وحدانيّة الله

 المسيحيّة ديانة التوحيد

مفهوم الأسرار فى المسيحية

كثيرًا ما نطلق على العقائد المسيحيّة كلمة ” أسرار “، كسرّ التجسّد، وسرّ الفداء، وسرّ الثالوث الأقدس. وكثيرًا ما نفهم كلمة سرّ بمعنى لغز. فما هو الفرق بين اللغز والسرّ؟ اللغز هو أمر غامض ومكتوم، طريق مغلق، يطرق الإنسان على بابه ولا يتلقى أيّ ردّ. أمّا السرّ في المفهوم المسيحيّ، فهو شيء آخر، مختلف تمامًا. فالسرّ هو حقيقة إيمانيّة يستطيع الإنسان أنْ يفهمها على وجه أفضل يومًا بعد يوم، دون أنْ يصل إلى نهايتها. ليس السرّ حائطًا أصطدم به، بلّ هو محيط أتعمّق فيه، وأزداد تبحّرًا فيه. وكلّ يوم أكتشف أبعادًا جديدة لهذه الحقيقة، من دون أنّ أصل إلى نهايتها.

على هذا الأساس، عندما يسألك أحد عن الثالوث، فلا تقل: ” إيّاك أنْ تحاول فهمه ” فالاقتراب منه ممنوع، والبحث فيه حرام “. بلّ قل بالعكس: ” عليك أنْ تحاول أنْ تفهم هذا السرّ وتتعمّق فيه، حتّى تصبح أسرار إيمانك المسيحيّ مصدر حياة، بدل أنْ تكون عقيمة، أي عديمة الجدوى “. أخشى أنْ تكون أسرار الإيمان المسيحيّ قد أصبحت كقطع تحف موضوعة على الرفوف، غير مسموح بلمسها والاقتراب منها. فلم تعدْ لنا مصدر حياة وغذاء روحيّ. وبما أنَّ الثالوث الأقدس هو أعمق وأغنى أسرار مسيحيّتنا، فعلينا أنْ ندخل فيه بكلّ قدراتنا العقليّة والوجدانيّة حتّى يغنينا بثرائه ويفتح لنا أبعادًا جديدة غير محدودة الآفاق. والآن نتساءل ما هو سرّ الثالوث الأقدس في ميزان العقل وهل هناك منطق لهذا السرّ؟.

تَعْتَرِف المسيحيّة بوحدانيّة الله قبل أنْ تَعْتَرِف بمذهب التثليث. جاء مذهب الوحدانيّة أوّلاً وسبق كل اعتراف بالثالوث. وقد يظنّ البعض أنّنا مشركون، اعتقادًا منهم بأنّنا نعبد ثلاثة آلهة. ولكن، في ضوء الكتاب المقدّس، الذي هو مرجعنا الأساسيّ، سأعرض هنا نصوصًا واضحة ومريحة عن مذهب الوحدانيّة في المسيحيّة وعن التأكيد أنّ عبارة ” لا إله إلاَّ الله ” عبارة مسيحية، قبل أنّ تكون إسلاميّة.

أوّلاً: من العهد القديم

* قال موسى النبي: ” فَاعْلمِ اليَوْمَ وَرَدِّدْ فِي قَلبِكَ أَنَّ اَلرَّبَّ هُوَ اَلإِلهُ فِي اَلسَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلى اَلأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ. ليْسَ سِوَاهُ ” (تثنية 4/39).

* وقال أيضًا: ” إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: اَلرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ “.(ثنية 6/4).

* ” اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ وَليْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي ” (تثنية 32/39).

* ” هَكَذَا يَقُولُ اَلرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ رَبُّ اَلْجُنُودِ: أَنَا اَلأَوَّلُ وَأَنَا اَلآخِرُ وَلاَ إِلَهَ غَيْرِي ” (أشعيا 44/6).

فتعبير ” لا إله إلاَّ الله ” وارد فى الكتاب المقدّس، وهو تعبير يهوديّ ومسيحيّ.

* ” أَنَا اَلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لَيْسََ مِنْ دُونِي إِلَه ” (أشعيا 45/5).

* ” لِيَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ اَلشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي. أَنَا اَلرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ ” (أشعيا 45/6).

* “… أَلَيْسَ أَنَا اَلرَّبُّ وَلاَ إِلَهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلَهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ ” (أشعيا 45/21).

* ” لأَنِّي أَنَا اَللَّهُ وَلَيْسَ مِنْ إِلَه آخَرُ. أنا الله وَلَيْسَ مِنْ إِلَه مِثْلِي ” (أشعيا 46/9 ).

* ” أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلَهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟ ” (ملاخي 2/10).

وهناك نصوص أخرى كثيرة في العهد القديم تؤكّد الفكرة نفسها.

فالثالوث لا يتناقض مع وحدانيّة العهد القديم.

ثانيًا: من العهد الجديد

قد يقول بعضهم إنّ مفهوم الوحدانيّة هذا ينطبق على العهد القديم فقط وأنّ المسيح ألغى كلّ ذلك، عندما أتى بعقيدة الثالوث. ولكنّ السيد المسيح كان في حاجة إلى هذه الخلفيّة، خلفيّة الوحدانيّة التي ترسّخت في عقول الشعب اليهوديّ طوال عشرين قرنًا، حتى تُفْهم. عقيدة الثالوث حقّ الفهم دون تحريف ولاعودة إلى الشرك والوثنيّة. فالثالوث إذًا لا يناقض وحدانيّة الله، بلّ يكمّلها: ” لم آتِ لأنقض بل لأكمّل “. فإليكم بعض النصوص الواضحة في العهد الجديد عن الوحدانيّة:

* أجاب المسيح نفسه على الشاب الغني: ” لا صالِحَ إِلاَّ اللهُ وَحدَه “(مرقس 10/18).

* ” فأَجابَ يسوع: الوَصِيَّةُ الأُولى هيَ: اِسمَعْ يا إِسرائيل: إِنَّ الرَّبَّ إِلهَنا هو الرَّبُّ الأَحَد. ” (مرقس12/29).

وهناك نصوص أخرى من الرسائل:

* “… وإنَّ لا إله إلاَّ الله الوَاحِد “( 1 كورنتس 8/4).

* ” وأَمَّا عِندَنا نَحنُ، فلَيسَ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وهو الآب، مِنه كُلُّ شَيءٍ وإِلَيه نَحنُ أَيضًا نَصير، ورَبٌّ واحِدٌ وهو يسوعُ المسيح، بِه كُلُّ شيَءٍ وبِه نَحنُ أَيضًا ” ( 1 كورنتس 8/6).

* ” وإِنَّ الأَعمالَ على أَنواع وأَمَّا اللهُ الَّذي يَعمَلُ كُلَّ شَيءٍ في جَميعِ النَّاسِ فهوهو.” ( 1 كورنتس 12/-6).

* ” ولا وَسيط لِواحِد، واللهُ واحِد ” (غل 3/20)

* وهناك مراجع أخرى (رومة 3/30 و1 طيموتاوس 1/17 و 1 طيم: 2: 5 ).

ثالثًا: من تاريخ الكنيسة

أتينا بنصوص كثيرة من الكتاب المقدّس بعهديه وكلّها صريحة واضحة. إلى جانب ذلك، نرى أنَّ الكنسية كافحت بقوّة وإصرار في القرون الأولى كلّ أنواع الوثنيّة والشرك، وما زالت تكافح وتقاوم الوثنيّين وأصحاب البدع. ومن البدع المشهورة في هذا المجال بدعة ” ماني ” التي تعتمد على الفلسفة المازديّة بإيران، وهي تُعْلن أنّ هناك إلهين: إله الخير وإله الشرّ. وكلاهما في صراع مستمرّ طوال التاريخ. فكافحت المسيحيّة هذه البدعة بكلّ قواها وأعلنت أنَّ: لا إله إلاَّ واحد. و كلّ هذا تأكيدًا لأنَّ المسيحيّة تعتمد على الوحدانيّة.

 

رابعًا العقل يثبت وحدانيّة الله

إنْ أخذنا الموضوع من ناحية أخرى وتساءلّنا: هل العقل السليم يستطيع أنْ يصل إلى إثبات هذه الحقيقة ( أنَّ لا إله إلاَّ واحد ) بالتفسير المنطقي؟ بالطبع نعم، لأنّنا، عندما نلفظ كلمة: ” الله “، ماذا نقصد بها؟ الله هو الكائن الذي يشمل في ذاته كلّ الوجود وكلّ الممكن وكلّ المستحيل. هذا هو الله. فإنْ افترضنا وجود إله آخر بجواره، خارج دائرة الألوهيّة، نفينا كيانه كشامل الكلّ. فالله لا يكون إلاَّ إذا شمل ذلك الكائن الآخر الذي بجواره، لأنَّ الله يجب أنْ يشمل في ذاته كلّ الوجود. فتصبح دائرة الألوهيّة بلا حدود، ليس في خارجها شيء ولا شخص ولا كائن مادّي أو روحيّ أو أرضيّ أو سمائيّ، أيًّا كان. فحين نقول: ” هناك ثلاثة آلهة “، يكون كلامنا مناقضًا لذاته. فإذا افترضنا أنَّ الآلهة الثلاثة تقاسموا الوجود أو الألوهيّة، يعي قلنا إنّ تعريف الإله لا ينطبق على أحدهم، لأنَّ كلمة الله شاملة لكلّ الوجود.

إذن فإنَّ معطيات الدين المسيحيّ ومعطيات العقل والفلسفة تتقابل لإعلان وحدانيّة الله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى