالحق كل الحياة البشرية تقوم هكذا لا تقتنع بما قد عبر، ولا تقتات على الماضى كما على المستقبل. إذ كيف يكون الإنسان فى حال أفضل لو أن معدته كانت ممتلئة بالأمس بينما لا يجد اليوم ما يُشبع جوعه كما يليق؟ بنفس الطريقة، فإن النفس لا تربح شيئاً بفضيلة الأمس ما لم يتبعها سلوك لائق اليوم ([558])].

ج. اهتمامه بالعمل الجماعى والعبادة الجماعية البناءة.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [إذ يبدأ اليوم فى بزوغ الفجر ليجتمع الكل كما بفم واحد وقلب واحد، ويرفعون للرب مزمور الاعتراف (50)، فيحسب كل واحد منكم أن كلمات لتوبته هو ([559])].

19 – هل من خطوات عملية تسندنا فى التمتع بحياة التوبة؟

أولاً: الالتجاء إلى الأطفال كى يصرخوا معنا إلى الله. ما أروع ان يشترك أطفالنا حين نقدم توبة جماعية كما فعل أهل نينوى.

يقول القديس باسيليوس الكبير: [أه، يا لانسجام التوبة! يا له من حزن حكيم وقوى!… أخذوا الأطفال الرضع من أذرع أمهاتهم. وَضع الأمهات فى موضع، والأطفال فى موضع آخر، يدعون بعضهم البعض، ويجيبون بأصوات حزينة. يطلب الرضع الجائعون مصدر لبنهم، بينما تُنخس الأمهات بغريزة الأمومة، يصرخن نحو أطفالهن بأصوات مغمومة. يصرخ الرُضع الجائعون، فقد أمسكت بهم صرخات استغاثة مرة، أما قلوب الأمهات، فكانت مُعذبة بآلام العاطفة الطبيعية. لهذا فإن الكلمة المُوحى بها حفظت توبتهم نموذجاً جامعياً عن كيفية الحياة. حزن الشيوخ بسبب التأديب الذى هددوا به كانوا فى مرارة، وهم فى شيبتهم. وينوح الصبيان والصغار بأكثر حرقة. يتنهد الفقراء، بينما نسى الأغنياء راحتهم، وارتدوا المسوح التى تليق بالحزانى. ترك ملك نينوى مجده وسموه مُتجهاً نحو الخزى. ترك تاجه، ووضع تراباً على رأسه، ونزع الثوب الملوكى والتحف بالمسوح. ترك مجده العالى المجيد، وزحف على الأرض فى مسكنه. ترك الترف الخاص به كملك، لكى يحزن مع الشعب، صار واحداً منهم عندما رأى غضب سيد الكل (يونان3: 6 – 10) ([560])].

ثانيا: الاقتداء بالطوباوى داود، الذى سكب الدموع على سريره (مز6: 6).

ثالثاً: مساندة التوبة بالصوم يقول القديس باسيليوس الكبير: [لو مارست حواء الصوم وتجنبت الأكل من ثمر هذه الشجرة، ما كنا فى حاجة إلى هذا الصوم لأنه “لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى” (مت9: 12). فخطيتنا هى التى جلبت علينا المرض. فدعونا إذا نشفى بالتوبة، غير أن التوبة بدون ممارسة الصوم هى باطلة “ملعونة الأرض بسببك. وشوكا وحسكاً تنبت لك، وتأكل عشب الحقل” (تك3: 17 – 18) ([561])].

20 – كيف يكون التعامل مع الذين يتجنبون الخطايا الكبرى، ويتهاونون فى الخطايا الأقل؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [أول كل شئ يلزم أن يُفهم أن هذا التمييز لا أساس له فى العهد الجديد. إعلان واحد قُدم عن كل الخطايا، عندما يقول الرب: “من يعمل الخطية، هو عبد للخطية” (يو8: 34)… إن كان يمكننا بأمان أن نقول عن خطية صغيرة وخطية عظيمة، فتوجد شهادة لا تُقبل، الجدال مع أحد أن الخطية العظيمة هى التى تقتنص الشخص تحت سلطانها، بينما الصغيرة فهى التى لا تبلغ اليد العليا، وذلك مثل المصارعين فإن الأقوى هو المُنتصر وأما الضعيف فهو المهزوم بواسطة الأعظم منه أياً كان ([562])].

21 – كيف يمكن للشخص أن يبلغ إلى كراهية الخطية (مز119: 163)؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [إن كان أحد مقتنعاً تماماً بخطورة الشرور الكثيرة التى تُسببها الخطايا، فتلقائياً وبدون أن يحثه أحد وبنزعه داخلية يختبر الكراهية لها ([563])].

22 – كيف تقتنع النفس تماماً أن الله يغفر لها خطاياها؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [عندما تلاحظ فى داخلها نزعة ذاك القائل: “أبغضت الإثم ومقته” (مز119: 163). عندما أرسل الله ابنه الوحيد لغفران خطايانا يغفرها لنا مادمنا نؤمن بدوره. يترنم القديس داود بالرحمة والحكم (مز101: 1)، ويشهد بأن الله رحوم وعادل (مز115: 5). فمن الضرورى يلزم أن تدخل فينا ما يقوله الأنبياء والرسل فى العبارات الخاصة بالتوبة، أن أحكام بر الله (مز119: 62) ظاهرة، ورحمته كاملة فى غفران الخطايا ([564])].

23 – كيف تتأكد النفس تماماً أنها تتطهر من الخطية؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [إن عرف الإنسان دافع القائل: “أبغضت الإثم ومقته” (مز119: 163)، أو يعرف أنه يتمم وصية الرسول القائل: “أميتوا أعضاءكم التى على الأرض: الزنا، النجاسة، الهوى، الشهوة الردية، الطمع، الذى هو عبادة الأوثان، الأمور التى من أجلها يأتى غضب الله” ويضيف إلى ذلك كامتداد للحكم ضد كل خطية “على أبناء المعصية” (كو3: 5 – 6)، حتى يستطيع القول: “قلب معوج يبعد عنى. الشرير لا أعرفه” (مز101: 4). مرة أخرى، يتحقق الإنسان أن له مثل هذا الوازع، إن كان يحمل عاطفة برعدة مثل ما يفعله القديسون. لهذا يقول داود: “رأيت الغادرين ومقت، لأنهم لم يحفظوا كلمتك” (مز119: 158). ويقول الرسول: “من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟” (2كو11: 29)، إن كان بحسب حق الكلمة تسمو النفس فوق الجسد (مت10: 28)، ونحن نهتم بالجسد، فنشمئز من كل قذارة ونكرهها ونتعاطف ونحزن قلبياً عند رؤيتنا لجراحات أو لأذية تحل بالجسد، فكم بالأكثر بالنسبة لما يحل بالخطاة. فإن المُحب للمسيح والمُحب لإخوته يتألم من أجلهم حين يرى نفوسهم مجروحة كما بوحوش مُفترسة، وفى وحشية يتعرضون لهجمات شر مُميت. هكذا يقول داود: “قد أنتنت، فاحت حُبر ضربى من جهة حماقتى، لويت انحنيت إلى الغاية. اليوم كله ذهبت حزيناً. لأن خاصرتى قد امتلأتا احتراقاً، وليست فى جسدى صحة” (مز38: 5 – 7). يقول الرسول: “أما شوكة الموت فهى الخطية” (1كو15: 56). لذلك عندما يعرف إنسان أن نفسه صارت فى مثل هذا الوضع، من أجل خطاياه وخطايا الآخرين، يثق أنه يتنقى من الخطية تماماً ([565])].

24 – ما هو موقف من يسقط فى خطايا بعد عماده؟

قدم هذا السؤال للقديس باسيليوس بسبب انتشار رأى أن من يمارس خطايا خطيرة بعد العماد لا رجاء له. وقد أكد القديس أننا لا نفقد الرجاء مُطلقاً مادامت توبتنا جادة ولها ثمرها اللائق بها ألا وهو الرجوع إلى الله الذى ينتظر الكل. يقول القديس أغسطينوس أنه مادام يوجد نفس واحد فى الإنسان، فهذا معناه أن الله يترجى توبته، وإلا فلماذا لم يأخذ نفسه؟!

هل يسقط فى اليأس من خلاصه من أصطيد فى كثرة من الشرور، فأخطأ بعد عماده؟ أو ما هو المقياس الذى فيه لا يزال يستمر الإنسان فى رجائه فى محبة الله للبشر خلال التوبة؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [إذ نقارن بين حنو الله الفائق أو ثقل عظمة رحمة الله وبين عدد الخطايا وثقلها فلا نجد موضعاً لليأس. أما إذا كان من المعقول أن الأخيرة تخضع للقياس والعدد، بينما استحالة قياس رحمة الله أو إحصاء حنوه، فلن يكون لليأس موضع قط. وإنما بمعرفة الرحمة وإدانة الخطايا، توجد مغفرة فى دم المسيح كما هو مكتوب فى (مت26: 28). غير أنه توجد أماكن وطرق كثيرة خلالها نتعلم أنه يلزمنا ألا نيأس. تأملوا على وجه الخصوص مثل ربنا يسوع المسيح بخصوص الابن الذى أخذ ثروة أبيه وبددها فى الخطايا. فمن كلمات الرب نفسه نتعلم ما هو نوع الوليمة وعظمتها التى تليق بالتوبة (لو15: 22 – 24). أضف إلى ذلك يقول الله بإشعياء: “إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج، وإن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف” (إش1: 18). لكن يجب أن نعرف أن هذا يتحقق فقط متى كانت توبتنا تستحق ذلك، إن صدرت عن كراهيتنا للخطية، كما هو مكتوب فى العهدين القديم والجديد، وكانت تحمل ثماراً لائقة بها ([566])].

25 – ما هى الثمار التى تُختبر للتوبة الحقيقية؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [أسلوب أولئك الذين يتوبون، والنزعات التى لهؤلاء الذين ينسحبون من الخطية وصراعهم من أجل الثمر اللائق بالتوبة (لو3: 8) الذى قيل عنه فى المواضع الخاصة بها ([567]) (وهى الرجوع إلى الله ([568])].

26 – لماذا يوجد أحياناً نوع من كآبة القلب والندامة فى مخافة الرب تحلّ على النفس دون مجهود كبير، ويتم تلقائياً، وفى مرات أخرى يوجد فى النفس نوع من البلادة، حتى إن غصب الإنسان نفسه، لا يستطيع أن يشعر بأية ندامة للقلب؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [مثل هذه الندامة هى عطية من الله حيث تثير الرغبة، فتتذوق النفس عذوبة مثل هذه الندامة التى تُثار فتتبناها (تتبنى النعمة الموهوبة لها). او لُتبرهن أن النفس قادرة خلال الغيرة الشديدة أن تكون فى ندامة دائمة. بهذا فإن من يفقد هذه النعمة خلال تراخيه ليس له عذر. لكننا أحياناً نغصب أنفسنا (على الندامة)، ومع هذا نعجز عن اقتنائها، كدليل على إهمالنا السابق فى دفعات أخرى. فإنه يستحيل أن ينجح الإنسان فى عمل بمجدر أن يأتى إليه دون أن يعطيه عناية شديدة مع تدريب باجتهاد مع آخرين، ويظهر أن نفسه تشمئز من الرذائل والأهواء التى تعوق ممارسة ما هو لائق. وبحسب التعليم الذى نطق به الرسول القائل: “أما أنا فجسدى مبيع تحت الخطية، لأنى لست أعرف ما أفعله. إذ لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل” (رو7: 14 – 15). مرة أخرى يقول: “لست بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة فىّ” (رو7: 17). يسمح الله أن يحدث هذا عينه معنا بهدف صالح، حتى أننا بواسطة الأمور التى تعانى منها النفس لا إرادياً، تدرك الأمور التى تسطو عليها، وإذ تتعرف على الطرق التى بها صارت مُستعبدة للخطية بغير إرادتها (رو6: 20) تصحوا من جديد، وتتحفظ من شباك إبليس (1تى3: 7؛ 6: 9)، كما تكتشف أن رحمة الله تحث على مساندة أولئك الذين بحق يتوبون ([569])].

27 – ما هو موقفنا ممن يخفى خطاياه؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [ماذا نفعل مع من يَّدعى أن ضميره لا يدينه على خطايا يرتكبها. بهذا يكون هذا السؤال خاص بمن يُحدث إنساناً عن التوبة، وقد أخفى المًستمع خطاياه، أو يحاول إخفاءها. يليق بروح التوصية لا العنف أن نذكره بكلمات الرب: “ليس مكتوم لن يستعلن” (مت10: 26). “من فضلة القلب يتكلم الفم” (مت12: 34)].

28 – ماذا إن قال (الشخص): “إن ضميرى لا يديننى”؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [يحدث نفس الأمر أيضاً بالنسبة للأمراض الجسدية. إذ توجد أمراض كثيرة لا يُدركها من يُصاب بها. ومع ذلك يثقون فى تشخيص الطبيب أكثر من عدم شعورهم الشخصى بالمرض. هكذا أيضاً بالنسبة لأمراض النفس، أى الخطايا. إن كان أحد غير مُدرك لخطيته، فلا يدين نفسه، إلا أنه يجب أن يثق فى هؤلاء الذين يستطيعون أن يروا حالته بأكثر وضوح. هذا يُوضحه الرسل القديسون الذين مع اقتناعهم بنزعتهم الصادقة نحو الرب، غير أنهم إذ سمعوا: “إن واحداً منكم يسلمنى” (مت26: 21). فضلوا أن يثقوا فى كلمة الرب وأذعنوا لقوله، قائلين: “هل أنا هو يارب؟” (مت26: 22). أما القديس بطرس فيُعلمنا بأكثر وضوح، فمع أنه فى غيرة تواضعه رفض خدمة سيده وإلهه ومُعلمه (أن يغسل قدميه)، إذ سمع كلمات الرب: “إن كنت لا أغسلك، فليس لك معى نصيب” (يو13: 8)، اقتنع بالحق كما ورد فى الكلمات، وقال: “ليس رجلىّ فقط، بل أيضاً يدىّ ورأسى” (يو13: 9) ([570])].

29 – ماذا يلزم أن يفعل من يتوب عن خطية، ويعود فى نفس الخطية؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [من تاب مرة وارتكب نفس الخطية مرة أخرى، فليقتنع أولاً أمام نفسه أنه لم ينزع السبب الرئيسى للخطية، كما من جذر فاسد، لهذا بالضرورة ينبت نفس الشرور مرة أخرى. فيكون كمن يرغب فى قطع أغصان شجرة، تاركاً الجذر كما هو، وإذ يبقى الجذر فى الأرض مخزوناً ينبت ذات (الخطية) بدرجة أقل. لذلك حيث توجد بعض الخطايا أصلها ليس فيها، إنما تصدر من خطايا أخرى، يلزم لمن يريد ان يٌثنى نفسه تماماً من الخطية أن يقطع الأسباب الأولى ذاتها لهذه الخطايا. كمثال لذلك، فإن النزاع والحسد (رو13: 13) لاينبعان من نفسيهما وإنما من جذر العجرفة ومحبة المجد (الباطل)، فمن يطلب مجداً من البشر يتبارى مع من له شهرة عظيمة تفوق شهرته، ويحسده عليها. لهذا من يسقط فى يدىّ رذيلة الحسد أو النزاع، ويعود فيسقط فيها مرة أخرى، فليُدرك أن السبب البدائى هو محبة المجد التى تكلمنا عنها قبلاً. بهذا ليهتم بهذا المرض، إذ يحتاج إلى الشفاء منه، وذلك بما يناقضه، أى بالتواضع، حيث يقوم بخدمات بسيطة ممارساً التواضع. بهذا إذ يتأسس فى نزعة التواضع لا يعود يسقط فى نتاج العجرفة ومحبة المجد ([571])].

30 – ما هو السلوك اللائق بالمؤمن التائب؟

قدم لنا الرسول بولس خمسة مبادئ للسلوك اللائق بأولاد الله التائبين:

أولاً – السلوك فى المسيح: “فكما قبلتم المسيح يسوع الرب اسلكوا فيه” (كو2: 6). من يقبل السيد المسيح يسلك فيه بكونه الطريق الإلهى، فيستطيع أن يجتاز العالم بقلبه وفكره، ويعبر كما إلى حضن الآب، لتستقر أعماقه هناك على رجاء قيامة الجسد والوجود الدائم فى المجد الأبدى. يقول القديس يوحنا الذهبى الفم: [ “اسلكوا فيه”، لأنه الطريق الذى يقودنا إلى الآب، وليس فى الملائكة، فإنهم لا يقتدرون أن يبلغوا بنا إليه ([572])].

ثانياً – السلوك بالورح القدس: “أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد” (غل5: 16).

يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير: [(الروح القدس) يحث (المؤمن) على الدوام أن يجاهد الجسد والروح، لكى ما يتقدسا على ذات المستوى، ويستحقا أن يرثا الحياة الأبدية بالتساوى].

ويقول: [بهذه الطريقة يعتاد الجسد كله على كل صلاح، خاضعاً لقوة الروح القدس، فيتغير تدريجياً، حتى أنه فى النهاية يشترك، إلى حد ما، فى سمات الجسد الروحى الذى نتقبله فى قيامة الأبرار ([573])].

ثالثا – السلوك فى المحبة: “اسلكوا فى المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً، وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة. (أف5: 2) يشارك المسيحى السيد المسيح كهنوته (الكهنوت العام) بتقديم حياته ذبيحة حب عن الآخرين كسيده. هذه هى سمة” الإنسان الجديد “الذى لنا عوض” الإنسان العتيق “الفاسد.

يقول القديس أغسطينوس: [من يقطن فى الحب يقطن فى الله، لأن الله محبة (1يو4: 16) ([574])]. [لقد دُعيت ابناً، فإن رفضت الامتثال به لماذا تطلب ميراثه؟ ([575])].

رابعاً – السلوك كأولاد نور: “لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور فى الرب اسلكوا كأولاد نور” (أف5: 8) إذ بالحب العملى نتمثل بالله النور نحمل شركة طبيعته، فنُحسب “أولاد نور”، لا مكان لظلمة الموت فينا، بل ننعم بنور القيامة، خلال هذا المفهوم يوصينا الرسول أن نسلك عملياً كأولاد للنور متمتعين بقوة القيامة وبهجتها فى داخلنا، معلنة فى حياتنا اليومية وسلوكنا الخفى والظاهر، تاركين أعمال الظلمة غير اللائقة بنا.

يقول القديس أغسطينوس: [إذ كنتم فى الظلمة لم تكونوا فى الرب، لكن إذ استنرتم فإنكم تضيئون بالرب وليس من ذواتكم ([576])].

خامسا – السلوك بحكمة مع مراعاة افتداء الوقت: “اسلكوا بحكمة من جهة الذين هم من خارج مفتدين الوقت” (كو4: 5) يطالبنا الرسول بولس نحن أيضاً أن نسلك مع الغير بحكمة وبتدقيق لكى نقتنيهم لحساب ملكوت الله. فبالسلوك اللائق يمكننا ان نشهد لمسيحنا، ونسحب القلوب إلى الصليب ليتمتع كثيرون بقوة الله للخلاص، وينفتح أمامهم باب الرجاء. كل لحظة من لحظات عمرنا لها تقديرها، يمكن أن تكون سر بركة أو مرارة وهلاك، لهذا يقول: “مفتدين الوقت”.

31 – هل يتعارض سكب دموع التوبة مع الشخصية المتسمة بالبشاشة؟

مع ما اتسمت به شخصية القديس باسيليوس المتألم من ابتسامة تحمل انعكاساً للسلام الداخلى والفرح، غير انه يدعو دموع التوبة دموع الحب. فالدموع عند القديس باسيليوس هى ذبيحة حب لله خلال التوبة والرغبة الكاملة أن يصير المؤمن أيقونة محبوبة للرب. ومن جانب آخر تُقدم ذبيحة حب أخوي إذ لا يكف قلب المؤمن عن التنهد ودموعه عن البكاء من أجل إخوته فى البشرية، طالباً خلاص كل أحد إن أمكن. إنه يشارك مُخلصه الذى يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى الحق يقبلون (1تى2: 4).

أجاب القديس باسيليوس الكبير على السؤال: هل يجوز للإنسان أن يضحك؟ بأنه لا يقدر أن يفهم كيف يمكن لمسيحى صالح أن يضحك [خاصة عندما يرى كثيرين يُهينون الله بكسرهم الناموس، واقترابهم للموت بالخطية، إذ يليق به أن يحزن ويبكى على هؤلاء ([577])].

كما يقول فى عظته عن الشهيدة يوليطة: [عندما ترى أخاك ينوح فى توبة عن خطاياه ابك معه. هكذا خلال أخطاء الغير تربح نفسك من الخطأ. من يسكب الدموع الساخنة على أخطاء قريبة يبرأ هو بحزنه على أخيه. هذا هو حال القائل: “الكآبة امتلكتنى من أجل الخطاة الذين حادوا عن ناموسك” (مز118: 53) ([578])].

أيضاً يقول: [ “من أجلى حولت نوحى إلى فرح لى، مزقت مسحى، ومنطقتنى بالفرح” (مز30: 12). فرح الله لا يستقر فى كل النفوس، بل فى تلك النفوس التى بكت خطاياها بدموع مستمرة، كمن مات لها عزيز لديها. مثل تلك النفس يُحول الله نوحها إلى فرح، والحزن نافع هنا… يبكى الأنبياء علينا، ويدعوننا لنبكى حتى نكتشف أخطاءنا فى ضوء كلماتهم النبوية، عندئذ نبكى على هلاكنا، ونقمع جسدنا بالجهاد والتأديب. الإنسان الذى يسلك مثل هذا الطريق، تُمزق مسوحه، ويلبس لباس العرس المزينة حتى لا يخرج خارج العُرس (مت22: 11 – 13) ([579])].

32 – ما الفرق بين “الحزن بحسب مشيئة الله” و “وحزن العالم”؟ (2كو7: 10)؟

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [الحزن بحسب مشيئة الله هو أن يحزن الإنسان على إهماله أو احتقاره وصية الله، كما يقول المزمور: “الحمية أخذتنى بسبب الأشرار تاركى شريعتك (مز119: 45). أما الحزن بمشيئة العالم فيحدث إذا كان ما يُسببه شئ بشرى أو خاص بالعالم ([580]).

33 – ما هو الحزن الذى يجب أن نتحمله لكى نستحق التطويب (مت5: 4)؟!

يجيب القديس باسيليوس الكبير: [لقد أجبنا على هذا السؤال من قبل عندما تحدَّثنا عن “الحزن بحسب مشيئة الله” (2كو7: 11)، وهو عندما نحزن على خطايانا سواء كانت بسبب اهانة الله، وذلك لأن التعدى على الناموس يهين الله (رو2: 23)، أو حين نبكى على هؤلاء الغارقين فى خطر الخطية، لأن “النفس التى تخطئ هى تموت” (حز18: 4)، فنقتدى بالقائل: “أنوح على كثيرين من الذين أخطأوا من قبل ولم يتوبوا” (2كو12: 21) ([581]).

34 – هل من ضرورة للتلمذة؟

المسيحية توجد حيثما تكون التلمذة، وتضعف وتخور وتصير جافة وثقيلة وخيالية حيثما تفقد “التلمذة”. لهذا عندما أمر السيد تلاميذه بالتبشير أوصاهم قائلاً: “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدسن وعلّموهم جميع ما أوصيتكم به” (مت28: 19 – 20). فالسيد فى وصيته هذه طالبهم بتلمذة جيل جديد يحيا كما يحيون هم، مؤكداً لهم أن التلمذة هى الطريق الأول للتعليم وحفظ الوصايا. بالتلمذة يشبع التلاميذ بروح الرب، وبالتلمذة انتقلت المسيحية جيلاً بعد جيل. لذلك كان المسيحيون يدعون “تلاميذ” حتى دُعوا مسيحيين أولاً فى أنطاكية (أع11: 26)، ولعل ذلك كان سخرية من الوثنيين بنسبتهم إلى المسيح المصلوب.

فنحن وإن كنا “مسيحيين”، فلندرك أيضاً إننا “تلاميذ”. لست بذلك أقول إننا “رسل أو رعاة” لكن يلزم لكل مسيحى أن يتصف “بالتلمذة” لربنا يسوع على يدىّ راعيه. ويقوم سراً العماد والتوبة بهذا الدور. فالإشبين وأب الاعتراف مسئولان أمام الرب عن المؤمن.

الاعتراف بهذا المفهوم هو تلمذة جيل جديد يحيا بروح آبائه القديسين، لربنا يسوع، أو هو شركة بين المعترف وأب الاعتراف فى الرب، ليس لمدة ساعة أو أكثر فى الأسبوع. إنما شركة دائمة، الأب يحتضن أولاده، ويفرح بلقائه معهم على الدوام بقدر الإمكان، ليس فقط جسدياً بل وروحياً: فى صلواته الخاصة وعلى المذبح. والابن يحب أباه ويصلى لأجله ويقتدى به، ويستشيره فى كل صغيرة وكبيرة، ومتعلماً منه خبرات حربه الروحية ضد الشر، مقتدياً به فى إيمانه وجهاده وسهره.

35 – ما حاجتى إلى التلمذة على يد أب اعتراف وأنا عرفت الينبوع الذى يستقى منه أب الاعتراف وإرشاداته وتعاليمه؟! لقد حفظت الكتاب المقدس بل ودرسته أفضل من كثيرين من الآباء الكهنة!

مثل هذا الاعتراض يكشف لنا فى هذا العصر العقلانى البحت ما اتسم به كثيرون من المسيحين بالجفاف الروحى، فحفظ كثيرون من الشباب عن ظهر قلب الكثير من نصوص الكتاب المقدس، مكتفين بهذا الدراسات العقلانية مع أن الكتاب المقدس لا يحفظ عقلانياً، إنما نحيا به ونعيش فيه، نتذوقه ونختبره. إننا فى جيل يتسابق الكل فيه أن يكونوا معلّمين لا تلاميذ، مبكتين الآخرين على خطاياهم، بينما يخفون أخطاءهم الشخصية عن الأعين البشرية، متجاهلين كيف أن الكتاب المقدس ذاته، وإن كان قد علمنا بأن الإرشاد يكون بالروح القدس، لكنه يؤكد ضرورة التلمذة على يدىّ أب اعتراف لنحيا معه فى الرب.

ويشهد الكتاب عن شاول الطرسوسى أنه لما التقى بربنا يسوع رأساً سأله: ماذا تريد أن أفعل؟ لم يجبه الرب بشئ سوى توجيهه إلى أب روحى هو حنانيا (أع9: 12). وصموئيل العظيم بين الأنبياء، الأكثر حساسية لسماع صوت الله من عالى الكاهن، تعلّم وتدرب على يدى عالى (1صم3: 10). وكرنيليوس الذى أعلن الرب له بواسطة ملاك قبول صدقاته وصلواته، لم يقبل الملاك أن يرشده، بل طلب منه ان يستدعى بطرس الرسول ليرشده (أع10: 5).

يقول الأنبا موسى: [الله لم يثقف صموئيل النبى، لا بالحديث المباشر، ولا بالمحاورة الإلهية، بل سمح له بالذهاب إلى عالى الكاهن. لقد فضل الله أن يتدرب صموئيل – الذى استحق سماع صوت الله – على يدى عالى الكاهن حتى يختبر التواضع. وعندما نادى يسوع بولس ودعاه، فبالرغم من أنه فتح له طريق الكمال، لكنه استحق أن يوجهه إلى حنانيا، طالباً منه أن يتعلم عنه طريق الحق، قائلاً له: “قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغى أن تفعل” (أع9: 6). لقد أرسله إلى رجل شيخ، معتبراً أن ذلك أفضل من أن يتسلم تعاليمه منه مباشرة، لئلا يصير بولس مثلاً سيئاً فى الاعتماد على ذاته فى التعليم… وقد علمنا الرسول بولس الهروب من الاكتفاء الذاتى فى التعليم قدر المستطاع، لا بالكلام بل بالعمل، فيقول أنه ذهب بمفرده إلى أورشليم لهذا الهدف، أى ذهب إلى مجمع غير رسمى يعرض فيه على زملائه الرسل والسابقين عن الإنجيل الذى يبشر به بين الأمم، ونعمة الروح القدس المصاحبة له بعلامات قوية وعجائب. إنه يقول: “وعرضت عليهم الإنجيل الذى أكرز به بين الأمم، ولكن بالانفراد على المعتبرين، لئلا أسعى أو أكون سعيت باطلاً” (غل2: 2). فمن هو هذا المكتفى بذاته. الأعمى الذى يتجاسر فيثق فى أحكامه الخاصة وتمييزه الشخصى، بينما الإناء المختار يعترف باحتياجه للاجتماع والتشاور مع الرسل؟! رأينا إذا أن الله لم يكشف لأحد طريق الكمال، طالما كانت له فرص التعليم من الآباء واختباراتهم، غير مكترث (الإنسان) بذلك القول الذى ينبغى علينا أن نهتم به جداً، “اسأل أباك فيخبرك، وشيوخك فيقولوا لك” (تث32: 7) ([582])].

36 – هل من مثال لصلاة من أجل التوبة؟

يقدم لنا القديس باسيليوس الكبير صلاته من أجل التوبة، تكشف لنا عن الآتى:

1. يُركز عينيه على فيض حُب الله وحنوه، وليس على خطاياه وحدها.

2. يطلب من الله أن يهبه التوبة حتى لا ينحرف فى توبته.

3. يمزج دموع التوبة بالفرح والشكر لغافر الخطايا.

4. يُعلن عن اعتزازه بالله بكونه محبوب له حتى النهاية.

5. يطلب منه قوة ليتخلص من عدو الخير ووحل العالم.

6. لا يعد أنه يصنع الصلاح، بل يطلب من الله أن يهبه الصلاح.

† أيها السيد، إله الجميع، والأب الصالح بلا حدود! أيها الدائم الوجود والباقى (إلى الأبد).

أيها السابق للوجود قبل كل الدهور، أكثر مما بلا بداية.

أنت موجود دائماً بلا تغير، لم يكن لك قط بداية، ولن تتوقف.

غير المُدرك فى الجوهر، وبلا حدود فى العظمة، مُطلق فى الصلاح، ومُتدفق بالطبيعة.

لا يُعبر عن عمق قوتك وحكمتك. إنى أباركك، إذ تتطلع بحنو ورأفة على بؤسى،.

لأنك تخلصنى من وحل العالم الحقود الباطل، المصنوع من القرميد ([583]).

تخلصنى من شباك رئيس ظلمة هذاالدهر المتنوعة الكثيرة.

† أباركك يارب، لأنك تُقدم لى أنا الخاطئ مراحم عجيبة،.

وصرت المحبوب لى إلى النهاية فى كل شئ.

أنت هو المربى والمُدبر، الحارس والمُعين، الملجأ والمخلص، الحصن لكل من النفس والجسد!

† أباركك يارب إذ تُظهر لى أنا غير المستحق حُبك الوفير غير المحدود.

فمع أننى أسلّم نفسى للشيطان بكسلى يومياً، إلا أنك تحرسنى وتُخلصنى، وتنتزعنى من فخاخى.

† أباركك يا رب إذ تمنحنى قوة التوبة عن خطاياى، وتُظهر لى ربوات الفرص لأرجع عن خبثى.

† أباركك يارب، فمع كونى بلا قوة، إلا انك تقوى ضعفى،.

ولا تسمح لى بالسقوط تماماً، إنما تبسط فى الحال يدك المُعينة من الأعالى، وتُردنى إليك.

† ماذا أرد لك يا سيد، يا كلى الصلاح،.

من أجل كل الصالحات التى تفعلها معى، ولا تزال مستمراً فى العمل.

من أجلى أنا الخاطئ؟

† أية تشكرات أقدمها لك؟ لهذا أصرخ إليك من الفجر حتى المساء مثل السنونة، ومثل العندليب أتغنى بفرح.

ولن أكف عن أن أباركك كل أيام حياتى، يا خالقى، المُحسن إلىّ، وحارسى.

† إنى لست أهلاً أن أتحدث معك يارب، فإننى خاطئ للغاية.

غير أننى أشكرك يارب، إذ أنت طويل الأناة على معاصى، ولم تُعاقبنى حتى هذه اللحظة.

† أشكرك يارب، فإنك لا تشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا (حز18: 23).

إننى مستحق أن أتعذب كثيراً، وأطرد من حضرتك. لكن حُبك الذى يحتملنى أطال أناتك علىّ.

† أشكرك يارب وإن كنت عاجزاً عن أن أشكرك كما يليق باحتمالك لى.

ارحمنى يارب، ولتجعل حياتى مستقيمة حسب إرادتك.

قدنى، إذ حنوك يعرف ما هو أفضل لى. ككثرة رأفاتك اجعلنى كاملاً فى كل عمل صالح يسرك، ولتُحررنى من جسدى البائس. فمن عملك الرحمة وخلاصنا يا الله،.

لك نُرسل المجد والشكر والسجود، مع ابنك الوحيد، وروحك الكلى القداسة والصلاح واهب الحياة، الآن والى الأبد وإلى دهر الدهور، آمين ([584]).

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ3 – الكنيسة ملكوت الله على الأرض – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

زر الذهاب إلى الأعلى