تفسير سفر يشوع ٢ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثاني
الإيمـان العـامل
“راحاب والجاسوسان”
إن كان الأصحاح السابق في جوهره هو إعلان عن سرّ مصرة الخادم بكون الله هو العامل فيه، فإننا في الأصحاح نقف عند حقيقة هامة أراد الكتاب المقدس أن يوضحها قبل التمتع بالميراث ألا وهي أن الخلاص للجميع، يتمتع به كل مؤمن حقيقي. إن كان اليهود قد خرجوا من نير العبودية لينعموا بالميراث لكن كثيرين منهم لم يتمتعوا به بسبب عدم إيمانهم بينما استطاعت المرأة الكنعانية الزانية أن يكون لها نصيب في الميراث. كأن الله يؤكد أنه لا يرفض الأمم لكنه يرفض عدم إيمانهم ورجاساتهم!
إرسال الجاسوسين [1].
“فأرسل يشوع بن نون من شطيم رجلين جاسوسين سرًا، قائلاً: إذهبا أنظرا الأرض وأريحا” [1].
إن كان يشوع يرمز ليسوع كلمة الله المتجسد، فمن هما الجاسوسان اللذان أرسلهما يشوع إلى الأرض وأريحا ليكسبا راحاب الزانية كإنسانة مؤمنة، تفتح بيتها لهما، وقلبهما لإلههما، وتسألهما علامة أمانة لخلاصها وخلاص أهل بيتها؟
أولاً: إن كان يشوع يمثل يسوع المسيح ربنا، فإن الجاسوسين المرسلين من قبله غالبًا ما يمثلان الإرساليتين اللتين بعثهما السيد إلى العالم، أي الإثني عشر تلميذًا والسبعين رسولاً، هؤلاء الذين بدأوا باليهود وكملوا بالأمم. وقد قبلت الشعوب الأممية رسالتهم في قلوبهم كسرّ خلاص لهم.
ويرى القديس جيروم أنهما يمثلان الرسولين بطرس وبولس بكونهما خادمي الختان والأمم، إذ يقول: [إذ يرغب يسوع في أن يقود شعبه إلى الإنجيل يرسل رجلين إلى أريحا خفية، يرسل أحدهما لأهل الختان والأخر للأمم: بطرس وبولس. لقد طلبت أريحا قتلهما، لكن الزانية أدخلتهما، هذه بالطبع تعني الكنيسة المجتمعة من الأمم، والتي آمنت بيسوع. لقد جمتهما بسلام على سطحها، وأخفتهما هناك حيث إيمانها العلوي. خبأتهما بين عيدان الكتان مع أنها زانية[51]].
ثانيًا: يرى الأسقف قيصريوس إنهما يشيران إلى وصيتي الحب: محبة الله ومحبة الناس، إذ يقول: [أرسل يشوع جاسوسين، لأن يشوع الحقيقي يرسل وصيتي الحب. ماذا قدم الرجال الذين أرسلهما يشوع الحقيقي ليعلنوه لنا سوى أن نحب الله والناس؟![52]]. أن كان غاية الكرازة بالإنجيل أن نتقبل رب المجد يسوع فينا، إنما نتقبله يسكن في داخلنا، فيهبنا سماته عامله فينا، حبه للآب وحبه للبشر!
الجاسوسان وراحاب الزانية [2].
صارت راحاب مثلاً حيًا للإيمان العامل فينا، فعندما أراد القديس أمبروسيوس أن يحث العذارى على عدم احتقار المتزوجات المؤمنات بل حتى الزانيات إن رجعن وعشن في الطهارة، قال: [كانت راحاب الزانية، لكن آمنت بالله فوجدت خلاصًا[53]] ويتحدث القديس يوحنا ذهبي الفم عن هذا الإيمان الفعّال، قائلاً: [لو أنها قالت في نفسها: كيف يمكن لهؤلاء المسبيين المنفيين اللاجئين والذين يعيشون في القبائل المتشردة (بلا مدن) أن يغلبوننا نحن الذين لنا مدينة بأسوار وأبراج؟! لكانت قد هلكت![54]].
لقد سمعت راحاب الزانية ككل أهل المدينة، بل وكل سكان المنطقة عن عمل الله مع شعبه، كيف يبّس مياه بحر سوف أمامهم عند خروجهم من مصر منذ حوالي أربعين عامًا، وكيف خلصهم من سيحون وعوج ملكي الأموريين [10] لكنها وحدها التي آمنت به وفتحت بيتها للرسولين، كما فتحت فمها لتشهد لله، قائلة: “إن الرب قد أعطاكم الأرض وإن رعبكم قد وقع علينا وأن جميع سكان الأرض ذابوا من أجلكم… سمعنا فذابت قلوبنا ولم تبق بعد روح في إنسان بسببكم، لأن الرب إلهكم هو الله في السماء من فوق وعلى الأرض من تحت” [9-11].
أعلنت إيمانها عمليًا فعرضت حياتها للخطر، وطلبت من الجاسوسين أن يحلفا لها أن ينقذاها هي وكل أقاربها! استطاعت امرأة أممية زانية، تسكن في مدينة مُدانة، أن تعلن إيمانها بأعمالها لتنال وعدًا أكيدًا بالخلاص. يقول الرسول بولس: “بالإيمان راحاب الزانية لم تهلك مع العصاة، إذ قبلت الجاسوسان بسلام” (عب 11: 31). ويقول معلمنا يعقوب: “كذلك راحاب الزانية أيضًا أما تبررت بالأعمال إذ قبلت الرسل وأخرجتهم في طريق آخر؟!” (يع 2: 25)… أعلن الرسول بولس عن إيمانها وأعلن الرسول يعقوب عن أعمالها، وفي الحقيقة لا يمكن عزل هذا عن ذاك!
بالإيمان أيضًا تركت راحاب طريق زناها لتعيش مقدسة للرب، يرى القديس جيروم أن “راحاب” تعني (مكان رحب) أو (كبرياء)، هذه التي خلال الإيمان قبلت طريق الاتضاع الضيق عوض طريقها القديم المتسع. يقول: [“كانت قبلاً تسلك الطريق الرحب المؤدي إلى الموت” (مت 7: 13)، فقد سحبها كبرياؤها إلى الهلاك، لكن أخيرًا تحولت إلى الاتضاع]، كما يقول في نفس العظة: [كانت في وقت ما على الطريق الرحب المؤدي للهلاك لكنها صعدت بعد ذلك إلى فوق، إلى ذاكرة الله[55]].
بينما هلك شعب الله بسبب عدم الإيمان فماتوا في البرية، إذًا بالأممية الزانية تغتصب المواعيد الإلهية بالإيمان الحيّ العامل، فيصير لها ولعائلتها نصيب في أرض الموعد، ويأتي المسّيا المخلص متجسدًا من نسلها (مت 1: 5)، فصارت تصرفاتها تمثل أعمالاً نبوية. في هذا يقول القديس أكليمندس الروماني: [ها أنتم ترون أيها الأحباء أنه لم يكن لهذه المرأة الإيمان فحسب بل والنبوة[56]].
بروح النبوة تحدثت مع الجاسوسين معلنة ما سيحدث لشعب الله، قائلة: “علمت أن الرب قد أعطاكم الأرض” [9]، لكن ما هو أعظم أن تصرفاتها بل وشخصيتها صارت نبوة عن قيام كنيسة الأمم عند مجيء يشوع الحقيقي. في هذا يقول الأسقف قيصريوس: [تلك الزانية أيها العزيز المحبوب تمثل الكنيسة التي كانت قد اعتادت على ارتكاب الزنا مع أصنام كثيرة قبل مجيء يسوع. على أي الأحوال إذا جاء المسيح لم يحررها من الزنا فحسب وإنما صّيرها بتولاً بعمل معجزي فائق. يقول عنها الرسول: “لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح” (2 كو 11: 2). لقد كانت نفس كل واحد منا زانية، إذ كانت تعيش في آلام (أهواء) الجسد وشهواته، لكنها قبلت جاسوسي يشوع وتحقق فيها ما قاله الرسول: “لأننا كنا قبلاً ظلمة أما الآن فنور في الرب” (راجع أف 5: 8)[57]].
هكذا صارت راحاب تمثل كنيسة الأمم التي قبلت إرسالتي المسيح (التلاميذ والرسل) وأخفت في داخلها وصيته “محبة الله ومحبة الناس”، فصارت الكنيسة المقدسة له. أما أقوله عن الكنيسة في كليتها أقوله أيضًا عن كل نفس منا بكونها عضوًا حيًا في الكنيسة، كانت قبلاً في ظلمة الشر وقبلت خلاص ربنا يسوع فيها.
ملك أريحا وراحاب [3].
إذ قبلت راحاب الجاسوسين بالإيمان الحيّ العامل بالمحبة، هاج ملك أريحا على الجاسوسين. وهذا ليس بالأمر الغريب أو الجديد، فإنه مع كل إرسالية إلهية أو عمل إلهي يهيج عدو الخير ليبعث إرسالية شيطانية بقصد تحطيم إيمان راحاب. إذ خلق الله لآدم حواء معينة، استغل عدو الخير الحية لتكون محطمة لآدم كما لحواء. وإذ أرسل الله موسى وهرون ليخلصا الشعب من عبودية فرعون أرسل العدو الساحرين ليحطما عمل الله. وإذ بعث الله أنبياءه مثل إرميا وحزقيال وإشعياء، بعث العدو في نفس العصر أنبياء ونبيات كاذبات. وإذ جاء أخيرًا السيد المسيح لابد أن يظهر المسيح الدجال مقاومًا لكنيسة المسيح إلخ… في كل عصر مع كل عمل روحي توجد مقاومة، بل وفي حياة كل إنسان كلما تهيأ للتوبة هاجت الحرب ضده، ربما من جسده أو من أقربائه وأحيانًا من العاملين في الكنيسة!!
الجاسوسان على السطح [4-6].
“أما هي فأطلعتهما على السطح ودارتهما بين عيدان كتان لها منضدة على السطح” [6].
ماذا فعلت راحاب بالجاسوسين؟
لقد خبأتهما في بيتها،
ثم أطلعتهما على السطح فكان قلبها معهما، حتى وإن بقيت بالجسد تتحدث مع مندوبيّ ملك أريحا،
وخبأتهما بين عيدان كتان؟
يا لها صورة رمزية رائعة تكشف عما يحدث في كنيسة العهد الجديد، فقد قبل الأمم إرسالية يسوع ربنا كجاسوسين، وأخفوا الإيمان بالمخلص في قلوبهم كما في بيوتهم الداخلية، كما فعلت راحاب. وإذ دخل الإيمان إلى القلوب انطلق بها إلى السطح، أي رفعها من حرفية الناموس القاتلة التي تهبط بالقلوب إلى أسفل، لكي تنطلق خلال حرية الروح إلى فوق كما إلى السطح، فتفتح بصيرتها لمعاينة السماويات وإدراك الأمجاد الإلهية خلال الاتحاد مع الآب في المسيح يسوع ربنا بالروح القدس.
يمكننا أن نقول أن اليهود الذين يتمسكون بالحرف يعيشون في الطابق الأسفل محرومين من الاستنارة الروحية، وكأنهم قد وضعوا برقعًا على وجه موسى حتى لا يعاينوا المجد، أما الأمم فإذ قُدمت لهم الإرسالية الخاصة فتح الروح القدس قلوبهم ليقبلوها داخلهم، وانطلق بهم كما بجناحي حمامة من طابق إلى طابق، أي من مجد سماوي إلى مجد، ليبلغ بهم إلى السطح وينعموا بالوجود في القمة بغير برقع أو عائق! يقول: “فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهدة كثيرة. وليس كما كان موسى يضع برقعًا على وجهه لكي لا ينظر بنو إسرائيل إلى نهاية الزائل، بل أغلظت أذهانهم… لكن حتى اليوم حين يُقرأ موسى البرقع موضوع… وحيث روح الرب هناك حرية، ونحن جميعًا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح” (2 كو 3: 12-18). يقول الأسقف قيصريوس: [لقد ارتفعا إلى السطح إشارة إلى الكنيسة التي تقبل تعاليم الرسل ليس بطريقة منحطة بل مرتفعة، إذ لم تتبع الحرف القاتل مع اليهود، بل قبلت الروح المحيي النازل من السماء[58]].
كثيرون قبلوا الإيمان في داخلهم كما فعلت راحاب، ولكنهم في جفاف روحي رفضوا عمل الروح فيهم ليرفعهم من مجد إلى مجد حتى ينطلق بهم إلى السطح كمعاينة الأمجاد الإلهية. هؤلاء يحملوان اسم المسيح لكنهم في تراخيهم وتهاونهم يعيشون في الطوابق السفلية، وكأنهم يريدون أن يرتدوا إلى الحياة الناموسية الجافة عوض الارتفاع إلى السماويات والشركة مع الطغمات السماوية في تسابيحهم وفرحهم وبهجة قلبهم الداخلي.
لقد دارتهما راحاب على السطح بين عيدان الكتان رمز “بياض” الحياة السماوية النقية، والتي لن ينالها الإنسان وهو متراخ. يقول القديس جيروم: [الكتان يصير له البياض الناصع بجهاد كثير واهتمام. أنتم تعرفون أنه يُزرع في الأرض، التي هي سوداء وبلا جمال…، لكنه أولاً يرتفع فوق الأرض، ثم يُكسر، ويُجدل ويُغسل وبعد ذلك يُدق، وأخيرًا يُمشط، وبعناية فائقة وعمل شاق يصير في النهاية أيضًا. هنا نجد المعنى، فقد أخذت هذه الزانية الرسولين وغطتهما بكتانها حتى يقوم هذان العاملان بتحويل كتانها إلى البياض[59].
هذا وعيدان الكتان أيضًا تذكرنا بثياب الكهنوت في العهدين، فإن كنيسة العهد الجديد “راحاب”، إذ قبلت الإيمان بالسيد المسيح وانطلقت بقلبها إلى السطح لتحيا بالسماويات، إنما يتحقق لها هذا خلال العمل الكهنوتي… أقصد كهنوت السيد المسيح، بكونه “رئيس الكهنة الأعظم” الذي يشفع فينا بدمه. وكما يقول الرسول بولس: “فمن ثمَّ يقدر أن يخلص أيضًا إلى التمام الذين يتقدمون به إلى الله إذ هو حيّ في كل حين ليشفع فيهم، لأنه كان يليق بنا رئيس كهنة مثل هذا قدوس بلا شر ولا دنس قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات” (عب 7: 25-26). خلال هذا الكهنوت الجديد، على مستوى فائق قدم لنا نعمة الكهنوت، بظهوره في كهنته يعمل بنفسه فيهم، وكما يقول الرسول بولس: “كونوا أنتم أيضًا مبنين كحجارة حية، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح… وأما أنتم فجنس مختار وكهنوت ملوكي” (1 بط 2: 5، 9). خلال العمل الكهنوتي في المسيح يسوع رئيس الكهنة الأعظم وأسقف نفوسنا وراعيها تقدم الكنيسة ذبيحة الحب المقبولة لدى الآب، وترتفع بأعضائها ليشتركوا مع السمائيين – كما على السطح- في تسابيحهم وليتورجياتهم. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفمعن ليتوروجيا الأفخارستيا: [كأن الإنسان قد أُخذ إلى السماء عينها، يقف بجوار عرش المجد، ويطير مع السيرافيم، ويتغنى بالتسبحة المقدسة[60]].
طلب علامة أمانة [7-21].
بروح النبوة أدركت راحاب الزانية مواعيد الله لشعبه، فاستقبلت الجاسوسين لكي لا تعيش بعد كزانية، وإنما ترتفع بالإيمان معهما إلى السطح، تلتحف بالكتان النقي متحررة من شهوات الجسد وأهوائه. لقد أرادت أن تنعم هي وعائلتها بنصيب في هذه المواعيد الإلهية، فلم يقف إيمانها عند ثقتها في إمكانيات الله وأمانته مع شعبه وإنما وثقت أنه يهبها هي أيضًا وكل أهل بيتها، كثيرون لهم الإيمان بعمل الله مع البشرية لكنهم لا يدخلون في علاقات شخصية مع الله على مستوى حياته الخاصة الداخلية ومستوى أهل بيته.
في ثقة الإيمان قالت: “الآن إحلفا ليّ بالرب وأعطياني علامة أمانة، لأنيّ قد عملت معكما معروفًا، بأن تعملاً أنتما أيضًا مع بيت أبي معروفًا، وتستحييا أبي وأمي وأخوتي وأخواتي وكل ما لهم وتخلص أنفسنا من الموت” [12-13].
كان إيمانها على المستوى الشخصي والدالة التي تفرح قلب الله، لكن ليس في أنانية وانعزالية، فطلبت من أجل أبيها وأمها وأخوتها وأخواتها وكل ما لهم! هذا هو إيماننا المسيحي الحيّ الذي فيه يلتقي المؤمن بخالقه ومخلصه كمن له: “أنا لحبيبي وحبيبي ليّ، الراعي بين السوسن” (نش 2: 16)، لكن خلال عضويته الكنسية، فلا يعتزل الجماعة بل يدرك أنه يحيا مع مسيحها كعضوٍ فيها، حتى وإن كان متوحدًا لا يلتقي مع أحد بالجسد!
يمكننا أيضًا إن سلكنا بالتفسير الرمزي أن نقول أن راحابنا أي إيماننا يصرخ لخلاص النفس بكونها الآب والجسد بكونه الأم، وتقديس الحواس والعواطف وكل فكر بكونهم الإخوة والأخوات، وتقديس كل موهبة لحساب الرب لكونها “مالهم”!
كانت الإجابة: “هوذا نحن نأتي إلى الأرض فإربطي هذا الحبل من خيوط القرمز في الكوة التي أنزلتنا منها، واجمعي إليكِ في البيت أباكِ وأمكِ وإخوتكِ وسائر بيت أبيكِ، فيكون أن كل من يخرج من أبواب بيتك إلى خارج قدمه على رأسه، ونحن نكون برئين” [18-19]. العلامة التي أُعطيت هي “الحبل القرمزي”، إشارة إلى دم السيد المسيح، الذي بدونه لا يمكن الخلاص. يقول الرسول بولس: “بدون سفك دم لا تحصل مغفرة” (عب 9: 22)، كما يقول الرسول بطرس: “عالمين أنكم إفتديتم لا بأشياء تغني بفضة أو ذهب من سيرتكم الباطلة التي تقلدتموها من الآباء، بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح” (1 بط 1: 18-19) يقول القديس أمبروسيوس: [فقدت الزانية كل رجاء في وسائل الأمان (البشري) وسط دمار المدينة، لكن إيمانها غلب، فقد ربطت حبلاً قرمزيًا على الكوة! رفعت علامة إيمانها وشعار آلام الرب، حتى يكون رمز الدم السري الذي يخلص العالم في الذاكرة[61]].
لم يكن لراحاب أو أهل بيتها أن يتمتعوا بالخلاص لو خرجوا من البيت الذي علق على كوته الخيط القرمزي، إذ لا خلاص خارج الكنيسة المفدية بدم المسيح. يقول القديس كبريانوس:
[أتظنون أنكم قادرون أن تصمدوا وتحيوا إن انسحبتم من الكنيسة لتقيموا لأنفسكم بيوتًا ومواضع مختلفة، وقد قيل لراحاب: “اجمعي إليك في البيت أباكِ وأمكِ وإخوتكِ وسائر بيت أبيكِ، فيكون أن كل من يخرج من أبواب بيتكِ إلى خارج فدمه على رأسه، ونحن نكون بريئين؟!
في هذا أعلن السرّ، أن الذين يريدون أن يحيوا ويهربون من هلاك العالم يلزمهم أن يجتمعوا معًا في بيت واحد وحدهم، أي في الكنيسة، أما من يخرج من بين هؤلاء المجتمعين هناك معًا، أي إن كان أحد بالرغم من نواله نعمة في الكنيسة يتركها ويخرج خارجًا، فدمه على رأسه؛ هو مسئول عن هلاك نفسه، الأمر الذي أوضحه بولس موصيًا بتجنب الهرطوقي…[62]]
[من يبقى خارج الكنيسة فهو خارج معسكر المسيح[63]]، [فإنه ليس مسيحيًا من هو ليس داخل كنيسة المسيح[64]]، [إذ كيف يمكن أن يكون أحد مع المسيح إن كان لا يسلك داخل عروس المسيح، وإن لم يوجد في كنيسته؟![65]].
وللقديس كبريانوس عبارته المشهورة: [من ليس له الكنيسة أمًا، لا يقدر أن يكون الله أباه![66]]
الجاسوسان على الجبل [22].
“قالت لهما: إذهبا إلى الجبل لئلا يصادفكما السعاة، وإختبئا هناك ثلاثة أيام حتى يرجع السعاة ثم إذهبا في طريقكما… فإنطلقا وجاءا إلى الجبل ولبثا هناك ثلاثة أيام حتى رجع السعاة. وفتش السعاة في كل الطريق فلم يجدوهم” [16، 22].
لماذا طلبت راحاب منهما أن يذهبا إلى الجبل؟ وأن يبقيا هنالك ثلاثة أيام حتى يرجع السعاة؟
إذ قبلت راحاب الزانية الإيمان بالله هاج ملك أريحا، ودخل معها في عداوة ليس لأجل ذاتها وإنما من أجل إيمانها، هذا لاق بها أن ترتفع بإيمانها على جبل الله المقدس ويبقى هناك ثلاثة أيام حتى لا يقدر إبليس (ملك أريحا) أن يبلغ إليه بسعاته الأشرار.
لعل هذا الجبل يُشير إلى السيد المسيح نفسه الذي تحدث عنه دانيال النبي بكونه الحجر الذي قطع بغير يدين (دا 2: 34)، هذا “الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيرًا وملأ الأرض كلها” (دا 2: 35). هذا هو الحجر المقدس الذي يرفعنا إليه فيحطم إبليس ويسحقه كالتمثال، ليصير هو جبلاً يرتفع إليه جماعة الأمم.
والجبل المقدس أيضًا هو كلمة الله التي ترفعنا إلى السماويات، فلا نسقط في فخاخ ملك أريحا ولا نقع بين سعاته، التي تُشير إلى شهوات الجسد، وكما يقول العلامة أريجانوس: [أصبحت الزانية معرضة لحقد ملك أريحا، لماذا؟ لأن “الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد” (غل 5: 17)، مكتوب أيضًا: “إن كان العالم يبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم” (يو 15: 18). إذن، يوجد ملك عدو لهذه الزانية، هو “رئيس هذا العالم” (يو 12: 31) الذي يطارد جواسيس يسوع ويريد أن يتخلص منهم، ولكنه لا يقدر أن يضع يده عليهم إذ يسيرون على الجبل (يش 2: 22)، ويطلبون أعالي التلال وقمم الجبال. النفس الزانية التي فينا تصرخ: “رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني” (مز 121: 1). حقًا إن رئيس هذا العالم لا يقدر أن يصعد هذه المناطق ويصل إلى يسوع في المرتفعات، مع أنه في التجرية أخذه إلى موضع عالي وقال له: اطرح نفسك إلى أسفل (مت 4: 6)، فإنه لا يحب سوى الساقطين إلى الأعماق السفلية. إذ هناك يملك، وهناك يقيم مسكنه، ومن هناك يهبط إلى جهنم[67]].
وقد تأثر قيصريوس أسقف Arles بتفسير أوريجانوس بل واقتبس الكثير من عبارته إذ يقول: [اقتفى ملك أريحا أي الشيطان أثر جاسوسي يشوع، ولكنه لم يقد أن يأسرهما إذ صعدا على الجبل. إنهما لم يسيرا في الأماكن المنخفضة ولا ابتهجا بالوديان أي الملذات بل سلكا قمم الجبال ليقولا مع المرتل: “رفعت عيني على الجبال من حيث يأتي عوني”. رئيس هذا العالم لا يقدر أن يرتفع وراءهما، إذ هو يحب ما هو منحط وسهل الإنكسار، لذا غالبًا ما يقود المبتهجين بالملذات، ويملك عليهم، ويجعل له مسكنًا فيهم، وينحدر بهم ومعهم إلى الهاوية.
الجاسوسان لدى يشوع [23-24].
“ثم رجع الرجلان ونزلا عن الجبل وأتيا إلى يشوع بن نون، وقّصا عليه كل ما أصابهما. وقالا ليشوع: إن الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها، وقد ذاب كل سكان الأرض بسببنا” [23-24].
إن كان الجاسوسان يشيران إلى إرسالية، أو خدامه، فإن الخادم إذ يسلك على الجبال، أي يعيش في الكتاب المقدس بكونه الجبل المقدس الذي منه ينال الخادم العون، وعليه يرتفع فوق كل أمور الحياة الزمنية، ليلتقي مع السيد المسيح الصاعد إلى سمواته عند جبل الزيتون إلخ… يعود الخادم فينزل ويأتي إلى يشوع [23]. وكأنه خلال كلمة الله الجبل العالي يدخل الخادم إلى أعماقها ليكشف رب المجد يسوع نفسه ينتظره ليتسلم منه تقرير نجاحه. لقد جاء التلاميذ إليه فرحين يقولون: “يارب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك” (لو 10: 17). فقال لهم: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق في السماء. ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ولا يضربكم شيء، ولكن لا تفرحوا بهذا أن الأرواح تخضع لكم بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السموات” (لو 10: 18-20). إنهم كجاسوسى يشوع اللذين جاءا إليه يعلنان نصرتهما في الرب فأكد لهما يشوع “الرب قد دفع بيدنا الأرض كلها”، وكأنه يقول إنه يتمم مواعيده لنرث الملكوت.
إن كان السيد المسيح غير المنفصل عن أبيه يقضي أحيانًا الليل كله في حديث مع أبيه، فكم بالحري يليق بنا كخدام أن نلتقي بيسوعنا – كقائد موكب النصرة – ونقدم له تقريرًا عن كل صغيرة وكبيرة حتى يتحقق عمله فينا بلا عائق، ويدخل بنا إلى أرض ميراثه!
أخيرًا فإن الجاسوسين قد إختبآ ثلاثة أيام قبل رجوعهما إلى يشوع [16، 22]، وكأنه لا يمكن اللقاء مع يسوع القائم من الأموات إلاَّ بدخول الخادم نفسه في الحياة المقامة (رقم 3)… إن كان سعاة الملك يريدون قتلهما، فبدخولهما في سرّ الأيام الثلاثة أو سرّ القيامة مع يسوع ربنا يثابران في جهادهما ورعايتهما حتى يقدران أن يلتقيا به!
في إيجاز يمكننا أن نمتدح راحاب الزانية من جوانب متعددة.
أ. قبلت الجاسوسين سرًا، أي قبلت إرسالتي يسوع الخاصتي بالإيمان به في قلبها سرًا.
ب. رفعتهما إلى السطح، أي تحوّل إيمانها إلى حياة سماوية علوية.
ج. خبأتهما بين عيدان الكتان إشارة إلى قبولها الحياة الطاهرة عوض الزنا.
د. طلبت علامة أمانة، إذ قبلت المواعيد الإلهية وآمنت ليس كعطية عامة فحسب وإنما أيضًا كعطية شخصية لها ولأهل بيتها.
هـ. طلبت منهما الذهاب إلى الجبل أي لا يسلكا بعد في الأمور السفلية الدنيئة.
و. بوضع خيوط القرمز على بيتها صار رمزًا لكنيسة العهد الجديد المقدسة بالدم.
ز. طلبت من الجاسوسين أن يبقيا ثلاثة أيام في الجبل حتى لا يقتلهما رسل ملك أريحا، إعلانًا عن التمسك بالقيام مع المسيح حتى لا يمسك بنا عدو الخير.
سفر يشوع: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21 – 22 – 23 – 24
تفسير سفر يشوع: مقدمة – 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15– 16 – 17 – 18 – 19 – 20 –21 – 22 – 23 – 24