تفسير سفر أيوب ١٢ للقمص تادرس يعقوب ملطي
اَلأَصْحَاحُ الثَّانِي عَشَرَ
نظريات وحقائق
في دهشة مع مرارة تطلع أيوب إلى أصدقائه المتشامخين بحكمتهم البشرية، الذين فيما هم يعزونه يسخرون به، وكأنه قد صار أضحوكة في أعينهم. هنا في قوة يصرخ أيوب قائلاً بأن ما لديهم من حكمة ليس بالأمر الفريد. إنه كإنسان يشاركهم حكمتهم الموهوبة للبشرية من الله، لكن لا يشاركهم قسوة قلوبهم. الطبيعة ذاتها تشهد لله أفضل منهم، تشهد لرعايته الفائقة وسلطانه. أخيرا يدرك أيوب أن حكمة الله تفوق كل فكر بشري، ليس لإنسان أن يحصر خطة الله ويحللها بفكره المحدود.
في الأصحاحات 12-14 يجيب أيوب على صوفر في شيء من الإطالة، وكعادته بعد مناقشته لأصدقائه يلتفت إلى الله ويوجه عتابًَا له في دالة.
في نهاية الدورة الأولى يوبخ أيوب أصحابه بقسوة، بسبب غرورهم بأنفسهم، ويتهمهم أنهم يرفضون مواجهة حقائق الحياة.
يعلن أيوب في هذا الأصحاح أنه عارف بالإجابات المتعارف عليها [٣]، لكن ما يحتاج إليه من أصدقائه هو الحنو واللطف.
أوضح أصحاب أيوب رأيهم في سياسة الله، وهو أن الأشرار يتألمون لا الأبرار، وأيوب يريهم أن الأمر بعكس ذلك، أي أنه يغلب أن يكون الأشرار ناجحين مطمئنين [6].
أعلن أيوب أن الحكمة التي افتخروا بها ليست لهم وحدهم، وكل الذين لهم عيون يستطيعون أن يروا أعمال الله مع وحوش الحقل وطيور السماء وأسماك البحر، وأنهم يعرفونه. يستمر في الحديث بأن الطبيعة تشهد لله واهب الحياة [٧-١٠].
لا ينكر أيوب أهمية الحكمة التقليدية [١١-١٢]، لكنه يكشف أنها أحيانًا تعجز عن تفسير ما يحل بنا [١٣-٢٥].
- إساءة حكمهم عليه 1-5.
- ليس بالضرورة يهلك الأشرار في العالم 6-11.
- حكمة الله وسلطانه 12-25.
- إساءة حكمهم عليه
فَقَالَ أَيُّوبُ: [1]
صَحِيحٌ إِنَّكُمْ أَنْتُمْ شَعْب،ٌ
وَمَعَكُمْ تَمُوتُ الْحِكْمَةُ! [2]
يوبخ أيوب أصدقائه لأنهم غير حكماء:
أولاً: لأن قسوتهم هربت منها الحكمة. هذا التوبيخ مُوجه إلى كل من يتكبر ويستخف بأخيه، خاصة في وقت آلامه. هذا الذي لا يعرف أن بضع حدودًا للتوبيخ، كما الذي لا يعرف أن يختار الوقت المناسب. “الإنسان الحكيم يسكت إلى حين، أما العاتي والجاهل فلا يبالي بالأوقات” (سيراخ 20: 7).
ثانيُا: لأنهم يتوهمون أنهم شعب يحتكر الحكمة، وأن حكمهم هو الأمثل والأعلى، الذي به يُقاس كل شخص ويُحكم عليه. لهذا يحذرنا الكتاب المقدس من السقوط في هذا الوهم، حين نحسب أنفسنا حكماء في تشامخٍ وكبرياءٍ. “لا تكن حكيمًا في عيني نفسك، اتق الرب، وابعد عن الشر” (أم 3: 7). “أرأيت رجلاً حكيمًا في عيني نفسه؟ الرجاء بالجاهل أكثر من الرجاء به” (أم 26: 12). “الرجل الغني حكيم في عيني نفسه، والفقير الفهيم يفحصه” (أم 28: 11). “هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار بجبروته، ولا يفتخر الغني بغناه” (إر 9: 23).
v كن جاهلاً في العالم كما يوجهك الرسول فتصير حكيمًا. لا تتحيز (لرأيك) ولا تصدر حكمًا من ذاتك فيما تسأل فيه، بل اظهر الطاعة علي الدوام بكل بساطة وإيمان. اهتم فقط أن تكون هذه الأمور مقدسة ونافعة وحكيمة، إذ تعلن عن شريعة اللَّه، وتكشف عن رأي أبيك الروحي في تلك الأمور[624].
القديس يوحنا كاسيان
ثالثًا: لأنهم ظنوا أن بعد موتهم تموت الحكمة، ويُحسب كل البشر بدونهم جهلاء. بعد أن تغرب شمسهم يسقط العالم في ظلمة الجهالة.
من الحماقة أن نتوهم أن موتنا يسبب خسارة كبيرة، وأنه لا يمكن الاستغناء عنا، فإن الله قادر أن يقيم من بعدنا من هو أكفأ منا. موت الحكماء والصالحين لا يعني موت الحكمة والصلاح.
رابعًا: عدم الاعتدال في السلوك تحت ستار الحكمة يحول حتى ما هو صالح إلى الهدم لا البنيان. “لا تكن بارًا كثيرًا، ولا تكن حكيمًا بزيادة، لماذا تخرب نفسك؟” (جا 7: 16)
خامسًا: يرى البابا غريغوريوس (الكبير) وغيره من الآباء أن أصدقاء أيوب يمثلون الهراطقة الذين يعتمدون على حكمتهم البشرية وإمكانياتهم الفكرية والمادية والاجتماعية في تشامخٍ وعجرفةٍ، مستخفين بالفكر الكنسي الروحي.
“أين الحكيم؟ أين الكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟” (1 كو 1: 20)
“لا يخدعن أحد نفسه، إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلاً لكي يصير حكيمًا” (1 كو 3: 18).
“من هو حكيم وعالم بينكم، فليرِ أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة” (يع 3: 13).
v يتكلم أيوب مندهشًا… كأنه يقول: هل كرامة الكائنات العاقلة بالحقيقة مرتبطة بكم؟
هل تعرفون حكمة الله من جهة الخطاة والأبرار؟
هل يناسب البشر أن يعرفوها؟
هل تعلمون أن الله يمتحن الأبرار (ابن سيراخ 2: 5)، مؤكدًا طول أناته على الخطاة؟ (ابن سيراخ 2: 11)
هذا هو السبب أن البعض في رخاء وآخرين في تجربة، لأنه بالنسبة للبعض، فإن طول الأناة تردهم للتوبة (حز 33: 11)، بينما بالنسبة لآخرين فإن الصراع (مع التجربة) يمدهم بالإكليل (1 كو 9: 25). إن فهمتم هذا لا تعودوا تدينون البار الذي في تجربة، ولا تحسبوا الخاطي الذي في رخاء كما لو كان بارًا. لكن ليحكم على كل واحدٍ حسب أعماله، إن عرفتم هذا، فلا يليق بكم أن تنطقوا بهذه الكيفية في الدينونة القادمة…
هل حكمة هذا العمل يمكن أن تموت مع الناس؟ أين هو الفلك؟ أين هو التكهن بمراقبة طيران الطيور؟ أين هو السحر؟ أين هي العرافة؟ في هذه تجد الحكمة الدنسة المستنبطة من الغباوة الخداع. أو هل مثل هذه الحكمة تبقى حية هنا أسفل؟
حكمة الله، على العكس ترافق من يطلبها، إذ تتوافق مع التدرب على معرفة الله وناموسه. بهذا يرى الإنسان أمرين بكل بوضوح: مجد الله، وقوة الناموس المعطى لنا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v كل الأشرار، وكل الهراطقة لا يخشون أن يعَّلموا من هم أفضل منهم بلهجة شديدة، إذ يرون في الكل أنهم أقل منهم. أما الكنيسة المقدسة فتدعو كل متشامخٍ في الفكر، وكل معتدٍ بذاته، لتجدده بروح التعقل بالارتباط معًا في مساواة. أيوب الذي هو عضو في ذات الكنيسة المقدسة، إذ رأى أصحابه في زهوٍ ينطقون بكلمات ضخمة في التعليم أجابهم قائلاً: “صحيح إنكم أنتم شعب، ومعكم تموت الحكمة” [2]. فمن يظن أنه يسمو على كل البشر في قدرة التعقل ماذا يفعل مثل هذا الإنسان سوى أنه يفتخر بأنه “الإنسان الوحيد”؟ غالبا ما يحدث أنه ينتفخ العقل بالكبرياء بتعالٍ محتقرًا كل البشر ويكون معجبًا بنفسه. فإن إطراء الإنسان لذاته ينبع عن الوهم في غباوة مغترًا بذاته، كمن هو وحده له الحكمة. يفكر في كل ما يقوله ويعتز بكل ما ينطق به، معجبًا بذاته ومستخفًا بكلمات الآخرين. إذن من يظن أنه وحده هو الحكيم بالحق ينحصر في ذاته الضيقة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v واضح أن الرسل الكذبة كان لديهم موهبة البلاغة التي نقصت بولس. ولكنه لا يعني شيئًا مادام جوهر الكرازة قائمًا، وتلقي ظلاً على مجد الصليب، فهذه (البلاغة) ليست إلا مظهرًا جذابًا[625].
v هنا يتهم بولس المعلمين الكذبة ليس فقط أنهم يفتخرون بمبالغة، بل ويدعون أن لهم الفضل خلال أتعاب الآخرين[626].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v اخترع (الشيطان) الهرطقات والانشقاقات لكي يتلف الإيمان، ويفسد الحق، ويحطم الوحدة. وإذ يعجز عن أن يحفظنا في طرق الخطأ الجديد المظلمة يسحبنا إلى متاهة جديدة للخداع.
إنه يصطاد الناس بعيدًا عن الكنيسة نفسها، وإذ يظنون أنهم اقتربوا من النور وهربوا من ليل العالم يغمرهم في ظلمة جديدة وهم غير مدركين لها.
ومع أنهم لا يتمسكون بالإنجيل ونظام المسيح وناموسه يدعون أنهم في النور خلال مداهنات العدو المخادعة، هذا الذي يقول عنه الرسول أنه يغير نفسه إلى شبه ملاك نور ويزين خدامه كخدام للبرَ.
يدعون الليل نهارًا، والموت خلاصًا، واليأس رجاءً، والخيانة أمانة، وضد المسيح المسيح، ويثبط الحق بالخداع بإبراز الحق بصورة كاذبة.
هذا هو ما يحدث يا إخوتي عندما لا نعود إلى ينبوع الحق، عندما لا نتطلع إلى الرأس ونحفظ التعليم الصادر من السماء[627].
القديس كبريانوس
غَيْرَ أَنَّهُ لِي فَهْمٌ مِثْلَكُمْ.
لَسْتُ أَنَا دُونَكُمْ.
وَمَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ مِثْلُ هَذِهِ؟ [3]
لم يكن من قبيل الافتخار أن يقول لهم: “لي فهم مثلكم“، وإنما أراد منهم ألا يسقطوا في العجرفة، كأن معرفة الأسرار الإلهية خاصة بالنسبة لحكمة الله في عنايته بالخليقة وفى تعامله مع الأشرار والصالحين قاصرة عليهم دون سواهم. فهو ليس بأقل منهم في المعرفة، وربما كثيرون لهم ذات المعرفة.
غايته هنا أن يكتم كبرياءهم لا أن يفتخر بمعرفته ويتكبر. جاء في الترجمة السبعينية: “غير أن لي قلب مثلكم“.
v “غير أن لي قلب مثلكم” [3 LXX]. يقول: “إني أعرف كيف أفكر تمامًا مثلكم، علاوة على ذلك لي قلب إنسان مثلكم. لكنكم أنتم أظلمتم قلوبكم، أما أنا فجعلته مثمرًا بناموس الله. هذا هو السبب، بالرغم من أن لي قلب مثلكم، غير إني أراه، هذا الذي لا تقدرون أن تروه. فإني لا أدهش إن كنتم تسخرون بي.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “غير أنه لي فهم مثلكم، لست أنا دونكم” [3] من يجهل مدى عظمة الطوباوي أيوب وخبرته التي تفوق معرفة أصحابه؟ الآن لكي يصلح من كبريائهم يؤكد أنه ليس بأقل منهم، ولئلا يخطئ، فيتعدى حدود تواضعه احتفظ لنفسه بأنه أسمى منهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
ما أجمل أن يشعر الإنسان بشركة البشرية في التمتع بالعقل والفكر وأيضًا العواطف والقلب، كل حسبما وهبه الله لمجد الله وبنيان الإنسان وبنيان الجماعة. لكن الذي يميز الواحد عن الآخر تقديس ما قد تسلمه من يدي الله بعمل روح الله القدوس، وإضرام هذه العطايا بأمانة واجتهاد حسب مشيئة الله، هذا التقديس لن يتم قسرًا بغير إرادتنا، كما لا يتمتع به غير المتواضعين.
v أعطى الله الطبيعة العاقلة نعمة حرية الإرادة، وأنعم على الإنسان بالقدرة على تحديد ما يريده حتى يسكن الصلاح في حياتنا، ليس قسرًا ولا لاإراديًا بل نتيجة للاختيار الحر. إن تمتعنا بحرية الإرادة يؤدى بنا إلى اكتشاف حقائق جلية. في طبيعة الأمور إذا ما أساء أحد استخدام مثل هذه الإرادة الحرة فإنه بحسب كلمات الرسول يصير مثل هذا الشخص مخترعًا لأعمال شريرة (رو 30:1). كل من هو من الله يُعد أخًا لنا، أما الذي يرفض الاشتراك في أعمال الصلاح يتم ذلك بكامل إرادته[628].
القديس غريغوريوس النيسي
v ليعطنا الرب الإله نعمة التواضع التي تقتلع الإنسان من أمراض كثيرة وتحفظه من تجارب كثيرة[629].
الأب دورثيؤس من غزة
v من يعرف وهن الطبيعة البشرية ينال خبرة قوة الله.
الأب مكسيموس المعترف
رَجُلاً سُخْرةً (أُضْحُوكَةٌ) لِصَاحِبِهِ صِرْتُ.
دَعَا اللهَ فَاسْتَجَابَهُ.
سُخْرةً (أُضْحُوكَة)ٌ هُوَ الصِّدِّيقُ الْكَامِلُ [4].
اكتشف أيوب أنهم يعاملونه بازدراء شديد، يحقرون من شأنه، ويدوسون عليه كما لو كان موضوع سخريتهم، أو تسليتهم عوض مساندته في جدية.
حقًا لقد جاءوا لتعزيته ونصحه، لكن أسلوبهم في النصح تحول إلى نقدٍ لاذعٍ، أساءوا إليه في محنته. وكان يمكن لأيوب أن يقبل هذا من أعداء شامتين فيه، أما أن يصدر عن أصدقاء أعزاء فيصعب احتماله. “لأنه ليس عدو يعيرني فأحتمل، ليس مبغضي تعظم عليَّ فاختبئ منه، بل أنت إنسان عديلي، أليفي وصديقي” (مز 55: 12-13)، وفي هذا كان أيوب رمزًا للسيد المسيح الذي قيل عنه: “ما هذه الجروح في يديك؟ فيقول هي التي جُرحت بها في بيت أحبائي” (زك 13: 6). أما ما زاد جرحه ليس فقط أنهم أصدقاؤه، وإنما هم شيوخ قادة للشعب ومتدينون. كان يود أن يصلوا من أجله لدى الله فيستجيب لهم، وإن يطلبوا المشورة من الله، فيقدموا كلمات تعزية من عند الله عوض التوبيخات المؤلمة للغاية. هذا هو نصيب الأنبياء والرسل وكل رجال الله وكل الصديقين أن يسخر منهم حتى من القريبين منهم.
v كلما اقتنى القديسون حُبًا لله أعظم يحتملون من أجله كل شيء[630].
القديس أغسطينوس
v “نعم يُسلم الصديق الكامل للسخرية” [4]. لا يسخر به كل أحدٍ، بل يسخر به الخطاة (حك 5: 3)، لا يسخر به العقلاء بل السكارى، فإن من عادة السكارى أن يسخروا بالعاقلين. هذه حقيقة فغالبًا ما يسخر الأطفال بالشيوخ. هكذا الخاطي يسخر بالصديق (إر 20: 7-8)، فإنهم يزرعون بدموعهم وآلامهم (مز 126: 5-6). لا يفكر الخاطي في الثمار القادمة وأن الصديق يعبر من الدموع إلى الفرح، ومن الألم إلى كرامة فائقة، وأن أحزان الصديق تبقى فقط إلى حين (2 كو 4: 17- 18).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v بينما يوبخ الأشرار نفوس الصالحين، يُظهرون من يوبخونهم بأنهم شهود عليهم. بينما النفس التي تئن تحصر نفسها في الصلاة، تتحد في داخلها لتسمع العلي، وذلك بذات العمل الذي تعاني منه من اعتداد الناس… لأن سخرية زملائه المخلوقين له تجعله قريب الله (صديقه)، هذا الذي براءته تجعله متغربًا عن شر زملائه المخلوقين…
إنها حكمة الأبرار التي تجعلهم لا يطلبون الظاهر في شيء، بل يدركون المعاني بالكلمات، يحبون الحق كما هو، متجنبين الزهو الباطل.
لا يمارسون الأعمال الصالحة ليحملوا شر (الكبرياء)، فيجدون فيه بهجة أكثر من بهجة ممارستها.
إنهم لا ينتقمون للضرر، حاسبين كل إهانة من أجل الحق مكسبًا!
لكن بساطة الأبرار هذه يضحك عليها (الأشرار) في استخفاف، فيحسب حكماء هذا العالم صلاح النقاوة جهالة. فإنه دون شك كل ما يمارس في براءة يحسبونه غباوة، وتبدو لهم ممارسة كل قوانين الحق ضعفًا بالنسبة للحكمة الجسدانية… أما بالنسبة للديان الخفي فمثل هذا (المتسم بالبراءة) مشرق بالفضائل، مملوء بهاء ينبع عن استحقاقات حياته. إنه يخشى أن يُكرم، لا ينقبض عندما يُحتقر، يدرب جسده بالعفة، خصب بالحب وحده في النفس… يتهلل عندما يُشتم، ويتحنن على المنكوبين من قلبه، ويفرح لنجاح الصالحين كأنه نجاح له. يتأمل بدقة مؤونة الكلمة المقدسة في القلب، وعندما يُمتحن يوجد بلا خبرة في إعطاء إجابة مزدوجة. إنه مصباح، لأنه يضيء في الداخل، يسخر منه لأنه لا يضيء في الخارج. في الداخل يتلألأ بلهيب الحب، وفي الخارج يشرق دون بهاء المجد (الباطل). إنه يُشرق ويُحتقر، هذا الذي يتلألأ بالفضيلة ويحسب محتقرًا.
هكذا كان القديس داود يتطلع إليه والده باستخفافٍ عندما رفض أن يقدمه أمام عيني صموئيل النبي، وذلك عندما قدم أبناءه السبعة لنوال عطية المسحة. وعندما سأله النبي إن كان قد جاء بكل أبنائه، أجابه في استخفاف: “بقي بعد الصغير، وهوذا يرعي الغنم” (1 صم 16: 11). وعندما أحضره وأُختير سمع الكلمات: “الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب” (1 صم 16: 7).
وأيضا الكارز البارع قلل من مجد رسوليته أمام أعين الناس، قائلاً: “ولا استخدمنا السلطان حين كنا مثقلين بكوننا رسل المسيح، بل جعلنا أنفسنا أطفالاً صغارا بينكم” (راجع 1 تس 2: 6-7).
البابا غريغوريوس (الكبير)
لِلْمُبْتَلِي هَوَانٌ فِي أَفْكَارِ الْمُطْمَئِنِّ،
مُهَيَّأٌ لِمَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ [5].
وردت في الترجمة الإنجليزية:
He that is ready to slip with his feet is as a lamp despised in the thought of him that is at ease. )Job 12:5 KJV)
كأنه يقول إن الذي تزل قدمه يسقط في المتاعب حتى وإن كان كسراجٍ فيما قبل. يُنظر إليه كسراجٍ انطفأ، وكفتيلة نلقيها على الأرض وندوسها بأقدامنا.
هذا ما يمرر نفس أيوب أن الذين في رخاء وشبع يحتقرون المجربين والمتألمين والجائعين.
v “في الوقت المعين يكون مستعدًا أن يموت بضربات الغريب؛ يرى بيته يهدمه الأشرار” [5 LXX].
“في الوقت المعين“، أي نوع من الزمن؟ كما يعين الله الزمن، هذا الذي يغير الساعات والأزمنة حسب مشيئته، محركًا كل واحدٍ هنا وهناك.
إنه ذاك الذي يعرف حدود البشر المنغمسين في التجربة، وإلى أي مدى يمكنهم أن يحتملوا التجربة.
إنه يحدد وقتًا “ليموت بضربات الأعداء“، بمعنى أن الصديقين يُساء معاملتهم بواسطة الأشرار. بمعني سيعلن بأية معاملات يسيء الأشرار للصديقين، وكيف يعبرون حياتهم في رفاهية. أما بالنسبة للصديقين فمن الواضح كيف يعيشون في مثابرة (يع 5: 11)، وكيف يحتملون أحزانًا هنا على الأرض.
إنه ليس اعتباطًا يسمح الله للأشرار أن يدمروا بيوت الصديقين، لكنه لا يتخلى عن الأبرار، ولا يسمح بأمور فوق إمكانيتهم… فإنه لا يصيبهم أذى من هذا الدمار، لأن مساكن الحياة الحاضرة والخيام الأرضية تخرب (2 كو 5: 1-2)، حتى وإن لم تُسلب.
هذا إذن ما نؤمن به، أننا نختبر شيئًا من الدمار، ولكن نجد فيه ربحنا بكل وضوح. فإننا نتقبل المكافأة على المثابرة والجزاء على اهتمامنا، وعوض مسكننا الأرضي نرث مسكنًا سماويًا حيث نعيش فيه وسط الملائكة ورؤساء الملائكة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v المصباح المحتقر، الذي يخضع للسخرية على الأرض يتلألأ بحكم السماء. لهذا بحقٍ أضيف: “مهيأ في الزمن المحدد“. بخصوص هذا الزمن يقول المرتل: “لأني أعين ميعادًا، أنا بالمستقيمات أقضي” (مز 75: 2). ويعلن الحق في الإنجيل: “لأن وقتي لم يكمل بعد” (يو 7: 6). ويقول بطرس: “الذي ينبغي أن السماء تقبله إلى أزمنة رد كل شيء” (أع 3: 21).
البابا غريغوريوس (الكبير)
يروي لنا القديس مار أفراهاط الحكيم الفارسي كيف تعثر أحد الحكماء في المسيحية بسبب شدة ما يعانيه المسيحيون من اضطهاد، دون تدخل الله لإنقاذهم، وماذا كان رد القديس عليه، حيث فدم أمثلة حية من العهد القديم موضحًا أن الله يسمح بالضيق لأحبائه لكي يتمجدوا في الوقت المعين.
v حدث ذات يوم أن إنسانًا يدعي حكيمًا بين اليهود سألني: يسوع الذي يُدعي معلمكم، كتب أنه إن كان أحد منكم له إيمان مثل حبة خردل تقولون لهذا الجبل انتقل، فينتقل من أمامكم، ويرتفع ويسقط في البحر، وهو يطيعكم (مت 17: 19؛ 21: 22). وواضح أنه ليس في كل شعبكم حكيم واحد تُسمع صلاته، فيسأل الله أن يُبطل المضطهدين لكم. فمن البيَّن أن هذا كتُب لأجلكم: “ليس شيء غير مستطاع لديكم[631]”.
v وإذ رأيته يجدف وينطق ضد الطريق، اضطرب ذهني، وأدركت أنه لم يعرف تفسير الكلمات التي اقتبسها وقالها لي. عندئذ من جانبي سألته عن أقوال من الناموس والأنبياء، وقلت له: هل تثق أنه حتى عندما تشتتم فإن الله معكم؟… إذ قال لإسرائيل: “حتى في أراضي أعدائكم لا أنساكم، ولا أنكث ميثاقي معكم” (راجع لا 26: 44).
أجبته: “حسنًا، أسمع هذا منكم أن الله معكم. لكنني أنطق أيضًا بكلمات ضدكم”، إذ يقول النبي لإسرائيل كما من فم الله: “إذا جزت في البحر فأنا معك، وفي الأنهار فلا تغمرك. إذا مشيت في النار فلا تلدغ واللهب لا يُحرقك، لأني أنا الرب إلهك معك” (راجع إش 43: 2-3). هكذا أما يوجد حكيم واحد بينكم بار وصالح من كل الشعب حتى يعبر البحر ويحيا دون أن يغرق، ويجتاز النهر دون أن يغمره، ومن يقدر أن يسير على النار فلا يُلدغ، واللهيب لا يحرقه. وأن قدمت لي شرحًا لا أقبله منك، كما أنت لا تقبل تفسير الكلمات التي سألتني عنها[632].
v كان يعقوب مُضطَهدًا، وعيسو مضطهِدًا. نال يعقوب البركات والبكورية، بينما حُرم عيسو من الاثنين[633].
v كان يوسف مضطَهدًا، وكان إخوته هم المضطهِدِين. يوسف تمجد، ومضطِهدوه سجدوا له، فتحققتِ أحلامه ورؤياه.
كان يوسف المُضطَهد رمزًا ليسوع المُضطَهد.
يوسف ألبسه والده قميصًا بألوان كثيرة، ويسوع ألبسه أبوه جسدًا من البتول.
يوسف أحبه أبوه أكثر من إخوته، ويسوع هو العزيز المحبوب لدي أبيه.
رأي يوسف رؤى وحلم أحلامًا، وتحققت الرؤى والأنبياء في يسوع.
كان يوسف راعيًا مع إخوته، ويسوع هو رئيس الرعاة.
عندما أرسله أبوه ليفتقد إخوته رأوا يوسف قادمًا وخططوا لقتله، وعندما أرسل الآب يسوع ليفتقد إخوته قالوا: “هذا هو الوارث، هلم نقتله“ (مت 21: 38).
ألقي إخوة يوسف أخاهم في الجب، ويسوع أنزله إخوته ليسكن بين الموتى.
يوسف صعد من الجب، ويسوع قام من بين الأموات[634].
v أُضطهد موسى أيضًا كما أُضطهد يسوع.
حين وُلد موسى أخفوه من مضطهديه لئلا يقتلوه، وحين ولد يسوع هربوا به إلي مصر لكي لا يقتله هيردوس مضطهِده.
في الأيام التي وُلد فيها موسى كان يغرقون الأطفال في النهر، وعند ميلاد يسوع قُتل أطفال بيت لحم وما جاورها.
لموسى قال الله: “مات الرجال الذين يطلبون نفسك” (خر 4: 19). وليوسف قال الملاك في مصر: “قم وخذ الصبي وأمه وأذهب إلي أرض إسرائيل، لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبي” (مت 2: 20).
أخرج موسى شعبه من خدمة فرعون، وخلّص يسوع الشعوب من خدمة الشيطان.
ترَّبي موسى في بيت فرعون، وتربي يسوع في مصر حين هرب به يوسف إلي هناك[635].
v أُضطهد يشوع بن نون كما أُضطهد يسوع مخلصنا.
أُضطهد يشوع بن نون بواسطة الشعوب النجسة، وأضطهد يسوع مخلصنا بواسطة الشعب الجاهل.
أخذ يشوع بن نون الميراث من مضطهديه وأعطاه لشعبه، ويسوع مخلصنا أخذ الميراث من مضطهديه ووهبه لشعوبٍ غريبةٍ.
أوقف يشوع بن نون الشمس والقمر وانتقم من الشعوب التي اضطهدته، ويسوع مخلصنا جعل الشمس تغيب في وسط النهار، ليخزى الشعب المضطهِد الذي صلبه.
وزع يشوع بن نون الميراث على شعبه، ووعد يسوع مخلصنا أن يعطي الشعوب أرض الحياة[636].
v هذه الذكريات التي أكتبها إليك يا عزيزي بخصوص يسوع الذي أُضطهِد، والأبرار الذين اُضطهِدوا هي من أجل الذين يُضطهدون اليوم من أجل يسوع المُضطهَد، فيستريحون. فقد كتب لنا وأراحنا بنفسه: “إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضًا. يضطهدونكم لأنكم لستم من العالم كما أني أنا لست من العالم” (راجع يو 19:15، 20؛ 14:17)[637].
القديس مار أفراهاط الحكيم الفارسي
- ليس بالضرورة يهلك الأشرار في العالم
خِيَامُ (اللصوص) الْمُخَرِّبِينَ مُسْتَرِيحَةٌ،
وَالَّذِينَ يُغِيظُونَ اللهَ مُطْمَئِنُّونَ،
الَّذِينَ يَأْتُونَ بِإِلَهِهِمْ فِي يَدِهِمْ! [6]
لا نعجب إن رأينا الأشرار إذ يعيشون في وسع وفيض، وتبدو حياتهم ناجحة لا ينقصهم شيء، يسخرون من المؤمنين المجربين، الذين يعانون من الضيق. إنهم كالعشب الذي يسخر بالاشجار في فصل الشتاء وقد زالت عنها الأوراق الخضراء وتبدو بلا حياة كأنها لن تثمر، ولا تصلح إلا كوقود للنار. لكن لكل شيئ زمن معين من قبل الله. فسرعان ما يجف العشب، ويأتي فصل الربيع فنرى العشب قد زال وربما حل غيره، أما الأشجار التي كانت تبدو جافة تحمل اوراقا وثمارا ولها جمال خاص. هكذا تطلع أيوب إلى أصحابه الذين جعلوه موضوع سخريتهم فتغني بالقول ان لكل شيء عند الله زمان.
اعترض أيوب على المبدأ الذي تمسك به أصدقاؤه وهو أن الأشرار لا يمكن أن يطول نجاحهم في العالم، بل حتمًا تحل بهم النكبات فجأة. وقرر أن الله له حكمته في تصرفه مع الناس، فقد يؤجل الجزاء أو العقاب للعالم الآخر. لهذا يقول إن خيام اللصوص أحيانًا تكون مزدهرة، يمارسون التجديف والعنف واضطهاد الغير ومع هذا فهم ناجحون. ولعله يشير هنا إلى السبئيين والكلدانيين الذين نهبوا ممتلكاته ومع هذا يبدو أنهم ناجحون.
ليس بالأمر الغريب أن الذين يمارسون الشر أشبه بلصوص متغطرسين لا يبالون بعلاقتهم بالله. يسلبون الغير بالغدر والخيانة، ولا يخشون أي ضرر يحل بهم.
v “مع هذا ليت الأشرار لا يتوقعون خروجهم دون عقاب” [6 LXX]. ليته لا يخطئ أحد في تقدير طول أناة الله، أو يفشل في وضع الدينونة القادمة في اعتباره.
ليته لا يعتقد أحد أن الديان العادل يترك أعمال الأشرار دون تأديب.
ليتعلم درسًا من الأحكام التي حلت بفرعون (خر 14: 4) ونبوخذنصر (إر 5: 57) وإيزابل (2 مل 9: 7-10)، والعمالقة (باروخ 3: 27-28) وبني قورح (عد 16: 31)، وجماعة داثان (عد 26: 9-10) ومدينتي سدوم وعمورة (تك 19: 24-25)، وكل بقية الأمم. فإن التطلع إلى هذه الأمم الشريرة وكيف استخفوا بطول أناة الله يجعلنا نقف قليلاً، ونخشى العقوبة التي قد تحل بمثلهم.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
كثيرًا ما يطمئننا القدّيس أغسطينوس أنه وإن وُجدت الحنطة مختلطة بالتبن في هذا العالم دون أن يُحرق التبن، فإن هذا لن يؤذي الحنطة ولا يفقدها إكليلها، فسيأتي الوقت لعزلها عن التبن حيث يحرق التبن في النار.
v هذا التبن لا يُهلك من هم حنطة الرب، والذين هم قليلون إن قورنوا بالآخرين، لكنهم هم جمع عظيم. لا يهلك مختارو الله الذين يُجمعون من أقاصي العالم، من أربعة رياح، من أقصى السماء إلى أقصاها (مت 24: 31). يصرخ المختارون قائلين: “خلِّص يا رب، لأنه قد انقرض التقي، لأنه قد انقطع الأمناء من بني البشر“(مز 12: 1). فيقول لهم الرب: “من يصبر إلى المنتهى (حيث يُقيد الشرّ) فهذا يخلُص“ (مت 24: 13)[638].]
القدّيس أغسطينوس
ليس لنا أن ندين ونفرز الحنطة عن الزوان، والأواني التي للكرامة عن التي للهوان، وإنما يليق بنا أيضًا أن نطمئن أن الحنطة لا تُُهمَل من الله بسبب الزوان، ولا الأواني المُكَّرَمة تفقد كرامتها بسبب التي للهوان، إذ يقول الرسول: “يعلم الرب الذين هم له“.
v ليس من أجل التبن تهلك الحنطة (مت ٣: ١٢)، ولا من أجل السمك الرديء، لا يؤخذ في الأوعية شيء من الشبكة (مت ١٣: ٤٧)… لقد سبق فعيننا قبل أن نُولد، واعدًا إيانا بيقين: “الذين سبق فعينهم فهؤلاء دعاهم أيضًا، والذين دعاهم فهؤلاء بررهم أيضًا، والذين بررهم فهؤلاء مجدهم أيضًا“ (رو ٨: ٣٠)[639].] كما يقول: [حتى إن كانت البذار مختفية في التبن لكنها معروفة لدى صاحب الحقل. لا يخف أحد متى كان بذرة، حتى وإن كان وسط تبن، فإن عيني الذي يذرينا لا تنخدعان[640].]
القدّيس أغسطينوس
فَاسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ،
وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ [7].
يظهر أيوب ما حسبه هؤلاء الثلاثة حكمة يفتخرون بها ليست إلا معرفة طبيعية تعٌَلم بها كل الخليقة، حتى البهائم وطيور السماء.
v يقول: اسأل حتى الذين بلا نطق (أي 12: 7)، فقد تنقصهم اللغة، لكنهم يشيرون بطريق طبيعي، إذ يعرفون خالقهم، ويعترفون بأنه صانعهم، وأنه سرّ وجودهم. الآن اسأل البهائم بأمر منْ تكلم حمار بلعام (عد 22: 26)؟ هكذا اسأل طيور السماء: لماذا قاتَ الغربان إيليا (1 مل 17: 4-6)؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v إذا كنت في حدود الليل تتأمَّل الجمال الأخَّاذ الذي للنجوم. فإنك ترى الفنَّان الذي صمَّمها وزيَّن السماء بهذه الورود. إذ كنت في الصباح المبكِّر، تتعلَّم عن عجائب النهار، وخلال الأشياء المنظورة تصل إلى غير المنظور.
v إذا كنت في حدود الليل تتأمَّل الجمال الأخَّاذ الذي للنجوم. فإنك ترى الفنَّان الذي صمَّمها وزيَّن السماء بهذه الورود. إذ كنت في الصباح المبكِّر، تتعلَّم عن عجائب النهار، وخلال الأشياء المنظورة تصل إلى غير المنظور.
v ليكن بهاء هذه الأشياء المنظورة مدعاة لنا لفهم غير المنظور والذي هو فوق كل جمال أرضي. ولترفعنا روعة هذه المحسوسات المحدودة إلى إدراك سمو من هو سرمدي غير محدود ذو جبروت يتخطى مدارك عقولنا وإفهامنا[641].
v هل عبر اليوم؟ أشكر ذاك الذي قدم لنا الشمس لخدمة عملنا النهاري، ويهبنا نارًا لكي تنير الليل وتخدم احتياجاتنا الأخرى في الحياة. ليت الليل أيضًا يوحي لنا بما يدفعنا للصلاة.
عندما تتطلع إلى السماء وترى جمال النجوم صلِّ إلى رب كل الأشياء المنظورة، خالق المسكونة الذي بحكمة صنع الكل (مز 104 :24).
وعندما ترى كل الطبيعة تغُط في النوم، مرة أخرى أسجد لذاك الذي حتى بغير إرادتنا يعتقنا من ضغط العمل المستمر، وبفترة راحة صغيرة يردنا مرة أخرى إلي نشاط قوتنا.
لا تسمح لليل بأكمله إن يكون للنوِم لا تسمح لنصف عمرك أن ينقضي بلا فائدة في نوم ببلادة وسباتٍ. بل قسم وقت الليل بين النوم والصلاة. وليكن نومك الخفيف ذاته تداريب للتقوى. فإن أحلامنا أثناء النوم غالبًا ما تكون انعكاسات لأفكارنا في النهار[642].
القديس باسيليوس الكبير
أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ،
وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ [8].
كل الخلائق غير الناطقة تشهد أن الكبير يلتهم الصغير كالسمك، والقوى يفترس الصغير كالحيوانات المفترسة. لو لم تدخل الخطية لما حدث هذا كله، إنما “الذئب والخروف يسكنان معًا” (إش 11: 6).
v من يقدر أن يعرف كيفية الولادة الأزلية؟ الآب الذي ولد ليس بطريقة يمكن لإنسان أن يفهمها بل يقدر وحده أن يفهمها.
فإننا نعرف ألاّ نخبر عن الطريقة التي ولده بها، بل نصر أنها ليست بهذه الكيفية وليس فقط نحن نجهل مولد الابن من الآب، بل نجهل حتى كل طبيعة مخلوقة.
“أو كلم الأرض فتعلمك” (أي 12: 8). وبالرغم من إنك تسأل كل الأشياء التي على الأرض، فإنها تعجز عن أن تخبرك. لأن الأرض لا تقدر أن تخبر عن جوهر الذي شكَّلها كخزاف وصنعها. وليس فقط الأرض بل الشمس أيضًا… والسماء أيضًا لا تعلن ذلك… ولا سماء السماوات[643].
القديس كيرلس الأورشليمي
v “اسأل سمك البحر” من الذي أمر الحوت ليبتلع يونان (يونان 2: 1 الخ)؟
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v توجد أسماك رُحَّل، كأنها تهاجر بقرار جماعي، بإشارة خاصة إلى مناطق غريبة. فإذا جاء موعد تكاثرها، رحلت، هذه من خليج، وتلك من آخر، تدفعها سُنة طبيعيَّة عامة، مسرعة إلى البحر الأسود. فترى هذه الأسماك، إبّان رحيلها، كالسيل يتدفق في البسفور نحو البحر الأسود. من حركها؟ وأين الملك الذي يرأسها؟ والأوامر التي عُلقت في الساحات العامة، وعينت موعد السفر؟ وأين القادة؟ إنك لترى العناية الإلهيَّة تتمم كل شيء، وتعتني بأدنى الخلق. فالسمك لا يقاوم سُنة الله، أما نحن البشر فإنَّنا نخالف تعاليمه.
فلا تحتقر الأسماك لأنها خرساء وغير ناطقة، وخف أن تكون أقلّ تعقُّلاً منها حينما تخالف أوامر خالقك.
استمع إلى الأسماك، لا ينقصها غير النطق، وسلوكها يقول لك: إن حفظ الجنس يحملها على مباشرة هذا السفر الطويل. ليس عندها إدراك، بل شريعة طبيعيَّة راسخة كل الرسوخ في غريزتها تدفعها إلى ما يجب أن تعمل. فتقول: هلم بنا إلى البحر الأسود… إن ماءه أعذب من ماء سواه، والشمس فوقه أقل حرارة فلا تمتص ماءه الحلو كله، لهذا يصعد السمك في الأنهار ويبعد عن البحار، ويفضِّل البحر الأسود ليستقبل ويربِّي فيه صغاره، ومتى قضى هناك مأربه، عاد جميعًا أدراجه، لماذا؟ كأنه بمسلكه يقول لنا: “البحر الأسود قليل الأعماق، عرضة للعواصف العنيفة، قليل الملاجئ، وكثيرًا ما تقلبه الرياح الهوجاء رأسًا على عقب، وتعكِّره أكوام من الرمال. وهو فوق ذلك بارد شتاءً، لما يصب فيه من الأنهار العظيمة”، فيهجره السمك، بعد ما أفاد منه صيفًا، ويعجِّل العودة إلى دفء المياه العميقة، والمناطق التي بها دفء الشمس، فيستريح في بحر هادئ بعيدًا عن ريح الشمال العاتية.
لقد رأيت هذا المشهد وأُعجبت بحكمة الله الشاملة.
فإذا كانت البهائم فاقدة النطق تخضع لغرائز كامنة، وتعرف كيف تتدارك أمور معاشها، وإذا كان السمك يعرف ما يجب أن يختار وما يجب أن يجتنب، فماذا نقول نحن، وقد تشرَّفنا بطبيعة عاقلة، وتثقَّفنا بالشريعة، ودُعينا بالمواعيد الإلهيَّة وتشرَّبنا الحكمة بالروح القدس، فهل ندبِّر شؤوننا تدبيرًا دون الأسماك تعقلاً؟
أتعلم هي أن تتدارك بعض الأمور قبل وقوعها، ونحن بخلافها نكاد لا نكترث، ونفني عمرنا في الملذَّات البهيميَّة.
تقطع السمكة البحار كلها بحثًا عن بعض منافعها، وأنت ماذا تقول، إذا كنت تعيش في التواني والكسل؟ فلا يحتج أحد بالجهل فإن فينا ذهنًا طبيعيًا يبيِّن لنا لياقة الخير وينفّرنا من الأفعال المضرَّة[644].
القديس باسيليوس الكبير
مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هَؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ صَنَعَتْ هَذَا! [9]
كل كائن عاقل أو حتى غير عاقل، يمكنه أن يدرك أن الله خالقه، وأنه هو الذي يعوله.
الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ،
وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ [10].
v “أليست حياة كل حي في يده؟” لماذا كل صغار الغربان تدعوه (مز 147: 9)؟
لماذا تطلب الأشبال الطعام من الله (مز 104: 21)؟
إن كانت هذه الخلائق تضع في اعتبارها خالقها، فكم يليق بنا نحن الذين جاء بنا إلى الوجود؟! نحن الذين نجهل أن “روح كل بشر” في يد الله، هذا الذي من البدء نفخ فينا نسمة حياة (تك 2: 7). لقد أظهر ذلك داود في أغانيه النبوية: “تأخذ نسمتهم فيعودون إلى ترابهم” (مز 104: 29).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v تشير “اليد” إلى “القوة”… إنه يمنح النفس القوة لتهب حياة للجسد، ومن الجانب الآخر يحيي النفس إلى درجة نوالها فهم الأبدية.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v ليس كائن ما يُعزى وجوده إلى ذاته. أنت وحدك لم تنل وجودك من آخر. كلنا – أي كل الخليقة – لم تكن كائنة قبل خلقتها. علة وجودنا هي مشيئة الخالق[645].
v حقيقة وجودنا ليس ثمرة استحقاق أعمالنا، إنما هي نعمة من قبل خالقنا[646].
v (بخصوص الخليقة العاقلة) أيا كان الصلاح الموجود فيها فهو ليس صلاحًا بالطبيعة، إنما هو عطية خيِّرة من قبل خالقها… فقد وهبها الخالق العقل، وأعطاها حرية الحركة بإرادة حرة، لكي يحسب الخير الذي فيها كأنه خيرها، وذلك باحتفاظها بالإرادة الحرة[647].
v ليس أحد – سواء كان يهوديًا أو أمميًا – خالٍ من هذا الناموس الذي في البشر بالطبيعة. فقد أعطى الله الإنسان كل المشاعر والأحاسيس التي يستطيع بها أن يصارع لأجل بقائه في الفضيلة ونموه فيها. بجانب هذا غرس الله فيه قوة العقل، به يدرك ماذا ينبغي أن يفعل وماذا يتجنب. وهب الله هذا للجميع على حد سواء[648].
العلامة أوريجينوس
أَفَلَيْسَتِ الأُذُنُ تَمْتَحِنُ الأَقْوَالَ،
كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَسْتَطْعِمُ طَعَامَهُ؟ [11]
يليق بالأذن ألا تصدق كل ما تسمعه، بل تميز بين الحق والباطل، كما يميز الفم بين الحلو والمر. وإن كانت الأذن كما الفم يلزمها تمييز ما يُعرض عليها سواء الاستماع أو الطعام، أفلا يليق بالإنسان أن يحمل روح التمييز ليعرف التعاليم الصادقة من غير السليمة (1 كو 10: 15؛ 11: 13)؟
v لا يتحدث عن أذن الجسم، بل أذن الروح. فبالآذان الجسدية نسمح أصوات الكلمات، أما بالآذان الداخلية فنميز الفكر والكلمات. كذلك “الحنك (خاصة التذوق) يستطعم الطعام” بمعني أن يقدره بالنسبة للذته. هكذا فإن حنك الروح يميز فائدته.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “فإن العقل nous يميز الكلمات“… إن كان الله يعطينا الحنك لنميز تذوق الطعام، فإنه يهبنا أيضًا العقل لنأخذ قرارتنا، ويسمح لنا الزمن أن نطلب الفهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v يوجد قاضٍ واحد يشرف على الداخل، أي قدرة التمييز التي للعقل، ولكن خلال طرق لائقة تحفظ الحواس الخمس متمايزة. يصنع الله عجائب، فلا تقدر العين أن تسمع، ولا الأذن أن ترى، ولا الفم أن يشم، ولا الأنف أن تتذوق، ولا الأيدي أن تشم. بينما كل هذه تعمل خلال قوى العقل الواحدة، غير أنه لا تستطيع حاسة ما أن تمارس غير ما قد عينه الخالق لها. وهكذا خلال هذه التدابير الجسمانية الخارجية، يترك لنا أن نجمعها في الداخل بطريقة روحية…
بينما توجد حكمة واحدة تسكن في إنسانٍ أقل مما في آخر… إلا أنها في ذاتها لا تحمل اختلافات فيما بينها، لكن بواسطتها نمارس عمليات متباينة مختلفة، فواحد ينال عطية حكمة، وآخر عطية معرفة، وآخر ألسنة، وآخر موهبة شفاء…
يدين الطوباوي أيوب عدم خبرة أصحابه، ووقاحة كل من ينتفخ مدعيًا أنه قد تعلم في الحكمة. فإن معرفة شيءٍ ما عن الله شيء، وتذوق ما تعرفه بفهمٍ شيء آخر.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لا توجد فضيلة واحدة يمكننا أن نحصل عليها بمجهودنا البشري ما لم تعيننا النعمة الإلهية. ونحن نرى في الكتاب المقدس أن التمييز حُسب ضمن مواهب الروح، إذ يقول الرسول: “فإنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة ولآخر كلام بحسب الروح الواحد، ولآخر إيمان بالروح الواحد، ولآخر مواهب شفاء بالروح الواحد… ولآخر تمييز الأرواح”…
لقد رأيتم إذن كيف أن موهبة التمييز ليست موهبة أرضية، ولا هي بالأمر الهيّن ، إنما هي عطية عظمى تهبها النعمة الإلهية. إن لم يسعَ الإنسان[649] بكل حماس نحو التمييز… حتمًا يخطئ ويصير كمن هو في ظلمة الليل وحلكة الظلام، ولا يسقط فقط في الأشراك والأهواء بل ويخطئ حتى في الأمور السهلة…
يعلم التمييز أن يسير الإنسان في الطريق الملوكي، من غير أن يسمح له بالتطرف اليميني في الفضيلة، أي المغالاة وتجاوز حدود الاعتدال في جسارة ووقاحة، كما لا يسمح له بالكسل…
هذا هو التمييز الذي يعبر عنه الكتاب المقدس بـ “العين” أو “نور الجسد“، وذلك كقول المخلص: “سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا..” (مت 22:6، 23). لأنها هي التي تميز كل الأفكار والأعمال، وترى كل شيء وتراقب ما سيحدث.
فإذا كانت عين الإنسان “شريرة” أي غير محصنة بصوت الحكمة والمعرفة، مخدوعة ببعض الأخطاء والعجرفة (في العبادة)، فإنها تجعل جسدنا “كله يكون مظلمًا”. تظلم عقولنا وتصير أعمالنا في ظلام الرذيلة ودجى الاضطرابات، وإذ يقول: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون؟!” (مت 23:6).
فلا يستطيع أحد أن يشك في أنه متى كان “الحكم في الأمور” في القلب خاطئًا، أي كان القلب مملوء جهلاً، تكون أفكارنا وأعمالنا، التي هي ثمرة التمييز والتأمل، في ظلام الخطية العظمى[650].
الأب موسى
- حكمة الله وسلطانه
عِنْدَ الشَّيْبِ حِكْمَةٌ وَطُولُ الأَيَّامِ فَهْمٌ [12].
لا يستطيع أحد أن ينكر تمتع البعض بالحكمة هذه التي ينالونها مع خبرة السنين وطول الأيام. “ما أجمل الحكمة للشيوخ والرأي والمشورة لأرباب المجد” (سيراخ 25: 7).
قد تكون لهم الحكمة والإدراك والفهم للأمور لكنهم يعجزون عن تنفيذ حكمتهم، أما الله فكلي الحكمة والقدرة.
ربما أراد أيوب أن يعلن لهم أنهم قد تسرعوا في الحكم عليه لأنهم رأوه بسقط في تجارب كثيرة، وكان يليق بهم أن ينتظروا مدة من الزمن لكي في حكمة صادقة يروا ما وراء التجارب.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم على لسان أيوب: [ألعلنا إذ نعرف هذا الكثير نظن إننا نعرف كل شيء؟ أنا أعلم أن الأشرار يعاقبون، لكنكم ترون أنه بالرغم من برِّي أنا أيضا أعاقب. أضف إلى هذا، هل يحتاج الأمر إلى وقت لكي تفهموا عن أمر له أمثلة كثيرة متشابهة؟ ألا ترون كيف يقدم الكتاب المقدس عمق الخبرة؟ ماذا اقتنى القدماء بخبرة الأحداث بالتفصيل، وأنتم الأصغر منهم تقدمون تشكرات كثيرة لذاك الذي يعدد الأحداث. لقد حدثت لهم أحزان كثيرة ومن جوانب متعددة وأنتم أيضًا إن بحثتم في الأسفار المقدسة باهتمام شديد ترون الكثير منهم (قد دخلوا في ضيقات). هذا هو السبب لقول احدهم: “لتكن راغبًا في سماع مقالٍ صالحٍ”، وفي موضع آخر يقول: “لا تحتقر مقال القدامى”… فإن هؤلاء بالحق ملتحقون بمدرسة آبائهم” (ابن سيراخ 6: 35، 8: 8-9). إنكم لستم محتاجون إلى زمن، فإن كان الله نفسه يرغب أن يهبكم إياها، فلستم في حاجة إلى زمن.]
v “الحكمة عند الشيب، والفهم بطول الأيام” [12]. ذلك لأن الحكمة نقتنيها بالدراسة، والتعلم يغرس في الذهن بدروس البشر. أما بالنسبة لله فالأمر على غير ذلك، لأنه هو نفسه الحكمة في شخصه، وهو الذي يعلم دروس الحكمة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v هذه الأقوال تثبت جذور الحكمة، فباستمرار الحياة تتقوى الحكمة وذلك بممارسة الأعمال. ولكن إذ يوجد كثيرون قد وُهب لهم طول الحياة، ولم توهب لهم الحكمة، لذا يظهر بلياقةٍ من له القرار لتقديم هذه الهبات، قائلا: “به الحكمة والقدرة، له المشورة والفهم“.
البابا غريغوريوس (الكبير)
عِنْدَهُ الْحِكْمَةُ وَالْقُدْرَةُ.
لَهُ الْمَشُورَةُ وَالْفِطْنَةُ [13].
الله كلي الحكمة وحده يدرك كل الأمور وقادر أن يتمم إرادته لأنه كلي القدرة أيضًا. ليس من مقارنة بين حكمة الشيوخ مع حكمة الله.
“هب لي الحكمة الجالسة إلى عرشك ولا ترذلني من بين بنيك” (الحكمة 9: 4).
“على أنه إن كان في بني البشر أحد كامل، فما لم تكن معه الحكمة التي منك لا يحسب شيئًا” (الحكمة 9: 6).
“إن معك الحكمة العليمة بأعمالك و التي كانت حاضرة اذ صنعت العالم و هي عارفة ما المرضي في عينيك والمستقيم في وصاياك” (الحكمة 9: 9)
“ينبوع الحكمة كلمة الله في العلى، ومسالكها الوصايا الأزلية” (سيراخ 1: 5).
v “عنده الحكمة والقوة، به المشورة والفهم” [13]. لم يتكلم أيوب تمامًا دون تقديم شهادة، ولا بدون دفاع (عن رأيه)، إنما يسند كلماته بشهادة المخلوقات، فإن جمال العناصر المنظورة تعلن عن حكمة الله وقوته العظيمة.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يتمجد عمل الآب الذي يعم كل الوجود ويعظم جدًا عندما يتقدم كل إنسانٍ ويبلغ أعلى قامات النمو خلال الشركة مع المسيح “الحكمة” و”المعرفة” و”القداسة”.
يتحقق ذات الأمر عندما يتقدس الإنسان ويتطهر ويبلغ أعلى درجات الكمال خلال شركة الروح القدس، ومن ثم يصير أكثر استحقاقًا لنوال نعمة الحكمة والمعرفة، حتى تزال عنه كل أدران الدنس والجهل، فيبلغ هذا التقدم بكمال وفي نقاوة. بهذا تكون الحياة التي نالها من الله جديرة بالله، الذي يقصد لها أن تكون طاهرة وكاملة. فيستحق المخلوق لهذه الحياة (المقدسة) (ويكون على مثال الخالق)؛ لأن الإنسان بهذه الطريقة التي يريدها له الخالق ينال منه القوة على الوجود أبديًا…[651]
v يهتم (الله) بالنفس [أي موضع القدرات والمشاعر والأحاسيس[ في كل إنسانٍ، ليكون عاقلاً، وينال المعرفة، ويعمل ذكاؤه بشكلٍ لائقٍ وسط حياة الجسد، فتصير مشاعره وإدراكاته (عب 5: 14) صالحة[652].
العلامة أوريجينوس
هُوَذَا يَهْدِمُ فَلاَ يُبْنَى.
يُغْلِقُ عَلَى إِنْسَانٍ فَلاَ يُفْتَحُ [14].
من يقتنِ الله يتمتع بحكمته وقدرته عاملتين فيه، أما من يقاوم حكمة الله بحكمته البشرية، لن يلحق به إلا الحماقة. تُهدم حياته بسماح إلهي، وليس من يقدر أن يبنيه. يرجع بنا أيوب إلى عصر إقامة برج بابل حيث اتكل الإنسان على حكمته وقدرته، وظن أنه قادر على مقاومة الله. هؤلاء ظنوا أنهم قادرون على بناء برج في السماء، لكنهم فشلوا وتشتت طاقتهم. وهوذا خراب سدوم وعمورة يشهد بفشل مقاومة الله.
يغلق الله بالسماح بمرضٍ أو كارثةٍ أو يسمح للإنسان بالموت، فيدخل القبر ولا يخرج منه. عندما يغلق على الأشرار في جهنم من يقدر أن يصعدهم من هناك؟
حينما يصر الإنسان على أن يغلق قلبه على ممارسة خطية ولا يفتحه ليتقبل نعمة الله ومساندته تبقى الخطية حبيسة قلبه، تملك عليه وتقوده وهي في سجن القلب المغلق، كما حدث مع فرعون الذي رفض بقلبه أن ينصت لصوت الله خلال الضربات ومع وعوده بفمه المخادع، كان يضمر في قلبه العنف والمقاومة لعمل الله، لذا قيل: “ولكني أقسي قلب فرعون” (خر 7: 3)، وذلك بتركه حبيسًا لشره وعنفه.
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) مثلا آخر لمن صار قلبه مغلقًا، وهو عيسو، فقد أغلق قلبه بإرادته وذلك بشره واستهتاره حتى باع بكوريته بأكلة عدس، قائلاً: “أنا ماض إلى الموت، فلماذا لي البكورية؟” (تك 25: 32). احتقر عيسو البكورية، ولم يقدم توبة عن ذلك ولا عن شروره فانغلق قلبه على شره، وقد أراد والده أن يفتح هذا الباب ليهبه البركة قبل أن يموت (تك 27: 4)، لكن الرب رفض هذا الابن لأنه لم يتب، وقدم الأب البركة للابن الأصغر بغير إرادته. لقد صرخ عيسو صرخة عظيمة لم تصدر عن نفسٍ متواضعةٍ منسحقةٍ، فصارت توبته كلا شيء، عاجزة عن جذب نعمة الله لفتح قلبه.
v الله القدير يهدم قلب الإنسان عندما يتخلى عنه، ويبنيه عندما يملأه، فإنه لا يهدم نفس الإنسان بالدخول في حرب بل بانسحابه منه. عندما يترك القلب لذاته ينصرف إلى لا شيء، بل إلى هدمه لذلك عندما يحدث أن قلب السامع لا يمتلئ بنعمة الله القدير، بسبب خطاياه باطلاً يقدم الكارز من الخارج نصائحه له. فيكون كل فمٍ يتكلم منه كأنه أبكم، إن لم ينطق الله بصوتٍ في القلب من الداخل، ذاك الذي يوحي بالكلمات التي تُقدم للأذن. هكذا يقول النبي: “إن لم يبن الرب البيت باطلاً يتعب البناؤون” (مز 127: 1). يقول سليمان: “أنظر عمل الله، لأنه من يقدر على تقويم من عوجه؟!” (جا 7: 13)…
استطاع قايين أن يتمتع بالنصائح صادرة عن صوت الله، ومع هذا لم يقدر أن يتغير. بسبب خطية قلبه الشرير في الداخل تركه الله، مع أنه وجه إليه كلمات من الخارج لتحمل شهادة عليه.
حسنا أضاف: “يغلق على إنسان فلا يفتح” [14]” فكل إنسان متى مارس الخطأ في كل طرقه ماذا يفعل سوى أن يجعل من نفسه سجنًا لضم يره؟ الشعور بالإثم في النفس قد يضغط عليه حتى وإن لم يتهمه أحد من الخارج. وإذا ترك في عمى قلبه الشرير بحكم من الله يكون كمن أغلق على ذاته، فلا يجد موضعًا للهروب، ولا يستحق أن يجد موضعًا هكذا. فكثيرًا ما يحدث أن أشخاصًا يشتاقون إلى ترك عاداتهم الشريرة ولكن لأنهم إذ تثقلوا حتى الأرض بسبب حملهم يغلقون على العادة الشريرة في السجن ولا يستطيعون أن يخرجوا هم من أنفسهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v نتعلم من هذا (مز 127: 1) أنه ليس لأن الله هو الذي يبني يجلس الإنسان خاملاً فإن الله يبني له البيت. وإنما لأنه يعمل ويهتم قدر إمكانياته البشرية، لكن الله يزيل كل العقبات ويتمم العمل. هكذا يدعي الإنسان للعمل قدر ما يستطيع في جدية، لكن الله هو الذي يكلل العمل بالنجاح. لهذا يليق بالإنسان بحقٍ وفي تقوى أن يترك إتمام عمله لله، وليس لإنسانٍ بشري آخر. على هذا بولس غرس وأبولس سقى والله هو الذي كان ينمي، إذ ليس الغارس شيئاً ولا الساقي بل الله الذي ينمي (1 كو 3: 6-7). بنفس الطريقة يمكننا القول أن هذا يعتمد لا حسب مشيئة إنسان أو جهاده إنما على مراحم الله[653].
العلامة أوريجينوس
v “لا نقدر أن نجري في طريق الله إلا محمولين على أجنحة الروح[654]”.
v “بمعونة الله نحن نفعل الخير الذي نمارسه[655]”.
v “ليس أقوى من الذي يتمتع بالعون السماوي، كما أنه ليس أضعف من الذي يحرم منه[656]”.
v “لنكن أقوى من الجميع، متمثلين ببولس وبطرس ويعقوب ويوحنا، فانه ان غاب عنا عون الله لا نقدر أن نقاوم أتفه إغراء[657]”.
v “لا نخشى شيئا، فإننا لكي نقهر الشيطان يلزمنا أن نعرف أن مهارتنا لن تفيد شيئا، وأن كل شيء هو من نعمة الله[658]”.
v “الذين يعاقبون، فمن أجل العدالة، أما الذين يكللون، فمن أجل النعمة. فلو أنهم مارسوا ألف عمل صالح، إنما يتمتعوسن بالسماء والملكوت مقابل هذه الأعمال الصغيرة لأجل حرية النعمة، فيرتفعون إلى ما لا يقاس[659]”.
القديس يوحنا الذهبي الفم
يَمْنَعُ الْمِيَاهَ فَتَيْبَسُ.
يُطْلِقُهَا فَتَقْلِبُ الأَرْضَ [15].
في يد الله الأمطار، إن منعها تيبس الأرض وتنعدم ثمارها (أي 4: 7). وإن سمح لها بفيض ففيض المطر الجارف يفسد محاصيل الأرض وتنهار المباني. ربما يشير هنا إلى طوفان نوح فغرقت الأرض.
v إن أغلق السماء من يفتحها؟ وإن فتح ميازيب الطوفان من يغلقها؟ من يقدر أن يزيد من المطر أو يمسكه عن السقوط بقدرٍ كافٍ، إلا الذي يدير الكون بمقياسه وموازينه؟[660]
القديس غريغوريوس النزينزي
v إن فهمت “المياه” أنها للمعرفة للكرازة، كما كُتب: “كلمات فم الإنسان مياه عميقة، نبع الحكمة نهر متدفق” (أم 18: 4)، فعندما تُمنع المياه، يصير كل شيءٍ يابسًا، هذا يعني عندما تمنع معرفة الكارز تيبس قلوب أولئك الذين كان يجب أن تنتعش بالرجاء في الأبدية. قد يبقوا في عقم عدم الرجاء، وذلك بمحبتهم للزمنيات…
وإن كان تعبير “المياه” يشير إلى عطية الروح القدس كما قال صوت الحق في الإنجيل: “من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حي”، مضيفًا: “قال هذا عن الروح الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه” (يو 7: 38-39)… فإن الروح القدس إذ يُمنع عن ذهن السامع يصير الحس في الحال يابسًا، هذا الذي كان خلال الرجاء يبدو أخضر في السامع.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [عندما كان بولس في طريقه إلى دمشق، مسلحًا برسائل ضد المسيح، ارتوى في رحلته بنعمة الروح القدس، فتغير للحال من نيته لسفك الدماء؛ وتقبل بعد ذلك الضربات لأجل المسيح هذه التي في رحلته كان يود أن يصبها على المسيحيين. هذا الذي كان قبلاً – وهو سالك حسب الجسد – يكافح ليسلم قديسي الرب للموت، صار يتهلل أن يقدم ذبيحة جسده من أجل حياة القديسين. هذا الذي كان باردًا يهدف نحو القسوة قد تحول إلى دفء الحنو، والذي كان قبلاً مجدفًا ومضطهدًا صار كارزًا متواضعًا ومملوء حنوًا. ذاك الذي كان يحسب ذبحه للمسيح في تلاميذه مكسبًا عظيمًا، الآن يتمسك بالمسيح ليكون حياته، حاسبًا موته ربحًا” (في 1: 21). هكذا “يطلق المياه، فتقلب الأرض” [15]، وذلك في ذهن بولس، في اللحظة التي فيها نال نعمة الروح القدس حيث غيرت ثبات عناده وقسوته.]
v لقد أنجبت المياه الأولي حياة، لا يتعجب أحد إن كانت المياه في المعمودية أيضًا تقدر أن تهب حياة.
v كان روح الله محمولاً على المياه هذا الذي يعيد خلقة من يعتمد. كان القدوس محمولاً على المياه المقدسة، أو بالحري على المياه التي تتقبل منه القداسة. بهذا تقدست المياه بالروح وتقبلت إمكانية التقديس. هذا هو السبب الذي لأجله إذ كانت المياه هي العنصر الأوّلي (للخلقة) حصلت على سرّ التقديس خلال التوسل لله[661].
العلامة ترتليان
v تتم الخلقة الجديدة بواسطة الماء والروح وذلك كخلقة العالم، إذ كان روح الله يرف على المياه[662].
القديس إكليمنضس السكندري
عِنْدَهُ الْعِزُّ وَالْفَهْمُ.
لَهُ الْمُضِلُّ وَالْمُضَلُّ [16].
هو صاحب القدرة والقوة وهو مصدر الحكمة والفهم. إنه يهتم بكل البشر حتى البسطاء الذين يضللهم الغير، والخبثاء الذين يضللون إخوتهم. يستخدم كل الأمور لتحقيق خطته الإلهية، إذ كلا من المُضِلْ والمُضَلْ تحت يديه. يتمجد في الكل، وإن كان لا يقبل الضلال والخبث والمكر. في النهاية يترنم المؤمنون: “هللويا، فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء” (رؤ 19: 6).
v إن كان أحد لديه القوة والسلطان، أو اكتسب الفهم والتعقل، فهذا من عند الله، يتقبلها منه، هذا الذي يعطي بسخاء للذين يريدون أن ينالوا. وواضح أنه يستردها ممن يريد. من بين كثيرين يوجد مثال يعلمكم هذا، وهو نبوخذنصر، هذا الذي كانت قوته عظيمة فقال عنه دانيال: “أنت يا أيها الملك الذي كبرت وتقويت، وعظمتك قد زادت وبلغت إلى السماء، وسلطانك إلى أقصى الأرض” (دا 4: 22). على أي الأحوال إذ تشامخ في كبرياء في كل مناسبة لم يفقد سلطانه وملكوته فحسب، بل وفقد المعرفة والفهم، “وطُرد من بين الناس، وأكل العشب كالثيران” (دا 4: 33). صار يفكر مثل بهيمة، وليس كما يفكر البشر. لماذا حدث هذا معه؟ هذا ما شرحه دانيال بكل وضوح: “تمضي عليك سبعة أزمنة حتى تعلم أن العلي متسلط في مملكة الناس، ويعطيها من يشاء” (دا 4: 25). وعندما عرف (نبوخذنصر) ذلك استرجع روحه، وفي نفس الوقت ملوكيته، عندما قدم تسبيحًا ومجدًا لله (دا 4: 34- 37).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
يَذْهَبُ بِالْمُشِيرِينَ أَسْرَى،
وَيُحَمِّقُ الْقُضَاةَ [17].
ليس فقط الأفراد تحت سلطانه، وإنما حتى تحركات الأمم والشعوب لا تفلت من يدي ضابط الكل.
كثيرًا ما يسمح بالحمقى الذين يظنون في أنفسهم أنهم مشيرون حكماء أن يسقطوا في الأسر كغنائم حربية، تُسلب كرامتهم وثروتهم وحريتهم؛ ليس فقط يُسلبون من حكمتهم بل وأحيانًا كما من آدميتهم.
حتى القضاة الذين يُعرفون بمشورتهم وسمو أفكارهم يصيرون أحيانًا حمقى كما حمَّق الله مشورة أخيتوفل، وصار اسمًا على مسمي، إذ معناه “أخو الجهل أو الغباء”. وكما قيل بإشعياء: “رؤساء صوعن صاروا أغبياء؛ رؤساء نوف انخدعوا، وأضل مصر وجوه أسباطها” (إش 19: 13).
كثيرًا ما يفقد الشيوخ أصحاب الخبرات الطويلة والحكمة قدرتهم على الفهم، فعامل الزمن الذي قادهم للحكمة هو عينه الذي يسبب ضعف الشيخوخة، فيعيدهم إلى حالة تشبه الطفولة، كمن هو بلا خبرة ولا فهم.
v “يذهب بالمشيرين إلى نهاية غبية” [17]، ذلك عندما يفعلون صلاحًا بدون هدفٍ صالحٍ، بل يطلبون المكافأة الوقتية. فإن كان ابن الله الآب العلي الوحيد قد صار إنسانًا ليكرز بالحقائق الأبدية، لذلك دعي “ملاك المشورة العظيم” (إش 9: 6 )، فبحق نفسر “المشيرين” بالكارزين الذين يزودون السامعين لهم بمشورة الحياة. ولكن عندما يبشر أي كارز بالحقائق الأبدية ليقتني مكاسب وقتية فبالتأكيد “يذهب إلي نهاية غبية“، إذ يهدف نحو بلوغ ذلك بجهوده المضنية، هذه التي كان يجب أن يهرب منها الفكر المستقيم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v فكر “المجد الباطل” هو أخبث أنواع الأفكار.
يأتي هذا الفكر للسالكين في حياة البرّ، ويبتدئ الإنسان يمجّد جهاده، ويجمع لنفسه مديح الآخرين له. فيتصور فزع الشياطين منه، شفاءه للنساء، ازدحام الجماهير حوله يلمسون هدب ثوبه، وأخيرًا يتنبأ له بتكريسه للكهنوت. وأن الناس يفدون إليه ليجعلوه كاهنًا، وعندما يرفض الكهنوت يقيدونه ويقودونه رغمًا عنه.
بعدما يشعل الشيطان فيه هذه الآمال الكاذبة، ينسحب تاركًا المجال لمحاربات أخرى يقدمها شيطان الكبرياء أو شيطان التذمر، الذي يأتي حالاً ويعرض عليه أفكارًا مضادة لهذه الآمال، حتى أنه في بعض الأوقات يستسلم لأفكار شيطان الزنا، هذا الذي منذ لحظات كان يرى في نفسه أنه قديس وكاهن وقور![663]
أما “شيطان الكبرياء” فهو سبب سقوط النفس المحزن للغاية. إنه يشير على النفس ألا تنظر إلى الله كمعين لها، بل تنسب إلى ذاتها كل ما هو صالح. فتبتدئ تنتفخ أمام الإخوة، وتحسبهم جهلاء، لأنهم لا يعرفون منزلتها السامية.
الكبرياء يتبعه الغضب والتذمر. والشر الأخير يتبعه خروج الإنسان عن وعيه والغيظ ورؤية شياطين كثيرة في الهواء[664].
v يصعب عليك الهروب من فكر المجد الباطل، لأن كل ما تصنعه لطرده يمكن أن يكون عاملاً مساعدًا لإنشاء دافع جديد نحو المجد الباطل. هذا والشياطين لا تقاوم دائمًا كل فكر سليم، بل أنها أحيانًا تشجع فينا بعض الأفكار السليمة على رجاء أنها تقدر بعد ذلك أن تخدعنا.
القديس أوغريس
يَحُلُّ مَنَاطِقَ الْمُلُوكِ،
وَيَشُدُّ أَحْقَاءَهُمْ بِوِثَاقٍ [18].
يسمح الله أحيانًا بأصحاب السلطة كالملوك أن ينحطوا عن مراكزهم، ويتجردوا من كل كرامة. يحل مناطقهم، فيسقط السيف من جانبهم، والتيجان من رؤوسهم. ولعله يشير هنا إلى انحدارهم ليكونوا عبيدًا إذ كان العبيد لا يمنطقون أحقاءهم.
يَذْهَبُ بِالْكَهَنَةِ أَسْرَى،
وَيَقْلِبُ الأَقْوِيَاءَ [19].
إذ تحدث عن فئات الحكماء مثل المشيرين والقضاة، وفئات أصحاب الخبرة كالشيوخ، وفئات أصحاب السلطة كالملوك الآن يتحدث عمن يظنون في أنفسهم أبرارًا، وهم فئة الكهنة. هؤلاء الذين أحيانًا في ريائهم يظنون أنهم لا يُمسون لأنهم خدام الله والعاملون لحساب شعبه. لكن الله ليس عنده محاباة حتى كهنته يسمح لهم بالسبي، فيفقدون كرامتهم وسلطتهم وثروتهم التي كانوا يعتزون بها.
أخيرًا يشير إلى فئة الأقوياء، سرعان ما يصير القوي ضعيفًا. كم من جبابرة بأس سقطوا في مصيدة أناس ضعفاء، وكم من جيوش قوية انهزمت أمام جيوش أضعف منها. هكذا لا يليق بأحد أن يعتمد على قوته الزمنية ولا على حكمته الذاتية وفهمه البشري المجرد ولا سلطانه ولا مركزه الاجتماعي أو الديني.
v “يقود الكهنة إلى الخزي، ويقلب الأقوياء” [19] عظمة الكاهن العظيمة هي برّ الخاضعين له. فالكارز الممتاز حسنًا يقول لتلاميذه: “لأن من هو رجاؤنا وفرحنا وإكليل افتخارنا؟ أم لستم أنتم أيضًا أمام ربنا يسوع المسيح في مجيئه؟” (1 تس 2: 19)، لكن يتجاهل الكهنة حياة المسئولين عنهم، ولا يثمرون في تقدمهم أمام الرب. بهذا يصيرون في خزي، لا يجدون مجدًا أمام الديان الحازم، هؤلاء الذين لا يطلبونه في حياة المخدومين بإلحاحهم في الكرازة.
حسنًا قال: “ويقلب الأقوياء“. بحكمٍ عادلٍ يترك قلوب الذين يحكمون، إن كانت لا تتطلع إلى المكافأة الداخلية، فتطرح خارجًا، حيث تخدع نفسها بأن تفرح بالمجد الزمني عوض الأبدي.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v ليس العيب في السلطان في ذاته، وإنما في الطمع الباطل، وعلى هذا فإن تأسيس السلطان يأتي من قِِبل الله، ومن يستعمله يكون سفيرًا لله بكونه خادم الله للصلاح (رو 13: 3-4). العمل في ذاته ليس خطيَّة، لكن العيب في الذي ينفِّذه… يجب أن نميِّز بين الاستخدام الصالح للسلطان والاستخدام الطالح.
القدِّيس أمبروسيوس
يَقْطَعُ كَلاَمَ الأُمَنَاء،ِ
وَيَنْزِعُ ذَوْقَ الشُّيُوخِ [20].
إذ يعتز أصحاب الفصاحة والخطابة والفلسفات على إبداعهم اللغوي أو جاذبية شخصياتهم، هؤلاء يقفون أحيانًا كخرس، ليس من كلمة في فمهم، لأنهم أهانوا الذين وهبهم العقل وأعطاهم موهبة الكلمة وخلق أفواههم.
v “يغير شفاه الأمناء، وينزع تعاليم الشيوخ” [20]. عندما لا يمارس الكاهن الصلاح الذي يخبر به، فإن ذات عمل شفتيه يُنزع منه، فلا يجسر أن ينطق بما لا يمارس. قيل بالنبي: “وللشرير قال الله: مالك تحدث بفرائضي، وتحمل عهدي على فمك؟” (مز 50: 16). أيضا يسأله: “لا تنزع من فمي كلام الحق كل النزع، (مز 119: 43). إذ يظهر أن الله القدير يعطي كلمة الحق للذين يمارسونها، وينزعها عمن لا يمارسوها…
يقول الحق في الإنجيل: “من فضلة القلب يتكلم الفم. الإنسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات. والإنسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور” (مت 12: 34- 35).. أيضا يقول يوحنا: “هم من العالم، من أجل ذلك يتكلمون من العالم”(1 يو 4: 5). حسنًا قيل: “الذي يغير شفاه الأمناء، وينزع تعاليم الشيوخ“.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم”… كل الفضائل تحويها هذه العبارة وهكذا يبدو كما لو أن الرسول يطلب كمالاً مستحيلاً. لأنَّه إن كانت أية خطيَّة أو أية كلمة باطلة تستحق اللوم، فمن هو في هذا العالم بلا خطيَّة وبلا لوم؟! ومع ذلك فإنَّه يلزم فيمن يختار راعيًا للكنيسة أن يكون متمايزًا عن الآخرين الذين بحق هم قطيع خراف (ناطقة).
إن كان الفصحاء يعرِّفون الخطيب بأنه “إنسان صالح قادر على الكلام” إذ يلزمه أن يكون بلا عيب في سلوكه كما في شفتيه (خَطابته) حتى يكون مستحقًا للمديح، لأن المدرس الذي كلماته لا تسندها أفعاله يفقد كل تأثير على سامعيه.
القدِّيس إيرونيموس
v “بلا لوم”… هذه العبارة تحوي الفضائل جميعها، حتى أنه إذا عرف إنسان عن نفسه خطيَّة ما، فليس حسن له أن يشتهي وظيفة هو غير مؤهَّل لها، إنَّما يكون محتاجًا إلى مرشد لا أن يقوم بدور الإرشاد. لأن من يقوم بدور قيادي، يلزمه أن يكون أكثر بهاءً من أي كوكب منير. فتكون حياته بلا عيب، يتطلَّع الكل إليه ويقتدون بسلوكه.
القدِّيس يوحنا الذهبي الفم
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن هذه العبارة تنطبق على اليهود الذين نطقت شفاههم بالحق قبل تجسد الكلمة، وقد آمنوا أنه قادم، وأعلنوا عن مجيئه، لكن شفاههم تغيرت بعد مجيئه، وأنكروه. لقد صار حاضرًا في وسطهم، ذاك الذي سبق فأعلنوا عن مجيئه. لكنهم نزعوا تعاليم آبائهم، إذ لم يسلكوا حسبما تنبأ لهم آباؤهم عنه.
يُلْقِي هَوَانًا عَلَى الشُّرَفَاءِ،
وَيُرْخِي مِنْطَقَةَ الأَشِدَّاءِ [21].
إذ يهين الشرفاء خالقهم، يجتنون لأنفسهم الهوان. “يسكب هوانًا على رؤساء ويضلهم في تيهٍ بلا طريق”. (مز 107: 40).
v “يلقي هوانا على الشرفاء، ويرفع المضطهدين” [21]. استمر الشعب اليهودي في وصية الناموس، بينما لم يكن يعرف العالم الأممي كله شيئًا عن وصية الله، دُعي الأولون شرفاء بالإيمان، بينما سقط الآخرون في هوى عدم الإيمان. ولكن عندما أنكرت اليهودية سرّ تجسد ربنا، وآمن العالم الأممي به، سقط الأشراف في الهوان، وارتفع الذين انحدروا إلى خطية عدم الإيمان، ونالوا حرية الإيمان الحقيقي. إذ رأى إرميا ذلك قبل حدوثه بزمن طويل قال: “صار السيد كعدو. ابتلع إسرائيل. ابتلع كل قصوره، أهلك حصونه” (مرا 2: 5).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لما رفض الله إسرائيل، تدفقت النعمة على الأمم، فدعوة الأمم بدأت بسقوط إسرائيل ويقبل بنعمة الله يسوع المسيح، الذي سبق وبشر به الأنبياء[665].
v نقول نحن المسيحيون أن اليهود، بالرغم من سابق تمتعهم بعطف الله إذ كانوا محبوبين منه أكثر من غيرهم، إلا أن هذا التدبير والنعمة الإلهين قد تحولا إلينا، عندما نقل يسوع السلطان العامل بين اليهود إلى مؤمني الأمم[666].
العلامة أوريجينوس
يَكْشِفُ الْعَمَائِقَ مِنَ الظَّلاَمِ،
وَيُخْرِجُ ظِلَّ الْمَوْتِ إِلَى النُّورِ [22].
إذ سقط الإنسان الأول في العصيان، صار الموت يرافق ذهنه كظلٍ له، بل وأكثر التصاقا من الظل. ليس ما يرعبه مثل الموت، حتى دعاه الرسول بولس: “آخر عدو”، أو أعنف عدو يواجه الإنسان. لكن موت السيد المسيح على الصليب حطم سلطان الموت في عرينه. بالموت داس الموت، ووهبنا قوة الحياة الأبدية والقيامة.
أزال السيد المسيح تعبير الموت من قاموس فكرنا، فصار عوضًا عنه تعبير “ظل الموت؟ أو “الرقاد” أو “الانتقال”. نتغنى قائلين: “لا يكون موت لعبيدك بل هو انتقال”. ونرتل مع الرسول بولس، قائلين: “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟” (1كو 15 : ).
لقد فضح الرب الموت فصار ظلاً بلا كيان في حياة المؤمنين به. أشرق بنوره على القبور، فانفضح ضعف ظل الموت.
رفع الرب الغطاء عن الظلمة، وأدركنا أن لا موضع لنا في مملكة الظلمة، حيث أشرق علينا شمس البرّ.
يفضح الله المؤامرات التي تُدبر في الظلام، والشر الذي يرتكب في الخفاء. عندما ظن ملك آرام أن من بين رجاله من هو خائن، قال له أحد عبيده: “اليشع النبي الذي في إسرائيل يخبر ملك إسرائيل بالأمور التي تتكلم بها في مخدع مضطجعك” (2 مل 6: 12).
v “يكشف الأعماق من الظلام” [22]. ما هي الأعماق؟ الأمور المخفية، الأفكار التي لا تظهر في بهاء النهار. هذا هو السبب أن أيوب يتحدث عن الظلام. فإن المسيح نفسه يستخدم نفس الكلمات لكي يقر ويثبت كلمات أيوب عندما يقول للرسل: “ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لن يُعرف” (مت 10: 26).اذكروا الكلمات التي أضافها: “الذي أقوله لكم في الظلمة، قولوه في النور. والذي تسمعونه في الأذن نادوا به على السطوح” (مت 10: 27).
“ويخرج ظل الموت إلى النور” [22]. ظل الموت هو الخطية، بنفس الطريقة كما أن الظل يكشف عن الجسم الذي له الظل، هكذا الخطية تعني “شوكة الموت هو الخطية” (1 كو 15: 56)، وخاصيتها المميزة لها.
على أي الأحوال ظل الموت هذا يعلن به عن سره (رو 16: 25؛ كو 1: 26) للبشرية، ويعلن عن برّه (مز 98: 2؛ رو 1: 17)، بنفس الكيفية يكشف عن الخطية (أف 4: 22)، ولا يسمح لها أن تختفي. وإذ نعرف قبحها وأنها تفسد النفس، لنهرب جميعنا منها! هذا هو السبب أن المسيح قال عن الشعب اليهودي: “لو لم أكن قد جئت وكلمتهم لم تكن لهم خطية” (يو 15: 22)، بمعني آخر، لما عرفوا قوة الخطية. لكنه يضيف: “وأما الآن فليس لهم عذر في خطيتهم”، لأنهم عرفوا دنسها، ورائحتها الشريرة، وخبثها إن قورنت بالبرّ والجمال الذي لم يكن معروفًا من قبل.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في ظل الموت إشارة إلى قسوة الناموس، الذي أبرز أن كل من يخطئ يستحق موت الجسد، لكن إذ جاء المخلص نزع موت الجسد كعقوبة لمن يرتكب الخطية، ووجه أنظارنا إلى خطورة فاعلية الخطية على نفوسنا.
يُكَثِّرُ الأُمَمَ ثُمَّ يُبِيدُهَا.
يُوَسِّعُ لِلأُمَمِ ثُمَّ يُشَتِّتُها [23].
الله هو ضابط التاريخ كله، يسمح أحيانًا للبعض أن ينمو ويكون لها سلطان لتحقيق هدف معين لتأديب شعبه، كما حدث مع بابل التي كانت دويلة صغيرة، سرعان ما هزمت أشور العظيمة واحتلت مركزها، وسبت يهوذا، وإذ تشامخت بابل على الله في لحظات انهارت لتحتلها فارس ومادي. التي كانت رأسًا صارت ذيلاً بل وتلاشت.
v “يجعل الأمم في تيه ويبيدها؛ يبعثرها ثم يجلبها” [23]… إنه ليس هو الذي يقود الأمم بعيدًا، إنما يسمح لهم أن يشردوا، يذهبون بأنفسهم إلى الإبادة خلال شرورهم، إذ لا يرغبون في العودة إلى لإيمان به. أما عن الأمم المشتتة (المبعثرة)، فيود أيوب أن يقول للرب: “بددهم”، بينما يود أن يقود الذين يرغبون في الجري نحو نور (إش 60: 3) للتمتع بالكرازة. إنه لن يتعدى العدالة، بل يسلك بما يليق مع كل أحدٍ سواء كان في الإيمان أو عدم الإيمان. لهذا إذ حمل سمعان الرب الطفل على ذراعيه قال: “إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين” (لو 2: 34).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
يَنْزِعُ عُقُولَ رُؤَسَاءِ شَعْبِ الأَرْضِ،
وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ [24].
من هم رؤساء الأرض الذين يفقدون فهمهم، إلا أبناء إبراهيم حسب الجسد، وقد انسحبوا عن بنوتهم له روحيًا بجحدهم مخلص العالم، ورفضهم ما كان أبوهم إبراهيم يتهلل بيومه قبل مجيئه بأجيالٍ كثيرة.
جحودهم حوَّل حياتهم إلى برية قاحلة، حيث لا ترتوي قلوبهم بمياه الروح القدس الذي يحول البراري إلى فردوس إلهي!
v “يغير قلوب رؤساء شعب الأرض” [24]. بقوله: “شعب الأرض” يحتاج الإنسان أن يفهم به الشعب اليهودي، لأنه التصق بالأرضيات. فإن بولس أيضًا الذي تحدث عن الذين “وضعوا عقولهم في الأرضيات””. رؤساؤهم هم الكهنة والكتبة والفريسيون. يقصد بتغير قلوبهم، أنه يحولها.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v فإذ لم يبقً لهم مذبح ولا هيكل ولا كاهن، ولم يكن لهم بالتالي تقدمات ذبائح، كانوا يشعرون بأن خطيتهم باقيه فيهم، وأنه لا سبيل لينالوا الغفران[667].
العلامة أوريجينوس
v ها سامريون وجليليون قد آمنوا بالمسيح لخزي اليهود وتخجيلهم، فالسامريون وُجدوا أفضل من الجليليين، لأن أولئك السامريين قبلوه من كلام المرأة، أما الجليليون فقبلوه من معجزاته. يذكر الإنجيلي السامع بالمعجزة (تحويل الماء خمرًا في قانا الجليل) ليرفع من مديح السامريين، فقد قبله رجال قانا بسبب المعجزة التي تمت في أورشليم، ولم يكن هذا حال السامريين، إذ قبلوه من أجل تعليمه وحده[668].
القديس يوحنا الذهبي الفم
يَتَلَمَّسُونَ فِي الظَّلاَمِ وَلَيْسَ نُورٌ،
وَيُرَنِّحُهُمْ مِثْلَ السَّكْرَانِ [25].
الذين كانوا قادة شعوب عظماء، لهم قوتهم العسكرية وسلطانهم المرهب سرعان ما فقدوا كل شيء، وصاروا في مذلةٍ وضعفٍ. وكما يقول المرتل: “سُلب أشداء القلب… كل رجال البأس لم يجدوا أيديهم” (مز 76: 5). صاروا كمن هم ضالين “في تيه بلا طريق” [ع 25]. يتحسسون الطريق في الظلام ويترنحون كسكرى بلا وعي ولا تفكير ولا قوة.
هكذا يتحدث أيوب عن الله ضابط الكل، الذي في قبضة يده كل التاريخ، محولاً الأحداث لحساب ملكوته. لا تستطيع قوة ما أن تقاومه!
v لماذا؟ لأنهم “أحبوا الظلمة أكثر من النور” (يو 3: 19)، بطريقة صار فيها الرب نفسه متهمًا لهم. لماذا أحبوا الظلمة أكثر من النور؟ لأن أعمالهم شريرة. فإنه لأمر حتمي أن الذين يمارسون الشرور يترنحون كالسكرى”. فإنهم كسكرى يكونون مخبولين، عاجزين عن تمييز بين أمرٍ وآخر، أو بين الشر والصلاح.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يا معشر اليهود، عندما تأتون إلى أورشليم وتجدون إنها خربت، وتحولت إلى تراب ورماد، فلا تبكوا كالأطفال (1 كو 4). لا تحزنوا، بل أنشدوا لكم مدينة في السماء بدلاً من تلك التي تبحثون عنها هنا على الأرض. ارتفعوا بأبصاركم، فستجدون في الأعالي أورشليم الحرة التي هي أمنا جميعًا (غلا 4: 26).
لا تحزنوا على غياب الهيكل هنا، ولا تيأسوا لافتقاركم إلى كاهن. ففي السماء تجدون مذبحًا وكهنة الخيرات العتيدة، على رتبة ملكي صادق، في موكبهم أمام الله (عب 5: 10). فقد شاءت محبة الرب ورحمته أن ينزع عنكم الإرث الأرضي، حتى يتسنى لكم أن تطلبوا السماوي[669].
العلامة أوريجينوس
من وحي أيوب 12
وهبتني الحكمة لأمجدك، لا لأفحص أعمالك!
v لك المجد يا واهب العقل والفكر والقلب وكل الطاقات البشرية!
ليس لي أن أتشامخ على خليقتك، إخوتي في البشرية.
أنت العجيب في حكمتك، تقوم بتوزيع كل العطايا للبشرية.
هب لي عقلاً مقدسًا، وقلبًا يحملك فيه.
قدس كل كياني، قدس فكري وقلبي.
ارفع يا رب فكري بروحك، فأكرم كل زميل لي.
املأ قلبي، فيتسع بالحب لكل بشرٍ.
v إلهي، كم تتمرر نفسي من سخرية أحبائي بي!
صرت لهم مثلاً وأضحوكة!
لكني أتطلع إليك، فأراك مجروحًا في بيت أحبائك!
تتهلل نفسي وتمجدك، لأنك سمحت لي بشركة آلامك!
أدركت بحق أنك بحكمة سمحت لأحبائي أن يجرحوني!
أتقبل هذه الجراحات إكليل مجد لا أستحقه.
وسط مرارة نفسي أتلمس يدك المعزية.
أدرك أن كل سخرية تحل بي هي بسماحٍ منك.
بحبك العجيب أردتني أن أشترك معك في تعيراتك !
أرى الظلمة لا تطيق النور.
والفساد يظن أنه قادر أن يحطم عدم الفساد.
وإبليس الساقط يظن أنه صاحب سلطان!
لك المجد يا من تحول آلامي إلى تسبحة مفرحة،
فأرى عربون السماء معلنًا في أعماقي.
لأدرك يا رب أن خطتك من نحوي فائقة.
فأتهلل بسخرية إخوتي بي.
فيما هم يسخرون بي، يراني السمائيون في مجد فائق!
حتمًا سرعان ما تعبر هذه اللحظات المؤقتة،
وأعبر بك إلى حضن أبيك،
وأتمتع بشركة المجد السماوي!
سيعبر الشتاء بثلجه، ويحل ربيع الأبدية ببهائه.
v إلهي، لقد وهبت البشرية حكمة وتعقلاً لتمجدك.
هوذا حتى الخليقة تشهد لحكمتك وحبك ورعايتك!
الخليقة الظاهرة والخفية تمجدك!
يشهد الكل لحكمتك غير المدركة.
v هب لي أن أسجد عند قدميك.
بكل قلبي أسبحك على ما أعرفه عنك أو ما لم أعرفه بعد.
حقا، أقف في حيرة أمام حكمتك،
أرى أشرارًا ولصوصًا يظنون أنهم ملوك وآلهة.
يعيشون في حياة مزدهرة ناجحة،
بينما يتألم أولادك كمن قد حلّ بهم الغضب السماوي!
من يقدر أن يدرك حكمتك يا أيها الحكيم القدير؟
v هوذا كل الطبيعة تكرز لي:
لتخضع لأبيك السماوي الذي يحبك ويرعاك.
في يديه كل حياتك،
من أجلك أوجدنا، وها هو يُعد لك مكانًا في أحضانه الإلهية.
لا تتكل على خبراتك الشخصية وحدها،
خالقك هو وحده يهبك الحكمة،
ويكشف لك فهم أسراره.
أخضع، فبتواضعك ترتفع إلى الأعالي.
لا تقاوم ولا تناضل،
هل تقاوم الجبلة خالقها؟
من أعطاك الفم ليتكلم، والأذن لتسمع، واليد لتلمس؟
من وهبك العقل والفكر والحكمة والفهم؟
إنه يحبك، حياتك ومواهبك كلها عطاياه لك!
+إلهي، من لي يسندني غيرك.
تشامخ ملوك واباطرة ورؤساء فامتلأوا عارًا!
تشامخت أمم وشعوب قوية،
فسقطت أمام أمم ضعيفة.
إلهي هب لي روح التمييز، فأسلك كابن لك!
لك المجد يا من أحببتني قبل أن أوجد.
تحطم جهلي وغباوتي، وتهبني الحكمة التي عندك!
تبدد ظلمتي، وتهبني نورك الفائق!
تقتل موتي، وتهبني قيامتك المجيدة!
تفضح إبليس وجنوده، وتطرحهم تحت قدمي!
تهبني ذاتك، فلا أعتاز إلى شيءٍ!
تفسير أيوب 11 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 13 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |