تفسير سفر الخروج ٢ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثاني

إعداد موسى للخدمة

بعد أن كشف الأصحاح الأول عن الحاجة إلى مخلص جاءت الأصحاحات [2-4] تتحدث عن إعداد موسى النبي للخدمة.

  1. موسى في النهر                  [1-4].
  2. موسى في القصر                 [5-10].
  3. موسى يخدم بغيرة بشرية         [11-15].
  4. موسى في أرض مديان           [16-25].

1. موسى في النهر:

سمحت العناية الإلهية للشعب بتجربة قاسية، وفي نفس الوقت كانت تعد لهم المنقذ (1 كو 10: 13). أعد الله لهم موسى ودربه في فترة ثمانين عامًا، حيث مرّ به في مراحل ثلاث:

المرحلة الأولى: حيث عاش موسى في قصر ابنة فرعون أربعين عامًا يتثقف بحكمة المصريين وعِلمهم، وفي نفس الوقت كان يرضع لبن شعبه العبراني. في هذه الفترة ظن أنه قادر أن يخدم الله معتمدًا على فصاحة لسانه وقدرة تدبيره وحكمته… لكنه فشل.

والمرحلة الثانية: قضاها في البرية لمدة أربعين عامًا يتدرب فيها على معرفة نفسه، أنه بدون الله لا يساوي شيئًا… عرف فيها نفسه أنه ثقيل الفم واللسان (4: 10)، عاجز عن العمل بذاته (4: 14).

أما المرحلة الثالثة: فبدأت بلقائه مع العُلِّيقة المشوكة الملتهبة نارًا، وتعرف على الله الذي يعمل في اللاشئ ليقيم أعمالاً مجيدة.

نعود بعد هذه المقدمة إلى موسى في طفولته، فيتحدث معلمنا بولس الرسول عن والديه كبطلي إيمان قائلاً: “بالإيمان موسى بعدما وُلد أخذه أبواه ثلاثة أشهر لأنهما رأيا الصبي جميلاً ولم يخشيا أمر الملك” (عب 11: 23). ونحن أيضًا بالله الذي ينظر فى الخفاء إلى أعمالنا يلزمنا أن نخفي كل فضيلة حتى لا تصير فريسة لفرعون (إبليس) وتبتلعها أمواج النهر.

يرى القدِّيس يوحنا الذهبي الفم[33] كيف أخرج الله من أمر فرعون بركة لموسى، إذ يقول: [لو لم يلقَ الأطفال في النهر لما خلص موسى، ولا نشأ داخل القصر حين كان في أمان لم يكن في كرامة]. لكنه حينما أُلقي به في النهر صار في كرامة ورأى القدِّيس في كل الأحداث حتى العنيفة ضد أولاد الله استخدمها الرب كجزء من خطته لخلاصهم.

سفط من البردي: يقول الكتاب: “ولما لم يمكنها أن تخبئه بعد، أخذت له سفطًا من البردي وطلته بالحمرة والزفت، ووضعت الولد فيه ووضعته بين الحلفاء على حافة النهر” [3].

يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن موسى وهو يمثل الحياة الفاضلة التي تلدها الإرادة الحرة خلال ألم الطلق والمرارة، لابد أن يوضع في سفط من البردي أو في تابوت من ألواح متنوعة، لكي تبقى هذه الحياة الفاضلة في أمان من أمواج النهر[34]. هذا السفط هو “التعلم”، فالإنسان الذي يهتم على الدوام أن يتعلم ويكون له شوق للمعرفة الروحية المتجددة النامية، إنما يكون كموسى محفوظًا من كل التيارات المهلكة. لا تقدر الأمواج أن تبتلعه بل تدفعه نحو الشاطئ بعيدًا عن الاضطرابات[35].

دموع أمه: كان السفط هو الحافظ الظاهر للطفل، أما دموع أمه فكانت الحافظ المستتر. في هذا يقول القدِّيس غريغرريوس النيسي: [من يهرب من مثل هذه الأمور يلزمه أن يقتدي بموسى، ولا يكف عن الدموع، فإنه إن كان في أمان داخل التابوت، لكن تبقى الدموع هي الحارس القوي لمن خلص بالفضيلة[36]]، إن دموع التوبة هي الحارس لكل فضيلة خفية داخل القلب، والسند لها حتى لا يفترسها عدو الخير.

2. موسى في القصر:

ابنة فرعون: يرى القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص أن ابنة فرعون إنما تمثل الفلسفات الزمنية، فهي عقيمة وغير مثمرة، كابنة فرعون العاقر، تتمخض لكنها لا تلد[37]. حقًا كالأميرة ابنة فرعون لها جمالها وسلطانها وغناها وجاذبيتها وتردد الكثيرون عليها ويطلبون رضاءها، لكنا كعاقر لا تشبع النفس. وفي نفس الوقت لا تقف الكنيسة موقف العداء منها، وإنما كما دخل موسى قصرها وإن كان قد نشأ يرضع لبن أمه، هكذا نتقبل الفلسفات والعلوم ولا نحتقرها، لكننا نتمسك بتقليد الكنيسة أمنا وإنجيلها وتعاليمها وفكرها وكل حياتها.

وقد اهتمت مدرسة الإسكندرية المسيحية منذ بدء انطلاقها بهذا العمل، أي قبول الفلسفة دون الانحراف عن الفكر الإنجيلي، إذ يقول المؤرخ شاف: [هدف اللاهوت الإسكندري إلى مصالحة المسيحية مع الفلسفة… مقيمًا هذه الوحدة على أساس الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة][38]. فقد رأي القدِّيس إكليمنضس الإسكندري أنه لا عداوة بين المسيحية والفلسفة[39]، وأن الفلسفة ليست عملاً من أعمال الظلمة، بل في كل مذهب من مذاهبها يشرق عليها شعاع نور[40] من اللوغوس، منتقدًا القائلين أن الفلسفة شر[41]. لقد أوضح أن الله استخدام الفلسفة عند اليونانيين ليدخل بهم إلى معرفة المسيح “الحق”.

ويرى العلامة أوريجانوس أن ابنة فرعون تشير أيضًا إلى كنيسة الأمم التي تقبلت موسى (الناموس) من اليهود خلال النهر(المعمودية) وأدركته بمفهوم جديد، إذ حملته معها إلى قصرها. في هذا يقول: [أعتقد أن ابنة فرعون تمثل الكنيسة التي تجتمع من كل الأمم. فإنه وإن كان أبوها ظالمًا ووثنيًا لكنه قيل لها: “اسمعي يا ابنة وانظري واصغي وانسي شعبك وبيت أبيك، لأن الملك قد اشتهى حسنك” (مز 44: 1). إنها تخرج من بيت أبيها، وتأتي إلى المياه لتغتسل من خطاياها التي اقترفتها في بيت أبيها، حينئذ تقتني “أحشاء رأفات” وترْقَ للطفل. هذه هي الكنيسة القادمة من الأمم لتجد في النهر موسى الذي رفضه خاصته. إنها تأتي إليه بمرضعة من بني جنسه حيث يقضي فترة طفولته ويكبر. يُقدم إليها موسى فتتبناه. كثيرًا ما شرحت أن موسى يمثل الناموس، فبحضور الكنيسة إلى مياه المعمودية تأخذ الناموس الذي كان مخفيًا في سفط من البردي مطليًا بالحمرة والقار… إذ كان الناموس نائمًا في مثل هذا الموضع أسير حواس اليهود (الجسدية) الملوثة، حتى جاءت كنيسة الأمم لتجتذبه من وسط الحمرة وتسكنه في بلاط قصر الحكمة الملوكي. وهكذا عبر الناموس من خاصته لأنهم لا يعرفون كيف يسمعونه روحيًا وهو صغير كطفل يرضع اللبن. لكنه إذ قُدم للكنيسة ودخل البيت كبر وتقوى فلم يلبس ثوب الضعة والحقارة، إنما صار يلبس كل ما هو عظيم وسامٍ وجميل. ما هي هذه العظمة إلاَّ السمو في الروحيات؟!…

إذن فلنصل لربنا يسوع المسيح ليكشف لنا ذاته ويرينا أيضًا عظمة موسى وسموه[42]].

أما من جهة الاسم، فقد دعته ابنة فرعون “موسى”، الذي يعني بالمصرية “ماء” [10]، وهو الاسم الذي دعاه به الله نفسه، وكما يقول القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص: [لم يستنكف الله أن يدعو خادمه بهذا الاسم، ولا حسبه أمرًا غير لائق أن يترك له الاسم الذي أعطته إيَّاه امرأة أجنبية ليعبر عما يناسب النبي[43]].

ويرى القدِّيس إكليمنضس الإسكندري[44] أن “موسى” هو الاسم المصري ويعني المنتشل من الماء، أما اسمه العبراني عند ختانه فهو يهوياقيم، وله اسم ثالث في السماء في نظر الرمزيين هو “ملكي” (تث 23: 5).

3. موسى يخدم بغيرة بشرية:

إذ تثقف موسى بحكمة المصريين قرابة أربعين عامًا ظن أنه قادر أن يخدم الله، معتمدًا على فصاحته وحكمته. ظن في نفسه أنه شيء فارتبك في خدمته، “إذ التفت إلى هنا وهناك” [12]، مهتمًا بنظرة الناس إليه، مع أن خادم الله لا يهتم ببُغض الناس أو رضائهم عن خدمته، ما دام يعلم أن الله هو الذي أرسله… موسى خرج إلى الخدمة معتمدًا على كفاءته الخاصة فخاف وهرب من الخدمة [15].

هذا ويلاحظ أن ما تعرض له موسى إنما يتعرض له كل من يضع في قلبه أن يكرس حياته لله، فيواجه حربين: حرب شمالية وأخرى يمينية.

أ. الحرب الشمالية: وهي الحرب ضد الشر الواضح، وذلك كما رأى موسى الصراع بين رجل غريب الجنس وآخر من بني جنسه، فضرب الأول ضربة قاضية وطمره في الرمل، هكذا حمل ذلك صورة رمزية للمؤمن الذي لا يضرب إنسانًا، وإنما يضرب كل شرّ في قلبه ويدفنه، حتى لا يكون للخطية الغريبة عن طبعنا موضع داخلنا.

ب. الحرب اليمينية: وهي حرب مع البر الذاتي، حين يظن الإنسان في نفسه أنه قد صار بارًا أفضل من الآخرين، ليست له خطايا واضحة. وهذه حرب أمرّ بين العبراني وأخيه، أي بين الإنسان وذاته “الأنا”.

كذلك يواجه المؤمن حربين: حرب ضد الخطية ظاهرة وسهلة نسبيًا، وحرب الانقسام الداخلي في الكنيسة وهي أخطر وأقسى… تؤدي إلى هروب الكثيرين من الخدمة، كما اضطر موسى إلى ذلك.

ويعلق القدِّيس يوحنا الذهبي الفم عل كلمات العبراني “من جعلك رئيسًا وقاضيًا علينا؟! أمفتكر أنت بقتلي؟!” [14]، قائلاً[45]: [إن الشعب كان أشبه بمريض يرى الطبيب الماهر قد أمسك بمشرط في يده، ففي ثورته وخوفه قال: من أقامك طبيبًا وأعطاك مشرطًا لتستخدمه؟!]. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد استخدم الله هذا الأمر لنفع موسى حتى يهرب ليتعلم الفلسفة في البرية وينظر الرؤيا[46].

4. موسى في أرض مديان:

بعد أربعين عامًا انتقل موسى إلى البرية ليتدرب على معرفة حقيقة نفسه أنه لا شيء… إذ يقول: “من أنا حتى أذهب إلى فرعون؟!” (3: 12) وبهذا تأهل لنوال قوة إلهية.

ما أحوج الخادم إلى ترك موقع الخدمة والانطلاق نحو “حياة الوحدة” يمارس اتحاده مع الله حتى يتأهل لاتساع القلب بالأكثر ليحب المخدومين.

هناك في البرية سكن رعوئيل الذي تفسيره “الله صديق” وتزوج بصَفُّورة التي تعني “عصفورة” وأنجب منها جرشوم الذي يعني غريب. وكأن موسى هنا يمثل الخادم الذي في وحدته يلتقي بالله صديقًا له، وتتحد حياته بالعصفورة أي بالفكر السماوي الطائر في العلويات، ويلد الشعور الدائم بالغربة…

ويلاحظ أن حميه رعوئيل دُعيَ يثرون (خر 3: 1)، غالبًا كلقب شرف بكونه كاهن مديان، والتي تعني “المتقدم في السمو”[47]، كما دُعيَ في سفر العدد 10: 9، “حوباب بن يثرون”، وربما حوباب تعني رعوئيل أيضًا، ويرجح أنه من نسل إبراهيم وقطورة (تك 25: 2).

أما عمل موسى فكان رعاية الغنم، وقد رأي القدِّيس إكليمنضس الإسكندري[48] والعلامة أوريجانوس[49] في هذا العمل صورة السيِّد المسيح الراعي الصالح الذي يرعى حركات النفس الداخلية كقطيع.

زر الذهاب إلى الأعلى