تفسير إنجيل مرقس 14 للقس أنطونيوس فكري
(مر1:14-2):
“وكان الفصح وأيام الفطير بعد يومين وكان رؤساء الكهنة والكتبة يطلبون كيف يمسكونه بمكر ويقتلونه. ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب.”
الفصح وأيام الفطير= ارتبط العيدان في أذهان اليهود وكأنهما صارا عيدًا واحدًا. وكان يستخدم تعبير عيد الفطير ليشمل الفصح أيضًا، كما يطلق اسم الفصح على عيد الفطير.
(مر3:14-9)
آية (3): “وفيما هو في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص وهو متكئ جاءت امرأة معها قارورة طيب ناردين خالص كثير الثمن فكسرت القارورة وسكبته على رأسه.”
فكسرت= كل من يقبل كسر جسده ويقدمه ذبيحة حيَّة يكون له رائحة الطيب. فقارورة الطيب تشير للحياة التي طالما كانت مغلقة فلا فائدة منها، وعندما تنفتح بالحب للمسيح، بل عندما يهلكها الإنسان ويحطمها لأجل الرب تفوح منها رائحة مباركة أبدية (الشهداء والرهبان مثلا). متكئ= هذه عادة رومانية وتعني الإستناد على المائدة. فكانوا يجلسون على الأرض ويتكئون بيدهم اليسرى على المائدة ويسندون رأسهم على يدهم اليسرى ويأكلون باليد اليمنى. فيما هو في بيت عنيا= بيت عنيا تعني بيت العناء والألم. فالمسيح أتى إلى بيت عنيا استعدادًا لأسبوع آلامه وللصليب ولكنه الآن في بيت أحبائه يفرح بحبهم له ونحن الآن في العالم في بيت الألم ولكنه مازال وسطنا يفرحنا ويعزينا بوجوده معنا. جاءت امرأة= نلاحظ أن متى ومرقس لم يذكرا اسمها. ولكن يوحنا ذكره وحده. كما نلاحظ أن متى ومرقس لم يوردا القصة في مكانها الزمني، بل في سياق قصة الآلام وبدء المشاورات لقتل المسيح. فهما أرادا أن يظهرا التضاد بين موقف الخيانة لليهود وموقف الحب من مريم (CONTRAST) . ومتى ومرقس لم يذكرا اسمها لأنهم خافوا أن يقتلها اليهود ولأنهم أرادوا أن يجعلوها كرمز لكل نفس أحبت المسيح وعلى استعداد أن تكسر نفسها وحياتها (2كو10:4، 11) + (رو35:8-39) لأجل المسيح الذي أحبها. صارت مريم تشير لكل نفس صادقة في لقائها مع السيد، صادقة في حبها وفي احتمالها للآلام لأجله، تشير لكل نفس بل وللكنيسة كلها التي تقدم حياتها مبذولة كقارورة منكسرة لتعلن رائحة محبتها. ولاحظنا أن يوحنا قال أن الطيب سُكِبَ على قدميه أما متى ومرقس فقالا أنه سُكِبَ على رأسه. وفي هذا إشارة لطيفة هي أن الحب يمكن أن يقدم للمسيح نفسه (في جلسة هادئة في الصلاة.. وهذا تمثله مريم..= سكب الطيب على رأسه) ويمكن أن نقدم الحب لأولاد المسيح.. وهذا تمثله مرثا الخادمة..= سكب الطيب على القدمين). فالمسيح رأس الكنيسة والكنيسة تحت قدميه.
آية (8): “عملت ما عندها قد سبقت ودهنت بالطيب جسدي للتكفين.”
للتكفين= كان سكب الطيب نبوة عن آلامه فالمريمات لم يقدرن على تكفين الجسد الطاهر مساء الجمعة مماّ دفعهن للذهاب بالأطياب فجر الأحد. المحبة التي في قلب مريم جعلتها تشعر بما سيحدث ليسوع بينما أن التلاميذ لم يصدقوا حتى اللحظة الأخيرة أن يسوع سيسلم للموت مع أنه قال هذا كثيرًا لهم.
آية (9): “الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها.”
يخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها= والكنيسة تتبع نفس ما قاله المسيح وهي تذكر لنا قصص محبة الشهداء والقديسين في السنكسار cuna[arion يوميًا. وفي المجمع في القداس الذي نبدأه هكذا “لأن هذا يا رب هو أمر ابنك الوحيد أن نشترك في تذكار قديسيك.. وبهذا فالكنيسة تنفذ ما قاله المسيح هنا في أن تذكر من تشابه مع المسيح، فالمسيح سكب نفسه على الصليب، والشهداء سكبوا أنفسهم حبًا في المسيح كما سكبت هذه المرأة طيبها وكسرت زجاجتها رمزًا لموت أجسادهم. ولاحظ رقة المسيح في قوله لماذا تزعجونها (آية 6) فالمسيح يهتم بمشاعر أولاده ويطيب خاطرهم. تذكارًا لها= فما فعلته هذه المرأة هو من صميم الإنجيل أي أن يبذل الإنسان نفسه محبة في المسيح.
(مر10:14-11):
“ثم أن يهوذا الاسخريوطي واحدًا من الاثني عشر مضى إلى رؤساء الكهنة ليسلمه إليهم. ولما سمعوا فرحوا ووعدوه أن يعطوه فضة وكان يطلب كيف يسلمه في فرصة موافقة.”
كان يهوذا محبًا للمال وطامعًا في مركز كبير حين يصير المسيح ملكًا. ولكن حديث المسيح عن صليبه خَيَّبَ أماله، وربما فهم أن ملكوت المسيح سيكون روحيًا وهذا لن يفيد أطماعه بشيء، بل هو سمع أن تلاميذه عليهم أن يحتملوا الإهانات وهذا لا يتفق مع أماله في العظمة والغنى. فباع المسيح.
(مر12:14-26):
“وفي اليوم الأول من الفطير حين كانوا يذبحون الفصح قال له تلاميذه أين تريد أن نمضي ونعد لتأكل الفصح. فأرسل اثنين من تلاميذه وقال لهما اذهبا إلى المدينة فيلاقيكما إنسان حامل جرة ماء اتبعاه. وحيثما يدخل فقولا لرب البيت أن المعلم يقول أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذي. فهو يريكما علية كبيرة مفروشة معدة هناك أعدا لنا. فخرج تلميذاه وآتيا إلى المدينة ووجدا كما قال لهما فأعدا الفصح. ولما كان المساء جاء مع الاثني عشر. وفيما هم متكئون يأكلون قال يسوع الحق أقول لكم إن واحدًا منكم يسلمني الآكل معي. فابتدأوا يحزنون ويقولون له واحدًا فواحدًا هل أنا وآخر هل أنا. فأجاب وقال لهم هو واحد من الاثني عشر الذي يغمس معي في الصحفة. إن ابن الإنسان ماض كما هو مكتوب عنه ولكن ويل لذلك الرجل الذي به يسلم ابن الإنسان كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد. وفيما هم يأكلون اخذ يسوع خبزًا وبارك وكسر وأعطاهم وقال خذوا كلوا هذا هو جسدي. ثم اخذ الكأس وشكر وأعطاهم فشربوا منها كلهم. وقال لهم هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين. الحق أقول لكم أني لا اشرب بعد من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما اشربه جديدًا في ملكوت الله. ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون.”
لقد سبق السيد وهيأ أذهان تلاميذه في (يو51:6-58) بأنه سيقدم لهم جسده ودمه. وهو قدَّم لكنيسته عبر الأجيال جسده المصلوب القائم من الأموات ودمه المبذول غفراناً للخطايا. قدًّم لكنيسته ذبيحة الصليب الواحدة غير المتكررة خلال سر الشكر. لقد صار لنا كلنا كأس واحد نشرب منه هو ينبوع واحد للحياة ألا وهو الجنب المطعون. وكلمة للعهد الجديد (24) مأخوذة من (إر31:31) فهو عهد الغفران بالدم. وختم أي عهد يكون بالدم (الذبائح في العهد القديم) ودم المسيح في العهد الجديد. أشربه جديداً في ملكوت الله= هذا يشير لفرح الله بأن كنيسته عروسه معه في الملكوت وللأبد، وفرح الكنيسة بوجودها مع الله في ملكوته. هو الفرح الذي يكتمل حين يكمل المختارون في ملكوت الله. والفرح الذي نحصل عليه الآن هو العربون.
(مر27:14-31)
آية (27): “وقال لهم يسوع أن كلكم تشكون فيَّ في هذه الليلة لأنه مكتوب أني اضرب الراعي فتتبدد الخراف.”
الشك سيكون بسبب نقص الشجاعة وهذه نالوها يوم الخمسين. والسيد حينما يقول مكتوب يذكرهم بنبوة زكريا (7:13). وكأنه يؤكد أن كل شيء بتدبير إلهي، خاضع لسيطرة الله إذ قد سبق وأخبر عنه قديمًا.
آية (28): “ولكن بعد قيامي أسبقكم إلى الجليل.”
زكريا سبق وتنبأ عن ضرب المسيح، والمسيح هنا يتنبأ بأنه سيقوم ويذهب للجليل.
آية (29): “فقال له بطرس وأن شك الجميع فأنا لا اشك.”
لاشك في محبة بطرس وغيرته، ولكن ما لا يعرفه بطرس عن نفسه يعرفه الرب عنه، والرب يعرف أنه ضعيف إذ هو بشر، فكان كلام بطرس هذا فيه كبرياء وكان الأجدر به أن يعترف بضعفه أمام الرب ويصدقه ويطلب معونته.
آية (30): “فقال له يسوع الحق أقول لك أنك اليوم في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك مرتين تنكرني ثلاث مرات.”
لم يذكر متى عدد مرات صياح الديك ولكن مرقس يذكر أنه يصيح مرتين ويقول كثير من الدارسين أن بطرس أنكر مرة ثم صاح الديك (هذه كانت كإنذار لتذكره ولم يتذكر) ثم أنكر بطرس مرتين ثم صاح الديك للمرة الثانية.
(مر43:14-50):
“وللوقت فيما هم يتكلم أقبل يهوذا واحد من الاثني عشر ومعه جمع كثير بسيوف وعصى من عند رؤساء الكهنة والكتبة والشيوح. وكان مسلمه قد أعطاهم علامة قائلًا الذي أقبله هو هو. أمسكوه وأمضوا به بحرص. فجاء للوقت وتقدم إليه قائلًا يا سيد يا سيد وقبله. فألقوا أيديهم عليه وأمسكوه. فأستل واحد من الحاضرين السيف وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. فأجاب يسوع وقال لهم كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي لتأخذوني. كل يوم كنت معكم في الهيكل أعلم ولم تمسكوني. ولكن لكي تكمل الكتب. فتركه الجميع وهربوا.”
نرى خطأ التلاميذ في هروبهم وخطأ يهوذا في قبلته الغاشة. كل التلاميذ لم يتمكنوا من أن يعرفوا سلطان المسيح. فالتلاميذ لم يدركوا أنه قادر على حمايتهم حتى وهو في ضعفه، ويهوذا لم يُدرِكْ أن السيد يعرف ما في قلبه ولن تخدعه القبلة.
وبطرس استل سيفه ليضرب العبد، ربما لأنه تذكر كلامه للسيد وأنه مستعد أن يموت معه. ولكن دفاعنا عن مبادئنا لا يكون بالقتل بل باستعدادنا للموت عنها، وهذا أصعب. وغالبًا كان بطرس يتصور أنه سيبدأ المعركة والمسيح يكمل بمعجزة من معجزاته ويقتل الجند. ولكنه حينما رأي السيد يستسلم للجند هَربَ بل أنكر إذ لم يكن هو مستعدًا للموت والاستشهاد في سبيل إيمانه ومبادئه.
الآيات (51، 52): “وتبعه شاب لابسًا إزارًا على عريه فامسكه الشبان. فترك الإزار وهرب منهم عريانًا.”
هذا الشاب هو مارمرقس وغالبًا كان هو صاحب البستان الذي في جثسيماني الذي يختلي فيه المسيح مع تلاميذه. وغالبًا كان مارمرقس نائمًا في ذلك الوقت واستيقظ على صوت الجلبة غير العادية، ونهض من فراشه ليرى ماذا يحدث فأمسكوه إذ شكوا أنه من تلاميذ المسيح فهرب منهم تاركًا إزاره الذي كان يلبسه على عريه. ومارمرقس يذكر ضعفه هنا في تلك اللحظة التي لا ينساها. وهو لم يذكر اسمه اتضاعًا. وذكر القصة لتسجيل ضعفه.
مر(53:14-72)
(مر53:14-60): “فمضوا بيسوع إلى رئيس الكهنة فاجتمع معه جميع رؤساء الكهنة والشيوخ والكتبة. وكان بطرس قد تبعه من بعيد إلى داخل دار رئيس الكهنة وكان جالسًا بين الخدام يستدفئ عند النار. وكان رؤساء الكهنة والمجمع كله يطلبون شهادة على يسوع ليقتلوه فلم يجدوا. لأن كثيرين شهدوا عليه زورًا ولم تتفق شهاداتهم. ثم قام قوم وشهدوا عليه زورًا قائلين نحن سمعناه يقول إني أنقض هذا الهيكل المصنوع بالأيادي وفي ثلثة أيام أبني آخر غير مصنوع بأياد. ولا بهذا كانت شهادتهم تتفق. فقام رئيس الكهنة في الوسط وسأل يسوع قائلًا أما تجيب بشيء. ماذا يشهد به هؤلاء عليك. “
المحاكمة التي تمت كانت ضد التقليد اليهودي [1] فالتلمود يمنع المحاكمات ليلًا [2] ويمنع إصدار الحكم في نفس يوم المحاكمة خصوصًا لو كان الحكم بالموت [3] هذا يضاف على استئجارهم شهود زور [4] أساس المحاكمات اليهودية أن يحاكم على شيء عمله فعلًا وليس قولًا قاله أمام المحكمة وهذا ما لم يحدث هنا وهم لا يحكمون بمجرد اعتراف المتهم. ليقتلوه= والمعنى أن القرار قد اتخذ قبل المحاكمة. والمحاكمة كانت صورية.
الآيات (61، 62): “أما هو فكان ساكتًا لم يجب بشيء فسأله رئيس الكهنة أيضًا وقال له أأنت المسيح ابن المبارك. فقال يسوع أنا هو وسوف تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا في سحاب السماء.”
علمنا هنا السيد المسيح أن هناك وقت للصمت ووقت للكلام وأنه علينا أن لا نصمت إذا فُهِمَ صمتنا أننا نتراجع عن موقفنا وننكر الحق. في إجابة المسيح هنا قال “أنا هو” ومرقس لأنه يكتب للرومان يقولها بوضوح أما متى فقال “أنت تقول” وهذا تعبير عبري بنفس المعنى لكن الرومان لن يفهموه.
آية (63): “فمزق رئيس الكهنة ثيابه وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود.”
كانت الشريعة تمنع رئيس الكهنة من أن يمزق ثيابه. ولكنه كما سبق وقال نبوة دون أن يدري عن أن المسيح يفدي العالم (يو49:11-52) حدث هنا أنه دون أن يدري أيضًا تنبأ بنهاية الكهنوت اليهودي. ونلاحظ أن الجنود الرومان لم يستطيعوا تمزيق ثوب المسيح الذي يشير لكنيسته الواحدة. وقيافا كان يظهر حزنه على التجديف الذي لحق اسم الله بينما كان قلبه فرحًا إذ وجد علة على يسوع.
آية (69): “فرأته الجارية أيضًا وابتدأت تقول للحاضرين أن هذا منهم.”
فرأته الجارية أيضًا= وفي متى يقول “رأته أخرى”. واضح حالة الهرج والكل يتكلم. فنفس الجارية الأولى إتهمته ثانية وهذا أثار أخرى فبدأت في اتهامه. وفي لوقا نجد الاتهام الثاني موجه من رجل (آية58:22) وواضح أن هذا الرجل كان يؤمن على كلام الجارية الأولى.
إنجيل معلمنا مرقس: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16
تفسير إنجيل معلمنا مرقس: 1 – 2 – 3 – 4 – 5 – 6 – 7 – 8 – 9 – 10 – 11 – 12 – 13 – 14 – 15 – 16