تفسير سفر العدد ٢٩ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح التاسع والعشرون

أعياد وتقدمات دائمة

يكمِّل الرب حديثه عن الأعياد والتقدمات فيذكر هنا المجموعة الثانية من الأعياد السنويّة، التي تقام في النصف الثاني من السنة، مع ختام عن التقدمات الشخصيّة التي يقدمها الإنسان دون التزام بوصيّة معينة.

  1. يوم الهتاف العظيم                              1-6.
  2. يوم الكفارة                                     7-11.
  3. عيد المظال                                    12-38.
  4. التقدمات الشخصيّة                             39-40.
  5. يوم الهتاف العظيم:

في الشهر السابع يُحتفل بثلاث أعياد عظام مترابطة معًا: عيد الأبواق أو الهتاف، وعيد الكفارة وعيد المظال. أما اختيار هذا الشهر لهذه الأعياد فسّره الآتي:

أ. كما تقدس أيام الأسبوع يتقدس اليوم السابع، وتقدس الأسابيع بتقديس عيد الأسابيع في الأسبوع السابع، هكذا أيضًا تتقدس الشهور بإقامة هذه الأعياد الثلاثة في الشهر السابع، وكأنها سبت الشهور. لقد حرص الرب على تقديس كل ما هو سابع في الزمن على كل المستويات.

ب. يسمى هذا الشهر عند اليهود “تشري” أي “تشرين الأول” (أكتوبر) وهو بدء السنة المدنيّة، سماء الحاخاميّة يوم ميلاد العالم.

ج. كانت هذه الفترة هي فترة راحة بالنسبة للعاملين في الزراعة، ما بين الحصاد وبذر البذور، وكأن الله أراد أن يفرِّغهم للعبادة المفرحة في هذه الفترة.

د. كما يبدأ الله السنة بالفصح في الشهر الأول علامة على أن الله هو الذي عبر بهم من العام الماضي ليدخل بهم إلى عام جديد، رمز عبورنا من الحياة الزمنيّة إلى الحياة الأخرى، هكذا أراد أن يقدس الشهر السابع أي عند نهاية نصف السنة لكي يشعر الإنسان أن الله بدأ هو يكمل إلى التمام. فلا يكفي أن نقدم لله بكور حياتنا وإنما نسلمه كل الحياة ليقودها بنفسه.

أما بالنسبة لعيد الأبواق أو عيد الهتاف العظيم فإنه يُدعى محفلاً مقدسًا حيث تُضرب الأبواق، كأن الله يعلن لشعبه أن يستعدوا للعيدين العظيمين والمتكاملين معًا: عيد الكفارة العظيم وعيد المظال. وبحسب التقليد اليهودي لا يُضرب في هذا اليوم بالبوقين الفضيين المذكورين في الأصحاح العاشر بل بالشوفار أي قرن الكبش الذي كان يستخدم في مناسبات خاصة مهيبة مثل المناداة بسنة اليوبيل (يش 6).

  1. يوم الكفارة:

في العاشر من الشهر السابع يكون لهم محفل مقدس فيه يتذللون، فيه يقربون محرقة للرب رائحة سرور (ع 8). هكذا يمتزج تذللهم بالفرح إذ يسر الله بهم لا من أجل تذللهم ولكن من أجل المصالحة التي تتحقق بينه وبينهم خلال المحرقة في يوم الكفارة العظيم.

تحدَّث سفر اللاويّين في شيء كبير من التوسع عن هذا اليوم العظيم (لا 16، 23: 26-32)، فهو يوم صوم واتضاع وتكفير عن خطايا الشعب كله لكن دون أن ينسى أن يكفر رئيس الكهنة عن نفسه أيضًا. الأمر الذي استلفت نظر الرسول بولس في مقارنته بين السيد المسيح رئيس الكهنة الأعظم الذي بلا خطيّة دخل بنا إلى السموات عينها ورئيس الكهنة  اليهودي الذي يدخل ظل السمويات مرة في السنة بعد تقديم دم عن نفسه كما عن جهالات الشعب (عب 9: 1-12، 24-28). وإنني أرجو أن أعود إلى تفاصيل طقسه في دراستنا لسفر اللاويّين إن شاء الرب وعشنا.

  1. عيد المظال:

إن كان عيد الكفارة هو عيد صوم وتذلل، فإن عيد المظال الذي يلحقه في الخامسة عشر من نفس الشهر ويستمر ثمانية أيام هو عيد الفرح والتهليل. إن كان الكفارة يشير إلى الصليب لهذا ارتبط بالصوم والتذلل، فإن عيد المظال يشير إلى ثمار الصليب بما يحمله من قوة قيامة وصعود وتمتع بالروح القدس. فاستمرار العيد ثمانية أيام إنما يشير إلى الحياة المُقامة أي الحياة الأخرى، إذن اليوم الثامن هو اليوم الأول بعد الأسبوع، أي الدخول في أسبوع جديد. في هذا العيد يلتزم كل رجل أن يظهر أمام الرب في الهيكل (تث 16: 16) وكانوا يسكنون خيامًا ينصبونها أثناء العيد في ساحات المدينة وعلى سطوح البيوت وأفنيتها وفي دور الهيكل (نح 8: 16) وعلى الجبال المجاورة لأورشليم، بهذا كان قمة الأعياد إذ يشير إلى انطلاق الكنيسة خارج المسكن الأرضي. وكانت الشريعة تُقرأ كل سبع سنين أمام الشعب في ميعاد سنة الإبراء في عيد المظال (تث 31: 9-13). وقد أُدخلت مراسيم كثيرة للعيد بجانب الذبائح والتقدمات التي نتحدث عنها في دراستنا لسفر اللاويّين إن سمح الرب. ففي وقت ذبيحة الصباح كان الشعب يحمل سعف النخيل وأغصان الآس والصفصاف والفاكهة ويطوفون حول المذبح مرة كل يوم، وسبع مرات في اليوم السابع[275] كما ظهرت عادة أخرى وهي أن كاهنًا يملأ وعاءً ذهبيًا من ماء بركة سلوام ويحمله إلى الهيكل عند الذبيحة الصباحيّة والمسائيّة كل يوم من أيام العيد، فسيتقبلونه بهتاف البوق وكلمات إشعياء النبي “فتستقون مياهًا بفرح من ينابيع الخلاص” (12: 3). ولعل رب المجد قد أشار إلى هذا بقوله: “إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 37-38). وكأن السيد قد وَجَّه أنظارهم إلى الروح القدس الذي يتقبلونه في داخلهم واعتادوا أيضًا في المساء اللاحق لأول يوم في العيد أن يضيئوا دار النساء من منارتين عاليتين تحمل كل منهما أربعة مصابيح كبيرة فتلقي بنورها على المدينة إشارة إلى عمل الروح القدس “الاستنارة الداخليّة”.

كأن عيد المظال هو عيد الفرح بالقيامة والانطلاق نحو السمويات خلال التمتع بالروح القدس الذي يفجِّر ينابيع مياه حيّة في داخلنا ويُنير بصيرتنا الداخليّة.

استخدام المظال أيضًا يشير إلى حالة الشعب بعد انطلاقه من أرض العبوديّة ورحيله في البريّة في خيام ليعبر إلى أورشليم مدينة الملك العظيم. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [نحن الآن قبل أن ندخل أرض الموعد، أعني الملكوت الأبدي نعيش في البريّة في مظال… الإنسان الذي يدرك أنه عابر في هذا العالم يكون في مظال. هذا الإنسان يفهم أنه راحل في مدينة غريبة إذ يرى نفسه يئن مشتاقًا إلى وطنه[276]].

أما بالنسبة للذبائح والتقدمات في هذا العيد فيلاحظ الآتي:

أولاً: كثرة الذبائح والتقدمات ففي أيام العيد يذبح كمحرقات سرور للرب 71 ثورًا 15 كبشًا و105 خروفًا حوليًا صحيحًا الخ… فبقدر ما يزداد الفرح تعلن الذبيحة بصورة، لأنه فرحنا إنما ينبع عن مصالحتنا مع الله خلال ذبيحته، وسروره بنا من خلالها! بمعنى آخر كلما اكتشفنا قوة الذبيحة إنما ننعم بالفرح السماوي!

ثانيًا: إن كان فرح العيد يبعث فيهم تقديم ذبائح وتقدمات لكن دون تجاهل للمحرقة الدائمة اليوميّة في الصباح والمساء. وكأن العيد وهو يدفعنا بالأكثر للتمتع بالشركة مع الله وممارسة عبادتنا الليتورجية لا يعني توقفنا عن تداريب حياتنا اليوميّة.

ثالثًا: في أيام العيد لا تختلف الذبائح فيما عدا اليوم الثامن حيث الاعتكاف، أما عدد الثيران فيبدأ برقم (13) وينتهي في اليوم السابع برقم (7) بتناقص ثور واحد كل يوم عن اليوم السابق له.

رابعًا: يقدم كل يوم ذبيحة خطيّة كما في سائر الأعياد ملتحمة مع المحرقات وجود رائحة سرور للرب… وكأن سرور الآب بنا يلتحم مع غفران خطايانا خلال العمل الخلاصي الواحد: الصليب!

  1. التقدمات الشخصيّة:

بجانب هذه الذبائح والتقدمات الجماعيّة على مستوى كل يوم، وكل أسبوع وكل شهر وكل سنة توجد النذور والتقدمات والسكائب والذبائح التي يقدمها الإنسان بإرادته الشخصيّة، ليلتحم العمل الجماعي مع الشخصي وعبادة الجماعة مع عبادة كل عضو فيها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى