تفسير سفر إشعياء ٥٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث والخمسون
المسيح المصلوب

يعتبر هذا الأصحاح من أروع الأصحاحات المحببة لدى المؤمنين لأنه يكشف عن سر الصليب وقوته، حيث بسط الرب يديه بالحب العملي ليخلص البشرية، كما سبق فقال: “وأخلصكم بذراع ممدودة” (خر 6: 6).

تحدث عن منظر المخلص أنه “كذا مُفْسَدًا أكثر من الرجل” (إش52: 14)، لكن خلال هذا المنظر المؤلم نضح بحبه ودمه على أمم كثيرين ففداهم (إش 52: 15). هذا ما يعلنه هذا الأصحاح بكل وضوح. وكما يقول القديس أكليمندس الروماني: [المسيح هو مسيح المتواضعين لا المتعجرفين على قطيعه. فإن صولجان عظمة الله، ربنا يسوع المسيح لم يأتِ في موكب الكبرياء والزهو، مع أنه كان قادرًا أن يفعل هذا، لكنه جاء في اتضاع كما أعلن عنه الروح القدس[550]].

الصليب سرّ فائق  [1].

يفتتح النبي حديثه عن الصليب قائلاً: “من صدق خبرنا؟! ولمن استعلنت ذراع الرب؟![1].

إن كان معاصرو إشعياء النبي لم يستطيعوا قبول النبوات الخاصة بظهور كورش لرد الشعب من السبي البابلي فكيف يقدرون أن يصدقوا أمر الصليب؟! حقًا إنه سرّ عجيب يقف أمامه السمائيون والأرضيون في دهشة إذ يرون ذراع الرب قد استعلنت خلال التجسد لكي يبسط الرب يديه على الصليب ليحتضن الأمم، واهبًا إياهم قوة قيامته وبهجتها خلال شركتهم آلامه وصلبه.

v   أن الله، ابن الله، ذراع الرب يحتمل آلامًا كهذه!

القديس كيرلس الأورشليمي[551]

يبقى موضوع استعلان ذراع الرب أو تجسد كلمة الله موضوع دهش الخليقة السماوية والأرضية، كيف يصير الكلمة جسدًا‍؟!

v   بأي كلمات نبارك الله، وأي شكر يمكننا أن نقدمه له؟!…

لقد أحبنا، حتى أنه وهو الكائن الأزلي، الأقدم من كل المسكونة ذاتها صار في السن أصغر من كثير من خدامه في العالم!

كطفل كان يصيح في طفولة غير متكلمة وهو “الكلمة” الذي بدونه تعجز كل فصاحة البشر عن الكلام!

أنظر يا إنسان ماذا صار الله من أجلك؟!…

مع كونك إنسانًا أردت أن تكون إلها فضللت! وهو مع كونه الله أراد أن يكون إنسانًا لكي يرد ذاك الذي ضل!

الكبرياء الإنسانية هبطت بك أسفل، لكي ما بالاتضاع الإلهي وحده ترتفع إلى فوق!

القديس أغسطينوس[552]

v   لم يستطع أحد أن يتكلم عن أزليتك، فلأتكلم عن مجيئك يا معلمي بالدهش…

الحب جذبك لتأتي إلى بلدنا من أجلنا… صرت معنا ومنا وأنت ربنا!

هوذا عمانوئيل معنا بجوارنا، ومن أجل هذا تكلمت الألسن غير المستأهلة لك…

القديس يعقوب السروجي[553]

بقوله “ولمن استعلنت ذراع الرب؟![1] يعني ظهور السيد المسيح ليس فقط خلال التاريخ، الأمر الذي يُذهل الخليقة كلها، وإنما ظهوره في حياتنا الشخصية أو تجليه المستمر في القلب كمصدر شبع داخلي.

v   ذراع الرب هو المسيح، فلا تنسه! لا تجعل (الأعداء الروحيين) يفرحون قائلين: إنما يوجد المسيحيون إلى حين![554].

v   “ولمن استعلنت ذراع الرب؟!”

باعطائك مسيحه يهبك ذراعه، وباعطائك ذراعه يهبك مسيحه.

إنه يقود (الإنسان) إلى الطريق بقيادته إلى مسيحه. ويقوده إلى مسيحه بقيادته إلى الطريق، والمسيح هو الحق[555].

v   “تفتح يدك فتشبع خيرًا” (مز 104: 28).

ماذا يعني فتح يدك يارب؟ المسيح هو يدك. “لمن استعلنت ذراع الرب؟!” إنها تفتح عندما تُستعلن، فإن الإعلان هو انفتاح. “تفتح يدك فتشبع خيرًا”؛ عندما تعلن عن مسيحك تشبع خيرًا[556].

القديس أغسطينوس

مسيحنا – ذراع الآب –  قد استعلن لنا لكي نتمتع به كسرّ حياتنا، قائلين: “فإن الحياة قد أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا” (1 يو 1: 2).

الصليب عار وخزي [2-3].

جاء الرب المخلص كغصن ينبت قدام إسرائيل وكجذر من أرض يابسة لذلك استخف به الشعب، وخاصته لم تقبله.

نبت قدامه كفرخ[2]، إذ جاء من نسل داود كنبتة صغيرة، كغصن وهو خالق الكرمة وموجدها. جاء مختفيًا، في اتضاع، لذا رُمز إليه بالعليقة الملتهبة نارًا التي تبدو نباتًا ضعيفًا لا قوة له، لكنه بلاهوته نار متقدة!

جاء “قدام” إسرائيل بكونه الراعي الذي يتقدم قطيعه!

وكعرق من أرض يابسة[2]؛ جاء ظهوره بطريقة غير متوقعة، فقد ظن اليهود أن يروا المسيا ملكًا عظيمًا ذا سلطان، قادرًا أن يُحطم الإمبراطورية الرومانية ويقيم دولة تسود العالم؛ أما هو فجاء كجذرٍ مختفٍ في أرض جافة لا يتوقع أحد أنه ينبت ويأتي بثمر. جاء من أرض يابسة إذ ولد من القديسة مريم المخطوبة ليوسف النجار، وكان كلاهما فقيرين؛ “افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2 كو 8: 9).

جاء السيد المسيح كعْرقٍ من أرض يابسة، إذ كان اليهود في ذلك الحين في حالة جفاف شديد، جاء وسط اليبوسة ليقيم من البرية فردوسًا. قالت عنه العروس: “كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين” (نش 2: 3).

لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه، محتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستر عنه وجوهنا، محتقر فلم نعتد به[2-3].

هنا ينتقل النبي من منظر التجسد إلى منظر الصليب؛ في التجسد رآه نبتة صغيرة من نسل داود، وجذرًا من أرض يابسة، جاء كابن للبشر حين كانت البشرية كلها بما فيها شعب الله في يبوسة تامة، وجاء من عائلة فقيرة حتى قال نثنائيل: أمن الناصرة يخرج شيء صالح؟! الآن يتطلع النبي إلى منظر الصليب، فيراه بلا صورة، بلا جمال، بلا منظر، محتقر لا يجسر أحد أن يقترب إليه، رجل أحزان، نخفي وجوهنا ونسترها عن رؤيته بسبب الحزن الشديد.

v ليس له شكل ولا جمال في أعين اليهود، أما بالنسبة لداود فهو أبرع جمالاً من بني البشر (مز 45: 2). على الجبل (أثناء التجلي) كان بهيًا ومضيئًا أكثر من الشمس (مت 17: 2)، مشيرًا إلينا نحو سره المستقبل.

القديس غريغوريوس النزينزي[557]

v ذاك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر رآه البشر على الصليب بلا شكل ولا جمال؛ كان وجهه منكسًا، ووضعه غير لائق. مع هذا فإن عدم الجمال هذا الذي لمخلصك أفاض ثمنًا لجمالك الذي في الداخل، فإن مجد ابنه الملك من داخل (مز 45: 2).

القديس أغسطينوس[558]

الصليب فداء وخلاص   [4-12].

بعد أن تحدث عن الصليب من الخارج دخل بنا إلى الأعماق لنكتشف سره وقوته كذبيحة أثم وكفارة عن خطايانا، إذ يقول:

لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً” [4]. ما حمله ليس أحزانه ولا أوجاعه إنما هي أحزاننا وهمومنا وجراحاتنا…

ما يحمله إنما هو ثقل خطايانا التي انحنى بإرادته ليحملها بحبه في جسده عنا.

v لقد حمل خطايانا واحتمل أمراضنا ومع هذا لم يُعانِ من شيء يحتاج إلى علاج، فقد جُرب في كل شيء مثلنا ولم يكن فيه خطية. من يضطهد النور الذي يضيء في الظلمة لا يقدر أن يغلبه[559].

v   لقد سُحق وجُرح لكنه شَفى كل مرض وكل ضعف[560].

القديس غريغوريوس النزنيزي

v   لا تخجل من المصلوب بل بالحرى تفتخر به قائلاً: خطايانا حملها، أحزاننا تحملها وبجراحاته شُفينا.

القديس كيرلس الأورشليمي[561]

حمل السيد المسيح أحزاننا كما شاهدناه في بستان جثسيماني وهو يشرب كأسنا حتى النهاية، في كل مرارتها، إذ صلى لأبيه قائلاً: “يا أبتاه إن لم يكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك” (مت 26: 42). لقد أخذ بطرس وابني زبدي ليروه قد أبتدأ يحزن ويكتئب، قائلاً لهم: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت” (مت 26: 38).

“الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا” (2 كو 5: 21)، إذ قدم نفسه ذبيحة إثم يحمل خطايانا وآثامنا ويكفر عنها. “وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه[لولا احتماله التأديب عنا لما تمتعنا بالسلام] وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا” [5-6].

v   سلم الرب جسده للموت لكي نتقدس خلال مغفرة الخطايا التي تتحقق برش دمه…

يلزمنا أن نشكر الرب من الأعماق لأنه أخبرنا عن الأمور الماضية، وأعطانا حكمة بخصوص الأمور الحاضرة، ولم يتركنا بغير فهم بخصوص الأمور المستقبلة.

الرسالة إلى برناباس[562]

v   إننا نتنقى بدمه الثمين الذي يُطهرنا من كل خطية، دمه الذي لا يصرخ للنقمة مثل دم هابيل (عب 12: 24).

البابا أثناسيوس الرسولي[563]

v ليتنا نُذكّرِ أنفسنا نفع الإيمان الحقيقي. فإنه من المفيد ليّ أن أعرف أن المسيح حمل ضعفاتي لأجلي، وخضع  لآلام جسدي؛ حتى انه من أجلي- أي لأجل كل واحد – صار خطية ولعنة (2 كو 5: 21؛ غل 3: 13).

من أجلي اتضع وخضع!…

صار لعنة – لا من جهة لاهوته بل من جهة ناسوته – إذ هو مكتوب “ملعون كل من عُلق على خشبة” (غلا 3: 13).

بالجسد علق، ولهذا صار لعنة، ذاك الذي حمل لعنتنا!

بكى حتى لا تبكي أيها الإنسان كثيرًا!

يا له من علاج مجيد! أن تكون لنا تعزية المسيح.

لقد احتمل هذه الأمور بصبر عجيب من أجلنا… ونحن حقًا لا نقدر أن نحتمل الصبر العادي من أجل أسمه.

هوذا دموعه تغسلنا وبكاؤه يُنظفنا!

القديس أمبروسيوس[564]

v   بالموت أقام الموتى من الموت، إذ حمل اللعنة مخلصًا إيانا منها.

القديس يوحنا الذهبي الفم[565]

v   بموت البار الذي تم بمحض اختياره، نزع موت الخطاة الذي حدث بالضرورة كحكم نستحقه.

القديس أغسطينوس[566]

ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه[7].

يتحدث النبي هنا في صيغة الماضي وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هذه هي عادة الأنبياء في القديم أن يتحدثوا عن المستقبل كما عن الماضي[567]].

v   بالتأكيد تتحدث النبوة بأكثر وضوح عن الرب يسوع عندما قيل “مثل حمل سيق إلى الذبح” [7] (بكونه فصحنا).

لقد مُسحت جبهتك بعلامة (دمه) وأيضًا القائمتان، إذ حمل كل المسيحيين ذات العلامة.

القديس أغسطينوس[568]

v عندما دخل (بيلاطس ورجال الدين) في حوار الواحد مع الآخرين كان في سلامة، محققًا قول النبي: “لم يفتح فاه، وفي اتضاعه انتزع حكمه” [7-8] (الترجمة السبعينية).

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لاق به أن يكون صامتًا أثناء آلامه، ولكنه لا يكون صامتًا في الدينونة.

جاء لكي يُحاكَم، ذاك الذي يأتي بعد ذلك ديانًا، لهذا سيأتي بسلطان ليدين، ذاك الذي في اتضاع عظيم حُكم عليه[569].

v   لقد احتمل الشر بصبر، إذ كان يجلب البر فيما بعد[570].

v   إذ أُقتيد كذبيحة “أمام جازيه لم يفتح فاه”، وعندما صُلب ودفن كان دائمًا إله الآلهة الخفي[571].

القديس أغسطينوس

v   ما جُلد صمت! ولما صُلب صلى لأجل صالبيه! بماذا أكافئ الرب عن كل ما أعطانيه؟! كأس الخلاص آخذ وادعو اسم الرب.

القديس أيرونيموس[572]

يرى القديس أغسطينوس أن السيد المسيح صمت أثناء محاكمته والاستهزاء به لأنه أخفى لاهوته حتى يتمموا ما أرادوه، أما في مجيئه الأخير ليُدين “فيُعطي صوته صوت قوة” (مز 68: 33) “لا يصمت” (مز 50: 3)، إذ يعلن لاهوته.

وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي[8].

v   “في جيله من يقصه” [8]. لقد وُلد أزليًا… وُلد من الآب بلا زمن، ووُلد من البتول في ملء الأزمنة.

القديس أغسطينوس[573]

وجُعل مع الأشرار قبره ومع غنى عند موته، على أنه لم يعمل ظلمًا ولم يكن في فمه غش” [9].

v   صلبوه مع لصوص، محققين النبوة لا إراديًا. ما فعلوه لإهانته حسب للحق لكي تدرك قوة النبوة العظيمة…

حاول الشيطان أن يلقي بحجاب على ما حدث لكنه عجز، لأنه الثلاثة صلبوا أما  يسوع فوحده تمجّد حتى نُدرك سلطانه على الكل. لقد حدثت معجزات عندما سُمر الثلاثة على الصلبان، لكن أحدًا ما لم ينسب ما حدث للاثنين الآخرين بل ليسوع وحده. هكذا أُحبطت خطة الشيطان تمامًا وارتد الكل على رأسه فقد خلص واحد من اللصين، هذا الذي لم يسيء إلى مجد الصليب بل ساهم فيه ليس بقليل. فإن تغيير لص وهو على الصليب وجذبه إلى الفردوس ليس بأقل من زلزلة الصخور.

القديس يوحنا الذهبي الفم[574]

يرى القديس أغسطينوس أن النبوة “وجُعل مع الأشرار قبره” قد تحققت بإقامة حراس أشرار عند قبر السيد المسيح قبلوا رشوة ليكذبوا قائلين “إن تلاميذه أتوا وسرقوه ونحن نيام” (مت 28: 13). لقد نطقوا كذبًا فشهدوا عن قيامته، إذ ما داموا نيامًا فكيف عرفوا أن تلاميذه سرقوه؟![575]. لقد شهدوا أن جسده ليس في القبر أما اتهامهم سرقة الجسد فهو أمر لا يقبله العقل.

من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصى مع أثمه وهو حمل خطية كثيِريِن وشفع في المذنبين[12].

v إن كان من أجلك ومن أجل خطاياك أُحصى مع أثمة فلتكن حافظًا للناموس لأجله. اعبد ذاك الذي عُلق من أجلك حتى وإن كنت أنت معلقًا… أشترِ خلاصك بموتك وأدخل مع يسوع إلى الفردوس لتعرف من أين سقطت (رؤ 2: 5).

القديس غريغوريوس النزينزي[576]

v   إنه يشفع فينا كل يوم غاسلاً أقدامنا، ونحن أيضًا نحتاج إلى غسل أقدامنا يوميًا بسلوكنا بالحق بخطوات روحية، فنعرف الصلاة الربانية، قائلين:

“واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” (مت 6: 12).

القديس أغسطينوس[577]

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى