الحوار المقدس وطفل المذود
في الأحد الأول من شهر كيهك تمتعت القديسة مريم منذ طفولتها بالصمت المقدس، وسمح الرب بصمت الكاهن زکريا للتفرغ في دراسة الكتاب المقدس والنبوات عن المسيَّا المخلص، كما سبَّح الجنين يوحنا في بطن اليصابات بابتهاج ولم يسمع أحد تسبحته سوى الرب نفسه.
هذا الصمت المقدس لا يتعارض مع الحوار المقدس، بل يقدس أعماق النفس والعواطف واللسان، فيتأهل المؤمن للحوار المقدس المتناغم مع الصمت المقدس. هذا ما نراه في شخصية القديسة مريم والدة المسيَّا الكلمة.
بين حوار حواء الأولى وحوار حواء الجديدة
1- احتفالنا بعید میلاد السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد، يقوم على تمتعنا العملي بقول الرسول: “كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه” (عب 1: 2). نزل إلينا وحل بيننا، لنسمع صوته في قلوبنا، ونتلامس مع خلاصه بالصليب، وندخل معه في شركة سرية مقدسة لا تنقطع. تتقدس أعماقنا، ويُقام ملکوته فينا (لو ۱۷: ۲۱)، فيصير صمتنا كما حوارنا مقدسين بالرب القدوس .
2- يتصور القديس مار يعقوب السروجي في القديسة مريم أنها مع صمتها، إذ كانت تفكر في كل أحداث السيد المسيح منذ البشارة بالحبل به إلى يوم رحيلها إلى الفردوس، أنها قامت بحوارات وأحاديث مع كثيرين: مع الرعاة والمجوس والسمائيين القادمين للبشارة والسمائيين الذين لم يتحركوا عند محاکماته وعذاباته وصلبه، وفي هذا كله لم تحل صمتها المقدس.
3- يرى القديس إيرينيؤس (القرن الثاني) أن حواء بحوارها مع الحية ربطت عقدة، قامت حواء الثانية بحلها بحوارها مع الملاك جبرائیل.
4- يرى القديس مار يعقوب السروجي أن حواء الأولى بدأت بحوار فاسد وأعقبته بصمت فاسد، بينما بدأت حواء الجديدة بحوار مقدس وبنَّاء وأعقبته بصمت مقدس وبنَّاء لحياتها وحياة أبنائها المؤمنين عبر الأجيال
5- تسللت الحية إلى حواء، وفتحت معها الحوار دون أن تنطق بتحية أو سلام لأن الحوار مع الشيطان أو الخطية لا يهب سلاماً. وكما يقول إشعياء النبي: “لا سلام للأشرار قال إلهي” (إش ۵۷: ۲۱)، أما الملاك فافتتح الحوار بقوله: “سلام لك أيتها المملوءة نعمة؛ الرب معك” (لو 1: 28)۔ وكأن الحوار تحقق بالنعمة الإلهية، وفي الحضور الإلهي، من يمارس الصمت المقدس الذي به يتذوق عذوبة الحضرة الإلهية أينما وُجد، يصير حديثه مملحا بملح الروح القدس، وفيه عذوبة ولطفا. فلا نعجب من تركيز يشوع بن سيراخ على اللسان كأداة لنمو الحكيم ومجده، وتحطيم الجاهل وهلاكه.
في الكلام المجد والهوان، وسقوط الإنسان سببه لسانه (سي 5: 23).
الحديث العذب یکثر أصدقاؤه، واللسان اللطیف یکثر الوقورين تحيات عديدة متباينة (سي 5:6).
الزلة على الرصيف أفضل من الزلة من اللسان، هكذا يكون سقوط الشرير سريعا (سي ۲۰: ۱۸).
من الذي يقيم حارساً لفمي، وخاتم التعقل على شفتي، فلا أسقط بسببهما، ولا يهلكني لساني (سي ۲۷:۲۲ ).
ضربة السوط تسبب جرحاً، وضربة اللسان تكسر العظام (سي ۱۷:۲۸ ).
6- مالت حواء بأذنيها لتسمع من الحية الكلام الكاذب والتشكيك في الإيمان: “أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟” وانتهى الحوار بالصمت أمام تکذیب العدو لوعد الله: “لن تموتا… وتكونان كالله عارفين الخير والشر” (تك 3: 4-5) صدقت الكذب وصمتت، فجاء صمتها الفاسد يتبع حوارها الفاسد.
أما حواء الجديدة فدخلت في حوار بنَّاء غايته ليس حب الاستطلاع، بل التمتع بالنمو في المعرفة الأسرار الله ومعاملاته. بدون هذا الحوار من كان يتمتع بمعرفة دور الثالوث القدوس في التجسد الإلهي: “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضا القدوس المولود من يدعى ابن الله” (لو 1: 35). هذا الحوار انطلق بها إلى الصمت المقدس بروح الإيمان: “هوذا أنا أمة الرب، لیکن لي كقولك” (لو1: 38).
ربما يتساءل أحد: ماذا نبدأ، بالصمت المقدس أم بالحوار المقدس؟ جاءت الإجابة العملية في حياة حواء الجديدة، وهي من يلتصق بالرب يتمتع بالصمت المقدس کما بالحوار المقدس. ومن يعتزل الله لينفرد مع عدو الخير کحواء الأولى، كلامه فاسد ومُفسد، وصمته أيضا فاسد ومُهلك .
القمص تادرس يعقوب ملطي
كيهك ۱۷۳۷ش