عطية الموت والحياة المُقامة فى المسيح

1. ما هو مفهوم الموت فى المسيحية؟

الإنسان الذى يركز عينيه على أعماقه الداخلية فيرى مسيحه فى داخله، يتطلع أيضاً إلى موت الجسد فيراه عطية إلهية. يراه قنطرة عبور إلى الخلود، وتحرراً حقيقياً من الحياة الزمنية بكل متاعبها وأمراضها الروحية والجسدية. يقول القديس باسيليوس الكبير: [إن موت الأبرار صار رقاداً، بل صار هو الحياة].

ويقول القديس أنطونيوس الكبير: [الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أما بالنسبة للبلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت. يجب علينا ألا نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذى هو عدم معرفة الله. هذ هو ما يرعب النفس بحق!] كما يقول: [يستحيل علينا أن نهرب من الموت بأية وسيلة. وإذ يعرف العقلاء بحق هذا، يمارسون الفضائل ويفكرون فى حب الله، ويواجهون الموت بلا تنهيدات أو خوف أو دموع، مفكرين فى أن الموت أمر محتم من جهة، ومن جهة أخرى أنه يحررنا من الأمراض التى نخضع لها فى هذه الحياة].

2. ما هى نظرة المؤمن للموت؟

إذ مات قيصريوس الابن البكر والطبيب الناجح الذى كان له حظوة لدى رجال الدولة فى القصر الإمبراطورى بالقسطنطينية ترقب أخوه الأصغر القديس غريغوريوس أسقف نزيانزا ماذا تفعل والدتهما فى هذا الحدث المؤلم. لاحظ أنها دخلت حجرتها وغابت ثم خرجت ترتدى ثياب العيد، وقد ملأت البشاشة وجهها. فقد ابتلع فرحها بانطلاق ابنها إلى السماء كل مشاعر الفراق.

المؤلمة! ولم يتعجب القديس من تصرفات والدته، فقد عرفها تماماً كشاهدة للحياة السمائية!

انطبع هذا الفكر السماوى على حياة ابنتها القديسة جورجونيا التى تطلّع إليها أخوها الأصغر منها القديس غريغوريوس النزينزى كنموذج حىّ للمسيحى الملتهب شوقاً نحو السماء، فسجل فى حديثه عنها الآتى:

[موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 12: 22 – 23)… التى يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين فى السماء…

كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته فى أماكن أمينة. لم تترك شيئاً وراءها سوى جسدها. لقد فارقت كل شئ من أجل الرجاء العلوى. الثروة الوحيدة التى تركتها لأبنائها (الروحيين) هى الاقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته…

هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذ لأوفيها حقها… اشتاقت كثيراً لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضلت أن تكون مع المسيح أكثر من أى شئ آخر على الأرض (فى 1: 23)].

هذه هى نظرة المؤمن الحقيقى للموت، إنه رحلة ممتعة نحو السماء خلال الاتحاد بالمسيح القائم من الأموات، وأما صلوات الجنازة فما هى إلا احتفال مفرح بعيد فريد!

إذ بدأت أسجل متقطفات من كتابات الآباء عن “الموت وما وراء الموت” أو “الفكر الأخروى” شعرت بعجز شديد، فقد كاد أن يحتل هذا الفكر كل كتاباتهم. يرى الآباء أبواب السماء مفتوحة تترقب بشوق مجيئهم، بل رأوا كأن السماء قد نزلت إلى قلوبهم بنزول رب السماء إلى أرضهم، ليحل وسط الناس كواحد منهم. إن كتبوا تعليقاتهم على نصوص فى الكتاب المقدس، أو دافعوا عن عقيدة إيمانية، أو سجلوا كتابات ليتورجية تعبدية، أو ألقوا عظات روحية أو بعثوا برسائل لسبب أو آخر، لا يتوقفون عن التأمل فى السماء والحديث عنها! أستطيع أن أقول بحق إنى أشعر بعجز شديد عن تسجيل فكر الكنيسة الحى فيما يخص الأمور الأخروية.

3. ما هى أنواع الموت؟

يذكر الكتاب المقدس ثلاث أنواع من الموت:

أ. الموت الجسدى الطبيعى، حيث يفقد الإنسان الحياة الحاضرة بانفصال نفسه عن الجسد.

ب. الموت الروحى، بانفصال الإنسان عن الله خالقه ومخلصه ومصدر تقديسه وتجديده وتهيئته للمجد الأبدى.

ج. الموت الأبدى، حيث يعزل الإنسان نفسه أبدياً عن الله ويُصر على ذلك، فيسقط تحت ثمرة عصيان وهو حرمانه من الأبدية. هذا هو الموت الثانى كما جاء فى سفر الرؤيا: “وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار” (رؤ 20: 14).

بالنسبة للموت فقد جاء ثمرة عصيان آدم وحواء، فسقطت البشرية كلها خلال الموت الجسمانى. أما أخنوخ وإيليا اللذين صعدا إلى السماء، فإنهما سيعودان عند ظهور ضد المسيح ويسندان الكنيسة ويستشهدا.

4. كيف واجهت المسيحية التيار الفلسفى الوثنى بخصوص الموت؟ [2]

كان لابد للمسيحية من مواجهة الكثير من التيارات الوثنية، وعلى وجه الخصوص الأفكار الخاصة بالموت. إذ كان الوثنيون يتطلعون إلى الموت كقضاء وقدرٍ يحل بالإنسان فيحطمه، ويهدد كل حيويته إلى النهاية.

عندما جاء السيد المسيح إلى العالم كان أغلب الأميين يتطلعون إلى الموت كأمر رهيب، ولا يعتقدون فى وجود حياة بعد الموت. فقد وُجدت على بعض المقابر نقوش، جاء فيها:

“يقدم الحظ وعوداً كثيرة، لكنه لا يحتفظ بوعد واحد منها.

عش يومك وساعتك، فإنه لا يوجد بالحقيقة شئ آخر بين أدينا! [3] “.

“افرح ما دمت حياً، فالحياة ليست إلا شيئاً قليلاً، تبدأ الآن، وتنمو بقوة تدريجياً، ثم تختفى تدريجياً[4]”.

يعتقد بعض الفلاسفة الوثنيين فى الحياة بعد الموت، لكنها حياة بلا بهجة، هى أشبه بنوم أبدى ترتبط بظلمة الأرض. ولا يعتق أحد من تسليمه فى أيدى آلهة مملوءة غضباً[5]. فالموت بالنسبة لهم هو تحطيم لكل حياة، وإن اشتهاه البعض، إنما للخلاص من متاعب الحياة، لا لينعموا بحياة جديدة، وإنما ليعيشوا بلا حيوية ولا سعادة.

لقد هاجمت الفلسفات اليونانية موضوع قيامة الجسد من الأموات بطريق أو آخر. فلم يقبل أتباع أفلاطون وأفلوطين قيامة الجسد مطلقاً، فبالنسبة لهم ليست موضوع نقاش. بهذا يجعلون من البشرية نفوساً بلا أجساد، خلالها يفقد الإنسان كيانه الشخصى ووحدته، ويحتقر الجسد كأمر ردئ تريد النفس الخالدة الخلاص منه. والعجيب أن بعضهم إذ يرون أن النفس تتطهر بخلاصها من الجسد، ونسيانها للمآسى التى عاشت فيها أثناء اتحادها بالجسد، يعتقدون أنها تعود ثانية إلى مآسى جسدية. أما فرفوريوس (بروفوريوس) Prophyry، الفيلسوف اليونانى وأحد أبر ممثلى الأفلاطونية المحدثة فى القرن الثالث وبداية الرابع الميلادى فيرفض تناسخ الأرواح، أى عودة النفوس إلى أجساد أخرى لأنها بهذا ترجع إلى مآسى الجسد والحياة.

واجهت الكنيسة هذا التيار التشاؤمى كما يظهر من النقوش التى على مقابر المسيحيين الذين تلامسوا مع عربون الحياة السماوية وهم بعد على الأرض. كثيراً ما تعبّر هذه النقوش عما سيحل بالراقد من سلام وشركة فى الملكوت الأبدى المجيد. لا نجد أثراً لكلمات اللعنى والمرارة التى وُجدت على مقابر الوثنيين، بل جاء غالبيتها: “لتحيا فى الرب لتتهلل إلى الأبد…” إن عبّر البعض عن مرارة الحزن لأجل آلام الفراق فإنها قليلة للغاية.

5. ما هو موقف الوثنيين من الإيمان بالقيامة؟

إيمان المسيحيين بالحياة الجديدة بعد الموت وشركة الجسد المُقام مع النفس فى المجد الأبدى دفعهم لمواجهة الآلام والموت بفرح شديد مما جذب أنظار الوثنيين. وقد شهد القديس يوستين الشهيد عن ذلك حيث كشف عن مشاعره الشخصية قبل قبوله الإيمان، كيف أعجب بهم[6].

من جانب أخر رأى بعض الفلاسفة الوثنيين أنه من أصعب العقبات التى تعثرهم فى قبولهم المسيحية هو التعليم بميلاد فى حياة جديدة وقيامة الأجساد. هذا ما نلمسه فى ردود الفعل تجاه تصريحات بولس الرسول عن القيامة فى محكمة أريوس باغوس بأثينا. كان بعضهم يهزأون، والآخرون يقولون سنسمع منك عن هذا مرة أخرى (أع 17: 32). لذلك كثيراً ما تكررت حوارات فلسفية ولاهوتية فى كتابات المسيحيين خاصة فى دفاعهم عن الإيمان المسيحى كما فعل الفيلسوف أثيناغوراس عميد مدرسة الإسكندرية فى القرن الثانى[7].

6 – ماذا قال الفيلسوف أثيناغوراس عميد مدرسة الإسكندرية عن قيامة الموتى؟

يعتبر أول محاولة يقوم بها كاتب مسيحى للفلاسفة الوثنيين ليؤكد عقيدة القيامة ببراهين فلسفية وليس بدلائل من الكتاب المقدس وحده… ويعتبرمن أفضل ما كُتب فى هذا الشأن فى الكتابات المسيحية الأولى[8]. وبالرغم مما يشوبه من بعض العيوب، لكنه يكشف عن عمق فى الإدراك ومهارة فى التفكير[9].

يحوى هذا المقال 25 فصلاً، ينقسم إلى جزئين رئيسيين:

الجزء الأول يمثل الجانب السلبى، ألا وهو الرد على اعتراضات الفلاسفة ضد قيامة الأجساد (فصل1 – 10).

والجزء الثانى يمثل الجانب الإيجابى ألا وهو تقديم البراهين على حقيقة القيامة (فصل11 – 25).

هذا ويمكن القول بأن الجزء الأول يعرض وموضوع “الله والقيامة”، أما الجزء الثانى فيعرض “الإنسان والقيامة”.

فى الجزء الأول أوضح أن اعتراضات الفلاسفة على القيامة إما بسبب نقص معرفة الله أو قدرته أو مشيئته فى القيامة. فمن جهة المعرفة فإن الله الذى يخلق الأجساد يعرف أن يقيمها. ومن جهة القدرة فإنه إذ يقدر أن يخلق من العدم ألا يقدر أن يعيد تكوينها حتى إن تحللت أو تناثرت أو اندمجت عناصرها فى الأرض أو فى الحيوان أو فى الإنسان. أما من جهة المشيئة، فهل الله لا يشاء القيامة خوفاً من أن يلحق بالقائم من الأموات ظلماً، أو لأن فى القيامة ما يشين الله. والحق أن القائم من الأموات لا يلحقه ظلم ولا تشين القيامة الله فى شئ، فهو يشاء القيامة.

وفى الجزء الثانى يعطى دلائل على القيامة خلال علاقتها بالإنسان:

أ. القيامة ضرورية للإنسان الذى خلقه الله كائناً عاقلاً ليعيش إلى الأبد (11 – 13).

ب. يتكون الإنسان من الجسد والنفس، هذه الوحدة يحطمها الموت لتعيدها القيامة من جديد فيحيا إلى الأبد (14 – 17).

ج. ينبغى أن يشترك الجسد مع النفس فى المكافأة فى العالم الآتى كما اشتركا معاً فى الجهاد والتصرفات هنا (18 – 23).

د. خُلق الإنسان من أجل السعادة الأبدية التى لا تتحقق بوجوده هنا على الأرض، وإنما فى الحياة الأخرى (24 – 25).

وقد دافع أوكتافيوس عن المسيحية، قائلاً بأنه أسهل على الله أن يقيم الأجساد من الموت عما سبق ففعله إذ خلقها من العدم، كما أوضح أن الطبيعة نفسها تؤكد القيامة.

[لاحظ كيف أن كل الطبيعة مشغولة فى تأكيد القيامة المقبلة، وتهبنا راحة. الشمس تغطس ثم تعود فتُولد، والكواكب تختفى ثم تعود، الزهور تموت ثم تعود فتحيا من جديد. البراعم تبزغ بين الأوراق بعد موتها. البذور لا تبزغ ما لم تُدفن.

الجسد فى هذا العالم يشبه الأشجار فى الشتاء، الذى يخفى اخضرارها تحت خداع العقم.

لماذا لا تصبر على الجسد لكى يأتى إلى الحياة ويعود ما دمت لا تزال فى الشتاء المرّ؟

يليق بنا أن ننتظر حتى يحلّ ربيع الجسد[10]].

7. لماذا كان الوثنيون ينكلون بجثث الشهداء؟

إذ أدرك المضطهدون الوثنيون إيما المسيحيين بالقيامة من الأموات، وأن سرّ قوة المسيحيين واحتمالهم العذابات بفرحٍ هو رجاءهم فى القيامة، لذلك كانوا يبذلون كل الجهد فى أن يبددوا أجسام الشهداء لا ليحرموا المؤمنين من اقتنائها فحسب، إنما كانوا يظنون أنهم يبددون رجاء المسيحيين فى قيامة الأجساد[11].

لم يهز هذا إيمان المسيحيين فى قيامة الجسد، إذ يقول المدافع تاتيان Tatian: [وإن دمرت النيران جسدى… وإن بُعثر بين الأنهار والبحار، ومزقته الوحوش الكاسرة إلى قطع، فإننى أجمع فى مخازن الله الغنية… وعندما يريد الله الملك سيعيد كيانى المنظور بالنسبة له وحده إلى حالته الأصلية[12]].

8 – لماذا لا يرهب المؤمنون الموت؟

المسيحى الحقيقى كعضو حىّ مرتبط بالرأس يسوع المسيح، يقبل سمات المسيح المصلوب الذى قبل الموت بإرادته، فيعشق الألم ويبحث عنه ويشتهيه حتى الموت، لا لأجل الألم فى ذاته، ولا هروباً من العالم، بل لأنه علامة شركة الحب الحقيقى والوحدة بين العريس المتألم المصلوب وعروسه.

هكذا انطلق الصليب بالألم كما بالموت بالنسبة للمؤمن الحقيقى من كونه علامة الخطية ودلالة حجب الإنسان وحرمانه من الله مصدر السعادة ليصير علامة حب وشركة. فيقول الرسول بولس: “حاملين فى الجسد كل حين إماتة الرب يسوع” (2 كو 4: 10). ويؤكد أنها آلام المسيح: “لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضاً” (2 كو 1: 5).

إن كنا لا ننكر أن المسيحى من أجل آلام الفراق يحزن، لكن فى حدود، وإلى حين، فإن كثيرين من الوثنيين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح عندما رأوا كيف واجه المسيحيون الموت بشجاعة وبشاشة. حتى فى فترات السلام كان أحد العوامل التى جذبت الوثنيين نحو الإيمان طقوس جنازات المسيحيين وما حملوه من أحاسيس السلام والرجاء فى الأبدية[13]. يقول البابا أثناسيوس الرسولى:

[إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذى يعمل فى أبناء المعصية (أف 2: 2)، مهيئاً لنا طريق السموات].

[حين رُفع جسده إلى العُلا، ظهرت الأمور التى فى السماء[14]].

[بعد قيامة مخلصنا الجسدية، لم يعد يوجد سبب للخوف من الموت.

الذين يؤمنون بالمسيح يطأون على الموت كأنه لا شئ، مفضلين أن يموتوا بالأحرى عن أن ينكروا الإيمان بالمسيح. فإنهم مقتنعون أن الموت لا يعنى دماراً بل حياة، خلال القيامة يصيرون غير قابلين للدمار… الدليل الواضح على هذا هو أنه قبل الإيمان بالمسيح كان الناس يتطلعون إلى الموت كموضوع مرعب، كشئ يجعلهم جبناء. وما أن قبلوا الإيمان وتعليم المسيح، صاروا على العكس يحسبون الموت أمراً صغيراً يدوسون عليه، ويجعلهم شهوداً للقيامة التى حققها المخلص ضد الموت[15]].

9 – بماذا يليق بنا أن نفكر فى لحظات خروجنا من العالم؟

فى وسط الآلام لم تفكر الشهيدة جوليا فى نفسه، بل فى خلاص مضطهديها، مصلية:

“لتكن مباركاً يا إلهى وسيدى يسوع المسيح الذى أهلتنى أن أموت مثلك ومن أجلك مصلوبة على خشبة الصليب… أسألك يا إلهى بحق دمك الطاهر الذكى أن تنظر بعين رحمتك إلى هذا الشعب الجالس فى ظلام الموت، وتغفر لهم وتنير عليهم بنور الإيمان بك”.

10 – كيف لا نخاف الموت؟!

يقول القديس أمبروسيوس: [إن كنا نريد ألا نهاب الموت، فلنقف حيث يوجد المسيح، حتى يقول عنا: “حقاً أقول لكم إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت” (لو 9: 27). الذين بلغوا حقيقة إلى الشركة مع المسيح لن يعرفوا الموت. إنهم بلا شك يذوقون موت الجسد، ويتعرضون له، لكن تبقى حياة الروح]. كما يقول: [ينبغى علنيا ألا نصم آذاننا، بل أن نفتحها حتى نسمع صوت يسوع. فمن يسمع هذا الصوت لن يخشى الموت].

ويقول القديس أنبا أنطونيوس: [يجب علينا ألا نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذى هو عدم معرفة الله. هذا هو ما يرعب النفس بحق!].

ويقول القديس يوحنا سابا: [هذا هو رجائى وشوقى إلى الرب: أن أكون فى تلك الساعة بلا معين من الناس، ولا من يغمض عينىّ غير الله. إذ أكون مُلقى على وجهى بالتأمل فيه. هذا أحب إلىّ من كل شئ!] وأيضاً يقول الأب أفراهات: [الذين يعيشون فى الملذات يهابون الموت، أما الحزانى فيترجونه لكى يرحلوا سريعاً].

11 – لماذا لم يبطل الرب موت الجسد عن مؤمنيه فى هذا العالم؟

قد يسأل أحدهم: لماذا لم يبطل الرب عن مؤمنيه موت الجسد هنا، فلا يعمل الموت فيهم بعدما قاموا من الموت بموت الرب وقيامته، فيعيشون إلى الأبد دون أن تنفصل نفوسهم عن أجسادهم؟

أولاً: لكيلا يرتبط قلبنا الأرض. لم يسمح الله لنا أن نبقى هنا فى الجسد إلى الأبد، لئلا تتركز أنظارنا فى الأرضيات، ولا يرتفع رجاؤنا إلى الأبديات، فإنه “إن كان لنا فى هذه الحياة فقط رجاء فى المسيح، فإننا أشقى جميع الناس” (1 كو 15: 19). فالرب ارتفع إلى السماء حتى تشخص أنظارنا إلى فوق، وتنتظر اللقاء مع الله شخصياً من أجل الله ذاته وبه وفيه، ويكون هو الكل فى الكل.

ثانياً: لكى تظهر الحرية فى اختيارنا للإيمان. يقول القديس مقاريوس الكبير: [لو كان جسد الإنسان غير قابل للموت وغير مائل للفساد، لكان أهل العالم كله عندما يرون هذا الأمر الفائق الظن، أى أن أجساد المسيحيين لا تفسد، عندئذ ينجذبون إلى فعل ما هو خير بالضرورة لا باختيار منهم، ولكن المُراد أن تظهر الحرية التى منحها الله للإنسان منذ البدء… وتظل ثابتة. لهذا نظمت الأمور بتدبير مخصوص وتقرر انحلال الجسد، لكى يميل الإنسان إلى الخير أو الشر بإرادة منه].

ثالثاً: لكيلا نهتم بموت الجسد بل بموت الروح. يقول القديس أمبروسيوس [قال الرب عن يوحنا البشير: “إن كنت أشاء أنه يبقى حتى أجئ” (يو 21: 22). نحن لا نعتقد أن المقصود هنا يوحنا وحده، بل هى دعوة موجهة عامة لكثيرين. فالرب لم يستبعد موت الجسد بل موت الروح. لأنه يوجد أموات يعيشون، ويوجد أحياء قد ماتوا! مثال ذلك تلك المرأة المتنعمة التى قد ماتت وهى حية (1 تى 5: 6). وكما هو مكتوب: “ليبغتهم الموت لينحدروا إلى الهاوية أحياء” (مز 55: 15). فإنه يوجد من ينزلوا الهاوية أحياء، إذ بالخطية ينزلون إلى الهاوية ويقيمون فى مكان الموت. بالأحرى أحياء هم أولئك الذين لم تنته حياتهم عند موت الجسد، مثل إبراهيم واسحق ويعقوب، الذين نعرف أنهم أحياء بحسب سلطان الكلمة الإلهية، إذ أن الله: “إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب، ليس إله أموات بل إله أحياء” (مت 22: 32)].

رابعاً: ربنا يسوع لم يغشنا. يقول الشهيد كبريانوس: [من يحارب (روحياً) من أجل الله، يلزمه أن يعرف أنه قد وُضع فى معسكر قاسٍ، على رجاء نوال جزاء سماوى، فلا يرتعب من عواصف العالم وأعاصيره، ولا يهتز منها، لأن الرب سبق أن أنبأنا عن كل ما سيحدث لنا. لقد سبق فأخبرنا عن حدوث حروب ومجاعات وزلازل وأوبئة فى كل مكان. وبحديثه هذا أوصى كنيسته وعلمها وهيأها وشددها لتحتمل كل ما سيأتى. لقد سبق فأنذرنا بأن الكارثة تتزايد شيئاً فشيئاً فى أواخر الزمان، وذلك لكيلا نهتز من مخاطر مميتة غير متوقعة. انظروا، فإن ما أنبأنا عنه يحدث. وإذ يحدث إنما يتبعه أيضاً ما قد وعدنا به قائلاً: “هكذا أنتم أيضاً متى رأيتم هذه الأشياء صائرة، فاعلموا أن ملكوت الله قريب” (لو 21: 31). هوذا ملكوت الله أيها الإخوة الأعزاء يقترب! [16]].

خامساً: لإعادة تشكيله من جديد بلا خطية. للقديس غريغوريوس أسقف نيصص رأى خاص بأن الموت ضرورى لكى يقود الجسد فيتشكل من جديد كأصله القديم دون أن يمتزج بالخطية التى ارتبطت به أثناء حياتنا على الأرض. يشبه جسد الإنسان بإناء خزفى تسلل السم فى مادته لذا يحتاج إلى إعادة عجنه ونزع كل أثر للسم منه، وترجع ذات المادة من جديد للتشكل بدون السم الذى تسلل إليها. هذا كله من قبيل محبة الله للإنسان هنا فى العالم بدم السيد المسيح، يتقدس بكامله، لكن يبقى صراع الجسد مع الخطية قائماً، لذا فنحن فى حاجة إلى إعاده تشكيله تماماً لتحمله من جديد فى استحقاقات الدم الثمين.

سادساً: غير الرب مفهوم الموت. إذ قبل مسيحنا الموت بإرادته لأجل خلاص العالم، غير مفهوم الموت، فلم يعد عقوبة يرتعب أمامها المؤمن، وإنما صار علامة حب يشتهيها المؤمن. يقبل الموت من أجل الله ومن أجل خلاص إخوته وبنيان نفسه، فيمارسه كل يوم كشركة مع المسيح المصلوب، وعربون حىّ للأبدية. يقول القديس يوحنا كاسيان، ليس فى خوف ورعب بل بروح الرجاء وترقب للأبدية، يتطلع المؤمن فى الممارسة اليومية للموت إلى حياته لا بنظرة سوداوية، بل بعينى الروح، فيرى مع كل نسمة يتمتع بالتجديد الروحى المستمر، حتى يبدو كأن جسده ينتقل من الجسد إلى الروح تدريجياً، مشتاقاً أن يرى اليوم الأخير، حيث يحمل عوض الجسد الترابى جسداً روحانياً (1 كو 15: 44). ينعم مع كل ممارسة للإماتة اليومية ليس فى بلادة وجمود بل بمعرفة روحية نامية، حتى ينتقل إلى كمال المعرفة حين يرى الله وجهاً لوجه[17]].

12 – هل من مجال للتوبة بعد الموت؟

كيف يمكن للنفس التى فى الجحيم أن تمارس التوبة، وقد انفصلت عن الجسد، ولا يوجد مجال لإعلان الحياة لله والناس. فى العالم يشترك الجسد مع النفس فى الإيمان، والسلوك فى الربّ، ويكافأ الاثنان معاً إما بالدخول فى السماء أو بالحرمان من رؤية الله.

13 – من يحمل النفس بعد انفصالها عن الجسد؟

فى مثل لعازر المسكين والغنى، إذ مات لعازر جاءت ملائكة أبرار وحملوا نفسه إلى حضن إبراهيم (لو 16: 22). ويقول القديس يوحنا الذهبى الفم إن نفوس الأشرار عند موتهم يُحملون بواسطة ملائكة أشرار.

جاء فى العظة 22 للقديس مقاريوس أن مجموعة من الشياطين وقوات الظلمة تأخذ نفس الشرير.

أشار القديس كيرلس الإسكندرى إلى أن النفس عندما ترحل: “يحملها ملائكة قديسون، ويعبروا فى الهواء، فتصعد إلى فوق”… يقود الملائكة القديسون النفس ويقدمون ما فعلته النفس من صلاح[18].

فاصل

من كتاب كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ7 – الأخرويات والحياة بعد الموت – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى

زر الذهاب إلى الأعلى