تفسير سفر الحكمة ١٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن عشر

حكمة الله العاملة مع شعبه ومع الأمم 3

المقابلتان الخامسة والسادسة

في الأصحاح السابع عشر أسهب الحكيم في حديثه عن الضربة التاسعة التي تُعتبر الإنذار الأخير قبل قتل أبكار المصريين. لقد أوضح الكاتب أن الخطر قد صار على الأبواب. وكان يليق بالمصريين أن يدركوا خطورة الظلمة الداخلية خلال ضربة الظلمة غير الطبيعية من جوانب كثيرة. الآن يكمل حديثه عن المقابلة الخامسة ألا وهي تمتع المؤمنون بنورٍ إلهيٍ يكشف عن إقامة ملكوت إلهي داخل القلب، يقابل إقامة مملكة ظلمة شيطانية داخل غير المؤمن.

ثم يتحدث عن الضربة الأخيرة ألا وهي قتل الأبكار يقابلها نجاة المؤمنين، ولكن ليس في محاباة، إنما متى أخطأوا يسقطوا تحت التأديب.

  1. تكملة المقابلة الخامسة (نور الرب لقديسيه).

أ. نور إلهي 1.

ب. شمس فريدة غير مؤذية2-3.

ج. نور الشريعة الإلهية4.

  1. المقابلة السادسة: الليلة المفجعة وليلة الخلاص.

أ. من يقتل يُقتل5.

ب. خطة إلهية6-8.

ج. حزن يتحول إلى تسبيح9.

د. تأديب شامل10-11.

هـ. ميتة مُرَّة12.

و. اعتراف بالحق13-16.

ز. مخاوف متزايدة17-19.

ح. تأديب بغير محاباة20.

ط. أبوة وشفاعة21-25.

  1. تكملة المقابلة الخامسة (نور الرب لقديسيه).

أ. نور إلهي

أما قديسوكَ فكان عندهم نورٌ عظيم،

وكان أولئك الذين يسمعون أصواتهم من غير أن يبصروا اشكالهم،

يغبِّطونهم على أنهم لم يقاسوا العذاب. [1]

برع أغلب قدماء المصريين في العلوم والفنون والثقافة. لكن للأسف سقطوا في العبادة الوثنية، وما يتبعها من عادات شريرة وتصرفات غير لائقة، فصاروا بإرادتهم أبناء الظلمة، لذا حلت بهم ضربة الظلام. الآن إذ يتحدث في مقابل ذلك ما يتمتع به المؤمنون من نورٍ إلهي، يدعوهم قديسين.

ما يشغل قلب الكاتب ليس تمتع القديسين بنور الشمس، بل بالنور الإلهي، نور شمس البرّ الذي يقدم لهم عبورًا للحياة السماوية وسط ضيقات هذا العالم.

 لأنهم تقدسوا وتخصصوا لله. وكانوا يعبدون الله، إذ كان لهم نور في منطقتهم، يتحركون بكامل الحرية، يمارسون حياتهم بفرحٍ وبهجة قلبٍ.

يبرز الحكيم النور الداخلي المشرق في قلوب القديسين، ألا وهو نور الحب الإلهي. فإنهم إذ كانوا يمارسون حياتهم اليومية بجد واجتهاد ويعبدون الرب، وسط النور العظيم، كان جيرانهم من الوثنيين يشعرون بتحركاتهم ولا يبصرونهم. ومع هذا لم يحمل القديسون أية شماتة أو بغضة أو رغبة في الانتقام، ولا تحركوا لمضايقتهم سواء بالكلام أو السلوك، لقد شعر الأشرار بالفارق العظيم بين تعاستهم وبين فرح القديسين الذين يتقون الله، وبين قلوبهم القاسية وطول أناة القديسين عليهم. كانوا يشكرون القديسين ويطلبون منهم المغفرة على ما صدر منهم.

v     لو لم يكن الابن وحده هو النور الحقيقي، وكانت المخلوقات تشترك معه في هذه السمة أيضًا… فلماذا يصرخ القديسون بصوتٍ عالٍ، طالبين من الله: “أرسل نورك وحقك” (مز 3:43)؟… إن كان الإنسان غير محتاج إلى الكلمة الذي ينير، فلأي هدف يطلب منه القديسون أن ينيرهم، إن كان لا يستطيع أن يعينهم؟

إذن، الابن الوحيد الجنس مختلف بالطبيعة عن المخلوقات، إذ هو النور الذي يضيء للذين بلا نور…

إذا كنا نحتاج إلى النور من آخر، فنحن بكل وضوح لسنا النور الحقيقي. لذلك ليس لنا نحن ذات طبيعة الكلمة، هذا الذي بالطبيعة يفوقنا بغير قياس[615].

v     ليس النور هو المسئول عن مرض غير المستنيرين، لأنه كما يُشرق نور الشمس على الكل، ولا يستفيد منه الأعمى دون أن نلوم الشمس، وإنما نلوم المرض الذي أصاب العينين، هكذا أنار الكلمة، ولكن الخليقة المريضة لم تقبل النور. هكذا النور الحقيقي، الابن الوحيد، الذي ينير الكل، لكن “إله هذا الدهر” كما يقول بولس: “أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا يضيء لهم نور معرفة الله ويشرق عليهم” [4][616].

القديس كيرلس الكبير

v     إذ نعرف أن المسيح هو النور الحقيقي (يو 9:1)، ليس فيه بطلان (1 تي 16:6)، نتعلم هذا: أنه من الضروري لحياتنا أيضًا أن تستنير بأشعة النور الحقيقي. لكن الفضائل هي أشعة شمس البرّ (ملا 20:3) تنبعث لإنارتنا، خلالها نخلع أعمال الظلمة (رو 12:13) حتى نسلك بلياقة كما في النهار (رو 13:3)، ونرفض خفايا الخزي. إذ نفعل كل شيء في النور نصير النور ذاته، الذي يشرق على الآخرين (مت 15:5-16)، وهو نوع مميز من النور. وإن عرفنا المسيح أنه “تقديس” (1 كو 30:1)، الذي فيه كل عمل يكون راسخًا ونقيًا، فلنبرهن بحياتنا أننا نحن أنفسنا مشاركون حقيقيون في اسمه، نتناغم في الفعل والكلام مع قوة تقديسه[617].

القديس غريغوريوس أسقف نيصص

v     إن كانت الحياة تعادل “نور الناس“، فإنه ليس أحد في الظلمة هو حي، وليس أحد حي هو في الظلمة، بل كل من هو حي هو أيضًا في النور، وكل من في النور هو حي. لهذا فإن من هو حي وحده هو ابن النور، وابن النور هو ذاك الذي تشرق أعماله أمام الناس (مت ٥: ١٦)[618].

v     يقول بولس إنه كان قبلاً “ظلمة والآن نور في الرب” (١ كو ٢: ١٤ – ١٥). هكذا يمكن للظلمة أن تتحول إلى نور. إنه ليس من الصعوبة لمن يدرك إمكانية كل إنسان أن يتغير إلى ما هو أسوأ أو ما هو أفضل[619].

v     إنه يمكن لمن يملك نور الناس ويشترك في أشعته أن يحقق أعمال النور ويعرف نور المعرفة (هو ١٠: ١٢ LXX) لأنه مستنير. لكن يلزمنا أيضًا أن نأخذ بعين الاعتبار الحالة التي للضد، أي أن كل من الأعمال الشريرة والمدعوة معرفة ليست حسب الحق، هذه تملك أسس الظلمة[620].

العلامة أوريجينوس

ب. شمس فريدة غير مؤذية

ويشكرونهم على أنهم لا يؤذون، بعد أن ظُلموا،

ويستغفرونهم من معاداتهم لهم. [2]

بدل الظلمة جعلت لهؤلاء عمودً نارٍ،

مرشدًا في رحلةٍ لم يعرفوها،

وشمسًا لا تؤذي في تجوالهم المجيد. [3]

نظرة مفرحة للحكيم إذ يرى القديسين – حسب تعبيره – في وسط البرية في ضيافة الله نفسه، يقودهم كعمود نورٍ يبعث فيهم فرحه حتى وسط الليل. ضيافة إلهية في طريق البرية الذي لم يكونوا يعرفونه، فتحولت البرية إلى سماءٍ مبهجةٍ، ليس تحت رعاية ملائكة فحسب، بل رب الملائكة نفسه!

بقوله “لا تؤذي” يقصد أن الشمس المادية مع أهميتها العظمى، لكن إن دامت فترة طويلة قد تؤذي من يتعرض لها بما يدعى “ضربة شمس”. ولعل اليهود كانوا يعانون من الشمس. فمن جانب كان المصريون يدفعونهم على عبادة الإله رع “الشمس” بضغوط كثيرة. هذا ومن جانت آخر فإنه ما أن تشرق حتى يبدأوا في أعمال الصخرة ويعانوا من الظلم الساقطين تحته، ويبقوا هكذا حتى الغروب، فارتبطت الشمس بالمذلة والعنف والمعاناة من الظلم.

ج. نور الشريعة الإلهية

أما أولئك فكانوا يستوجبون أن يفقدوا النور،

ويحبَسوا في الظلمة لأنهم حبسوا أبناءك،

الذين سيُمنحُ العالم بهم نور الشريعةَ غير القابلِ للفساد. [4]

حُبس المصريون الوثنيون في سجن الظلمة، لأنهم حبسوا بني الله الذين يأتي منهم السيد المسيح النور الأبدي غير الفاني، المشرق على الجالسين في الظلمة!

بينما يحبس الأشرار أنفسهم في سجن هو من صنعهم يتمتع القديسون الحكماء بنورٍ عظيمٍ، “جعلت لهؤلاء عمود نورٍ دليلاً في طريق لم يعرفوه، شمسًا لتلك الضيافة الكريمة لا أذى بها” (3:18).

يرى الكاتب في خروج الشعب من مصر إلى أرض الموعد تمتعهم في الطريق باستلام الشريعة على جبل سيناء خلال موسى النبي، يكونها نورًا يهدي البشرية إلى التمتع بكلمة الله المتجسد، شمس البرّ.

v     ينير الكتاب أعين النفس فاقرأه أيها العاقل، وامتلئ من حبّه. فمن قراءة الأسفار المقدسة تشرق الشمس على العقول التي تتغذى منها بتمييز.

لقد وضع الله الأسفار المقدسة في العالم كسراج نورٍ تضيء ظلمته. فالذي يحبّ نفسه يستنير بالقراءة، ويسير على هداها.

اقترب من الكتاب بحبٍ، تأمل جماله. لن تستفيد بدون الحب، لأن الحب هو مدخل الفهم.

يفرض الكتاب حبَّك، فإن كنت لا تحبه فلا تقرأه. إنه يكلمك، فإن ضجرت في قراءته حرمك من إيماءاته.

يجب أن تحبَّه وتفتحه وتقرأه وتتأمل جماله، وإلا فلا تقرأه، لأنك إن كنت لا تحبَّه لن تستفيد منه.

القديس مار يعقوب السروجي

v     سواء خلص الإنسان أم هلك فإن الإنجيل يبقى في قوته. النور حتى وإن أعمى أحدًا فهو نور. والعسل وإن كان مرًا بالنسبة للمرضى لا يزال حلوًا. هكذا الإنجيل له رائحة ذكية للكل حتى إن هلك الذين لم يؤمنوا به[621].

v     إن ضاع إنسان لا يلوم إلا نفسه. فالطيب الملطف يُقال إنه يخنق الخنازير. النور يعمى الضعفاء. ففي طبيعة الأمور الصالحة ليس فقط أن تُصلح من يلتصق بها، بل وتحطم المقاوم لها، هكذا تعمل قوتها[622].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. المقابلة السادسة: الليلة المفجعة وليلة الخلاص.

أ. من يقتل يُقتل

v     وبالمثل أصبح المصريون غير قادرين على التمييز بين الليل والنهار، وأصبحوا يعيشون في ظلامٍ لا يتغير (خر 10: 21-23). ولكن لم يحدث شيء غير عادي للعبرانيين. وهكذا كان الأمر مع كل الأشياء الأخرى: البرد والنار والدمامل (البثور) وذباب الماشية والبعوض وسحابة الجراد، وكان لكل من هذه أثرها الطبيعي على المصريين[623]. وعلم العبرانيون الكوارث التي حدثت لجيرانهم بالسمع، حيث أنه لم يحدث لهم شيء مماثل. ثم زادت حدة التمييز بين المصريين والعبرانيين في ضربة موت الأبكار (خر 11-46؛ 12: 29-31). وأصيب المصريون بالصدمة، وأخذوا ينوحون على فقد أعز أولادهم بينما استمر العبرانيون يعيشون في هدوء وأمان تامين، وتأكد لهم الخلاص بسفك الدم (عب 11: 28). وفي كل مدخل بيت تم تمييز قائمتي الباب والعتبة العليا الموصلة بينهما بالدم[624].

القديس غريغوريوس النيسي

بعد الضربات التسع التي حلت بفرعون وشعبه، والتي لم تحل بشعب الله، بل سندتهم وسط ضيقتهم الشديدة، جاءت الليلة الحاسمة. في هذه الليلة تغيرت الموازين تمامًا. كان في خطة فرعون إبادة شعب الله، وكان يظن أنه ليس من يقدر أن ينجو من يديه. فقد أصدر أمره بقتل كل أطفالهم الذكور، حتى يتحولوا إلى جماعة من النساء بلا رجال؛ تعمل النساء كجاريات لدى المصريين، وعلى المدى البعيد لا يوجد نسل عبراني، فلا يصير للجماعة وجود نهائيًا.

في هذه الليلة ما حدث فجأة وفى لحظات أن فقد كل المصريين أبكارهم! تعرضوا لضربة لم تكن في حسبانهم أو حسبان أحد قط، حولت أرض مصر إلى مناحة عامة، وليس من معزٍ، ولا من معينٍ!

ب. خطة إلهية

ولمَّا عزَموا على قتل أطفالِ القديسين،

وخُلِّص طفلٌ واحدٌ منهم بعد أن عُرِّض لذلك،

انتزعتَ جمهور أولادهم لتعاقِبَهم،

وأهلكتهم جميعًا في الماء الجارف. [5]

قتلوا الأطفال الأبرياء، وسخَّروا الكل لخدمتهم، وظنوا؛ أنه ليس من مدافعٍ لمن لا قوة لهم ولا جيشً. ولكن السماء لا تترك عصا الخطاة تستقر على الصديقين.

قتلوا الأطفال الأبرياء فكان من ثمر ذلك قتل أبكارهم في ليلة واحدة!

إن كان كل الأطفال قد تعرضوا للقتل، فإن أحدهم تعرض لذلك فألقى في النهر. لكن الوسيلة التي كانت للهلاك صارت للخلاص، فقد انتشلته ابنة فرعون وربته في القصر، ولم تدر أنه القائد المُعد من قبل الله لتحرير العبرانيين من عبودية فرعون. في الماء الذي غرقت فيه جيوش فرعون خرج منه هذا الطفل القائد.

وتلك الليلة أُخبرَ بها آباؤنا من قبلُ

لكي تُطيب نُفوسهم،

لعِلمِهم اليقينِ بأيَّة أقسامٍ وثقوا. [6]

سبق فأخبر الله موسى النبي عما سيحدث، فما حدث لم يكن وليد مصادفة كما يظن البعض أحيانًا. كان عنصر المفاجأة بالنسبة للأشرار يزيد من حدة الضيقة، وكان إدراك القديسين مقدمًا ما سيحدث أعطاهم ثقة أعظم في عمل الله، وحوَّل حياتهم إلى حياة متهللة شاكرة لله ومسبحة.

لقد طابت نفوسهم، إذ أدركوا يقين أمانة الله في دعوته لمؤمنيه.

فتوَقَّع شعبُك خلاصَ الأبرار وهلاك الأعداء. [7]

لم ينم الشعب تلك الليلة، إذ كان مترقبًا بإيمان وثقة أن ما أعلنه الله حتمًا يتحقق: خلاص للأبرار، وهلاك للأشرار!

لأن ما عاقَبتَ به أعداءنا

صار لنا موضع مجدنا بدعوتِك لنا. [8]

تهلل الشعب وسبح ليس لشهوة انتقام من مقاوميهم، وإنما لاعتزازهم بتحقيق وعود الله الصادقة أنه ملجأ لمؤمنيه وسند لهم.

يجلب الأشرار الضربات عليهم، ويصير ما هو هلاك لهم خلاصًا للصديقين.

ج. حزن يتحول إلى تسبيح

فإن بني الصالحين القديسين كانوا يذبحون خُفيةُ،

وأجمعوا على إقامة هذه الشريعة الإلهية،

أن يشترك القديسون في الخيرات والمخاطر على السواء،

وكانوا منذ ذلك الحين ينشدون أناشيد الآباء. [9]

يقصد بالصالحين القديسين إبراهيم اسحق ويعقوب وغيرهم من الآباء، فقد استلم الشعب عن آبائهم تقديم ذبائح للرب. وإذ مُنعوا كانوا يقدمونها خفية. فقد أدركوا ما لهذه الشريعة الخاصة بتقديم ذبائح حيوانية من أهمية، فأصروا بالإجماع ألا يتوقفوا عن تقديمها.

هنا يقدم لنا بعض ملامح هذا الشعب المُستعبد، والساقط تحت السخرة:

أولاً: أصروا على الحياة والعبادة كما استلموها من آبائهم، حتى يتمتعوا بحب الله وتحقيق وعوده لآبائهم.

ثانيًا: في وسط المذلة كانوا يحملون روحًا واحدة، فكانوا يجمعون على تقديم العبادة بفكرٍ واحد تسلموا طقوسها عن الأجيال السالفة.

ثالثًا: أن يمارسوا حياة جماعية في التمتع معًا بالخيرات واحتمال والضيقات.

رابعًا: اتسم هذا المجتمع المتغرب والساقط تحت العبودية بروح الرجاء والتهليل، إذ كانوا بالفعل قبل ظهور موسى لاستلام العمل القيادي ينشدون تسابيح أو أناشيد الآباء.

هذه الصورة البهية لم يحدثنا عنها موسى النبي في سفر الخروج، لأن ما كان يشغله الكشف عن برّ الله العاملة للخلاص، وتدبيره الإلهي الفائق. أبرز الكاتب أنهم كانوا بالفعل قبل حدوث الخلاص في تلك الليلة ينشدون تسابيح الخلاص، بروح الجماعة في رجاء حيَّ.

د. تأديب شامل

وكانت جلَبَةُ الأعداء الناشزةُ تردُّ عليهم،

وصوت الباكين على أطفالهم بالنحيب ينتشرُ في كل اتجاهٍ. [10]

جاءت الكارثة شاملة كل المصريين، فهو تأديب جماعي، لا يخلو بيت من بكر لهم يموت، خاصة وأن المجتمع في ذلك الحين كان يتميز بنظام الأسرة الكبير. ففي البيت الواحد يموت أكثر من بكر، حيث اعتاد الاخوة المتزوجون أن يعيشوا معًا في دارٍ كبيرة!

مع وحدة السكن ووحدة التجربة لم تكن هناك مشاركة جماعية للتعزية، ليس من شخصٍ لم تُصب أسرته في هذه الضيقة.

بينما كان الأبرار وسط ضيقتهم ينشدون معًا بروح واحدة في تناغم فيما بينهم، كما في تناغمٍ مع آبائهم، إذا بغير المؤمنين يصدرون أصوات نشاز رهيبة وصرخات مرة، بسبب قتل أبكارهم. لقد امتلأت بقاع مصر من صوت النحيب بسبب موت أبنائهم. ومع أن الكارثة التي حلت بهم مشتركة لكن الأصوات تمثل ضوضاء بلا انسجام.

الكنيسة حتى في وسط آلامها تتمتع بالوحدة في الروح بعمل الروح القدس، أما الأشرار فحتى أن اتفقوا على  مقاومة الكنيسة يصدرون أصواتًا متعارضة ليس فيها تناغم.

وكان العقاب الواحد يُصيب العبد والسيد،

وكان ابن الشعب والملك يعانيان العذاب الواحد. [11]

لقد ميزَّ فرعون نفسه عن رجال قصره، ورجال قصره عن الشعب المصري. وجاء استغلال العبرانيين للعبيد لصالح الفئات الغنية. لكن إذ حمل الكل مشاعر كراهية وشماتة، وربما اشترك الشعب في تسخير العبرانيين واستغلالهم، إذا بالتجربة التي حلت لتأديبهم واحدة. لقد أراد الله أن يدرك الإنسان أن البشرية كلها متساوية في عيني الله. فليس عند الله محاباة لصاحب سلطان أو لسيدٍ أو غنيٍ.

هـ. ميتة مُرَّة

ماتوا كلهم ميتة واحدة،

فكان لهم جثث لا تُحصى،

حتى إن الأحياء لم يَكْفوا حتى لدفنهم،

إذ في لحظة أُبيد أعزُّ نسلِهم. [12]

صدرت الأوامر الملكية للقابلتين أن يقتلا سرًا أطفال العبرانيين أثناء ولادتهم، وصدر الأمر الإلهي بتأديب الأشرار بقتل الأبكار في ليلة واحدة بضربة واحدة.

من كثرة الموتى لم يوجد عدد كاف من الشباب لحمل الموتى ودفنهم، فانكسرت قلوب الشعب إذ صارت الجثث أمامهم، مع عجز عن دفنهم.

v     عندئذ يصل الملاك ليضرب مصر، التي لم تكن مطّلعة على السّر، ولا مشاركة في الفصح، ولا مختومة بالدم، ولا في حماية الروح، العدوّة غير المؤمنة، ضربها في ليلة واحدة وحرمها أولادها. فقد هجم الملاك على مصر، بعد أن جال بين إسرائيل ورﺁه مختومًا بدم الخروف، وأخضع فرعون غليظ الرقبة بالحداد، فلفّه، لا بثوبٍ حالك أو بمعطفٍ ممزقٍ، بل بمصر كلها الممزقة تمامّا والباكية أبكارها.

كانت مصر كلّها غارقة في الحزن والضربات تذرف الدموع وتقرع صدرها وقد جاءت إلى فرعون، في حدادٍ، لا في لباسها فقط، بل في نفسها أيضّا؛ ممزقة، لا في ثيابها الخارجيّة فقط، بل في الداخل أيضّا.

وكنت تستطيع أن ترى مشهدّا جديدّا: هنا الذين يقعرون صدورهم، وهناك الذين يطلقون صرخات اﻷلم، وفي الوسط فرعون في حدادٍ، جالسّا على المُسح والرماد، وملفوفّا بظلمة تمسك به وكأنها ثوب مأتمٍ، ومتمنطقّا بمصر كلّها وكأنّها معطف حدادٍ.

كانت مصر حول فرعون كمعطف نحيب…

إن أصغيتم، يأخذكم الدهش في أمر مصيبة لا تصدّق. إليكم ما كان يحيط بالمصريين: ليلة طويلة وظلام لا ينفذه النور وموت يتحسّس طريقه وملاك يبيد وجهنّم تلتهم أبكارهم.

لكنّ ما هو اﻷشدّ غرابة واﻷرهب، عليكم أن تطلعوا عليه. في الظلام الذي يمسك، كان الموت الذي لا يشبع يستتر، وذلك الظلام كان المصريّون البائسون يتلمّسونه…

 لكن الموت المترصّد يقبض على أبكار المصريين بأمر الملاك.

يا له من سّر غريب لا يفسّر! فإن ذبح الخروف كان في الواقع خلاص إسرائيل، فأصبح موت الخروف حياة الشعب، ﻷنّ الدم خوّف الملاك[625].

ميليتو أسقف ساردس

و. اعتراف بالحق

وبعد أن أبَوا بسبب فن السحر أن يؤمنوا بشيء،

اعترفوا عند هلاك الأبكار،

بأن شعبك هو ابن لله. [13]

كان المصريون يعتمدون على فنون السحر، ومع كل ضربة يسأل فرعون السحرة للتحرك، وباطلاً بذلوا الجهد لخلاص فرعون وشعبه. مع هذا العجز استمر فرعون في عناده، مـقاومًا الله بكبريائه، حتى اهتز عرشه تمامًا بضربة البكور (18: 14).

وبينما كان صمتٌ هادئ يُخيِّم على كل شيء،

وكان الليل في منتصف مسيره السريع. [14]

يقارن الكاتب بين حال المصريين في النصف الأول من الليل والنصف الثاني. فقد عبر النصف الليل في سكون شديد، وبسرعة فائقة، حتى صدر الحكم بالتأديب في منتصف الليل.

وثبت كلمتُك الكلية  القدرة من السماء من العرش الملكي،

كالمحارِب العنيف في وسط الأرض المحكوم عليها، [15]

كانت تحمل أمرك المحتوم كسيفٍ ماضٍ.

فوقفت وملأت كلَّ مكان موتًا،

وكان تمس السماء وتطأ الأرض. [16]

في منتصف الليل أُعلنت معركة من نوعٍ فريدٍ، بين بشرٍ على الأرض يظنون أنهم أصحاب سلطان، ولديهم إمكانيات عسكرية، وأنهم قادرون على وضع خطط للمعركة، وبين كلمة الله القدير في السماء حيث العرش الإلهي.

يصور كلمة الله الذي أصدر الأمر بالتأديب بكونه القدير الذي يُحد. رأسه في السماء وقدماه على الأرض. من يقدر أن يقف أمامه؟

ز. مخاوف متزايدة

حينئذ بلبلتهم فجأةً رُؤى أحلامٍ مخيفة،

وغَشيَتهم مخاوف غير متوقعة. [17]

يصعب أن يرى إنسان أن دولة بأكملها يكاد كل بيت فيها يقيم مناحة على بكر الأسرة. وأما ما أثار الموقف بالأكثر، أنهم وهم لا يجدون كلمة تعزية، ولا طاقة لجمع الجثث ودفنها قبل أن تعفن وتسبب أوبئة، أنهم لا يدرون ماذا بعد هذه الضربة.

كأن مخاوفهم مما هو قادم غطى حتى على حزنهم على أبكارهم.

يرى الحكيم أن ضربة الأبكار بواسطة الملاك صاحبتها ظهور الشياطين التي أقلقتهم، فأدركوا ضعف آلهتهم (18: 17-18).

فصُرِعَ كلُّ واحدٍ هنا وهناك بين حيٍّ وميتٍ،

وكان يُعلنُ لأيِّ سببٍ يموت. [18]

تحولت البلاد إلى حالة من الفوضى، كل واحدٍ يجري هنا وهناك، متسائلاً ما هي علة هذه الكارثة الخطيرة.

لأن الأحلامَ التي أقلقَتهم أنبأتهم بذلك

لئلاَّ يهلكوا وهم يجهلون لماذا يُعانونَ هذا العذاب. [19]

يبدو أن الله سمح لهم بأحلامٍ في تلك الليلة، لعلهم يتوبون ويرجعون قبل حدوث هذا الهلاك.

ح. تأديب بغير محاباة

لكن محنةَ الموت،

كانت تصيبُ الأبرار أيضًا،

ووقعت الضربة على عدد كبير منهم في البرية.

غير أن الغضب لم يلبث طويلاً. [20]

تذمر مجموعة من اللاويين الذين كانوا يحسدون الكهنة في خدمة الله في خيمة الاجتماع، قورح وداثان وأبيرام وغيرهم، يبلغ عددهم مائتان وخمسون رجلاً، متذمرين على حصر الكهنوت في هرون ونسله. تجاسروا وقدموا بخورًا، فانشقت الأرض وابتلعتهم هم وعائلاتهم. لم يخشَ الشعب الله، بل تذمروا على موسى وهرون. في غير محاباة سمح الله بانتشار وباء أهلك أربعة عشر ألفًا منهم، وفي أبوة حانية شفع موسى وهرون في الشعب ليرفع الله عنهم الوباء.

ط. أبوة وشفاعة

لأن رجلاً لا عيبَ فيه بادَرَ لحمايتهم،

فذهب بترس خدمته الذي هو الصلاة والتكفير بالبخور،

ووقف أمام السخط، وقضى على الكارثة مُظهرًا أنه خادمُك. [21]

بسبب فساد جماعة من اللاويين انتشر وباء يهلك الكثيرين، لكن تبرز شخصية موسى كأب يضم كل الشعب بين ذراعيه، ويحمله في قلبه ويشفع فيهم. تلألأت شخصيته ككوكبٍ بهيٍ في أعين السمائيين، بل وفى عيني الله الذي يطلب النفوس المتسعة بالحب. كما طلب من أخيه هرون أن يقدم بخورًا لله من أجل الشعب.

فانتصر على المُهلك،

لا بقوة الجسد ولا بعمل السلاح،

بل بالكلمة،

سيطر على المعاقِب مُذكِّرًا بالأقسامِ والعهود المقطوعة مع الآباء. [22]

كأن موسى قد دخل في معركة مع غضب الله على شعبه. كان سلاحه الحب مع الصلاة بروح التواضع والثقة في مواعيد الله وما اقسم به للآباء في عهوده معهم. لقد غلب بهذا السلاح الروحي الرائع!

وبينما كان القتلى يتكدَّسون الواحد على الآخر،

وقف في الوسط وردَّ الغضب،

وقطع عليه طريق الأحياء. [23]

وقف موسى النبي وسط الجثث وبسط يديه لكي بالإيمان الحيّ والحب الصادق يوقف غضب الله، ويحفظ الأحياء من الوباء الذي حلّ.

لعله يتحدث هنا عن هرون رئيس الكهنة الذي اشترك مع موسى في الطلبة.

لأنه على ثوبه الطويل كان العالم كله،

وكانت أسماء الآباء المجيدة منقوشة في أربعة صفوف الحجارة،

وكانت عظمتُكَ على تاج رأسِه. [24]

ما يزين كهنوت هرون أنه كان يرتدي ثوبًا حتى الرجلين يمثل العالم كله، يلتحف بكل البشرية ليطلب بالحب عن العالم كله. فالكاهن أب لكل البشرية، لن يكف عن الصلاة من أجل جميع الناس.

فلما رأى المُهلك ذلك تراجع وخاف،

وكان مجرَّد اختبار الغضبِ قد كفى. [25]

تراجع الملاك المهلك وخاف إذ أدرك مسرة الله بحب موسى لشعبه وخدمة هرون لحسابهم.

 


 

وحي من الحكمة 18

لتؤدبني وإلى الموت لا تسلمني!

v     إلهي، أنت هو شمس البرّ،

تُشرق عليّ، فتتبدد كل ظلمة فيّ،

وتسكب بهاءك على نفسي.

تؤدب، لكنك تحيي ولا تُهلك!

 

v     لتنزع عني ظلمة الخطية، فتحول أحزاني إلى أفراح!

تسمح بموت الجسد لكن إلى حين،

أما نفسي فتنعم دومًا بالحياة معك.

لا أخشى موت الجسد، لأنه بك يقوم ممجدًا،

يشارك نفسي بهاءها الأبدي!

 

v     هب لي مع موسى النبي وهرون روح الأبوة!

فلا يكون لي عمل أعظم من الصلاة من أجل كل البشرية.

ابسط يديّ نفسي لأحتضن الكل.

أصرخ قائلاً: ارفع غضبك عن كل البشرية!

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى