تفسير سفر العدد ١٨ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح الثامن عشر

مسئوليّة الكهنة وحقوقهم

إذ استقر هرون في الكهنوت بتأكيدات إلهيّة ملموسة حيث أنتجت عصاه لوزًا عاد الرب يؤكد له ولبنيه وبقية سبط لاوي التزامهم وحدود عملهم وأيضًا حقوقهم كخدام للرب.

  1. مسئولية الكهنة                                 1-7.

  2. إعالة الكهنة                                    8-20.

  3. إعالة اللاويّين                                  21-24.

  4. التزام اللاويّين بالعطاء                         25-32.

  5. مسئوليّة الكهنة:

إذ سقط الشعب تحت التأديب فمات بالوبأ أربعة عشر ألفًا وسبع مئة بسبب تذمرهم لهلاك قورح وجماعته (16: 49)، وأكد الله لهم اختيار هرون للكهنوت، كلَّم الشعب موسى قائلين: “إننا فنينا وهلكنا، قد هلكنا جميعًا. كل من اقترب إلى مسكن الرب يموت. أما فنينا تمامًا؟” [12-13]. وجاءت استجابة الله لشكواهم بإعلانه لهم أنهم يقتربون لمسكنه لكن خلال الكهنة، موضحًا عمل الكهنة وعمل اللاويّين وحدودهم.

قال الرب لهرون: أنت وبنوك وبيت أبيك تحملون ذنب المقدس” [1]. من الناحية الحرفيّة هرون وكهنته واللاويّون يتحملون مسئوليّة أي تدنيس يلحق بالمقدَّس باقتراب غريب إليه، إنهم ملتزمون أمام الله بحراسته.

عن الجانب الرعوي، فإن رئيس الكهنة والكهنة مع الشمامسة هم الحراس الروحيّون الذين يُسألون عن كل خطأ يرتكبه الشعب الذين هم مقدس الله ومسكنه المقدَّس. يعلق العلامة أوريجينوس على هذه العبارة بقوله: [يُسأل الطوباويّون عن أخطاء مرؤوسيهم وخطاياهم. في هذا المعنى يقول الرسول “يجب علينا نحن الأقوياء أن نحتمل ضعف الضعفاء[134]” (رو 15: 1)].

في أيام العلامة أوريجينوس يبدو أن البعض قد ظن أن القدِّيسين لا يخطئون، لهذا علق العلامة على العبارة “تحملون ذنب المقدس” (ع 1)، بشيء من التوسع موضحًا أن القدِّيسين ليسوا معصومين من الخطأ، نقتطف منها كلماته التالية: [إن كان حقًا القدِّيس لا يمكن أن يخطيء أبدًا، وأنه يجب أن نعتبره كأنه معصوم من الخطأ… ما كان قد كتب “تحملون ذنب المقدس”… لو كان القدِّيسين معصومين من الخطيئة لم قال الرسول لأهل رومية “لا تنقض لأجل الطعام عمل الله” (رو 14: 20)، هؤلاء الذين كتب إليهم في أول رسالته “إلى جميع الموجودين في رومية أحباء الله مدعوين قديسين” (رو 1: 7)…

يقول الرسول نفسه في رسالته إلى أهل كورنثوس “إلى كنيسة الله التي في كورنثوس المقدَّسين في المسيح يسوع المدعوين قديسين” (1 كو 1: 2). انظر بأي خطايا يوبخهم، إذ يكتب بعد ذلك: “فإنه إذ فيكم حسد وخصام وانشقاق ألستم جسديّين وتسلكون بحسب البشر؟” (1 كو 3: 3). كما يقول إنكم قد استغنيتم، ملكتم بدوننا، وليتكم ملكتم لنملك نحن أيضًا معكم” (1 كو 4: 8). وأيضًا: “فانتفخ قوم كأني لست آتيًا إليكم” (1 كو 4: 18). بعد قليل يقول: “يسمع مطلقًا أن بينكم زنى، وزنى هكذا لا يسمى بين الأمم” (1 كو 5: 2). إنه لم يستثنِ أحدًا، فيتهم أحدهم بالزنى والآخرين بالكبرياء. بعد هذا يعاتبهم لأنهم يحاكمون بعضهم البعض: “والآن فيكم عيب مطلقًا لأن عندكم محاكمات بعضكم مع بعض” (1 كو 6: 7). إنه يتهم الذين دعاهم قدِّيسين أنهم يأكلون ما ذُبح للأوثان ويحكم عليهم: “وهكذا إذ تخطئون إلى الإخوة وتجرحون ضميرهم الضعيف تخطئون إلى المسيح” (1 كو 8: 12). إنه ليس فقط يتهمهم بأكل ما ذُبح للأوثان بل وشرب كأس الشيطان: “لا تقدرون أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة الشياطين” (1 كو 10: 21). إنه يقول لهم: “لأني أولاً حين تجتمعون في الكنيسة أيسمع أن بينكم انشقاقات” (1 كو 11: 18)، كما يقول: “لأنه كل واحد يسبق فيأخذ عشاء نفسه في الأكل فالواحد يجوع والآخر يسكر” (1 كو 11: 21). وبسبب هذه الأخطاء يقول: “من أجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى كثيرون يرقدون، لأننا لو حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا” (1 كو 11: 30-31)… علاوة على هذا لم تقف الخطايا عند حد السلوك بل وأخطاء ضد الإيمان إذ يتهمهم هكذا: “كيف يقول قوم بينكم أن ليس قيامة أموات؟” (1 كو 15: 16)، كما يقول: “وإن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم” (1 كو 15: 17). ويطول الحديث جدًا الأمر الذي يناسب هذا المقام أن نورد جميع الشواهد بأن الذين دُعوا قديسين لا يجب أن نعتبرهم بسبب هذه التسمية معصومين من الخطأ، الأمر الذي يعتقد به من يقرأ الكتاب المقدس بطريقة سطحيّة وهو متغافل[135]].

إذ يُحمِّل الرب الكهنة واللاويّون مسئوليّة “ذنب المقدس”، لا بمعنى حراسة الخيمة ومحتوياتها بالمفهوم المادي الملموس فحسب، وإنما مسئوليتهم الروحيّة تجاه الشعب كمقدس روحي وهيكل مقدس له. إنه لا يقول: “تحملون الذنب” فحسب، بل “ذنب المقدس” وكأن الكهنة يُطالَبون بذنوب القدِّيسين لا كل ذنب يُرتكب. يوضح العلامة أوريجينوس ذلك بقوله أن الكهنة يلتزمون بالمسئوليّة نحو الخطاة الذين يطلبون القداسة، هؤلاء يُحسبون كقديسين، كل خطأ يرتكبونه يلتزم به الكهنة، أما الخطاة الذين لا يهدفون إلى القداسة ويصرون على الخطيئة فلا يحتمل الكهنة ذنبهم.

يقول العلامة أوريجينوس أن الذين يدرسون علمًا ما أو فلسفة ما يُحسبون علماء أو فلاسفة في مادة بحثهم ودراستهم، لا بمعنى أنهم يفهمون كل تفاصيلها، وإنما يبحثون فيها ويدرسونها ويخطئون أيضًا لكنهم يثابرون في دراستها، هكذا القدِّيسون هم من يهدفون إلى حياة القداسة مثابرين فيها. لهذا يقول العلامة أوريجينوس: [عندما يلتزم إنسان بدراسات في القداسة (عملية) يلزم منحه لقب قدِّيس حسب الهدف الذي يقصده، لكنه إذ يرتكب أخطاء بالضرورة يسمى خاطئًا حتى تُنزع عنه عادة الخطيئة[136]]. [القدِّيسون يندمون على خطاياهم ويشعرون بسقطاتهم وجراحاتهم ويدركونها، فيذهبون إلى الكاهن يطلبون الشفاء ويبحثون لكي يكونوا طاهرين بواسطة الكاهن الأعظم[137]].

إذن إن كان الكهنة يحملون ذنب أولادهم، ذنب الشعب، فإن الشعب أيضًا ملتزم في توبته أن يلتقي بآبائهم الذين يصلون عنهم من أجل تمتعهم بالروح القدس على الحياة المقدسة.

يكمل الرب حديثه مع هرون هكذا: “وأنت وبنوك معك تحملون ذنب كهنوتكم“، وكأن كل أمر غريب يرتكبه كاهن يلتزم به جميع الكهنة. إن كانت خطيّة واحد من الشعب في كورنثوس هدد الكنيسة حتى أسرع الرسول يقول: “نقوا منكم الخميرة العتيقة لكي تكونوا عجينًا جديدًا كما أنتم فطير… كتبت إليكم إن كان أحد مدعو أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أن لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا. لأنه بماذا لي أن أدين الذين من خارج. ألستم أنتم تدينون الذين من داخل؟ أما الذين من خارج فالله يدينهم. فاعزلوا الخبيث من بينكم” (1 كو 5: 7-13).

ليس لنا أن ندين الذين في الخارج لكن الكنيسة تلتزم بعزل الخبيث إن كان من أفراد الشعب، فماذا إن كان كاهنًا أيًا كانت رتبته الكهنوتيّة؟ هذا ما عناه الرب بقوله أن هرون والكهنة أولاده يحملون ذنب كهنوتهم. إن كان من أجل خطيئة عاخان سقط الشعب كله وحُسب الكل كمتعدين لعهد الله (يش 7: 11)، فماذا إن أخطأ الكاهن؟ يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه إن أخطأ كاهن بلا توبة، من أجله يغضب الله على البشريّة. إن فسد الكاهن وهو أب للبشريّة كقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم، يحطم الجميع!

وللعلامة أوريجينوس تأمل جميل يخص حياة الإنسان الداخليّة، فيرى الكاهن الذي يعمل داخل القدس إنما يهتم بالأمور الداخليّة، لهذا فالمؤمن يرتكب “ذنب الكهنوت” إن ترك شيئًا دنسًا يدخل إلى أعماق نفسه. يقول: [يجب أن تتجه عناية الكهنة وسهرهم بالأكثر نحو ما هو مغطى في الداخل وراء الحجاب حتى لا يوجد هناك شيء دنس أو شيء غير طاهر، بمعنى أنه يجب الاهتمام بالإنسان الداخلي وأجزاء القلب الداخليّة فتكون بلا عيب[138]].

كأن رئيس الكهنة والكهنة ملتزمون ألاَّ يدخلوا شيئًا غريبًا أو دنسًا إلى قدس الأقداس والقدس بما فيهما من تابوت العهد بكاروبيه ومذبح البخور والمنارة الذهبيّة ومائدة خبز الوجوه… الخ، فإن كان الكاروب يعني “معرفة” فإنه يليق بالمؤمن ألاَّ يسمح لمعرفة دنسة للشر أن تقترب إلى مقدس الله في داخله، بل يبقى كاروبا الرب ببهائهما في القلب يعلنان حضرة الله فيه. لا يرفع على مذبح قلبه بخورًا غريبًا، فلا يقدم صلوات بأيدي دنسة لأن صلاة الأشرار مكرهة أمام الرب، أما طلبة البار فتقتدر كثيرًا في فعلها (يع 5: 16). هكذا يحفظ منارة الرب التي هي الكتاب المقدس في قلبه دائمة الإنارة بالروح القدس الناري فيهب النفس استنارة غير منقطعة وتلتهب المشاعر على الدوام بالحب الإلهي. تجد النفس في المسيح يسوع ربها طعامها على مائدة خبز الوجوه في أعماقها… الخ، إن كل ما في القدس وقدس الأقداس من الذهب الخالص، ليس فيه نحاسًا ولا رصاصًا أو أي معدن آخر، هكذا يحفظ المؤمن قلبه بالطبع السماوي (الذهبي) فلا يسمح لمحبة العالم ولا شهوات الجسد والأمور الأرضيّة أن تغتصب قلبه!

بعد أن تحدَّث مع الكهنة وجه حديث نحو اللاويّين، قائلاً: “وأيضًا إخوتك سبط لاوي سبط أبيك قربهم معك فيقترنوا بك ويؤازروك وأنت وبنوك قدام خيمة الشهادة” [2]. إنهم يعملون مع الكهنة ورئيس الكهنة كمكرسين للرب، هبة الشعب لله، وعطيّة الله لشعبه، يعملون في توافق وانسجام مع الكهنة لكنهم لا يرون المقدسات الداخليّة ولا يلمسونها وهي مكشوفة كما سبق أن رأينا في الأصحاحات السابقة.

في اختصار أراد أن يحدِّد عمل الخدام في خيمته المقدسة معلنًا أن قداسة خدامه لا تقف عند التزامهم بالحياة المقدسة في سلوكهم الشخصي فحسب بل ومسئوليتهم عن الشعب وأيضًا عن بعضهم البعض، وأخيرًا انسجامهم معًا بالروح الواحد، روح الاقتراب القلبي والفكري والروحي، والمؤازرة خلال الخدمة المشتركة. العمل الكهنوتي ليس وظيفة لكنه شركة حب وعمل روحي لحراسة الخيمة المقدسة وأمتعتها، أي حفظ النفوس هياكل مقدسة للرب.

  1. إعالة الكهنة:

إن كان الله قد خصص كهنته للخدمة المقدسة، وصاروا ملتزمين بذنب المقدس، أراد أن يُفرِّغ كل اهتماماتهم للعمل الروحي دون أن يرتبكوا بالأمور الماديّة حتى الخاصة بمعيشتهم، لهذا قدم لهم كل احتياجاتهم الماديّة من خلال الخدمة، ليس كأجرة من عملهم بل لتفرغهم للعمل. يقول الرسول بولس: “ألستم تعلمون أن الذين يعملون في الأشياء المقدسة من الهيكل يأكلون، الذين يلازمون المذبح يشاركون المذبح، هكذا أيضًا أمر الرب أن الذين ينادون بالإنجيل من الإنجيل يعيشون. أما أنا فلم أستعمل شيئًا من هذا، ولا كتبت هذا لكي يصير فيَّ هكذا، لأنه خير لي أن أموت من أن يعطل أحد فخري” (1 كو 9: 13-15).

إن ما قد حرمه على الشعب من بكور وعشور ونذور خصصه لكهنته واللاويّين للتفرغ للعمل الروحي.

والعجيب أن الله ختم حديثه عن إعالة الكهنة بقوله لهرون: “لا تنال نصيبًا في أرضهم ولا يكون لك قسم في وسطهم. أنا قسمك ونصيبك في وسط بني إسرائيل” [20]. وكأنه أراد أن يختم حديثه معهم بخصوص حقوقهم ليس أنه يود أن يحرمهم من الميراث الأرضي إنما تمتعهم به هو نفسه كميراث أبدي لهم. إنه يود أن يشبعهم ويغنيهم لكن لا بأمور أرضيّة زائلة بل بنفسه الأبدي الذي لا يُحد!

وفي العهد الجديد دعي الكهنة “إكليروس”، في اليوناني تعني “نصيب”، وكأنهم قد اختاروا الرب نصيبًا لهم، أو اختارهم الرب من بين الشعب نصيبًا له. في هذا يقول القدِّيس ﭽيروم: [ليت رجل الإكليروس إذ يخدم كنيسة المسيح يفهم أولاً ماذا يعني لقبه عندئذ يحقق المعنى، مجاهدًا أن يعمل بما دُعي عليه. فإن الكلمة اليونانية “إكليروس” تعني “نصيب” أو “ميراث”. وقد دُعي الكهنة هكذا إما لأنهم نصيب الرب، أو يكون الرب نفسه نصيبًا له يلزمه أن يملك الرب والرب يملكه. فإن من يقتني الرب يقول مع النبي “الرب هو نصيبي” (مز 16: 5، 73: 2)، فلا يستطيع أن يقتني شيئًا بجانب الرب، وإلاَّ فلا يكون الرب نصيبه[139]]. وكأن الله لا يقصد من حرمانهم شيء بل تركيز كل أنظارهم ومشاعرهم واشتياقاتهم نحو وحده كنصيب له… وإنني أرجو أن أعود إلى هذه النقطة مرة أخرى في دراستنا للأصحاح السادس والعشرين حيث يتهيأ الكل لنوال نصيبهم في أرض الميعاد (26: 53-56).

إذ يعلم الرب أن الشعب كان لا يزال طفلاً في الروحيات حتى سبط لاوي المكرَّس لخدمته، لهذا لم يبدأ بالعبارة السابقة الخاصة بحرمانهم من نصيب الأرض للتمتع بالله وحده نصيبهم، بل جعلها خاتمة حديثه مع الكهنة (ع 20)، مقامًا لهم أولاً حقوقهم في التمتع بما يخص الله نفسه من بكور ونذور وتقدمات… الخ، وكأنه لا يطالبهم بالتنازل عن شيء إلاَّ بعدما قدم لهم ما يأخذونه! فإنه لا يحدث تفريغ من الأرضيات إلاَّ بقدر ما يشبع القلب من الله وما يخصه. فإن كان قد حرَّم عليهم ما يتمتع به الشعب من ميراث أرضي، لكنه أولاً قدم لهم أن يتمتعوا بما حرمه على الشعب (ع 14) من بكور ونذور وتقدمات. إنه يُعطي أولاً قبل أن يسحب!

لقد ركَّز بالأكثر على حق الكهنة في البكور، وقد سبق لنا الحديث عن المفاهيم الروحيّة للبكور في أكثر من موضع[140]، إنما نضيف هنا الملاحظات التالية:

أولاً: عند الحصاد يلتزم الشعب أن يقدم لله خلال كهنته باكورة حصادهم! إنها صورة مفرحة ليوم الرب العظيم أو يوم الحصاد، حيث تتقدم الملائكة فتحصد لتقدم لرئيس الكهنة الأعظم يسوع المسيح الباكورة المقدسة، التي هي نفوس المؤمنين.

ثانيًا: يقول الرب لهرون: “هأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي” [8]، لكن كيف يقومون بحراسة رفائع الرب مع أنهم يأكلونها ويستهلكونها؟ إنها رمز للباكورة المقدسة التي لا تُستهلك، أي “السيد المسيح نفسه” الذي هو “باكورة الراقدين”، البكر الذي يتقدم للآب بكرًا للبشريّة قيقدسنا، ويتقدم إلينا عطيّة الآب ليجعلنا فيه أبكارًا. هذا هو البكر الذي نتمتع به ولا يستهلك، بل بالعكس يُقيمنا من استهلاكنا أو موتنا، لنحيا به وفيه إلى الأبد.

إن الكنيسة في كهنوتها صارت ملتزمة بتنفيذ الوصيّة الإلهيّة: “هأنذا قد أعطيتك حراسة رفائعي”، وكأنها تلتزم أن تكون أمينة في حراستها لتجلي السيد المسيح البكر، رفيعة الله، في حياة المؤمنين.

ثالثًا: يأمر الرب هرون ألاَّ يقبل بكور الحيوانات النجسة بل يأخذ عنها فدية، أما الحيوانات الطاهرة فلا يقبل عنها فدية، بل يأخذ بكورها: “إنها قدس” (ع 17)، وكأنه اشترط في البكور أن تكون مقدسة. وفي قوانين الكنيسة لا تقبل قرابين الوثنيين أو الأشرار غير التائبين بل يشتري بها حطب لتحرق في النار! فالبكور رمز للمسيح القدوس الذي يتقبله الآب تقدمة حب عن البشريّة لأجل تقديسها فيه، إذ يقول السيد “لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدسين في الحق” (يو 17: 19).

  1. إعالة اللاويّين:

إن كان الكهنة يتمتعون بالبكور فإن اللاويّين يتمتعون بالعشور مؤكدًا الرب إنهم ينالون بهذا حق الله نفسه، إذ ليس لهم نصيب في الميراث الأرضي.

  1. التزام اللاويّين بالعطاء:

إن كان اللاويّون يتمتعون بعشور الشعب، فهؤلاء بدورهم يلتزمون بتقديم عشر العشور لهرون الكاهن. إنه يريد أن يدرب الجميع: شعبًا وكهنة على العطاء. فالكاهن وإن كان يلتزم بالعطاء القلبي والروحي وبذل كل حياته للرب في خدمة شعبه، فهو ملتزم أيضًا بالعطاء المادي كسائر إخوته وأولاده الروحيّين. إنه لم يُرِد أن يحرم سبطًا من العطاء، حتى اللاويّون أنفسهم!

أخيرًا بهذا التدبير الإلهي أراد الله من الكهنة واللاويّين أمرين: أولاً وهو يكرمهم بتمتعهم بحقوق الله من تقدمات وباكورات ومحرمات وعشور ينزع عنهم الثراء الفاحش الذي كان لكهنة الوثنيّين في ذلك الوقت. هم مكرمون في الرب لكنهم لا يغتصبون حق الشعب، لهذا لا يقدرون أن يقتنوا نصيبًا من أرض الموعد لهم أو لأولادهم. الأمر الثاني، أنهم بهذا يعيشون كجماعة مترابطة معًا فيشعر اللاويّون أن ما يتمتعون به من عطايا أرضيّة هي من الله شخصيًا لكنها قدمت خلال الجماعة المقدسة أو الشعب المقتني لله، والكهنة أيضًا إذ ينالون عشور العشور من اللاويّين يدركون ذات الإحساس، وكأن الله أراد أن ينزع كل روح للتعالي للكهنة واللاويّين سواء على الشعب أو الكهنة على اللاويّين أنفسهم. بهذا النظام لا يتحوَّل الكهنوت إلى طبقة أرستقراطيّة معتزلة عن الشعب بل هم خدامه والعاملون لأجل تقديسهم في الرب.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى