تفسير سفر أيوب ١٩ للقمص تادرس يعقوب
اَلأَصْحَاحُ التَّاسِعُ عَشَرَ
هل الله عدوِّي؟
فإنه هو رجائي الوحيد!
ترك أيوب بلدد ولم يقاطعه، وإذ تحدث في شيء من التأكيد عن الخراب الزمني والهلاك الأبدي الذي يستحقه أيوب الشرير، رد عليه أيوب في هذا الأصحاح بكل قوة.
يعتبر هذا الأصحاح نقطة تحول مهمة في نظر أيوب البار إلى ما هو فيه من متاعب وتجارب، خاصة مقاومة أصدقائه له:
أولاً: كإنسانٍ مهما بلغ برَّه كانت نظرته قاصرة، يعاني من الضعف بسبب شدة التجربة. كان ككثيرين في وسط بوتقة التجارب في صراعٍ يتساءل: هل تحول الله إلى عدوٍ حتى سمح للشيطان أن يجربه بما يبدو أنه فوق الطاقة. وإن كان كذلك، فكيف فقد أصدقاؤه إنسانيتهم، وتجاهلوا معاملاته معهم، ونسبوا إليه ما لم يروه فيه.
هذه مشاعر بشرية عاشها البار أيوب، كما يعيشها القديسون في وسط آلامهم، ولو إلى حين.
حقًا، لقد أحاطت به الضيقات من كل جانبٍ، وتحولت التعزية إلى تعـذيب (1-7). يعبر أيوب في هذا الأصحاح عن عدم صبره على كلام بلدد، وأن الذين جاءوا ليعزوه أضافوا تعبًا على تعبه بسبب انتقاداتهم الشديدة له وقسوتهم عليه، فقد عذبوا نفسه، وسحقوه بالكلام، وأخزوه، وأطلقوا عليه صفات شريرة، ووجهوا إليه اتهامات لا يعرف عنها شيئا. تظاهروا كأنهم لا يعرفوه من قبل؛ لم يعاملوه بالدالة التي كانوا يعاملونه بها لما كان في رخائه.
تساءل أيوب إن كان الله اختاره لكي يظهره كخاطئ في أعين العالم. فقد سمح له إلهه بالنكبات (8-12). ليس فقط أصحابه، وإنما حتى زوجته وأقرباؤه يتعاملون معه كطريد جرده الله من مجده، وعامله كعدوٍ، بل وأبعد عنه أصدقاءه، وجعل أقرباءه وإماءه يحتقرونه، بل والصبيان رذلوه. لم يجد من يعطف عليه في نكبته [١٣-١٩]. جسمه فني، لقد تدمر عمليًا [٢٠].
ثانيًا: في ضعفه البشري أيضًا شعر بالحاجة إلى حنوٍ ممن هم حوله وسط التجربة، فظن أنه كان يمكن لأصدقائه أن يقدموا له الحنو الذي حرمه الله منه [٢١-٢٢].
ثالثًا: امتاز أيوب البار أنه مع معاناته من ضعفه البشري إلا أنه بالإيمان الحي ارتفع إلى واقعٍ حقيقيٍ آخر، وهو أن حب الله له فائق، وعنايته به عجيبة. لهذا يتساءل: هل بالحق الله هو عدوِّي؟ فإنه هو رجائي الوحيد! [٢٣-٢٧]. يعود يسمو إلى علو الإيمان، فيقول في ثقة الإيمان الكاملة: “أما أنا فقد علمت إن وليي حي، وعلى الأرض يقوم”. فهو يعزي نفسه بالإيمان والرجاء في سعادة العالم الآخر. ونحن نعتقد أن أيوب كان تحت تأثير الروح القدس الذي رفعه فوق نفسه، وأنار بصيرته، ووضع في فمه كلامًا بطريقةٍ مذهلةٍ. ونلاحظ أننا لا نجد في أحاديث أيوب بعد هذا أي تذمر أو شكوى من الله، كما فعل قبل ذلك، لأن ذلك الرجاء هدأ روحه.
رابعًا: إذ ارتفع أيوب البار بقلبه وفكره إلى إدراك محبة الله، وامتلأ قلبه بالرجاء. كما نطق بعبارات خاصة بأحواله، تحمل نبوات رائعة عن السيد المسيح الذي احتل مركز الإنسان المتألم، والذي تعثر فيه إشعياء في البداية حيث قال: “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه، ولا منظر فنشتهيه. مُحتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمُستر عنه وجوهنا، مُحتقر فلم نعتد به” (إش 53: 2-3). لكن عاد إشعياء فتمتع بسرّ صليبه، وسَّجل لنا “تسابيح العبد المتألم، أغنية كل نفسٍ تتلاقى مع سرّ الصليب، وتتعرف على مخلصها غافر خطايانا، وواهبها البرّ الحقيقي وشركة الأمجاد الأبدية.
جاءت أغلب عبارات أيوب في هذا الأصحاح نبوات تحققت في شخص السيد المسيح المتألم كرأس الكنيسة، وأيضًا في الكنيسة كجسد المسيح المُتألم:
أ. تعذيبه بكلمات أصدقائه [1-4]؛ هكذا لم يتوقف قادة اليهود عن أن يتقدموا ليجربوا السيد المسيح، ويستخدموا الكلمات اللاذعة والاتهامات الباطلة، عوض الكرازة به كأصدقاءٍ له، يعرفونه خلال الرموز والنبوات التي بين أيديهم.
ب. استكبار اليهود على المسيا المخلص، مع عدم قدرتهم على إثبات اتهاماتهم عليه [5].
ج. ما حل به من آلام، كمن سقط في شبكة الله، إنما تحقيقًا لإرادة الآب، وقد وضع هو نفسه بإرادته [6].
د. صار طريقه كما لو كان ظلامًا، لذلك حلت الظلمة على العالم وقت الصلب.
هـ. زال تاج أيوب [9]، وأخفى السيد المسيح مجده ليحمل تاج العار، أو إكليل الشوك عنا.
و. انهدم أيوب تمامًا [10]، وأسلم السيد المسيح روحه على الصليب,
ز. حُسب أيوب في أعين أصدقائه عدوًا لله [11]، وحمل مسيحنا خطايا العالم على كتفيه لكي يرفع الغضب الإلهي والعداوة عنا.
ح. تحول أقرباء أيوب إلى غرباء عنه [13]، وجاء السيد المسيح إلى خاصته، وخاصته لم تقبله.
ط. لم تحتمل زوجة أيوب رائحته [17]، وصار السيد المسيح رائحة موت لموت للأمة اليهودية التي جحدته (2 كو 2: 16).
ي. يطلب أيوب من أصدقائه أن يتراءفوا عليه [21]، ويصرخ السيد المسيح على الصليب: “أنا عطشان” (يو 19: 28)، مشتاقًا أن يشرب من مياه الحب للراجعين عن شرورهم وجحدهم. إنه يريد أن الجميع يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). يطلب أيوب أن يفهم أصدقاؤه سرّ آلامه، وأن تُسجل قصته، وتُنحت على صخر لتتعلم منها الأجيال [23-24]. ويرسل السيد المسيح روحه القدوس الذي ينقش سرّ حبه العملي على القلوب الحجرية، فتحمل صخرة الإيمان، وتتحول إلى ملكوت إلهي سماوي مفرح.
ك. يوجه أيوب أنظار أصدقائه إلى القيامة التي يهبه الله الحي إياها [25]، ويوجه السيد المسيح البشرية المحبوبة إليه جدًا إلى قيامته ليتمتعوا بقوتها، ويقوموا به من الموت إلى الحياة الأبدية.
ل. يختم حديثه هنا بتحذير أصدقائه لئلا يرفضوا الحق، ويتمسكوا بالكلام الباطل [28]، حتى لا يقتلهم السيف [29]. ويحذر السيد المسيح غير المؤمنين لئلا يُحرموا من الأبدية المفرحة ويُلقوا مع إبليس في جهنم!
يختم أيوب كلامه بتهديد أصحابه بأن ظهور الله الذي ينتظره برجاء سيسبب خوفًا لهم إذا استمروا يصرون على أن خطيته هي سبب آلامه. يريد أيوب أن تُنقش كلماته وتُسجل، فحتمًا سيأتي اليوم الذي يقف فيه الله شاهدًا له لصالحه. لكن هل كان يتوقع تحقيق هذا قبل موته أم بعده؟
- تحول التعزية إلى تعذيب 1-7.
- إلهه سمح بالنكبات 8-12.
- تحول الأقرباء إلى غرباء 13-19.
- فقدان من يحنو عليه 20-22.
- الأبدية هي رجاؤنا 23-27.
- تحذيره لأصدقائه 28-29.
- تحول التعزية إلى تعذيب
فأَجَابَ أَيُّوبُ وَقَال: َ[1]
حَتَّى مَتَى تُعَذِّبُونَ نَفْسِي،
وَتَسْحَقُونَنِي بِالْكَلاَمِ [2].
كل ما حلّ بأيوب من آلام جسدية ونكبات، ليست فيها آلام نفسية كتلك التي حلت بنفسه من أصدقائه، فالتجارب دفعته لتقديم ذبيحة تسبيح وشكر لله، أما كلمات أصدقائه فسحقته. كأنه يصرخ مع المرتل: “اشفني يا رب، لأن عظامي قد رجفت” (مز 6: 2).
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي في كلمات أيوب البار هنا عتابًا موجهًا ضد أصدقائه الذين كادوا أن يحطموا رجاءه، الأمر الذي لم يستطع إبليس أن يفعله به. فإن أقصى ما يفعله عدو الخير هو أن يصب عليه التجارب من آلام جسمانية تبلغ نهايتها بالموت. وهو في هذا كله لا يبالي بالآلام، ولا يخشى الموت، إذ يرى في معركته مع إبليس أنه ينال كمًا من الأكاليل كلما تزايدت التجارب. أما أصدقاؤه فقد صوّبوا سهامهم، لا ضد جسمه الذي ينحل يومًا ما، بل ضد نفسه لتحطيم رجائه، وهذا أخطر. وكأن ما يفعله الأصدقاء الأشرار أشر وأخطر مما يصوبه ضده عدو الخير.
كثيرًا ما يحدثنا الكتاب المقدس عن خطورة الكلمات العنيفة المحطمة للنفس، كما يحذرنا من الكلمات الناعمة التي تخفي قلبًا قتالاً مخادعًا. فاللسان السليط سهم قاتل، ضرباته أخطر من القتل بالسيف، أو الضرب بالسياط؛ ويوضع اللسان الكذاب مع العيون المتعالية المتشامخة والأيدي السافكة للدماء.
“كثيرون سقطوا بحد السيف، لكنهم ليسوا كالساقطين بحد اللسان” (سيراخ 28: 22).
“لسانهم سهم قتال، يتكلم بالغش بفمه، يكلم صاحبه بسلامٍ، وفي قلبه يضع له كمينًا” (إر 9: 8).
“ضربة السوط تُبقي رَضَّا، وضربة اللسان تحطم العظام” (سيراخ 28: 21).
“عيون متعالية، لسان كاذب، أيدٍ سافكة دما بريئا” (أم 6: 17).
“السليط اللسان بعيد السمعة، لكن العاقل يعلم متى يسقط” (سيراخ 21: 8).
“فمه مملوء لعنة وغشًا وظلمًا، تحت لسانه مشقة وإثم” (مز 10: 7).
“يقطع الرب جميع الشفاه الملقة، واللسان المتكلم بالعظائم” (مز 12: 3).
“نفسي بين الأشبال، اضطجع بين المتقدين بني آدم، أسنانهم أسنة وسهام، ولسانهم سيف ماض” (مز 57: 4).
“من يجعل حارسًا لفمي، وخاتمًا وثيقًا على شفتي، لئلا أسقط بسببهما، ويهلكني لساني” (سيراخ 22: 33).
v الوصية الأولى: “صُنْ لسانك عن الشر، وشفتيك عن التكلم بالغش” (مز 34: 13؛ 1بط 3: 10). لأن الخطية التي يسببها اللسان فعّالة للغاية ومتعددة الجوانب، لها دورها في السخط والشهرة والرياء والإدانة والغش. أتريد أن أعدد الأسماء الكثيرة التي لخطايا اللسان؟ فإنه عن اللسان تصدر النميمة، والسخرية والحماقة البالغة، والاتهامات الباطلة، والمرارة والقسم والشهادة الباطلة. اللسان هو مخترع كل هذه الشرور وأكثر[883].
القديس باسيليوس الكبير
v لا يروض الحصان نفسه، ولا أيضًا الإنسان يقدر أن يفعل هذا. الحاجة مُلحة للإنسان أن يروض الحصان، وبنفس الطريقة إلى الله كي يروض الإنسان[884].
القديس أغسطينوس
v يقتل السيف الجسم، ويقتل اللسان النفس. لا يعرف اللسان الاعتدال، فإما أن يكون عظيم الصلاح أو عظيم الشر. إنه عظيم الصلاح عندما يعرف أن المسيح هو الله، وعظيم الشر عندما يجحد ذلك. ليته لا يخدع أحد نفسه، ظانًا أنه لم يخطئ قط، فإنني أخطئ، وذلك بلساني[885].
v كلما أخطأ اللسان، صار بالأكثر بائسًا![886]
القديس جيروم
v البرهان العملي على الذهن السليم والفكر الكامل ألا يوجد خطأ على ألسنتنا، وأن نحفظ أفواهنا مغلقة عند الضرورة. إنه من الأفضل أن يقودنا الحديث اللائق، القادر أن يعرف كمال كل مديح ويعبِّر عنه. فإن أكثر المواهب نفعًا أن تكون قادرًا على النطق بالحكمة عند التحدث عن الحياة الصالحة. الكلام الرديء يلزم أن يكون غريبًا عن القديسين[887].
القديس كيرلس الكبير
v احفظ طرف لسانك، فإنه مثل فرسٍ ملوكي. إن وُضع لجامًا في فمه، وعلَّمته السير بكياسة، يخضع لذلك ويكتفي. أما أن تركته يجري بلا ضابط، يصير مركبة للشيطان وملائكته[888].
v اللسان سيف ماضٍ. ليتنا لا نجرح به أحدًا، بل بالحري نقطع به “الغرغرينا” التي فينا[889].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v عندما يكون الجسم مرهقًا، لا أشعر باحتياج ضروري، أحسب آلامي كلا شيء، ولا أبالي بجسمي عندما يُستنفذ هذا الطين ويعبر. لا تعذبوا نفسي، ولا تربكوا روحي، فإذ تحمل نفسي نغمًا (روحيًا) أُصيب به عَدُوِي. أنا غالب في المعركة، لا أخشى الآلام. أما أنتم فتسحقونني بكلماتكم، وتنزعون عني الرجاء في نوال الأكاليل، وتجعلوني أرتد بخطواتي كمن لم يركض حسنًا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v لتفهم كلمات الرجل القديس كمن ينطق بها عن شخصه تارة، وتارة أخرى بلسان الرأس (المسيح)، وتارة كرمزٍ للكنيسة الجامعة.
الآن فإن نفس البار في حزنٍ عميقٍ عندما يقذفه الأشخاص بعبارات ضده دون أن يتعلموا أن يمارسوا الحياة الصالحة، وبالكلمات ينسبون البرّ إلى ذواتهم مع أنهم عمليًا هو أعداء له…
ينطق أيوب بخصوص شخصه، ليتكلم معترفًا بلسان الكنيسة الجامعة: “لكنني بالحق أنا جاهل، وجهلي يرافقني (معي)” [ 4 Vulgate]. كأنه يقول عن الهراطقة: “كل معرفتكم ليست معكم، بل هي ضدكم، مادامت ترفعكم في كبرياء غبي. أما جهلي أنا فهو معي، فإنه يعمل لحسابي، حيث لا أتجاسر وأبحث فيما يخص الله بكبرياء قلبٍ. احفظ نفسي في الحق بروح التواضع…
البابا غريغوريوس (الكبير)
إن كانت جراحات أيوب البار مرة للغاية بسبب كلمات أصدقائه القاسية أكثر من أية مرارة أخرى، يليق بنا نحن كمؤمنين نحرص على سلامة اخوتنا وخلاصهم وفرحهم في الرب. ألا ننطق بكلمات جارحة، بل تكون لنا الكلمات الطيبة التي تشفي جراحاتهم وتطَّيب خاطرهم في الرب. يحثنا الكتاب المقدس لا على التحفظ من اللسان السليط فحسب، وإنما أن يهبنا الله لسانًا لطيفًا يسندنا ويسند اخوتنا بعذوبته الشافية.
v قال الرسول هذا (يع 3: 8)، لا لكي نتساهل مع هذا الشر الذي للسان، بل كي نطلب النعمة الإلهية لتروض ألسنتنا[890].
القديس أغسطينوس
v النبع هو قلب الإنسان، ومجرى الماء الذي يفيض هو حديثه، والفتحة التي يخرج منها هي فمه. الماء الحلو هو التعليم السليم، والماء المر هو ما يضاد ذلك[891].
الأب هيلاري أسقف آرل
v إنه أمر عظيم أن تكون قادرًا على ضبط اللسان، لأن الفشل في ذلك هو أعظم الشرور[892].
القديس كيرلس الكبير
“الكلام الحسن شهد عسل، حلو للنفس، وشفاء للعظام” (أم 16: 24).
“الذي لا يشي بلسانه، ولا يصنع شرًا بصاحبه، ولا يحمل تعييرًا على قريبه” (مز 15: 3).
“فاض قلبي بكلام صالح، متكلم أنا بإنشائي للملك، لساني قلم كاتب ماهر” (مز 45: 1).
“هدوء اللسان شجرة حياة، واعوجاجه سحق في الروح” (أم 15: 4).
“الموت والحياة في يد اللسان، وأحباؤه يأكلون ثمره” (أم 18: 21).
“ببطء الغضب يقنع الرئيس، واللسان اللين يكسر العظم” (أم 25: 15).
“لا تكن جافيًا في لسانك، ولا كسلاً متوانيًا في أعمالك” (سيراخ 4: 34).
“الفم العذب يكثر الأصدقاء، واللسان اللطيف يكثر المؤانسات” (سيراخ 6: 5).
“وإن كان في لسانها رحمة ووداعة، فليس رجلها كسائر بني البشر” (سيراخ 36: 25).
“المزمار والعود يطيبان اللحن، لكن اللسان العذب فوق كليهما” (سيراخ 40: 21).
هَذِهِ عَشَرَ مَرَّاتٍ أَخْزَيْتُمُونِي.
لَمْ تَخْجَلُوا مِنْ أَنْ تُعَنِّفُونِي [3].
أخزوه بما نسبوه إليه من صفاتٍ شريرةٍ وما اتهموه به مرة ومرات بلا ترددٍ. كانت كلماتهم كسيفٍ قاتلٍ وكحجارةٍ ثقيلةٍ سحقت نفسه. لم يخجلوا من أن يحتقروه، إذ جعلوا أنفسهم غرباء عنه، وكانوا يتظاهرون كمن لا يعرفونه (أي 2: 12). لم يتعاملوا معه بذات الدالة التي كانت لهم في رخائه. لذا يقول الحكيم: “الصديق يحب في كل وقتٍ” (أم 17: 17).
لقد تحدثوا خمس مرات، وكان كل منهم يضاعف توبيخه فأحصى أيوب ما فعلوه به، قائلاً: “عشر مرات أخزيتموني“. هذا ورقم 10 يشير إلى الكمال الزمني لذلك جاءت الوصايا في الناموس عشرة، إشارة إلى التزام المؤمن بالوصية طوال زمن عمره. وهنا كأنه لم يترك الأصدقاء لحظة من لحظات جلوسهم معه إلا وحملت روح النقد اللاذع والتوبيخ لكي يخزوه.
v “فقط لتعرفوا أن الرب يعاملني هكذا” [3 LXX]. يقول على الأقل ليت كرامة ذاك الذي يؤدبني تجعلكم تغيروا نظرتكم نحوي. فإنه لا يليق بكم أن تطأوا على الناس الذين يؤدبهم الله، بل أن تتنهدوا وتحزنوا على مثل هؤلاء، خاصة وأنه لا يليق أن يفرح أحد بموت آخر، فإن هذا التصرف لا يُترك بدون عقاب.
القديس يوحنا الذهبي الفم
وَهَبْنِي ضَلَلْتُ حَقًّا.
عَلَيَّ تَسْتَقِرُّ ضَلاَلَتِي! [4]
“وهبني ضللت حقًا“، بمعنى افترضوا أن اتهاماتكم صدق، وأنني بالحق ضللت، سواء كان ذلك عن جهلٍ أو خطأٍ، فكل إنسانٍ معرض لهذا، فإن هذا يمس حياتي، لأن ضلالتي – إن كنت أخطئ عن عمد وخبث وخداع – تستقر عليّ لا عليكم، فلماذا كل هذا الهجوم القاتل؟
ربما يعني إن كنت بالحق مخطئًا وشريرًا، وأنا أتألم بسبب شري، وحلت كل هذه النكبات عليّ، اتركوني في مرارتي، لماذا تضيفون على آلامي آلامًا؟
v “إنكم تنتصبون ضدي[893]“، كأنه يقول لهم: “كان يليق بكم، بمناسبة ضربي (بالتجارب) أن تنتصبوا ضد أنفسكم. هذا هو التدبير الحسن للانتصاب في جانب الصلاح، أن نقف أولاً ضد أنفسنا، وبعد ذلك ضد الأشرار. ننتصب ضد أنفسنا عندما نتطلع إلى أعمالنا الشريرة، ونضرب أنفسنا بعقوبة الندامة القاسية، ولا نترك أنفسنا قط في خطايانا، ولا ننحاز بأي فكر أحمق نحو أنفسنا.
يلزمنا أولاً أن نقتفي في صرامة أثر شرورنا في داخلنا. عندئذ يكون من العدل أن ننتصب لمقاومة الشر في الآخرين لأجل نفعهم، والشر الذي نعاقبه فينا نطبقه أيضًا في الغير…
هذا النوع من الانتصاب لا يعرف عنه الأشرار شيئًا، إذ يتركون أنفسهم ويهاجمون الصالحين… لذلك بحقٍ قيل لأصدقاء الطوباوي أيوب الذين كانوا متكبرين عليه وهو تحت العقوبة: “تنتصبون ضدي“. بمعنى آخر قيل لهم: “تتركون أنفسكم التي تستحق اللوم، وتنتهرونني بعبارات قاسية”. فمن لا يحكم على نفسه أولاً، يجهل الحكم على الغير باستقامة… هكذا قيل للذين كانوا يتصرفون بخداع عندما جاءوا بزانية لتسقط تحت الحكم: “من كان منكم بلا خطية، فليرمها أولاً بحجرٍ” (يو 8: 7). فقد جاءوا يعاقبون خطايا الغير، وتركوا خطاياهم خلفهم.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v أم كيف تقول لأخيك دعني أُخرِج القَذَى من عينك، وها الخشبة في عينك؟ يا مرائي أَخرِج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذٍ تبصر جيّدًا أن تُخرِج القَذَى من عين أخيك.
أزل عنك الكراهية حتى تستطيع إصلاح من تحبه. حسنًا يقول الرب “يا مرائي” لأن الإنسان المحب، وحده الذي له أن يشتكي من خطايا الآخرين، أما الشرير، فمتى اشتكى على الآخرين يكون مرائيًا، إذ يظهر نفسه بصورة غير التي هو عليها… فهناك صنف من المتصنعين يشتكون من خطايا الآخرين كالكراهية والضغينة بقصد الظهور بمظهر أصحاب المشورة… لنحذر لئلا نسقط في هذا، كذلك إذا اضطررت إلى الكشف عن أخطاء الآخرين أو انتهارهم، فلننظر إلى أنفسنا إن كنا نرتكب نفس الخطايا، أو سبق لنا ارتكابها. فإن كنا لم نرتكبها لنعلم أننا بشر معرضون للخطية. أما إن كنا قد ارتكبنا الخطية من قبل وقد تحررنا منها، فلنذكر ضعفنا على الدوام. لذلك وجب علينا أن نكنّ لمن نكشف أخطاءهم المحبة لا الكراهية… ولنحذر لئلا ننشغل بخطاياهم… فلا نلوم الخاطئ ولا ننتهره، بل نحزن بشدة على حالتنا هذه، غير طالبين منه أن يطيعنا، بل أن يجاهد معنا[894].
v علينا ألا نستخدم التوبيخ إلا نادرًا. وإذا اضطررنا إلى استخدامه يجب علينا أن نسعى بشغفٍ إلى خدمة الله لا أنفسنا. ليكون لنا هدف واحد، فلا نفعل شيئًا بقلب مزدوج. لنُخرج من أعيننا خشبة الحسد أو الحقد أو التصنع، حتى نتمكن من الإبصار فنخرج القذى من عيني أخينا. للنظر إلى القذى بعيني الحمامة، اللتين لعروس المسيح (نش 1:4)، التي اختارها الله لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن، أي نقية لا غش فيها (أف 27:5)[895].
القديس أغسطينوس
v يجب على المسيحيين أن يجتهدوا… أن لا يدينوا أحدًا حتى ولا زانية من الزانيات، ولا الأثمة المشهورين بخطاياهم، ولا قليلي النظام، بل يراعوا كل جنس البشر بسذاجة النية وعين النقاوة، لكي يصبح الإنسان من طبيعته وأساسه لا يستخف بأحدٍ ولا يدين أو يكره أحدًا، حتى ولا يميز بين الناس. فإن رأيت رجلاً أعور فلا تحتقره في قلبك بل أعطه من الاهتمام حقه الذي كنت تعطيه له لو كان بلا عيب… لأن نقاوة القلب الصحيحة هي أنك إن رأيت الخطاة أو الضعفاء ترثي لحالهم، وتظهر لهم الرحمة. فإن هذا هو ما يناسب قديسي الرب أن يجلسوا في المحرس (حب ٢: ١؛ إش ٢١: ٨)، ويعاينوا ضلال العالم وخداعه ويخاطبوا الله بالإنسان الباطن.
القديس مقاريوس الكبير
v لا تسيء إلى إنسانٍ، الذي هو صوره الله، بسبب الشر الذي فيه، فإن الشر أمر عارض، هو محنة ومرض وتضليل شيطاني، أما كيانه، كصورة الله، فهو باقٍ[896].
الأب يوحنا كرونستادت
إِنْ كُنْتُمْ بِالْحَقِّ تَسْتَكْبِرُونَ عَلَيَّ،
فَثَبِّتُوا عَلَيَّ عَارِي [5].
شعر أيوب أنهم لم يأخذوا منه موقفًا غير إنساني فحسب، فتحولوا عن صداقته، وإنما بالحق استكبروا عليه، وحسبوا أنفسهم أسمى منه، وتعاظموا عليه لإذلاله. بدلاً من أن ينزعوا عنهم عارهم، ثبتوا عاره كدليلٍ على عدم نزاهته وإخلاصه وكماله. أخذوا من عاره حجه لتثبيت شره.
رأى الفريسي المتكبر في المرأة الزانية نجاسة لا تُطاق، وشرًا لا يُحتمل، حتى استكثر عليها أن تتجاسر وتدخل بيته. وكأنه يود لو طرد ربنا يسوع حتى لا يدخل معه أمثال هذه. أما ربنا يسوع فرأى في قلبها المنكسر ودموع عينيها حبًا كثيرًا، فغفر لها خطاياها الكثيرة.
ورأت الجماهير في زكا رئيس العشارين إنسانًا خائنًا عابدًا للمال لا يستحق أن يعيش بينهم، أما السيد المسيح فرأى فيه شوقه للخلاص والتحرر من المادة، فيستحق دخول رب المجد لا إلى بيته فحسب، بل وداخل قلبه.
إن نظرة ربنا يسوع القدوس المحب للنفس المعترفة بسوادها، هي: “أنت جميلة يا حبيبتي. أنت جميلة” (نش ١: ١٥). أما أخواتها فينظرن سوادها، لذلك وبختهن قائلة: “لا تنظرن إليّ لكوني سوداء، لأن الشمس قد لوحتني” (نش ١: ٦).
يرى الأب هيسيخيوس الأورشليمي أن الطوباوي أيوب الذي شهد الله عن بّرِه لا يمكن أن يكون قد ضلّ، ذاك الذي نال حكمة من العلا لا ينطق بما هو غريب عن الحق؛ ليس فيه أفكار باطلة. ومع هذا فإنه حتى وإن كان قد ضل، فما كان يليق لأصدقائه أن يتشامخوا عليه وهو في المذلة.
كأنه يقول لهم: “لماذا تتعاملون بعجرفة مع إنسان في المذلة؟ لماذا تهاجمون شخصًا منهارًا إلى أسفل؟ لماذا تؤذون شخصًا كان يجب أن تعطفوا عليه، وتصلوا من أجله؟ ولنفرض أنكم تتشامخون علىّ، فلماذا تتشامخون على الله؟ فإن عنايته الفائقة حالة علي”.
يقول القديس كبريانوس: [إنه لكبرياء وتشامخ أن يتجاسر أحد يظن أنه قادر أن يفعل ما لم يهبه الله حتى للرسل، فيحسب أنه يستطيع تمييز الزوان عن الحنطة… ومن يفكر أنه يختار الأواني الذهبيّة والفضيّة ويحتقر الأواني الخشبيّة والخزفيّة ويطردها، مع أن الأواني الخشبية لا تُحرَق إلاَّ يوم الرب بالنار الإلهيّة المحرِقة، والأواني الخزفية لا يسحقها إلاَّ ذاك الذي أُعطي له قضيب من حديد[897].]
v ينصحنا الرب ألا نحكم على أحد بتهورٍ أو بظلمٍ، لأنه يرغب في أن نصنع كل شيء بقلبٍ بسيطٍ متجهٍ دائمًا نحو الله. هذا وإذ يكون استعداد من يحكم على الآخرين هو البحث عن خطايا الغير لتوبيخهم وإدانتهم، لا لإصلاحهم وتهذيبهم في محبة… كل هذا بسبب كبريائهم أو حسدهم، لذلك أضاف رب المجد:: “ولماذا تنظر القَذَى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها؟”
فلو سقط أخوك في خطية الغضب، تسقط أنت في خطية الكراهية (بإدانتك له). وهناك فرق شاسع بين الغضب والكراهية، كما هو بين القذى والخشبة. لأن الكراهية هي غضب مزمن، فبطول الزمن اشتد القذى (الغضب) حتى صار يُدعى بحقٍ خشبة (الكراهية). فإنك إن غضبت على إنسان، فلابد أنك ترغب في رجوعه إلى الحق، أما إذا كرهته فلا يمكن لك أن تشتاق إلى رجوعه[898].
القديس أغسطينوس
فَاعْلَمُوا إِذًا أَنَّ اللهَ قَدْ عَوَّجَنِي،
وَلَفَّ عَلَيَّ أُحْبُولَتَهُ [6].
لعله أراد القول بأن ما حلّ به هو بسماحٍ من الله، فتهدمت حياته، وسقط في شبكةٍ، كصيدٍ في شبكة صيادٍ، وليس من مهربٍ. أتركوا الله يحكم عليّ…
يرى البعض هنا إشارة إلي ما اعتاد الفارسيون والرومان والغوصيون أن يفعلوه في معاركهم. ففي بعض المعارك الرومانية كان أحد الجنود يمسك بسيفه ودرعه بينما بجواره آخر يمسك برمح وشبكة. فالأخير يبذل كل الجهد لكي يلقي بالشبكة على رأس خصمه، فإن نجح في هذا يسحبه في الحال بالشبكة الملتفة حول رقبته والتي بها شرك يجره على الأرض ويضربه بالرمح الذي في يده. فمتى ألقيت الشبكة على رأسه وصار في داخلها، يصير لا حول له ولا قوة، مصيره في يد الغالب[899].
هَا إِنِّي أَصْرُخُ ظُلْمًا، فَلاَ أُسْتَجَابُ.
أَدْعُو، وَلَيْسَ حُكْمٌ [7].
شعر أيوب كأن الله قد أخذ موقفًا مضادًا منه، وأن ما حلّ به ليس له ما يفسره به. يشعر أنه تحت الظلم، وها هو يدعو الله، والله لا يستجيب. كأنه يقول لهم: لماذا تربكون نفسي وتسحقونها؟ أتركوني أصرخ إلى إلهي، وألح عليه، فيفسر لي علة ما حلّ بي.
v “ها أنا أصرخ ظلمًا، فلا أُستجاب” [7]. هذا يخص ذاك الذي قال للخادم (القائد) الذي لطمه: “إن كنت قد تكلمت رديًا فأشهد على الردي، وإن حسنًا فلماذا تضربني؟” (يو 27: 40). واضح أن الحكم لم يكن مستقيمًا ولا عادلاً، فمع كثرة عدد القضاة لم ينطق أحد حسب الحق.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
ولعل صرخات أيوب هنا كانت رمزًا لصرخة السيد المسيح وسط آلامه على الصليب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (مز 22: 1؛ مت 27: 46؛ مر 15: 34)
v في ناسوتيته التي في غاية الرقة، وخلال شكل العبد الذي له، نتعلم ما نستخف به هنا في هذه الحياة، وما نترجاه في الأبدية. في آلامه ذاتها التي ظن فيها أعداؤه المتكبرون أنهم منتصرون، أخذ كلمات ضعفنا، حيث صُلبت معه طبيعتنا الخاطئة (رو 6: 6)، لكي ما يحطم جسم الخطية، قائلاً: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟”… وهذا ما بدأ به المزمور الذي رُنم به منذ زمنٍ بعيدٍ، كنبوةٍ عن آلامه، وإعلان عن النعمة التي بها يقيم مؤمنيه ويحررهم[900].
القديس أغسطينوس
v إذ أخذ (الكلمة الإلهي المتجسد) نفسًا بشرية، أخذ أيضًا المشاعر التي للنفس. كإله لم يكن في ألمٍ، لكنه كإنسانٍ كان قادرًا على التألم. لقد مات ليس كإلهٍ، بل كإنسانٍ. إنه بصوت بشري صرخ: “إلهي، إلهي لماذا تركتني؟” كإنسانٍ تكلم على الصليب، حاملاً معه رعبنا. فإنه في وسط المخاطر نتجاوب كبشرٍ حاسبين أننا متروكون. لذلك كإنسانٍ تألم وبكى وصُلب[901].
القديس أمبروسيوس
v لقد تُرك، لأن ناسوته كان لابد أن يعبر خلال الموت. كان يجب أن يُنظر بعين الاعتبار وبدقة أنه قد أسلمالروح بصرخةٍ عظيمةٍ بعد أن شرب من الإسفنجة المملوءة خلاً والمُقدمة له على قصبة (مت 27: 46)… حقيقة أنه قد قُدم له ليشرب من إسفنجة على قصبة تعني أنه أخذ من أجساد الأمميين الخطايا التي حطمت الأبدية، وحوَّل خطايانا إليه، لكي يوَّحدنا بخلوده[902].
القديس هيلاري أسقف بوايتيه
- إلهه سمح بالنكبات
قَدْ حَوَّطَ طَرِيقِي، فَلاَ أَعْبُرُ،
وَعَلَى سُبُلِي جَعَلَ ظَلاَمًا [8].
بدأ يعلق على ما سمح به الله له من مرارة، لعلهم يترفقون به ويتركونه. يصور الله كمن يعترض طريقه، فلا يسمح له بالعبور للنجاة حتى ولو بالموت، وكمن جعل سبيله ظلامًا، فلا يعرف إلى أين يذهب. يعاتب الله ويسأله عن السرّ الذي وراء هذه الأحداث.
لعل أيوب يتوقع وسط كل قسوة قلوبهم وتعسفهم بكلمات قاتلة أن يجد ولو القليل من الحنو، فأراد أن يثيرهم لكي يكفوا عما يفعلونه به ويرقون لحاله.
v “قد حوَّط حولي، فلا أقدر بأية وسيلة أن أهرب”. هذا من أجل وجود كتيبة جنود لبيلاطس وجمهور اليهود. “حوَّطوا” الرب متعقبين إياه كأمر بيلاطس (مت 27: 26-27). بصق البعض في وجهه (مت 27: 30)، وآخرون لكموه (يو 19: 3)، وآخرون ضربوه. على أي الأحوال لم يهرب من وسط الشعب الذي حوَّطه…
“قد جعل ظلمة أمام وجهي”. كانت هناك ظلمة من الساعة السادسة حتى التاسعة. قد أزال نور النهار، حتى لا ترى الخليقة وجه الخالق المكشوف.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v لكن الجنود الذين تجمهروا حوله كانوا يسخرون به. صار أضحوكة لهم. “ينظرون إلىّ وينغضون رؤوسهم”. كانت تظهر ملوكيته حتى في سخريتهم له، حيث كانوا يركعون له.
وقبل الصلب ألبسه الجنود ثوبًا من الأرجوان وتاجًا على رأسه. لماذا ألبسوه تاجًا ولو كان من الأشواك؟ لأن كل ملك يظهر مُلكه بواسطة جنوده. فيسوع كملكٍ تُوج رمزيًا خلال الجنود. لهذا يقول الكتاب في نشيد الأناشيد: “أخرجن يا بنات أورشليم، وأنظرن الملك سليمان بالتاج الذي توجته به أمه”. وقد كان التاج سريًا، إذ هو غافر الخطايا ومزيل اللعنة.
تلقى آدم هذا الحكم: “ملعونة الأرض بسببك. شوكًا وحسكًا تنبت لك”. لهذا السبب كان يليق بيسوع أن يقبل الشوك حتى يزيل هذا الحكم. ولهذا السبب دُفن يسوع في الأرض حتى تقبل الأرض التي لعنت البركة عوض اللعنة[903].
القديس كيرلس الأورشليمي
v عرَّاه الصالبون من لباسه كالجزازين، أما هو فصمت بشبه النعجة قدام الجزاز!
ترك لباسه حين فرح، حتى يلبس الذين خرجوا من الفردوس عرايا!
يُلبسهم ثيابه ويبقى هو في هزءٍ! لأنه عرف أنها تصلح لآدم المفضوح!
عروا ثيابه، وألبسوه ثوبًا قرمزيًا لون الدم، حتى يتزين به العريس المقتول!
v أعطوه أن يمسك القصبة كالديان، فاضطر من أجل هؤلاء أن يكتب كتاب طلاق ابنة العبرانيين، لأنها أبغضته!
أعطته القصبة ليكتب طلاقها، لأنها نظرته يحب القداسة كثيرًا مثل أبيه.
v حجبوا عينيه واستهزأوا به، ولكموه، وقالوا له: تنبأ لنا من الذي ضربك!
لطموا بالقصبة الرأس المرتفع، فارتعبت الملائكة!
بهذه الأمور الفاسدة الشريرة كافأوه بجنون!…
صاروا في جنونٍ ليحجبوا وجه شمس البرّ لئلا يُشرق، فينظر العالم فسادهم.
حجبت العروس الجاهلة العريس لئلا ينظر فجورها وفسادها.
حجبوا الطبيب لئلا يضمد جراحاتهم ويشفيهم!
أنظر في المسيح، كم أحتمل من الآثمة؟!
ذاك الجاهل كيف تجاسر وتفل في وجهه!
القديس يعقوب السروجي
أَزَالَ عَنِّي كَرَامَتِي،
وَنَزَعَ تَاجَ رَأْسِي [9].
كأن الله قد نزع عنه ثروته وكرامته القديمة، وكل فرصة لعمل الخير، وسلطانه وتاجه الملوكي، فصار بلا قوة.
بلا شك نطق أيوب بهذه الكلمات في مرارة قلب، تحت تأثير قسوة التجربة، لا في كبرياءٍ وتشامخٍ على أحكام الله، وإنما في مرارة وحزن. لهذا وإن كانت الكلمات تبدو فيها جسارة، لكن الله تطلع إلى روحه الوديع. وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير): [من يتوقف عن برِّه بسبب الحزن ليس ببارٍ، لكن الطوباوي أيوب، بسبب روحه الوديع لم يخطئ حتى بنطقه كلماتٍ قاسية. فإننا إن قلنا إنه أخطأ بهذا القول، نجعل الشيطان قد حقق هدفه عندما قال: “مسْ عظمه ولحمه، فإنه في وجهك يجدف عليك” (2: 5).]
v “أزال عني كرامتي” [9]. إذ صارت الحاجة إلى تحقيق كلمة إشعياء النبي: “لا صورة له ولا جمال فننظر إليه. ولا منظر فنشتهيه، أقل مما لبني البشر” (راجع إش 53: 2-3).
“ونزع التاج عن رأسي”، لكي يُعدوا له تاجًا جديدًا مصنوعًا من الشوك (مت 27: 29).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v يقول: “جردني من مجدي”، لأن مجد كل إنسانٍ هو برَّه. الآن كما أن الثوب يحمي من البرد، هكذا البرّ يحمى من الموت. بهذا فإنه ليس من غير اللائق أن يُشبه البرّ بالثوب، إذ قيل بالنبي: “كهنتك يلبسون البرّ” (مز 132: 9).
البابا غريغوريوس (الكبير)
v ضفروا إكليل الشوك ووضعوه له. وهذا يليق به، إذ جاء ليقتلع الأشواك من الأرض!
حمل لعنة الأرض بالإكليل الذي وضعوه على رأسه، وحمل ثقل العالم كله كالجبار!
الخطايا والذنوب والأوجاع والآلام والضربات ضُفرت بالإكليل، ووُضعت على رأسه ليحملها!
وانحلت بالأشواك لعنة آدم!
صار لعنة، حتى يتبارك به الوارثون الراجعون.
بإكليله خلع زرع الحية الملعون!
بإكليل شوكه ولعنة الأرض التي قتلت الأجيال… أزال لعنة آدم وعرقه!
بإكليل الشوك هدم تاج الشيطان الذي أراد أن يكون إلهًا على الخليقة!
بإكليل شوكه ضفر إكليلاً لابنة الأمم، العروس التي خطبها من بين الأصنام وكتبها باسمه!
v ضرب المخلص العظيم بالمقارع، وبالحكم الصادر من الحاكم خرج ليصلب!
أتى إلى خاصته، وخاصته لم تقبله، بل أخرجوه بالهزء من عندهم!
خرج ليموت مع الأثمة بغير زلةٍ، حينئذ ندم يهوذا – السراج الذي انطفأ من بين أصحابه – وخزي من الفعل الشرير الذي صنعه.
الذي أسلمه رد الفضة للذين أمسكوه حيث ازدرى بنفسه، واعترف أنه أسلمه بالشر… وأيضًا الصالبون هربوا كالغير قريبين وقالوا: ما علينا، أنت تعرف.
الدم الزكي طرح الرعب على مهرقيه، وبدأوا يرتعبون ويرتعشون منه قبل أن يهرقوه!
القديس يعقوب السروجي
هَدَمَنِي مِنْ كُلِّ جِهَة،ٍ فَذَهَبْتُ،
وَقَلَعَ مِثْلَ شَجَرَةٍ رَجَائِي [10].
لم يتركه في طريق مغلق فحسب، ولا كعبدٍ ذليلٍ، وإنما هدم كل كيانه من كل جانب. وكأنه شجرة قد اُقتلعت. صار منهدمًا من كل جانب، وقد سمع إبليس هذه الشكوى، هذا الذي قال عنه إن الله سيّج حوله وحول بيته وكل ما له من كل ناحية (أي 1: 10).
v “هدمني من كل جهة، فذهبت” [10]. وذلك عندما تشتت التلاميذ الذين كانوا قبلاً بجانبه (مر 14: 50). أما عن نفسه فقد سلم نفسه للذين قبضوا عليه، لقد ذهب!
وقطع مثل شجرةٍ رجائي”، لم يقل إنه اقتلعها من جذورها، إنما قطعها، فإن الشجرة عندما تعاني في منطقة ما فوق الجذور يصدر عن الجذر أشجار أخرى بعد قطعها.
ما أن صُلب المسيح، حتى قُطع الرجاء الذي كان لدى الكثيرين فيه بالرغم من أنه سبق فتحدث مع تلاميذه عن قيامته (مت 16: 21). إذ اضطربوا لآلامه، يئسوا من جهة المخلص.
هذا ما حدث بدقةٍ عندما قال كليوباس: “ونحن كنا نرجو أنه هو المزمع أن يفدي إسرائيل” (لو 24: 21). هذا وبخه المخلص بحزمٍ إذ بلغ إلى هذه الدرجة من اليأس، عندما قال المسيح: “أيها الغبيان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء” (لو 24: 25). وإذ أظهر أنه لم تكن توجد حاجة لفقد الرجاء فيه، أضاف: “أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده؟” (لو 24: 26).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
كاد اليأس أن يسيطر على أيوب حين أحاطت به التجارب من كل جنب، فصار كشجرةٍ قُطعت، لكن بقي جذرها حيًا فتعود وتُظهر سيقانًا صغيرة، تكبر وتنمو. أما من جهة السيد المسيح، فقد هاج الكل عليه، وُحكم عليه بالموت، وكاد يفقد المحيطون به الرجاء فيما كانوا يتوقعونه منه كمخلصٍ لإسرائيل.
الآن إذ تحيط الضيقات بالكنيسة، ويسقط بعض الضعفاء، يظن البعض أنها تفشل في رسالتها. لكن الله الذي يسمح لها بالمتاعب حتى تبدو كشجرةٍ مقطوعةٍ، هو سند لها، يعمل بروحه القدوس فيها، فتكسب بالضعف الكثيرين، تبقى في العالم أشبه بالخميرة التي تبدو أنها قد ماتت وسط العجين، لكنها تخمر العجين كله! لذا لاق بنا ألا نفقد الرجاء، إنما دومًا نفرح بالذين ينضمون إليها للتمتع بالخلاص الأبدي، خلال كلمة الله الحية.
v تنهدم الكنيسة من كل جانب حيث تنحل في الأعضاء الضعيفة، حينما يهلك أولئك الذين يظهرون أنهم أقوياء. ويُنزع التاج عن الرأس بمعنى أن المكافآت الأبدية تُهمل لدى الذين يحتلون مركز الرأس. لذلك بحق يضيف بخصوص سقوط الضعفاء: “وقلع مثل شجرة رجائي”.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v الخميرة كمية قليلة، لكنها تمسك بالعجين، وتنتشر فيه كله، وتنقل إليه بسرعة كل خواصها. وكلمة الله تعمل فينا بطريقة مشابهة، لأنه حينما نقبلها في داخلنا، تجعلنا مقدسين وبلا لومٍ[904].
القديس كيرلس الكبير
وَأَضْرَمَ عَلَيَّ غَضَبَهُ،
وَحَسِبَنِي كَأَعْدَائِهِ [11].
صار غضب الله على أيوب كنارٍ قد أُضرمت، فالتهبت وأحرقته. وكأنه يصرخ مع المرتل: “ارفع عني ضربك، من مهاجمة يدك، أنا قد فنيت” (مز 39: 10).
هذا ما رُمز إليه حين ضرب موسى الصخرة بالعصا. “ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب، فتضرب الصخرة، فيخرج منها ماء ليشرب الشعب، ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل” (خر 17: 6). قيل: “ورفع موسى يده وضرب الصخرة بعصاه مرتين فخرج ماء غزير، فشربت الجماعة ومواشيها” (عد 20: 11). لذا يقول المرتل: “شق الصخرة، فانفجرت المياه، جرت في اليابسة نهرًا” (مز 105: 41). ا”لمحول الصخرة إلى غدران مياه الصوان إلي ينابيع مياه” (مز 114: 8).
هذا ما رآه إشعياء النبي في السيد المسيح على الصليب، فقال: “لكن أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصابًا مضروبًا من الله ومذلولاً، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحبره شُـفينا” (إش 53: 4-5).
v “وأضرم عليّ غضبه”، بإدانة آدم. جاء (آدم) الجديد (1 كو 15: 45) ليفي الدين (كو 2: 14) عن آدم القديم. لهذا أضاف أيوب: “وحسبني كعدوٍٍ”. واضح أنه قد طلب مني الدين الذي على العاصي.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v لكي تتأكد أنه هو بنفسه الذي رآه موسى، اسمع شهادة بولس القائل: “لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح” (1 كو 4:10)[905].
القديس كيرلس الأورشليمي
v بالنسبة لأولئك كانت المياه تنفجر من الصخرة، أما بالنسبة لكم فالدم يفيض من المسيح. كانت المياه كافية إلى ساعة بالنسبة لهم، أما اليوم فيرويكم للأبدية[906].
القديس أمبروسيوس
v احسب كلمة الخالق وأشبهه بالصخرة التي سارت مع شعب إسرائيل في البرية. إنها لم تكن من مستودع للماء حوى داخله ما فاض عليهم بمجاري مجيدة. لم يكن في الصخرة ماء، لكن محيطات نبعت منها. هكذا فِعل الكلمة الذي شكَّل المخلوقات من لا شيء[907].
القديس إفرآم السرياني
v مرة أخرى ارتفعت السحابة وقادتهم إلى مكان آخر (خر 17: 1-7). ولكن هذا المكان كان صحراء جرداء برمال محرقة، وليس به قطرة ماء. وهنا مرة أخرى أجهد العطش الشعب. ولكن عندما ضرب موسى صخرة بارزة بعصاه أخرجت ماء عذبًا وصالحًا للشرب بغزارة أكبر مما كان يحتاجه كل هذا الجمع العظيم[908].
v ليس من الصعب التوفيق بين التسلسل التاريخي والتأمل الروحي. إن الإنسان الذي ترك المصريين موتى وراءه في الماء، وتنقى بالخشبة، وتلذذ بينابيع التلاميذ، وارتاح في ظل أشجار النخيل هو بالفعل قادر على استقبال الله. فالصخرة، كما يقول الرسول، هي يسوع المسيح. وهذه الصخرة صلبة ومقاومة لغير المؤمنين، ولكن إذا استخدم الإنسان عصا الإيمان فإن الصخرة تتحول إلى ماء للظمآن، وتتدفق على من يقبلون السيد المسيح، لأنه يقول” (أنا وأبي) إليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23)[909].
القديس غريغوريوس النيسي
v لقد ضُربت الصخرة بالعصا مرتين لكي تفيض ماءً، لأن للصليب عارضتين. إذن كل هذه الأمور صُنعت كرمزٍ، وقد أُعلنت لنا[910].
القديس أغسطينوس
مَعًا جَاءَتْ غُزَاتُهُ،
وَأَعَدُّوا عَلَيَّ طَرِيقَهُمْ،
وَحَلُّوا حَوْلَ خَيْمَتِي [12].
كان هجوم الغزاة عليه بسماح الله، فدعاهم “غزاة الله” أو “غزاته”. عبروا إليه دون عائق، وحلوا حول خيمته دون مقاومة. حاصروه كجيشٍ يحرم المدينة من المئونة حتى تهلك جوعًا وعطشًا!
v غالبًا ما يحدث أن الأرواح الشريرة تبث أمورًا كثيرة في قلوب المتألمين، ومع الضربات التي تحل عليهم من الخارج، يبثون أفكارًا شريرة في قلوبهم، مستدعين غضب الله. لذلك بحق يضاف: “يأتي اللصوص معًا، ويجعلون أنفسهم طريقًا خلالي” (أي 19: 12). لصوصه هم الأرواح الشريرة الذين ينشغلون في صيد موت الناس. هؤلاء يجعلون أنفسهم طريقًا في قلوب الحزانى عندما يعانون من الخارج بسبب المخاطر، لا يكفون عن أن يسكبوا الأفكار الشريرة أيضًا. عن هؤلاء قيل: “حلّوا حول خيمتي” (أي 19: 12)… وذلك عندما يحوطون العقل من كل جانب بالتجارب…
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v إنه لأمر غريب، لماذا يتحدث عن اللصوص (الغزاة) مضيفًا أنهم له، موضحًا أن هؤلاء الغزاة منسوبون إليه. في هذه المنطقة يجب أن نميز بين سلطان الأرواح الشريرة وإرادتهم، فإن هذا يبين لماذا يدعوهم “لصوص الله”. فإن الأرواح الشريرة تلهث راكضة على الدوام لكي تسيء إلينا، ولكن ليس لهم سلطان على إساءتنا ما لم ينالوا سماحًا من الإرادة العلوية. فمن ذواتهم يشتاقون إلى أذيتنا ظلمًا، لكن بالله القدير لا يستطيعون أن يؤذوا أحدًا إلا خلال العدل.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v خطط إبليس لا أن يسحبنا من البركات التي لدينا، إنما يحاول أن يسحبنا إلى جرف صخري أكثر اندفاعًا. لكن الله في محبته لم يفشل في الاهتمام بالبشرية.
لقد أظهر لإبليس كيف أنه غبي في محاولاته. لقد أظهر للإنسان عظم العناية التي يظهرها الله له، فإنه بالموت وهب الإنسان الحياة الأبدية. لقد سحب إبليس الإنسان من الفردوس، وقاده الله إلى السماء. فإن النفع أكثر بكثير من الخسارة[911].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v تُوجه تجارب الشيطان بالأكثر ضد الذين تقدسوا، لأنه يشتاق بالأكثر أن ينال نصرة على الأبرار[912].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
- تحول الأقرباء إلى غرباء
قَدْ أَبْعَدَ عَنِّي اخْوَتِي،
وَمَعَارِفِي زَاغُوا عَنِّي [13].
لم يأتِ ربنا يسوع المسيح إلى هذا العالم ليرفض اليهود، خاصته، لكن من خلال عدم إيمانهم فتح أبواب الإيمان أمام الأمم.
v “اخوتي ابتعدوا عني، تعرفوا على الغرباء أكثر مني” (أي 19: 13 LXX). تشهد نعمة الإنجيل عن هذا… إذ يقول يوحنا عن الرب: “لأن إخوته أيضًا لم يكونوا يؤمنون به” (يو 7: 5)، عندما قالوا له: “انتقل من هنا، وأذهب إلى اليهودية، لكي يرى تلاميذك أيضًا أعمالك التي تعمل” (يو 7: 3-4). قالوا هذا لأنهم لم يعرفوا قوته، “وتعرفوا على الغرباء أكثر منه”. هذا ما رآه اليهود بوضوح.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v تأمل قول يوحنا: “إلى خاصته جاء“، ليس لأجل حاجة المسيح، لأنه مستحيل أن تكون الذات الإلهية محتاجة، لكنه جاء من أجل الإحسان إلى خاصته.
وقد جعل يوحنا ملامة هؤلاء اليهود أشد لذعًا عندما قال: “وخاصته لم تقبله“. مع أن المسيح هو الذي جاء إليهم لمنفعتهم إلا أنهم رفضوه، ولم يفعلوا به هذا الفعل فقط، لكنهم أخرجوه إلى خارج كرمه وقتلوه.
القديس يوحنا الذهبي الفم
v سأظهر ذلك بأكثر سهولة عندما نقدم شهادة يوحنا القائل: “جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله (يو 1: 11)، فقد ابتعد اخوته عنه، وصار معارفه غرباء عنه. هؤلاء هم العبرانيون الذين معهم الناموس، وتعلموا النبوة، ومع ذلك إذ صار حاضرًا لم يعرفوه قط.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لم يأتِ بهدف تحقيق عدم إيمان اليهود. ولكنه بسابق علمه بما كان مزمعًا أن يحدث سبق فاستخدم جحود اليهود وأخبرنا بما سوف يحدث، وهو دعوة الأمم إلى الإيمان.
كان التدبير الإلهي رائعًا… فقد استخدم خطية اليهود، ليدعُو الأمم إلى ملكوت الله بواسطة المسيح رغم كونهم غرباء عن عهود الموعد (أف 12:2)[913].
العلامة أوريجينوس
أَقَارِبِي قَدْ خَذَلُونِي،
وَالَّذِينَ عَرَفُونِي نَسُونِي [14].
سمح الله ألا يبادله أقاربه ومعارفه الحب، بل زالت عنهم روح القرابة والأخوة والصداقة واللطف والحنو. أعطوه القفا لا الوجه، نسوه كأن لا وجود له في حياتهم، ولم يبالوا بكل علاقة دم أو صداقة قديمة. خذلوه، إذ فقد كل رجاءٍ فيهم. لم يتأثروا بكل ما حلّ عليه من نكبات.
v ليس فقط لم يوجد من يلطف من آلامه، بل كثيرون أحبطوه من كل جانب بالتوبيخات الساخرة. فإن سمة المحن ليست هكذا حتى أن الذين يوبخوننا عليها يثيرون نفوسنا ويهيجونها. ها أنتم ترون مرارة حزنه وقوله: “حتى أنتم سقطتم عليّ” (5:19 LXX). ودعاهم “قساة”، قائلاً: أقربائي قد خذلوني، وخدمي تقاولوا عليّ، دعوت أبناء خليلاتي فابتعدوا عني (راجع 14:19، 17)… البعض يسخر، وآخرون يوبخون، والبعض يستخفون، ليس فقط الأعداء بل وحتى الأصدقاء. ليس فقط الأصدقاء، بل وحتى الخدم، ليس فقط يسخرون ويوبخون وإنما يشمئزون أيضاً منه. وذلك ليس لمدة يومين أو ثلاثة أيام أو عشرة أيام بل إلى عدة شهور… فلم يجد راحة حتى بالليل، فكانت أهوال الليل أكثر رعبًا من محن النهار. عانى ما هو أمر في نومه، اسمع ماذا يقول: “لماذا تريعني بالأحلام، وترهبني بالرؤى؟” (14:7). أي رجل من حديد أو قلب من الصلب يمكنه أن يحتمل مثل هذه المآسي؟[914]
القديس يوحنا الذهبي الفم
نُزَلاَءُ بَيْتِي وَإِمَائِي يَحْسِبُونَنِي أَجْنَبِيًّا.
صِرْتُ فِي أَعْيُنِهِمْ غَرِيبًا [15].
حتى الذين جاء بهم كنزلاءٍ وإماء في بيته حسبوه أجنبيًا عنه. لم يمد واحد منهم يده لخدمته في وسط مرضه الشديد. إذا دعا أحد عبيده وسأله شيئًا يتركه دون أن يجيب عليه بكلمةٍ، مع أنه كان سيدًا رحيمًا عليهم ولم يرفض حقهم في دعواهم عليه (أي 31: 13).
v “نزلاء بيتي وإمائي يحسبونني أجنبيًا” [15]. هذا عن الرب المتجسد الذين سبقوا فأخبروا عنه منذ زمنٍ طويلٍ بكلمات الناموس، رفضوا أن يعرفوه ويكرموه…
“صرت في أعينهم غريبًا” [15]. فإن فادينا، إذ لم يتعرف عليه المجمع صار كمن هو غريب في بيته.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v “ليس نبي مقبولاً في وطنه” (لو 4: 24). إذ كانت عناثوت وطن إرميا (إر 11: 21) لم تُحسن استقباله. وأيضًا إشعياء وبقيَّة الأنبياء، رفضهم وطنهم أي أهل الختان… أما نحن الذين لا ننتسب للعهد بل كنَّا غرباء عن الوعد، فقد استقبلنا موسى والأنبياء الذين يعلنون عن المسيح، استقبلناهم من كل قلوبنا أكثر من اليهود الذين رفضوا المسيح، ولم يقبلوا الشهادة له[915].
العلامة أوريجينوس
عَبْدِي دَعَوْتُ، فَلَمْ يُجِبْ.
بِفَمِي تَضَرَّعْتُ إِلَيْهِ [16].
وهو السيد يتضرع إلى العبد ويتوسل إليه، والعبد لا يبالي، ولا يلفته اهتمامًا.
v “عبدي دعوت فلم يُجب” [16]. واضح أن (المسيح) كان يتحدث عن يهوذا.
v “بفمي تضرعت إليه، توسلت إلى زوجتي” [17]. يتحدث (المسيح) عن أورشليم، فقد خطبها له لكي تخدم الناموس. فقد تضرع عدة مرات من أجلها ليخلصها. لقد توسل مرات عديدة إليها كي تتغير، حتى قال: “يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك… ولم تريدوا” (مت 23: 37).
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v من هم الشعب اليهودي إلا “عبد” لم يطع الرب بحبه الابن… الله يدعونا عندما يحضرنا بمواهبه، ونحن نجيب الدعوة عندما نخدمه باستحقاق حسب المنافع التي ننالها.
“بفمي تضرعت إليه” [16]. كأنه يقول بأكثر وضوح: أنا هو نفسي، الذي قبلت تجسدي أعطيت وصايا لممارستها، وذلك بفم الأنبياء، جئت إليه متجسدًا، متضرعًا إليه بفمي. هكذا عندما أخبر متى (البشير) عن الوصايا التي سلمها (الرب) على الجبل قال: “وفتح فاه وعلمهم” (مت 5: 2). كأنه يقول بوضوح: عندئذٍ فتح فمه، هذا الذي فتح قبلاً أفواه الأنبياء.
كذلك قيل عنه بواسطة العروس المشتاقة إلى حنوه: “ليقبلني بقبلات فمه” (نش 1: 2)، خلال كل الوصايا التي تتعلمها بالكرازة. كأن الكنيسة المقدسة تتقبل قبلات فمه الكثيرة. الآن حسنا قيل: “تضرعت”، حيث ظهر في الجسد، وهو ينطق بوصايا الحياة في تواضعٍ، وكأنه يبحث عن خادمه المملوء كبرياء لعله يأتي…
البابا غريغوريوس (الكبير)
v يا معشر اليهود، عندما تأتون إلى أورشليم وتجدون إنها خربت، وتحولت إلى تراب ورماد، لا تبكوا كالأطفال (1 كو 4). لا تحزنوا، بل أنشدوا لكم مدينة في السماء بدلاً من تلك التي تبحثون عنها هنا على الأرض. ارتفعوا بأبصاركم، فستجدون في الأعالي أورشليم الحرة التي هي أمنا جميعًا (غل 4: 26).
لا تحزنوا على غياب الهيكل هنا، ولا تيأسوا لافتقاركم إلى كاهنٍ. ففي السماء تجدون مذبحًا وكهنة الخيرات العتيدة، على رتبة ملكي صادق، في موكبهم أمام الله (عب 5: 10). فقد شاءت محبة الرب ورحمته أن ينزع عنكم الإرث الأرضي، حتى يتسنى لكم أن تطلبوا السماوي[916].
العلامة أوريجينوس
نَكْهَتِي مَكْرُوهَةٌ عِنْدَ امْرَأَتِي،
وَمُنْتِنَةٌ عِنْدَ أَبْنَاءِ أَحْشَائِي [17].
أما عن زوجته فلم تعد تطيق الاقتراب إليه، أو تحتمل رائحة قروحه. مع معاملته لها بالحب الزوجي، استخفت به واحتقرته.
v “توسلت إلى أبناء سراريّ” [17 LXX]. بنفس الطريقة كما نفهم العبد هو مجمع اليهود، وهكذا أيضًاالسراري. كما تحدثنا عن الزملاء (أي 19: 15) بكونهم الكتبة والفريسيين من أجل الكتاب المقدس، هكذا أيضًا هنا “الأبناء”. إنه عن هذا (المجمع المقام للمسيح) والشعب اليهودي يصرخ بالنبي إشعياء: “ربيت بنين ونشأتهم، أما هم فعصوا عليّ ” (إش 1: 2). كثيرًا ما دعوتهم نائحًا، ومؤنبًا بغضبٍ، ومعزيًا، ومُصلحًا.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “زوجتي ترتعب عند تنفسي” [17]. ما هذه الزوجة التي للرب سوى مجمع اليهود الخاضع له بعهد الناموس في مفهوم جسداني؟ الآن فإن التنفس يصدر عن الجسم، والناس غير المؤمنين يفهمون تجسد الرب بطريقة جسدانية، فيحسبونه إنسانًا مجردًا.
v “توسلت إلى أبناء رحمي” [17]. الله الذي لا يُحد بشكلٍ جسديٍ، يُدعى بطريقة كهذه، مستخدمًا الأعضاء لإبراز قوته… هنا الرحم (الأحشاء) الذي يحبل ينجب هذه الحياة. الآن بماذا نفهم “الرحم” سوى مشورته؟
البابا غريغوريوس (الكبير)
v حمل زكريا النبي قيثارة الروح، وأسرع قدامه بالتراتيل النبوية، بابتهاج شد أوتاره وحرّك صوته، وقال: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون”… افرحي واصرخي بالمجد المرتفع، لأنه يأتي إليكِ كما أخبرتك بالنبوة.
لكن العروس الحقيرة (جماعة اليهود الذين رفضوا أن يكونوا عروسًا له)… لم تفرح كما دعيت، بل انسحقت وحزنت لمجيء العريس. ولأجل هذا لم تفرح بقبوله.
سبى قلبها العجل (الذهبي) حبيبها، ومعه تتفاوض، ولا تريد أن تسمع للنبي القائل لها: “ابتهجي جدًا”.
لم تخرج لتحمل الأغصان مع الأطفال!…
يقرع الأنبياء أبوابها المرتفعة ويوقظونها، وهي نائمة بمحبتها لكثرة أصحابها!
يمجد الأطفال الملك (السماوي) الآتي ويباركونه، وتهتم العجوز بتنظيف أصنامها (حبهم للذات وكبرياء قلوبهم).
حزنت بمجيء وريث الآب. عرفت أنه يفضحها، فأبغضته، ولم ترتضِ أن يمجده الأطفال!
الحسد أبكم فمها، فبكمت صامتة عن التمجيد، واهتمت أن تُبكم الذين يمجدون!
لم يكفها أنها لا تريد أن تمجد، بل اجتهدت أن تسكت الممجدين أيضًا!
هؤلاء مجدوه، أما هي فغضبت من أصواتهم.
صرخ إشعياء استيقظي، استيقظي، والبسي العصمة.
صرخ زكريا: ابتهجي وافرحي بالملك الآتي.
صرخ الأطفال: مبارك الآتي باسم الرب.
إنها لم تنصت لا للأنبياء ولا للأطفال، إنما حزنت من أصواتهم وغضبت.
أيها اليهود مبغضو النور، كيف تسكتون عن التمجيد الممتلئ من السماء والأرض.
القديس يعقوب السروجي
اَلأَوْلاَدُ أَيْضًا قَدْ رَذَلُونِي.
إِذَا قُمْتُ، يَتَكَلَّمُونَ عَلَيَّ [18].
لعله يقصد هنا أبناء خدمه الذين وُلدوا في بيته وحسبهم كأولادٍ له هزأوا به، وتكلموا عليه شرًا. حين كان له سلطان عليهم قدم لهم كل الحبٍ، وحين فقد سلطانه أهانوه وسخروا به.
v “إذ رحلت عنهم تكلموا عليّ” [18]. كأن الرب قد اقترب من قلوب البشر عندما صنع عجائب لهم. وكأنه قد رحل عنهم عندما لم يظهر لهم علامات. لكنهم تكلموا على الرب كمن رحل عندما رفضوا الخضوع بالإيمان له… علاوة على هذا أضاف أن معلمي الناموس والفريسيين “والذين أحبهم جدًا انقلبوا عليه”. فبتأهبهم لعدم الإيمان انقلبوا عن الإيمان بالحق… بل وأيضًا اضطهدوه.
البابا غريغوريوس (الكبير)
كَرِهَنِي كُلُّ رِجَالِي،
وَالَّذِينَ أَحْبَبْتُهُمُ انْقَلَبُوا عَلَيَّ [19].
لم يعد بعد أحد ممن هم حوله يقدم له شيئًا سوى الكراهية، فقد انقلبت كل الموازين.
- فقدان من يحنو عليه
عَظْمِي قَدْ لَصِقَ بِجِلْدِي وَلَحْمِي،
وَنَجَوْتُ بِجِلْدِ أَسْنَانِي [20].
بعد أن شكا لما سمح به الله له حيث ضيَّق عليه الطريق وحاصره ليكون بلا منفذٍ، وأضرم نيران غضبه عليه. أثار الغرباء (الغزاة) عليه ووهبهم قوة ضده. وأخذ كل أقاربه وأصدقائه وأهل بيته وخدمه وعبيده موقف الكراهية، الآن يشكو من جسمه، فقد كاد أن ينحل. ذهبت عنه نضارته وجماله وقوته، ولم تعد فيه صحة، حتى لصق عظمه بجلده، فصار هيكلاً عظميًا. كاد أن ينحل حتى جلده، فلم يبقَ له سوى جلد أسنانه.
v “جسدي فسد تحت جلدي، وأمسكت عظامي بالأسنان” [20]. يُفهم من هذه الكلمات أنه يتحدث عن سرّ الرب، فإن كل البشرية يليق دعوتهم “جلدًا”، خاصة الكنائس واجتماعاتها. ففيها ومن أجلها لم يفسد جسد الرب، لأن جسده لن يرى فسادًا (مز 16: 10). ولكن من جهة حقيقة نزوله من السماوات من أجل الألم، شارك بطريقة ما في طعام الأتقياء. فإن أيوب لا يتكلم عن انحلال يخص الفساد، إنما يتحدث عن دور القوت (الروحي)، فقد صار المسيح طعامًا يُقدم ويُدرك بأسناننا. فما كان يمكننا أن نتناول جسد الرب لو لم يرد أن يقترب إلينا وأن نتذوق جسده.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
تَرَاءَفُوا! تَرَاءَفُوا أَنْتُمْ عَلَيَّ يَا أَصْحَابِي،
لأَنَّ يَدَ اللهِ قَدْ مَسَّتْنِي [21].
بعد تقديم الوصف السابق المؤلم لحاله طلب من أصدقائه أن يتراءفوا عليه. لقد وقع تحت غضب الله، وهذه أقسى كل النكبات، فليتراءفوا عليه، ويظهروا له الحب العملي بالصلاة والتوسل إلى الله من أجله عوض اضطهادهم له.
v كم كان أيوب نبيلاً عندما كان في محنة، إذ قال: “تراءفوا، تراءفوا أنتم علىٌ يا أصحابي” (21:19) إنها ليست صرخة كما من بؤس، بل بالحري من شخص يعاتب. فعندما وبخه أصدقاؤه ظلمًا أجابهم: تراءفوا يا أصحابي”، أي كان يليق بكم أن تظهروا حنوًا، لكنكم هاجمتم وسحقتم إنسانًا كان يلزم أن تعطفوا عليه في آلامه من أجل الصداقة[917].
القديس أمبروسيوس
v لاحظوا إنه يدعوهم “أصحاب”، هؤلاء الذين يهينونه، لأنه بالنسبة للأذهان التقية ما هو ضدهم يحسبونه لنفعهم. فإن أي إنسان شرير إما أنه يتغير بعذوبة الصالحين، فيرجع عن شره ويصير بهذا صديقًا، أو يتمسك بشره ويصير بغير إرادته صديقًا…
لقد ضُرب أيوب من الشيطان، ومع هذا لم ينسب الضرب للشيطان بل دعاه “يد الله قد مستني”، وذلك كما قال الشيطان نفسه: “ولكن أبسط الآن يدك ومسَّ عظمه ولحمه، فإنه في وجهك يجدف عليك” (2: 5). فإن الإنسان القديس قد عرف أن ما قد فعله الشيطان نفسه من جهته بإرادته الشريرة، إنما نال بذلك سلطانًا لا من نفسه، بل من الرب.
البابا غريغوريوس (الكبير)
v لا يمكن أن تكون الصداقة قوية مالم تأتلف بصديقك، وتلتصق به بتلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المُعطى لنا.
v يلزمنا أن نوافق الكل لنربح الكل، مقتدين بالرسول القائل عن نفسه: “صرت للكل كل شيء، لأخلص على كلٍ حال قومًا” (1 كو 9: 22). كن مع الحزين حزينًا، لأنه لا يوجد شيء يعزي الإنسان الحزين، مثل أن يرى أحدًا يحزن معه على شدته، ومع الفرح فرحًا، ومع الضعيف ضعيفًا. إلا أن هذه المرافقة تكون ضرورية لمساعدة القريب، وتخليصه من شره، لا مشاركته في شره.
انظر كيف ينحني الإنسان ليقيم بيده من كان ساقطًا، فإنه لا يسقط معه ليقيمه، بل يقف مثبتًا قدميه على الأرض لئلا يسقط بسبب الساقط، ثم يمد يده إليه قليلاً، وبمقدار ما يحتاج إلى معونة، وبذلك ينهضه من سقطته.
لتكن هذه الحال صورة مناسبة لنا، فعلينا أن ننحني قليلاً، ونرافقهم يسيرًا في أحوالهم، لنخلصهم من سقطاتهم، ونربحهم لله. إلا أن هذا يلزمنا أن نثبت قلوبنا لئلا يجذبونا وراءهم.
القديس أغسطينوس
لِمَاذَا تُطَارِدُونَنِي كَمَا اللهُ،
وَلاَ تَشْبَعُونَ مِنْ لَحْمِي؟ [22]
إن كان الله يطارده فلعلةٍ لا يعرفها أحد، أما يكفي هذا، لماذا يطاردونه هم أيضًا. الله له السلطان المطلق عليه، وحكمته تفوق كل فكرٍ بشريٍ، فلماذا يمارسون هم أيضًا الضيق عليه؟
إن كانوا قد فرحوا بنكباته، فليكتفوا بلحمه الذي أوشك على الانحلال التام، لماذا يجرحون روحه ويحطمون نفسيته؟
v لم يقل إن الله اضطهده بطريقة تعارض تقواه. فإنه يوجد مضطهد صالح، كما يقول الرب عن نفسه بشفتي النبي: “الذي يغتاب صاحبه سرًا أنا اضطهده” (مز 101: 5). وعندما يعاني القديس من الضربة يدرك أنه يعاني من اضطهادٍ مقابل الشر الذي ارتكبه داخليًا…
كأنه يقول: لماذا تضطهدونني على ضعفاتي، كما لو كنتم أنتم أنفسكم على مثال الله بلا ضعفٍ؟…
حسنًا أضاف: “وتشبعون من لحمي”. فإن الذهن الذي يجوع إلى معاقبة القريب حتمًا يطلب أن يشبع من لحم الغير. علاوة على هذا من الضروري أن يُعرف أن الذين يقتاتون على الافتراء على حياة الغير هم بالتأكيد “يشبعون من لحم” الغير. هكذا يقول سليمان: “لا تكن بين شريبي الخمر، بين المتلفين أجسـادهم” (أم 23: 20). فإن من يحضر جسدًا ليأكله هو بلغة حديث الانحطاط، أن تخبر بما هو رديء في سمات الاخوة، وعقوبته هو: “لأن السكير والمسرف يفتقران، والنوم يكسو الخرق” (أم 23: 21). الذين يسكرون يسلمون لكؤوس، أما المسرفون فهم الذين ينطقون بالافتراءات، مساهمين بالكلمات، كمن يساهم في تقديم مئونة لكي تؤكل… وكما كتب: “كل واشٍ يُقتلع”، أما الخامل (النائم) فيغطي إنسانًا بخرقٍ، فيجده موته موضع سخرية، فارغًا من كل الأعمال الصالحة.
البابا غريغوريوس (الكبير)
إذ تحدث الأب دوروثيؤس عن “عدم إدانة قريبنا[918]” أفاض في الحديث عن التزامنا بعدم اغتصاب حق الله في الدينونة، إذ هو وحده يعرف كل نفسٍ وقوتها وميولها، ومواهب الإنسان وتكوينه البيولوچي وطاقاته والظروف المحيطة به. وبناء على هذا كله فهو الذي يدين أو يبرر. حقًا قد نعرف إنسانًا أخطأ خطية معينة وربما واضحة لا تحتاج إلى بحث، لكن هل يمكن أن نحكم على الإنسان ككلٍ من أجل خطية أو خطايا ارتكبها في وقتٍ ما، ونحن لا نعرف أعماقه أو ظروفه؟!
v الله وحده يدين، له أن يبرر وله أن يدين، هو يعرف حال كل واحدٍ منا وإمكانياته وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا، فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. إنه يدين أعمال الأسقف بطريقةٍ، وأعمال رئيسٍ بطريقة أخرى، يحكم على أب دير أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (الذي له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، والمريض غير ذي الصحة السليمة. من يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيءٍ والعارف بكل الأمور؟
الأب دوروثيؤس
v انظروا يا إخوتي أن عمل الخدام في عرس ابن الملك (مت ٢٢) لم يكن سوى جذب الصالحين والأشرار إلى الوليمة، ولم يقل الرب عنهم أنهم دانوا المدعوين وميّزوا بين الصالحين والأشرار، ولا قال عنهم إنهم وجدوا من ليس عليه لباس العرس، بل الملك نفسه هو الذي رآه، سيد البيت وحده هو الذي اكتشفه وأخرجه.
القديس أغسطينوس
v الحكم على الآخرين يعتبر سلبًا للحق الإلهي بوقاحة، أمّا الانتهار (بغير حب) فيهدم نفس الإنسان[919].
القدّيس يوحنا الدرجي
- الأبدية هي رجاؤنا
لَيْتَ كَلِمَاتِي الآنَ تُكْتَب.
يَا لَيْتَهَا رُسِمَتْ فِي سِفْرٍ [23].
تكشف العبارات التالية عن روعة حياة أيوب ورجائه وأفكاره ومفاهيمه، بل وتعطينا أن نعيد النظر في تفسير كل ما سبق، لأنه حتى أحاديثه التي كانت تبدو كما لو حملت عتابًا شديد اللهجة، وقد انتقده كثير من المفسرين بكونه قد تعدى حدوده، لكنها صدرت عن قلبٍ يشتهي أن يرى الله.
لا نجد في كل كلمات الحوار الواردة في هذا السفر بين أيوب وأصدقائه ما هو أبلغ مما بين أيدينا الآن. يحدثنا في روعة عن السيد المسيح وعن السماء كوطنٍ أفضل. يتحدث عن إيمانه بالله الولي الحي، وعن قيامة الأموات وحياة الدهر الأتي.
في العبارات السابقة نشتم رائحة اليأس وقطع الرجاء، أما هنا فيرفعه روح الله، وينير بصيرته، ويهبه كلمات محيية.
يرى البعض أنه منذ هذه اللحظات لا نسمع بعد تذمرًا أو شكوى من الله، أو من عنايته الإلهية كما سبق. لهذا يرون أن روح الله القدوس العالم بإخلاص قلبه وصدق نيته وإيمانه قد رفعه ومزق أمامه الحجاب ليتعرف على سرّ الخلاص وحب الله الفائق، فتغيرت نغمة حديثه تمامًا، واستراحت نفسه فيه وسط آلامه.
قبلاً كان أمينًا وصادقًا لكنه ركز نظره وقلبه وفكره على أصدقائه، فسقط في نوعٍ من الإحباط، وانشغل بالدفاع عن نفسه ضد الاتهامات الموجه إليه من أصدقائه. أما الآن فرفعه الروح كما إلى السماء، ودخل به كما إلى عرش النعمة فرأى المسيا المخلص قادمًا، واستراحت نفسه فيه.
بدأ بمقدمة ممتعة تكشف عن سلامه الفائق السماوي، الذي يشتهي أن كل مؤمنٍ يتمتع به. لهذا يقول: “ليت كلماتي الآن تُكتب! يا ليتها رُسمت في سفرٍ!” كأنه يقول: ليت الكل ينسى كل ما سبق فقلته، لقد صدرت مني كلمات هي ثمر حكمتي البشرية وضعفي الإنساني، أما الآن فروح الله يقودني. ليت الكل يسمعون صوته معي، ويشتركون معي فيما أتمتع به. أحاول أن أكتبها بحروفٍ، لكنها تعجز الكلمات عن التعبير. سأرسمها في سفرٍ لعل لغة الرسم تكون أقدر من لغة الحروف!
v أية نبوة أوضح من هذه؟ ليس من أحدٍ منذ أيام المسيح تحدث بصراحة عن القيامة كما فعل (أيوب) قبل المسيح. لقد اشتاق أن تبقى كلماته إلى الأبد، لا يمحوها الزمن، ينقشها على صحيفة من رصاص، وينحتها على الصخرة (أي 19: 23). إنه يترجى القيامة. لا، بل رأى المسيح فاديه حيًا، يقوم من الأرض. لم يكن الرب قد مات، وقد رأى مصارع الكنيسة فاديه قائمًا من القبر. عند قوله: “وأنا سألبس مرة أخرى جلدي، وأرى الله في جسدي“، لست أظن أنه يتكلم كمن يحب جسده، إذ قد فسد وانحل قدام عينيه، وإنما في يقين قيامته مرة أخرى، وخلال تعزيات المستقبل أنار حاضره البائس[920].
القديس جيروم
وَنُقِرَتْ إِلَى الأَبَدِ فِي الصَّخْرِ بِقَلَمِ حَدِيدٍ، وَبِرَصَاصٍ [24].
يود أن يوجه الكلمات إلى كل الأجيال القادمة، بل وتبقى دستورًا للبشرية إلى الأبد. يشتهي أن تُحفر على حجرٍ بقلمٍ من حديدٍ ثم يُصب في الحفر رصاص فلا يبليها الزمن، ولا تفلت من عيني إنسانٍ. لتكن نصبًا تذكاريًا منقوشًا يشهد لعمل الله في المؤمن عبر الأجيال.
كانت السجلات تحفظ بثلاث طرق:
- بكتابتها في كتاب من القماش أو الجلد أو أوراق الشجر كالبردي papyrus. من الكلمة الأخيرة جاءت كلمة ورقة paper بالإنجليزية. أحيانا كان يستخدم لحاء الشجر الداخلي (القشرة) للكتابة. التعبير اللاتيني Liber استخدم عن الكتاب، ومنها جاءت كلمة “مكتبة Library”
- 2. لوحات رصاصية، وهي قديمة للغاية. في عام 1699 اشترى Montfaucon في روما كتابًا قديمًا جدًا مصنوع من الرصاص. مجموعة من اللوحات الرصاصية مثبتة بمسامير ومفصلات رصاصية. يحوى الكتاب أشكال غنوصية مصرية مع نقوش يونانية وEtruscan.
في معبد بمدينة Cnidus وُجد نصب تذكاري للجحيم يرجع إلى القرن الرابع ق.م، تظهر عليه النساء وهن يودعن ألواحًا رقيقة من الرصاص كُتب عليها أسماء الأشخاص الذين يكرهونهم مع أعمالهم الشريرة. كما نُقش على الألواح الرصاصية اللعنات التي تحل على الذين أساءوا إليهن. أُكتشف كثير من هذه الألواح عام 1858 أثناء الحفريات التي تمت في خرائب الهيكل، وهي مودعة الآن في المتحف البريطاني.
يشير أيوب البار هنا إلي لوحات رصاصية أو أوراق (شجر) عليها نقوش. ربما يلمح هنا إلي عادة حفر الحروف على حجر وصب رصاص منصهر في الحفر.
- أنصاب تذكارية حجرية: نُقشت الشريعة على لوحين حجريين بإصبع الله (خر 31: 18). مجموعة أخرى من حجرين كُتبا بواسطة موسى بأمر إلهي (خر 34: 4، 8). أيضَا كتب يشـوع نسخة توراة موسى أمام بني إسرائيل على حجارة (يش 8: 32).
لقد أراد أيوب أن تُنقش مشاعره على حجارة لكي تنتفع بها الأجيال القادمة[921].
أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ،
وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ [25].
“لقد علمت أن وليّ (فادي) حيّ“. لقد آمن بالفادي القادم، وأنه يكون هو حياته. “والآخر على الأرض يقوم (في اليوم الأخير)”. إنه يترقب مجيء المسيا كلمة الله المتجسد القادم في ملء الزمان متجسدًا ليسلك بيننا على أرضنا.
يرى البعض أنه يتكلم هنا عن مجيئه الأخير، حيث يأتي على السحاب، ويلتقي بنا نحن البشر كأرضيين، ويدخل بنا إلى شركة أمجاده.
كلمة “وليّ” بحسب ما وردت في الناموس (لا 25: 25) هو ذاك الذي له الحق أن يفك (يفدي) ما باعه أو رهنه أخوه. لقد بيع ميراثنا السماوي بسبب الخطية، وجاء من يرده لنا، حيث يفكه بدمه الثمن. مسيحنا هو الولي الحي القادر وحده أن يفي عنا الدين، ويزيل الرهن، ويرد لنا الميراث الأبدي.
سيأتي على السحاب، لكن كما على الأرض، حيث يأمر الأموات، فيقومون من قبورهم، ويدخل بهم إلى عدم الموت وعدم الفساد.
v “فقد علمت أنه أبدي ذاك الذي يخلصني على الأرض، سيقيم جلدي الذي يحتمل كل تلك الأمور” [25]. هذا هو السبب أن أيوب قال: “كلماتي تُكتب للأجيال القادمة”، لأنه بعد الآلام سيتعلمون القيامة… واضح أن الجسم الذي يقبل الآلام يقوم.
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
v “أنا أعرف أنه أبدي، ذاك الذي يخلصني على الأرض” [25]. هذا يعني أن ذلك الذي يقودني على الأرض هو الله. وماذا يعني هذا؟ إن كان الله خالدًا، فلماذا تريدون أن تُكتب هذه الكلمات، وأن تبقى ذكرياتها أبديًا بطريقة خالدة؟ لاحظوا حال نفوس من هم في ضيق. إنهم يطلبون ليس فقط شهود عيان لها، بل والذين سيأتون مؤخرًا أن يصيروا شهودًا على مصائبهم، بطريقة يقتنون بها عطفًا من كل جانب. إنه كحال ذاك الغني المذكور في الإنجيل (لو 16: 19)، الذي اعتقد أنه أراد من الذين على الأرض أن يعرفوا ضيقته وحاله الذي صار عليه. هؤلاء الذين كانوا في تلك الأيام في رخاءٍ.
v “وأنا سأقوم في اليوم الأخير من الأرض” [25]. هذا لأن القيامة التي أعلنها في شخصه، سيحضرها يومًا ما فينا أيضًا… قدم عربونها لنا حتى تتبع الأعضاء مجد رأسها (المسيح). فادينا اجتاز الموت، فلا نخاف نحن من الموت. لقد أظهر القيامة، حتى يكون لنا رجاء ثابت أننا قادرون على القيامة أيضًا[922].
القديس يوحنا الذهبي الفم
v هذا الرجل بالحقيقة امتنع عن كل عملٍ شريرٍ، إذ لم يسمح للخطية التي فيه أن تسيطر عليه، وعندما يثور فيه فكر غير لائق لا يسمح له أن يصعد إلى الرأس، وبالتالي لا يسمح بممارسته بالفعل. فإن وجود الخطية شيء، ورفض الطاعة لشهواتها شيء آخر[923].
القديس أغسطينوس
وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هَذَا،
وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ [26].
وثق أيوب من فناء جسمه في القبر، وتحدث عنه في غير اكتراثٍ، “وبعد أن يفنى جلدي هنا“. فبدون هذا الجسم يرى الله. كأنه يقول لهم: لقد ركزتم أنظاركم على جسمي بكل بلاياه، فأنا أعلم أنه حتمًا يصير طعامًا للدود، حتى جلدي يكون مصيره هكذا كلحمي، لكن ما يبهج نفسي أنني أرى الله.
يرى القديس أغسطينوس أن كلمة “الجلد” تشير إلى قبولنا للموت[924]. ففناء جلدنا يشير إلى تخلصنا من حالة الإماتة الداخلية والفساد الداخلي، لنقبل قيامة النفس وعدم فسادها. بهذا ننعم برؤية الله الأبدي كلي القداسة. بمعنى آخر نخلع بروح الله القدوس أعمال إنساننا الخارجي حتى يفنى، ونلبس أعمال الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه، فيتجلى مسيحنا أمام بصيرتنا الداخلية.
الَّذِي أَرَاهُ أَنَا لِنَفْسِي،
وَعَيْنَايَ تَنْظُرَانِ وَلَيْسَ آخَرُ،
إِلَى ذَلِكَ تَتُوقُ كُلْيَتَايَ فِي جَوْفِي [27].
بروح النبوة شاهد مجيء السيد المسيح، كلمة الله المتجسد، حيث يمكن رؤيته بعيني الجسد. هو هو بعينه من جهة لاهوته لا يُرى بالجسد، بل تتوق إليه أعماق النفس.
“الذي أراه أنا لنفسي“، أي أراه فأفرح به، لأنه سرّ سعادة نفسي.
أراه كما هو (1 يو 2: 2) وليس آخر. سنرى في اليوم الأخير المسيا هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد. هو الذي تئن نفسي في داخلي في حنين إليه.
v كل عقل يرتفع ويتشكل في الصلاة حسب نقاوته. فإن كان مهتمًا بالأمور المادية الأرضية يحمل هذه النظرة أمامه، وتبقى هذه النظرة قدام عينيْ نفسه الداخليتين في رؤيته للرب يسوع، سواء عندما جاء في تواضعه في الجسد، أو عند مجيئه في عظمته. أمثال هؤلاء لا يقدرون أن يروا الرب يسوع آتيًا في ملكوته، إذ هم مُمسكون بنوع من الضعف اليهودي (أي النظرة المادية)، ولا يستطيعون القول مع الرسول: “وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفهُ بعدُ” (2 كو 16:5).
أما الذين يرتفعون فوق الأعمال والأفكار الأرضية السفلية، ويصعدون على جبل الوحدة (العزلة) المرتفع، متحرّرين من الاضطراب بكل المتاعب والأفكار الأرضية، في أمان من تدخل الخطايا، ممجّدين بإيمانٍ قويٍ، هؤلاء يمكنهم أن يتطلعوا بعيون نقية إلى لاهوته، وفي أعالي الفضيلة يكتشفون مجده وصورة سموه…
يُعلن يسوع للموجودين في المدن والقرى والمزارع، أي الذين لهم أعمال يقومون بها، لكن ليس بالبهاء الذي يظهر به لمن يصعدون معه على جبل الفضائل السابق ذكره… ففي الوحدة (العزلة) ظهر الله لموسى وتحدث مع إيليا[925].
الأب اسحق
v أحرص على طهارة جسمك وسلامة قلبك، فإنك إن تحققت من نوالهما تبصر الله ربك.
مار إفرام السرياني
- تحذيره لأصدقائه
فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ: لِمَاذَا نُطَارِدُهُ؟
وَالْكَلاَمُ الأَصْلِيُّ يُوجَدُ عِنْدِي [28].
خَافُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنَ السَّيْفِ،
لأَنَّ الْغَيْظَ مِنْ آثَامِ السَّيْفِ.
لِكَيْ تَعْلَمُوا مَا هُوَ الْقَضَاءُ [29].
يخبرهم أيوب بما يجب أن يقولوه: “لماذا نطارده؟” لماذا نحزنه ونغيظه بانتقادنا لتدبيره، فإن أصل الكلام هو عندي.
إذ يكشف عن بهجته برؤية فاديه الذي تشتهيه نفسه، يحذرهم أن يخافوا من يوم مجيئه لئلا يُدانوا بسبب إدانتهم لاخوتهم (مت 7: 1؛ يع 2: 1).
v “فإنكم تقولون: ماذا نقول أمامه، وهكذا نجد أصل الكلمة فيه” (أي 19: 28 LXX). واضح أنه تحت تأثير عمل روح النبوة يقول أيوب هذا عن الفريسيين والكتبة وغيرهم من أصحاب السلطة في الشعب اليهودي. فإنهم ينظرون إلى أن يجدوا شيئًا يقولونه ضده (مت 26: 29). بمعنى أرادوا أن يجدوا ذريعة لانتقاده ولومه سواء من جهة كلماته أو تصرفاته. ولكن ماذا يقول لهم؟ “هل تحذرون من الخداع؟ فإنني إذ اكشف ما هو مخفي، وأعلن الأسرار، فإنكم ليس فقط بسبب كلماتكم، بل وبسبب أفكاركم تستحقون تأديبات كثيرة، حتى لا تسألوا عن هذا فيما بعد.
“لأن الغضب سيحل على الأثمة، وعندئذ سيعرفون أين هو كيانهم” (أي 19: 29). من هو أثيم مثل الشعب اليهودي الذي صلب واضع الناموس مع أناس كاسري الناموس، وقتلوه بين لصوص (مت 27: 38)، ذاك الذي كرز بالزهد في الغنى؟ لكن الغضب حلّ عليهم، حيث احترقت المدينة بالنار، وتهدم الهيكل، وانطفأ كبرياؤهم…
الأب هيسيخيوس الأورشليمي
من وحي أيوب 19
من يقدر أن يسندني غيرك!
v أؤمن أنك ضابط الكل،
لن يحدث أمر بدون إرادتك، أو بدون سماحٍ منك.
v في وسط ضيقتي،
أرى حتى أهل بيتي يتحولون إلى أعداء.
أصرخ إليك من أعماقي:
هل صرت عدوًا لي، حتى تسلمني لمثل هذا الضيق؟
ما أصعب أن أرى من لي قد صاروا ضدي!
v في وسط تجربتي، كنت أترقب حنوًا من أحبائي!
أُغلقت أبواب قلوبهم،
لأجد أبواب سماواتك مفتوحة أمامي.
وسط مرارة التجربة أجد عذوبة في التمتع برعايتك.
v إن كانت ألسنة الأصدقاء قد صارت لاذعة للغاية،
فقد تحولت ألسنة خاصتك إلى سيف قتال.
صوَّبوا اتهاماتهم كرماحٍ ضدك!
إن وقفوا ضدي، أذكر كيف وقفت خاصتك ضدك، يا مخلص العالم كله!
إن تشامخوا عليّ أنا التراب والرماد،
فقد تشامخ التراب عليك، يا خالق السماء والأرض!
أن التفت الشباك عليّ، ووُضعت فخاخ في طريقي،
فقد تآمرت القيادات مع الشعب عليك!
v كثيرًا ما أعاني من الشعور بالعزلة،
لكنني أراك وأنت واحد مع أبيك تصرخ باسمي:
إلهي، إلهي: لماذا تركتني؟
عوض المجد الذي بإرادتك تخليت عنه لأجلي،
ألبسوك إكليل العار، واستخفوا بك.
إن اشتهوا قتلي، أراك على الصليب معلقًا، وفى القبر مدفونًا،
تحملني فيك يا بكر الراقدين،
فأعبر بك إلى حضن أبيك.
v أخيرًا أسبحك وأمجدك،
يا من حولت تجربتي المرة إلى عذوبة التأمل فيك!
مع كل ضيقة تحملني بجناحي الروح،
لأراك، فتتهلل نفسي!
لك المجد يا من تحول بوتقة التجارب إلى جبل تابور الجديد.
أراك متجليًا، لا يشغلك إلا الحديث عن الصليب،
حتى أصعد به إليك!
تفسير أيوب 18 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 20 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |