القرابة الحميمة بين النفس والمسيح
العظة الخامسة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[ليس صناعة ما ، ولا غنى لهذا العالم ، إنما فقط ظهور المسيح وحده ، يستطيع أن يشفي الإنسان، والذي تُظهر هذه العظة قرابته العظمی نحو الله]
[أ] تبعة مخالفة الإنسان الأول
1 – الذي يختار حياة العزلة ينبغي له أن يحسب كل الأمور التي تجري في هذا العالم غريبة عنه وأجنبية . لأن الذي يقتفي صليب المسيح بالحق ، منكراً كل شيء ، حتى نفسه أيضاً[1]، يلزم أن يقتني عقلاً مستمرا في حب المسيح ، مؤثراً[2] الرب على الوالدين والإخوة والمرأة والأولاد والأقارب والأحباء والممتلكات ، لأن هذا قد أوضحه المسيح حين قال : كُل من لا يترك أباه أو أمه أو إخوته أو امرأته أو أولاده أو حقوله ، ويتبعني ، فلا يستحقني » ( قا : مت ۱۰ : ۳۷ ، ۱۹ : ۲۹ ) ، لأنه ما من أحد آخر يوجد فيه خلاص البشر وراحتهم ، كما سمعنا[3]. فكم من ملوك ظهروا من جنس آدم ، باسطين هيمنتهم على الأرض بأسرها ، متفكرين أموراً عظيمة بشأن سطوتهم الملوكية ، وليس أحد من هؤلاء – وقد حظي بمثل هذه الجدارة – استطاع أن يعلم بالشر الذي نفذ إلى النفس جراء معصية الإنسان الأول وأظلمها لكي لا تدري بتبدل حالها. ذلك أن العقل لما كان نقياً في البداية كان ينظر سيده ، إذ كان حقيقاً بذلك ، أما الآن فقد تسربل بالخزي بسبب السقوط وانطمست أعين قلبه حتى بات لا يرى ذلك المجد الذي كان يراه أبونا آدم قبل المعصية.
۲ – فقد كان هناك أيضاً حكماء متباينون بحسب العالم ، فمنهم الذين بالفلسفة أظهروا فضيلة، ومنهم الذين لما تزخرفوا بالسفسطة أثاروا العجب ، وآخرون تحذلقوا بفخر الكلام ، وآخرون – وقد صاروا أدباء وشعراء – ألفوا القصص بحسب أصولها الموضوعة. بل لقد كان هناك أيضا صناع مختلفون فيما بينهم يزاولون حرفهم بحسب العالم ، فمنهم الذين يحفرون في الخشب أصناف طيور وأسماك وصور البشر وفي تلك اجتهدوا أن يظهروا تفوقهم ، وآخرون سعوا أن يصيغوا من النحاس أشباه صور البشر وأشياء أخرى ، وآخرون شيدوا أبنية عظيمة غاية في الجمال ، وآخرون يحفرون الأرض ويخرجون الفضة والذهب الزائلين وآخرون يخرجون الأحجار الكريمة. وآخرون ، إذ كان لهم أجساد جميلة، أخذهم التيه بحسن وجوههم ، أ أو بالحري انطلت عليهم حيله الشيطان وسقطوا في الخطيئة . فكل هؤلاء الصناع السالف ذكرهم لما أُمسكوا من الحية القابعة في داخلهم وما علموا بالخطيئة الساكنة فيهم ، باتوا أسرى القوة الشريرة وعبيداً لها ، وما انتفعوا شيئا من مهاراتهم وحرفهم .
[ب] المسيح وحده طبيب النفس ودواؤها
3 – فالعالم ، وقد غصَّ هكذا بكل تنوع ، أشبه بإنسان غني يملك بيوتاً فاخرة وعظيمة وكذا ذهبا وفضة ومقتنيات مختلفة مع خدم كثيرين من كل صنف ، لكنه مُعترى في الوقت نفسه بعلل وآلام ، ولا تستطيع كل عشيرته وقد وقفت لديه ، مع كل غناه ، أن تنقذه من مرضه . فإنه ليس مسعى لأي شيء من هذه الحياة ، إن كان إخوة أو غنى أو شجاعة أو أياً من كل ما قيل سابقاً، ينقذ النفس التي انغمرت بالخطيئة وما عادت تستطيع أن تنظر بنقاوة ، إلا فقط ظهور المسيح ، فهو قادر أن يطهر النفس والجسد جميعاً. فلنتفرغ إذاً للرب ، تاركين عنا كل اهتمام لهذه الحياة، صارخين نحوه ليلاً ونهاراً، لأن هذه الحياة المنظورة والراحة التي فيها ، على قدر ما تبدو للجسد تنعماً تُثير أهواء النفس وتزيد مشقتها .
4 – فإن رجلاً ما ذا فطنة ، لما اشتاق أن يُعنى بنفسه بذل جهده أن يُجرب كل ما يزخر به هذا الدهر ، عساه يمكنه أن يجد نفعاً؛ فقصد ملوگاً وسلاطين ورؤساء ، وما وجد هناك علاجا ناجعاً يُقدم لنفسه ، وبعد أن قضى معهم زمانا طويلا ما انتفع شيئا ؛ فمضى بعد ذلك إلى حكماء العالم وخطبائه ، وبنفس الطريقة أعرض عن هؤلاء أيضاً وما ربح شيئا ؛ فاجتاز بالمصورين والذين يخرجون الذهب والفضة من الأرض وبسائر أرباب الحرف ، وما استطاع أن يجد عندهم شفاء لجراحاته البتة . أخيراً لما اعتزل هؤلاء شرع يطلب لذاته الله الذي يشفي آلام النفس وأمراضها ، ولكنه عندما افتقد ذاته وتفكر في هذه الأمور ، وجد عقله شارداً في تلك الأمور التي اعتزل عنها ظاهرياً لبغضه إياها .
[ج] وشائج القُربى بين الله والنفس
5- كمثل امرأة غنية في العالم ، ومع ما لها من أموال كثيرة وبيت فاخر كانت تفتقر إلى الحماية ، فكثر الذين يأتون عليها ليؤذوها ويُصيروا بيتها خراباً. وإذ لم تحتمل هذا الأذى طافت طالبة رجلاً مقتدراً وكفئا ومتهذباً في كل شيء ، وحالما ظفرت بمثل هذا الرجل بعد سعي دؤوب ، ابتهجت به واتخذته لها سوراً منيعاً؛ على ذات المنوال كانت النفس بعد المخالفة : فلقد ضُيق عليها كثيراً من القوة المعادية ، وهوت في وحشة قاسية ، وتُركت أرملة ووحيدة من قبل رجلها السماوي بسبب مخالفتها الوصية ، وأصبحت أضحوكة لكل القوات المضادة ، إذ قد انتزعوها من مداركها الخاصة وأغووها عن الفكر السماوي حتى باتت لا ترى ما قد حدث لها بواسطتهم بل تظن أن الأمر هو هكذا من البدء . ثم لما سمعت وعرفت عُزلتها ووحشتها ، تنهدت قبالة الله محب البشر ، فوجدت حياةً وخلاصاً . لماذا ؟ لأنها فاءت إلى قرابتها . فما من قربى أخرى لها مثل هذا النفع ، إلا تلك التي للنفس نحو الله والله نحو النفس . فإن الله صنع أجناسا شتى من الطيور ، فمنها ما يبقى في الأرض ومن هناك يحصل على طعامه وراحته ، ومنها ما دبَّر له أن يبقى تحت الماء ومن هناك يحصل على معيشته ؛ وخلق كذلك عالمين : العالم الفوقاني “للأرواح الخادمة”[4] وأمر بأن يكون وطنهم هناك ، والعالم السفلي الذي تحت هذا الهواء للبشر ؛ وخلق السماء والأرض ، والشمس والقمر ، والمياه ، والأشجار المثمرة ، وأجناس الأحياء على اختلاف أنواعها ، ولكن لم يجد الله راحته في أي منها . فكل الخليقة تحت سلطانه ، ومع ذلك لم يُثبت عرشه فيها ولا ارتبط معها[5] بشركة ، إنما فقط بالإنسان وحده قد سُرَّ ، صانعاً شركة معه وواجداً فيه راحته . أوترى ههنا قرابة الله من نحو الإنسان ، والإنسان من نحو الله ؟! لذلك فإن النفس الواعية الحكيمة ، بعد أن طافت بكل المخلوقات ، ما وجدت راحة لذاتها إلا في الرب وحده ، والرب لم يُسر بأي شيء إلا بالإنسان وحده[6] .
6- فإن كنت تبسط عينيك نحو الشمس ، تجد قرصها في السماء أما نورها وأشعتها فتُجاه الأرض ، فكل قوة نورها ولمعانها منطلقة صوب الأرض ؛ هكذا الرب أيضاً يجلس عن يمين أبيه فوق كل رئاسة وسلطان ، أما عينه فمصوبة نحو قلوب البشر على الأرض ، لكي يرفع الذين ينتظرون المعونة من لدنه إلى حيث هو كائن ، لأنه يقول : « حيث أنا كائن هناك أيضا سيكون خادمي » ( یو 12: 29 ) ، وبولس يقول أيضا : « أقامنا معه وأجلسنا معه عن يمينه في السماوات » ( أف 2: 6 حسب النص ) . فإن الحيوانات غير العاقلة هي أعقل منا جداً، لأن كلا منها يتحد مع طبيعته الخاصة : الوحوش مع الوحوش ، والخراف مع جنسها الخاص ، أما أنت فلست تعود إلى قرابتك السماوية ، التي هي الرب ، بل تُسلم أفكارك بإرادتك إلى أفكار الشر وتتوافق معها ، فتصبح مساعداً للخطيئة وموالياً لها في حربها ضدك ، وهكذا تجعل من ذاتك فريسة للعدو على غرار طائر قد أُمسك والتُهم من نسر ، أو خروف من ذئب .
أو طفل غرير مد يده إلى حية فلدغته ومات ، فهذه الأمثلة لها ما يقابلها في العمل الروحي .
۷ – كمثل عذراء غنية مخطوبة لرجل ، فكل ما تقبله من هدايا قبل الشركة[7]، زينة كانت أم ثياباً أم آنية ثمينة ، لا تجد راحتها فيه إلى أن يأتي زمان العرس وتظفر بالشركة ؛ هكذا النفس المخطوبة كعروس للعريس السمائي ، فإنها تنال عربونا من الروح القدس[8]، إن كان « مواهب شفاء »[9] أو معرفة أو إعلاناً، لكنها لا تجد راحتها في تلك الأمور إلى أن تحظى بالشركة الكاملة ، التي هي المحبة ، التي كونها لا تتغير ولا تسقط ، تجعل الذين يتوقون إليها أناساً بلا هوى لا يتزعزعون . أو كمثل طفل رضيع قد ألبسوه لآلئ وملابس ثمينة ، لكن حين يحس بالجوع يحسب ما يلبسه كلا شيء بل ويزدريه ، ويضع كل همه في ثدي مُرضعته ، كيف يرتشف اللبن، فهكذا تفكر معي فيما يخص مواهب الله الروحية ، الذي له المجد إلى الدهور ، آمين .
- انظر : لو 29:14
- = يُکرم في المقام الأول
- انظر : أع 4 : 12.
- عب 14:1 .
- الفعل يستخدم للتعبير عن رباط الزواج ، وقد ورد مرة واحدة في العهد الجديد في 1کو 11: 2 : “لأتي خطبتكم لرجل واحد ….”
- انظر : العظة 22:15
- كلمة κοινωνια = شركة ، كانت تستعمل أيضا للتعبير عن رابطة الزيجة
- انظر : 2 کو 1: 22؛ 5 : 5 .
- 1کو 9:12 ، 28 ،30.
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار